Kasidah Dan Gambar
قصيدة وصورة: الشعر والتصوير عبر العصور
Genre-genre
تمهيد
1 - فتاة الأكروبوليس ...
2 - رب اللحظة المواتية
3 - أبولو بلفيدير
4 - تمثال النصر (نيكا) في ساموثراكا
5 - المصارع المحتضر
6 - فينوس ميلو
7 - حواء
8 - فبراير
9 - المعلم والمتعلم
Halaman tidak diketahui
10 - ضريح إيلاريا ديل كاريتو
11 - إغواء القديس أنطونيوس
12 - إيكاروس
13 - العميان
14 - كآبة
15 - الربيع
16 - مولد فينوس
17 - الموناليزا لليوناردو دافنشي
18 - موسيقى في الخلاء لجورجونه (من حوالي 1478م إلى 1510م)
19 - انتصار جالاتيا
Halaman tidak diketahui
20 - الليل
21 - العبد المحتضر
22 - فيل يحمل مسلة
23 - تحذير أبوي ...
24 - محاضرة في علم التشريح للدكتور تولب
25 - داود يعزف على القيثار أمام الملك شئول
26 - بروميثيوس في متحف مدريد
27 - بسيخة المهجورة أمام قصر أيروس
28 - آمور وبسيخة
29 - إعدام الثوار
Halaman tidak diketahui
30 - أوديسيوس يسخر من بوليفيموس
31 - ميناء جرايفسفالد
32 - دير في غابة بلوط
33 - قاطعو الأحجار
34 - حقل القمح والغربان
35 - الصرخة
36 - صلح
37 - الجائعات
38 - شكل امرأة مضطجعة
39 - القبلة
Halaman tidak diketahui
40 - الأقنعة العجيبة
41 - امرأة جالسة على كرسي وثير
42 - الثورة
43 - ثورة الجسر
44 - أشخاص وكلب أمام الشمس
45 - الزرافة المحترقة
قائمة المصادر والمراجع
تمهيد
1 - فتاة الأكروبوليس ...
2 - رب اللحظة المواتية
Halaman tidak diketahui
3 - أبولو بلفيدير
4 - تمثال النصر (نيكا) في ساموثراكا
5 - المصارع المحتضر
6 - فينوس ميلو
7 - حواء
8 - فبراير
9 - المعلم والمتعلم
10 - ضريح إيلاريا ديل كاريتو
11 - إغواء القديس أنطونيوس
12 - إيكاروس
Halaman tidak diketahui
13 - العميان
14 - كآبة
15 - الربيع
16 - مولد فينوس
17 - الموناليزا لليوناردو دافنشي
18 - موسيقى في الخلاء لجورجونه (من حوالي 1478م إلى 1510م)
19 - انتصار جالاتيا
20 - الليل
21 - العبد المحتضر
22 - فيل يحمل مسلة
Halaman tidak diketahui
23 - تحذير أبوي ...
