Kasidah Dan Gambar
قصيدة وصورة: الشعر والتصوير عبر العصور
Genre-genre
هل جربت أن تقف أمام رسم أو تمثال أو صورة فتحس كأنها تحدثك بلسان شاعر أو تسكب في أذنيك الأنغام والألحان؟ ربما قلت لنفسك متعجبا: حقا! إنها لفكرة غريبة، لكنها فكرة عابرة خطرت لعابر سبيل. وتواصل جولتك في المتحف أو المعرض أو المرسم الذي تزوره متأملا الرسوم والصور وأعمال النحت. قد تستغرق فيها وتتركها تؤثر على وجدانك وعقلك دون أن يتدخل بينك وبينها شيء، وقد تزاحمك في لحظة التأمل أفكار وآراء ونظريات حصلت عليها من هنا ومن هناك، لكنك في أغلب الظن ستمضي لحالك دون أن تعيد النظر في تلك التجربة، أو تطيل الوقوف عند تلك الفكرة، ولو تصادف وفعلت لتبين لك أن مئات من الشعراء والفنانين التشكيليين على مدى المئات من السنين قد تبادلوا التأثير والتأثر، فاستلهم الشاعر اللوحة والصورة والنقش والتمثال، والمعبد والمسلة والزهرية والأيقونة، وسجل إلهامه في قصيدة، كما استوحى الرسام والمصور والمثال والخطاط ومصمم البناء والمعمار ... إلخ، قصيدة شاعر من الشعراء، فرسم وصور وخطط وجسم ما كان الشاعر قد تخيله وصوره بالكلمة والوزن والإيقاع ...
وقصة هذا التأثير المتبادل بين الفنون - خصوصا فن الشعر وفن الرسم - قصة طويلة يقدر عمرها بثلاثة آلاف سنة في تاريخ الأدب والفن، لا الغرب والشرق. وهي قصة مثيرة ومحيرة تطرح أكثر من سؤال وجواب عن تلقي الشعراء لأعمال الفن، واستقبال الفنانين لفيض الشعراء، عن العلاقة بين الفنون الجميلة بوجه عام، وفني الشعر والتصوير بوجه خاص، عن البنية أو التكوين الأساسي الذي تشترك فيه كل الفنون بحيث يجعل منها إخوة وأخوات، أو الاختلافات الجوهرية التي تميز كلا منها عن الآخر تمييزا صارما لا يسمح بالمقارنة بينها حتى لا تشيع فيها الفوضى والاضطراب ... ومن هوميروس وفيرجيل إلى كيتس ورامبو ورلكه وجئورجه وأودين ... إلخ، في الأدب الغربي، ومن امرئ القيس وذي الرمة وشعراء «الديارات» وأبي نواس والبحتري والمتنبي وابن الرومي وابن المعتز وابن زيدون، إلى شوقي ومطران وأحمد زكي أبو شادي وبعض شعراء حركة «أبولو»، وصلاح عبد الصبور وحجازي والبياتي وحميد سعيد وسعدي يوسف في شعرنا العربي الجديد، ومن شعراء في الشرقين الأقصى والأدنى يصعب حصرهم من العصور الوسطى حتى يومنا الحاضر، سنجد من استلهم أعمال الفن التشكيلي في الرسم والتصوير والنحت والعمارة بل والموسيقى وسجلها في قصائد، كما سنجد - بدرجة أقل - رسوما ولوحات وآثارا فنية أخرى يمكن أن نصفها تجاوزا بأنها قصائد شعرية مصورة أو مجسمة أو منغمة.
ولقد عرف تاريخ الأدب الغربي هذا الجنس الأدبي المتميز الذي يمكن أن نسميه قصيدة الصورة منذ العصرين الإغريقي والروماني، حتى يمكن القول بأنها قديمة قدم الأدب والفن نفسيهما، وأن الأعمال التشكيلية قد حركت الوجدان الشعري فحاول أن يخلدها أو يعبر عن انطباعه عنها في صيغ لغوية فنية كتب لبعضه حظ البقاء، وأن قصيدة الصورة أقدم من النقد الفني، وربما كانت في رأي بعض المنظرين أعلى منه قيمة، وأن القرن العشرين يستطيع أن يزهو على القرون السابقة بعدد هائل من هذه الكنوز اللغوية التي تحظى اليوم باهتمام النقاد وحب القراء والمتذوقين
1 ...