24 - محاضرة في علم التشريح للدكتور تولب
25 - داود يعزف على القيثار أمام الملك شئول
26 - بروميثيوس في متحف مدريد
27 - بسيخة المهجورة أمام قصر أيروس
28 - آمور وبسيخة
29 - إعدام الثوار
30 - أوديسيوس يسخر من بوليفيموس
31 - ميناء جرايفسفالد
32 - دير في غابة بلوط
Halaman tidak diketahui
33 - قاطعو الأحجار
34 - حقل القمح والغربان
35 - الصرخة
36 - صلح
37 - الجائعات
38 - شكل امرأة مضطجعة
39 - القبلة
40 - الأقنعة العجيبة
41 - امرأة جالسة على كرسي وثير
42 - الثورة
Halaman tidak diketahui
43 - ثورة الجسر
44 - أشخاص وكلب أمام الشمس
45 - الزرافة المحترقة
قائمة المصادر والمراجع
قصيدة وصورة
قصيدة وصورة
الشعر والتصوير عبر العصور
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
Halaman tidak diketahui
هل جربت أن تقف أمام رسم أو تمثال أو صورة فتحس كأنها تحدثك بلسان شاعر أو تسكب في أذنيك الأنغام والألحان؟ ربما قلت لنفسك متعجبا: حقا! إنها لفكرة غريبة، لكنها فكرة عابرة خطرت لعابر سبيل. وتواصل جولتك في المتحف أو المعرض أو المرسم الذي تزوره متأملا الرسوم والصور وأعمال النحت. قد تستغرق فيها وتتركها تؤثر على وجدانك وعقلك دون أن يتدخل بينك وبينها شيء، وقد تزاحمك في لحظة التأمل أفكار وآراء ونظريات حصلت عليها من هنا ومن هناك، لكنك في أغلب الظن ستمضي لحالك دون أن تعيد النظر في تلك التجربة، أو تطيل الوقوف عند تلك الفكرة، ولو تصادف وفعلت لتبين لك أن مئات من الشعراء والفنانين التشكيليين على مدى المئات من السنين قد تبادلوا التأثير والتأثر، فاستلهم الشاعر اللوحة والصورة والنقش والتمثال، والمعبد والمسلة والزهرية والأيقونة، وسجل إلهامه في قصيدة، كما استوحى الرسام والمصور والمثال والخطاط ومصمم البناء والمعمار ... إلخ، قصيدة شاعر من الشعراء، فرسم وصور وخطط وجسم ما كان الشاعر قد تخيله وصوره بالكلمة والوزن والإيقاع ...
وقصة هذا التأثير المتبادل بين الفنون - خصوصا فن الشعر وفن الرسم - قصة طويلة يقدر عمرها بثلاثة آلاف سنة في تاريخ الأدب والفن، لا الغرب والشرق. وهي قصة مثيرة ومحيرة تطرح أكثر من سؤال وجواب عن تلقي الشعراء لأعمال الفن، واستقبال الفنانين لفيض الشعراء، عن العلاقة بين الفنون الجميلة بوجه عام، وفني الشعر والتصوير بوجه خاص، عن البنية أو التكوين الأساسي الذي تشترك فيه كل الفنون بحيث يجعل منها إخوة وأخوات، أو الاختلافات الجوهرية التي تميز كلا منها عن الآخر تمييزا صارما لا يسمح بالمقارنة بينها حتى لا تشيع فيها الفوضى والاضطراب ... ومن هوميروس وفيرجيل إلى كيتس ورامبو ورلكه وجئورجه وأودين ... إلخ، في الأدب الغربي، ومن امرئ القيس وذي الرمة وشعراء «الديارات» وأبي نواس والبحتري والمتنبي وابن الرومي وابن المعتز وابن زيدون، إلى شوقي ومطران وأحمد زكي أبو شادي وبعض شعراء حركة «أبولو»، وصلاح عبد الصبور وحجازي والبياتي وحميد سعيد وسعدي يوسف في شعرنا العربي الجديد، ومن شعراء في الشرقين الأقصى والأدنى يصعب حصرهم من العصور الوسطى حتى يومنا الحاضر، سنجد من استلهم أعمال الفن التشكيلي في الرسم والتصوير والنحت والعمارة بل والموسيقى وسجلها في قصائد، كما سنجد - بدرجة أقل - رسوما ولوحات وآثارا فنية أخرى يمكن أن نصفها تجاوزا بأنها قصائد شعرية مصورة أو مجسمة أو منغمة.
ولقد عرف تاريخ الأدب الغربي هذا الجنس الأدبي المتميز الذي يمكن أن نسميه قصيدة الصورة منذ العصرين الإغريقي والروماني، حتى يمكن القول بأنها قديمة قدم الأدب والفن نفسيهما، وأن الأعمال التشكيلية قد حركت الوجدان الشعري فحاول أن يخلدها أو يعبر عن انطباعه عنها في صيغ لغوية فنية كتب لبعضه حظ البقاء، وأن قصيدة الصورة أقدم من النقد الفني، وربما كانت في رأي بعض المنظرين أعلى منه قيمة، وأن القرن العشرين يستطيع أن يزهو على القرون السابقة بعدد هائل من هذه الكنوز اللغوية التي تحظى اليوم باهتمام النقاد وحب القراء والمتذوقين
1 ...
بيد أن الحديث عن قصيدة الصورة حديث محفوف بالمخاطر والإشكاليات والمقارنة بين القصيدة والأصل الفني الذي حاول الشاعر أن يصفه، أو يسجل خواطره عنه، أو يعبر عن اندماجه في جوه وروحه، أو يجعله مناسبة لنقد العصر وقيمه. هذه المقارنة نفسها ليست بالأمر الهين البسيط؛ فهي بقدر ما تتيح لنا الموازنة بين عملين فنيين ومعايشتهما في وقت واحد، تفتح أكثر من باب تهب منه رياح الأسئلة عن طبيعة الفن ونظريته ووظيفته، وعلاقته بالحياة والواقع والمجتمع، وعلاقة الفنون بعضها ببعض. يقول الشاعر الأمريكي عزرا باوند: «إن العمل الفني المثمر حقا هو ذلك الذي يحتاج تفسيره إلى مائة عمل من جنس أدبي آخر. والعمل الذي يضم مجموعة مختارة من الصور والرسوم هو نواة مائة قصيدة.» هذه العبارة التي قالها شاعر كبير معروف بثقافته الواسعة، واطلاعه المذهل على الآداب واللغات العالمية، تبين أن استيحاء الشعراء للأعمال الفنية أمر مشروع، وأن العمل الفني الحق، هو الذي يوحي بأكثر من عمل فني؛ لأن الإبداع في فن من الفنون لا بد من أن يدفع المنتجين في الفنون الأخرى إلى المزيد من الإبداع. كل هذه أمور تتمشى مع ما تؤكده فلسفة الفن والنقد الأدبي الحديث من أن قراءة القصيدة أو تأمل اللوحة نوع من إعادة خلقها، وأن القصيدة أو الصورة يمكن أن يوحي كلتاهما بعدد من الدلالات بقدر ما يتاح لهما من قراءات. ومن الطبيعي بعد هذا أن تكون قصيدة الصورة حقيقة ملموسة تعززها مئات الأعمال الشعرية في تاريخ الأدب الغربي بوجه خاص، وأن يكون التفاعل بين الفنون حافزا على المزيد من الإبداع في الفن وفي نظرية الفن على السواء ... ومع ذلك فقد عرف تاريخ الفن والنقد كثيرا ممن ألقوا ظلال الشك على هذا الجنس الأدبي، وحذروا من المبالغة في تضخيم أهمية الفن والأدب المقارنين، ومن إلقاء ألفاظ مبهمة من نوع الإلهام، والاستيحاء، والتأمل المقارن، وشعر الرسم، ورسم الشعر، وغيرها من الألفاظ التي يحفل بها تاريخ النقد الفني منذ أن أطلق أرسطو وهوراس عباراتها المشهورة التي سنحاول الآن أن نقف عندها وقفة أطول
2 ...