بيد أن الحديث عن قصيدة الصورة حديث محفوف بالمخاطر والإشكاليات والمقارنة بين القصيدة والأصل الفني الذي حاول الشاعر أن يصفه، أو يسجل خواطره عنه، أو يعبر عن اندماجه في جوه وروحه، أو يجعله مناسبة لنقد العصر وقيمه. هذه المقارنة نفسها ليست بالأمر الهين البسيط؛ فهي بقدر ما تتيح لنا الموازنة بين عملين فنيين ومعايشتهما في وقت واحد، تفتح أكثر من باب تهب منه رياح الأسئلة عن طبيعة الفن ونظريته ووظيفته، وعلاقته بالحياة والواقع والمجتمع، وعلاقة الفنون بعضها ببعض. يقول الشاعر الأمريكي عزرا باوند: «إن العمل الفني المثمر حقا هو ذلك الذي يحتاج تفسيره إلى مائة عمل من جنس أدبي آخر. والعمل الذي يضم مجموعة مختارة من الصور والرسوم هو نواة مائة قصيدة.» هذه العبارة التي قالها شاعر كبير معروف بثقافته الواسعة، واطلاعه المذهل على الآداب واللغات العالمية، تبين أن استيحاء الشعراء للأعمال الفنية أمر مشروع، وأن العمل الفني الحق، هو الذي يوحي بأكثر من عمل فني؛ لأن الإبداع في فن من الفنون لا بد من أن يدفع المنتجين في الفنون الأخرى إلى المزيد من الإبداع. كل هذه أمور تتمشى مع ما تؤكده فلسفة الفن والنقد الأدبي الحديث من أن قراءة القصيدة أو تأمل اللوحة نوع من إعادة خلقها، وأن القصيدة أو الصورة يمكن أن يوحي كلتاهما بعدد من الدلالات بقدر ما يتاح لهما من قراءات. ومن الطبيعي بعد هذا أن تكون قصيدة الصورة حقيقة ملموسة تعززها مئات الأعمال الشعرية في تاريخ الأدب الغربي بوجه خاص، وأن يكون التفاعل بين الفنون حافزا على المزيد من الإبداع في الفن وفي نظرية الفن على السواء ... ومع ذلك فقد عرف تاريخ الفن والنقد كثيرا ممن ألقوا ظلال الشك على هذا الجنس الأدبي، وحذروا من المبالغة في تضخيم أهمية الفن والأدب المقارنين، ومن إلقاء ألفاظ مبهمة من نوع الإلهام، والاستيحاء، والتأمل المقارن، وشعر الرسم، ورسم الشعر، وغيرها من الألفاظ التي يحفل بها تاريخ النقد الفني منذ أن أطلق أرسطو وهوراس عباراتها المشهورة التي سنحاول الآن أن نقف عندها وقفة أطول
2 ...
تكاد العلاقة بين الفنون تكون أمرا بديهيا لا يشك فيه أحد، ويكفي أن ننظر في بعض الكلمات والتعبيرات الشائعة في النقد الفني والأدبي لنعرف أنها توحي بهذه العلاقة الحقيقية والغامضة في آن واحد؛ إيقاع البناء، معمار الرواية، تصوير الكلمة وموسيقاها، تجسيم الموقف والفكرة، لون النغمة والشخصية ... إلخ. والفنون بأشكالها المختلفة - كما يؤكد أرسطو في بداية كتابه عن فن الشعر - تصور الحياة وتشترك في خاصية أساسية هي «المميزيس» أو المحاكاة. ولذلك ينبغي للشعر والتصوير - بوصفهما فنين قائمين على المحاكاة - أن يستخدما مبدأ واحدا بعينه للتكوين أو البناء، وهو الحكاية أو العقدة في المأساة (التراجيديا) والتصميم أو التخطيط في الرسم (فن الشعر، 6، 19، 21)؛ فالشعر عند أرسطو فن، وهو فن محاكاة: إن الشاعر محاك مثله مثل المصور أو أي محاك آخر (فن الشعر، 1460 ب-8). ومن الطبيعي أن تقوم بين الفنون علاقات متبادلة، وإن تكن كما قال شيشرون (من 106 إلى 43ق.