تكاد العلاقة بين الفنون تكون أمرا بديهيا لا يشك فيه أحد، ويكفي أن ننظر في بعض الكلمات والتعبيرات الشائعة في النقد الفني والأدبي لنعرف أنها توحي بهذه العلاقة الحقيقية والغامضة في آن واحد؛ إيقاع البناء، معمار الرواية، تصوير الكلمة وموسيقاها، تجسيم الموقف والفكرة، لون النغمة والشخصية ... إلخ. والفنون بأشكالها المختلفة - كما يؤكد أرسطو في بداية كتابه عن فن الشعر - تصور الحياة وتشترك في خاصية أساسية هي «المميزيس» أو المحاكاة. ولذلك ينبغي للشعر والتصوير - بوصفهما فنين قائمين على المحاكاة - أن يستخدما مبدأ واحدا بعينه للتكوين أو البناء، وهو الحكاية أو العقدة في المأساة (التراجيديا) والتصميم أو التخطيط في الرسم (فن الشعر، 6، 19، 21)؛ فالشعر عند أرسطو فن، وهو فن محاكاة: إن الشاعر محاك مثله مثل المصور أو أي محاك آخر (فن الشعر، 1460 ب-8). ومن الطبيعي أن تقوم بين الفنون علاقات متبادلة، وإن تكن كما قال شيشرون (من 106 إلى 43ق.م. «بعد ذلك علاقات دقيقة رهيفة»، انظر خطبته دفاعا عن أرخياس 1، 2). وليس من الصعب على أي إنسان أن يربط لأول وهلة بين الشعر والموسيقى، وأن يحس بنفسه أن العلاقة المباشرة بينهما تمد جذورا في مفهوم الشعر نفسه؛ إذ يكفي أن يتذكر أن الشعر لا ينفصل عن الوزن والإيقاع والتنغيم والإلقاء، وأن كلمة الشعر الغنائي نفسها في أصلها اليوناني قد جاءت من الآلة الموسيقية (ليرا) التي كانت تصاحب الغناء، كما أن الشعر بقي مرتبطا بالغناء والعزف طوال العصر الوسيط - في الموشح الأندلسي، وأغاني الطروبادور في البروفانس، والمينة زانج عند الجرمان - حتى أصبحت الموسيقى المحضة عند الرمزيين في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي المثل الأعلى والمطلق للشعر والشعراء. ولو قلبت في تاريخ الفن والنقد والأدب لعثرت على نصوص كثيرة تقرب بين الفنون، وتلتمس الوحدة المشتركة بينها في البناء والغاية، على الرغم من اختلافها من حيث الترتيب على سلم القيمة ومدارج القدرة على التعبير. ولن تعدم مثلا من يصف بناء المعبد الإغريقي بأنه تكوين موسيقي، ومن يميل للمقارنة بينه وبين المأساة (التراجيديا) الإغريقية، أو من يؤكد تأثير الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى على عمارة الكنيسة القوطية إلى حد التطابق الكامل بينهما في الدلالة على عظمة الله وروعة خلقه.
3
لا سبيل إذن لإنكار العلاقة بين الفنون، سواء تصورناها علاقة تواز أو تبادل وتفاعل وتأثير وتأثر عبر العصور والآداب. غير أن المسألة لا تبدو بديهية حين نتأملها بشيء قليل من التفكير، وحين نبحث نوع هذه العلاقة بين الفنون من حيث طبيعتها ووظيفتها ووسائلها وأشكالها الجمالية. ولو حاولنا تتبع الأمر في تاريخ الأدب والفن والنقد لوجدنا أحكاما متضاربة وآراء متفاوتة إلى حد الخلط والاضطراب أو التشكك والارتياب؛ فأديب الرومانطيقية الألمانية وناقدها أوجست فيلهلم شليجل - على سبيل المثال - يرى أن الأدب الكلاسيكي أقرب بطبيعته إلى النحت، على حين أن الأدب الحديث والرومانطيقي أقرب إلى الرسم والتصوير. والناقد الفني المشهور هربرت ريد (في مقالته عن التوازي بين الرسم الإنجليزي والشعر ضمن كتابه في الدفاع عن شيللي ومقالات أخرى 1936م) يذهب إلى أن أوزان الشعر عند الأنجلوسكسونيين يمكن أن تقارن بزخارفهم، وأن منظرا طبيعيا رسمه الفنان جينز بورو «1727-1788م» في شبابه يذكرنا بقصيدة كولينز «1721-1759م» أنشودة للمساء، بينما تذكرنا المناظر الطبيعية التي رسمها ذلك الفنان في أواخر حياته ببعض خصائص شعر وردزورث «1770-1850م». ومن النقاد من اكتشف تأثيرات من عمارة عصر الباروك على قصائد شعراء مثل طومسون ويونج وجراي وكولينز، بل لقد حيرنا بعض هؤلاء النقاد عندما راح يقارن شعر كيتس «1795-1821م» بالتصوير مرة والنحت أخرى والموسيقى مرة ثالثة!
فأنشودته المشهورة عن وعاء أفريقي تسمح بالمقارنة بينها وبين النحت البارز وبينها وبين الرسم. ولقد قال عنه الشاعر الأيرلندي الكبير «ييتس» إنه يرسم في شعره صورا لا تنسى، غنية بالإيقاع غنى الرسم الصيني. ويأتي ناقد آخر فيشبه اللون الأزرق عنده باللون الأزرق في لوحات المصور الإنجليزي رينولدز (1723-1792م)، كما يربط ناقد ثالث بين أنشودته إلى عندليب وبين الحركة البطيئة (الإندانتي) في السيمفونية الأولى لبرامز، ويشبه ناقد رابع تأثير أشعارهما على نفوس قرائها بتأثير صور تيرنر «1775-1851م» على من يشاهدها ويتذوق جمالها.
Halaman tidak diketahui
هذه الأمثلة وغيرها تبين أن العلاقة بين الشعر والرسم قد شغلت الشعراء والنقاد أكثر بكثير من العلاقة بين الشعر وسائر الفنون. ولسنا بحاجة للجوء إلى الإحصاءات لنعرف أن الشعراء قد كتبوا عن الرسم والرسامين أكثر مما كتبوا عن النحت والنحاتين والبناء والبنائين، وإن كان هذا لا يمنع أن تكون الفنون الأخيرة قد ألهمت عددا من الشعراء طائفة من أجمل قصائدهم، نذكر منهم هلدرين، ورامبو، ورلكه، وستيفان جئورجه. وتبقى الحقيقة مع ذلك ناصعة ساطعة الضوء؛ إن الشعر قد استوحى الرسم أكثر مما استوحى غيره من الفنون، ولن نجد - في الأدب الإنجليزي مثلا - قصيدة عن الرسم تفوق في روعتها وبساطتها قصيدة كيتس سابقة الذكر عن الوعاء الإغريقي، ويكفي أن نستشهد بأبيات من هذه القصيدة التي تبدأ هذه البداية:
أنت يا عروس السكون التي لم يمسسها أحد،
أنت يا من تبناها الصمت والزمان الوئيد،
يا راوية الغابات، يا من تستطيعين أن تحكي
قصة مزهرة أكثر عذوبة من أشعارنا ...
4
ويتساءل الشاعر عن الأسطورة التي صورت على جوانبها، هل هي لآلهة أم لبشر أم لعذارى متمنعات؟ وعن الطراد المجنون، والنضال للهرب، والمزامير والدفوف التي يسمع نغماتها العذبة في نشوة عارمة، يسمعها بأذن الروح لا بالأذن الحسية. ويبدأ في تصوير المشاهد التي يراها ويسمعها في آن واحد؛ فهناك الفتى الجميل الذي يجلس تحت الأشجار، لا يستطيع أن يترك أغنيته، كما لا تستطيع تلك الأشجار أن تتجرد من أوراقها. إنه هو المحب الجسور السعيد، وجسارته وسعادته ينبعان من قدرته على أن يعزف إلى الأبد أغاني جديدة أبدا. وإذا استحال عليه أن يقبل حبيبته فلا ينبغي عليه أن يستسلم للحزن، فسيظل يحب، وستظل هي جميلة إلى الأبد، وسيبقى حبه دافئا فتيا متساميا فوق كل العواطف الإنسانية، وسيبقى جمالها ربيعيا متجددا إلى الأبد. ثم يستطرد في وصف الموكب الذي يقوده كاهن غامض لتقديم التضحية على المذبح:
من هؤلاء القادمون إلى التضحية؟
إلى أي مذبح أخضر، أيها الكاهن الذي يلفه الغموض،
تقود هذه البقرة التي يرتفع خوارها إلى السماء،
Halaman tidak diketahui
وقد تزينت كل جوانبها الحريرية بأكاليل الزهر؟
أي مدينة صغيرة مبنية على ضفة نهر أو شط بحر،
أو على جبل، تحيطها قلعة آمنة،
أخلاها هؤلاء الناس، في هذا الصباح الورع؟
أيتها المدينة الصغيرة،
ستظل شوارعك أبدا ساكنة،
وما من امرئ سيستطيع أن يعود
ليحكي لم أنت مقفرة؟
وتنتهي القصيدة بمناجاة الشكل الجميل الذي يفيض بحركة الحب والحياة كما يجسم في صمته سكون الأبدية:
يا شكلا أفريقيا! يا هيئة جميلة!