م. «بعد ذلك علاقات دقيقة رهيفة»، انظر خطبته دفاعا عن أرخياس 1، 2). وليس من الصعب على أي إنسان أن يربط لأول وهلة بين الشعر والموسيقى، وأن يحس بنفسه أن العلاقة المباشرة بينهما تمد جذورا في مفهوم الشعر نفسه؛ إذ يكفي أن يتذكر أن الشعر لا ينفصل عن الوزن والإيقاع والتنغيم والإلقاء، وأن كلمة الشعر الغنائي نفسها في أصلها اليوناني قد جاءت من الآلة الموسيقية (ليرا) التي كانت تصاحب الغناء، كما أن الشعر بقي مرتبطا بالغناء والعزف طوال العصر الوسيط - في الموشح الأندلسي، وأغاني الطروبادور في البروفانس، والمينة زانج عند الجرمان - حتى أصبحت الموسيقى المحضة عند الرمزيين في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي المثل الأعلى والمطلق للشعر والشعراء. ولو قلبت في تاريخ الفن والنقد والأدب لعثرت على نصوص كثيرة تقرب بين الفنون، وتلتمس الوحدة المشتركة بينها في البناء والغاية، على الرغم من اختلافها من حيث الترتيب على سلم القيمة ومدارج القدرة على التعبير. ولن تعدم مثلا من يصف بناء المعبد الإغريقي بأنه تكوين موسيقي، ومن يميل للمقارنة بينه وبين المأساة (التراجيديا) الإغريقية، أو من يؤكد تأثير الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى على عمارة الكنيسة القوطية إلى حد التطابق الكامل بينهما في الدلالة على عظمة الله وروعة خلقه.
3
لا سبيل إذن لإنكار العلاقة بين الفنون، سواء تصورناها علاقة تواز أو تبادل وتفاعل وتأثير وتأثر عبر العصور والآداب. غير أن المسألة لا تبدو بديهية حين نتأملها بشيء قليل من التفكير، وحين نبحث نوع هذه العلاقة بين الفنون من حيث طبيعتها ووظيفتها ووسائلها وأشكالها الجمالية. ولو حاولنا تتبع الأمر في تاريخ الأدب والفن والنقد لوجدنا أحكاما متضاربة وآراء متفاوتة إلى حد الخلط والاضطراب أو التشكك والارتياب؛ فأديب الرومانطيقية الألمانية وناقدها أوجست فيلهلم شليجل - على سبيل المثال - يرى أن الأدب الكلاسيكي أقرب بطبيعته إلى النحت، على حين أن الأدب الحديث والرومانطيقي أقرب إلى الرسم والتصوير. والناقد الفني المشهور هربرت ريد (في مقالته عن التوازي بين الرسم الإنجليزي والشعر ضمن كتابه في الدفاع عن شيللي ومقالات أخرى 1936م) يذهب إلى أن أوزان الشعر عند الأنجلوسكسونيين يمكن أن تقارن بزخارفهم، وأن منظرا طبيعيا رسمه الفنان جينز بورو «1727-1788م» في شبابه يذكرنا بقصيدة كولينز «1721-1759م» أنشودة للمساء، بينما تذكرنا المناظر الطبيعية التي رسمها ذلك الفنان في أواخر حياته ببعض خصائص شعر وردزورث «1770-1850م». ومن النقاد من اكتشف تأثيرات من عمارة عصر الباروك على قصائد شعراء مثل طومسون ويونج وجراي وكولينز، بل لقد حيرنا بعض هؤلاء النقاد عندما راح يقارن شعر كيتس «1795-1821م» بالتصوير مرة والنحت أخرى والموسيقى مرة ثالثة!
فأنشودته المشهورة عن وعاء أفريقي تسمح بالمقارنة بينها وبين النحت البارز وبينها وبين الرسم. ولقد قال عنه الشاعر الأيرلندي الكبير «ييتس» إنه يرسم في شعره صورا لا تنسى، غنية بالإيقاع غنى الرسم الصيني. ويأتي ناقد آخر فيشبه اللون الأزرق عنده باللون الأزرق في لوحات المصور الإنجليزي رينولدز (1723-1792م)، كما يربط ناقد ثالث بين أنشودته إلى عندليب وبين الحركة البطيئة (الإندانتي) في السيمفونية الأولى لبرامز، ويشبه ناقد رابع تأثير أشعارهما على نفوس قرائها بتأثير صور تيرنر «1775-1851م» على من يشاهدها ويتذوق جمالها.
Halaman tidak diketahui