Halaman tidak diketahui
بنسيج يزينها، برجال وعذارى من الرخام،
بأغصان وغابات وعشب وطئته الأقدام.
أنت، أيها الشكل الصامت، تخرجنا بالكدر عن أفكارنا
كما تفعل الأبدية، أيها النشيد الرعوي البارد!
وتختتم الأنشودة بعناق نادر يحتضن فيه الشعر الفكر، ويتلاحم الأدب والفلسفة:
عندما تضني الشيخوخة هذا الجيل،
ستبقى أنت وسط حزن آخر
غير أحزاننا، صديقا للإنسان،
تقول له: الجمال هو الحق، والحق هو الجمال،
هذا هو كل ما تعلم على الأرض،
Halaman tidak diketahui
وكل ما تحتاج أن تعلم.
لعل أقدم نص نعرفه في تاريخ الأدب والنقد الغربي عن هذه العلاقة الساحرة الغامضة بين الشعر والفنون التشكيلية هي العبارة المنسوبة إلى سيمونيدس الكيوسي (من جزيرة كيوس في بلاد اليونان، وقد عاش حوالي سنة 556 إلى حوالي سنة 468ق.م.) التي يقول فيها إن الشعر صورة ناطقة أو رسم ناطق، وإن الرسم أو التصوير شعر صامت.
5
ولا تلبث أن ترد على الخاطر تلك العبارة من كتاب «فن الشعر» للشاعر الروماني هوراس (65-8 ق.م.)، وهي التي يشبه فيها القصيدة بالصورة (كما يكون الرسم يكون الشعر، فن الشعر، 361)، كما يطالب ببذل الجهد لصقل البيت الشعري وتشكيله.
والمهم في هذه العبارة التي تعددت شروحها عبر العصور أنها أكدت التشابه بين الفنون - وخصوصا بين الشعر والرسم - إلى الحد الذي جعل النقاد في عصر النهضة يقرءونها على الوجه الآخر: كما يكون الشعر يكون الرسم. ولقد كانت هذه العبارة القصيرة وراء التأملات العديدة التي دارت حول نظرية الفن والعلاقة بين الفنون، خصوصا منذ القرن السادس عشر إلى معظم القرن الثامن عشر. وبينما ذهبت قلة من الشعراء إلى تفوق الرسم على الشعر لا محاكاة الطبيعة البشرية، جعلت الأغلبية من نفسها حماة للشعر، وراحت تؤكد أن الشعراء هم أعظم الرسامين. ومنذ أن وصف الكاتب الإغريقي الساخر لوكيان «من حوالي 120 إلى حوالي 180م»، شاعر الإغريق الأكبر هوميروس بأنه رسام مجيد (في كتابه الصور أو الأيقونات، 8-)، وأيده في هذا شاعر عصر النهضة بترارك «1304-1374م» انطبقت صفة الرسامين أو المصورين العظام على عدد كبير من الشعراء يمتد من ثيوكريتيس، وفرجيل، وتوركواتو تاسو، وأوريوستو إلى سبنسر، وشكسبير، وملتون وجماعة الشعراء الذين سموا أنفسهم في القرن التاسع عشر باسم «السابقين على رافائيل»،
6
والبارناسيين وعدد كبير من شعراء العصر الحديث. ولم يخل الأمر من ناحية أخرى من وجود نقاد يؤكدون أن الرسامين والمصورين شعراء، وأن فنانا رائع الخيال مثل أنجلو يشهد على شاعرية فن الرسم ويسمح بمقارنة الرسامين الشعراء بالشعراء الرسامين!
ومهما يكن الأمر فإن عبارة «هوراس» المشهورة قد نجحت في تأكيد العلاقة القائمة بين الشعر والرسم وغيرهما من الفنون، وأثرت على نظريات الشعر والفن عبر العصور، وهدت العديد من الشعراء والفنانين التشكيليين على دروب الإلهام ومسالكه الغامضة، وحفزتهم على مواصلة نشاطهم الإبداعي المثمر.
غير أن العبارة نفسها قد أثرت كذلك على الاتجاه المضاد الذي ينكر أصحابه تراسل الفنون وتجاوبها ويرفض مبدأ المقارنة بينها رفضا حاسما وكأنه «وباء علم الجمال الحديث» ... فقد حذر شافتسبري «فنون النحت 1712م» من عقد المقارنات بين الرسم والشعر، ووصفها بأنها محاولات عقيمة وباطلة. ثم جاءت الضربة الكبرى لهذا الاتجاه كله من كتاب هام ذائع الصيت هو كتاب «لائوكون» (1766م) لأديب عصر التنوير والكاتب والناقد المسرحي «ليسنج»؛ فقد نظر إلى الشعر والرسم من حيث علاقتهما بالزمان والمكان على الترتيب، وميز الأشكال الزمانية في الفن تمييزا حادا من الأشكال المكانية، وبين عواقب الخلط بينها في العمل الفني الواحد والتأثيرات الناجمة عن البنية الداخلية المختلفة في الشعر عنها في الرسم. ولقد كانت النظريات الفنية التي استندت إلى مبدأ «هوراس» هي في رأيه السبب الرئيس للاضطراب والخلط المؤسف بين الفنون في عصره. ثم جاء في عصرنا الحاضر من ألف «اللائوكون الجديد، مقال عن الخلط بين الفنون» (المؤلفة أيرفنج بابيت 1910م)، فأيد حجج ليسنج وشواهده - التي استمدها من الأدبين الإغريقي والروماني - بحجج جديدة تؤكد عبث المحاولة كلها وتبسيطها المخل لطبيعة الفن والواقع على السواء.
7
Halaman tidak diketahui
لكن علاقة القرابة بين الشعر والرسم لم تلبث أن ظهرت مرة أخرى منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أيامنا الحاضرة ... وكانت فنون الشرق التي تعرف عليها الغربيون على نطاق واسع منذ ذلك الحين هي المسئولة عن هذا التحول؛ فقد أحس الناس بشاعرية الرسوم الشرقية، وبنزعة الشعر الصيني والياباني إلى الرسم والتصوير. وتزايدت الدراسات النقدية التي توضح العلاقة الوثيقة بين الشعر والرسم، كان الشعراء الصينيون في معظم الأحيان رسامين، كما كان النقاد - في القرنين الحادي عشر والثاني عشر بوجه خاص - قد أكدوا التوازي بين الشعر والرسم في عبارات قريبة من العبارات المأثورة عن سيمونيد وهوراس. وها هو ذا واحد منهم - وهو كورسون - يقرر أن الرسم والكتابة فن واحد، وأن الشاعر يستطيع أن يرسم الشعر كما يستطيع الرسام أن يكتب قصائد بلا صوت ... وقد أدى هذا بعدد من الشعراء الأوروبيين والأمريكيين إلى اتباع القواعد التي حددها اليابانيون للقصائد والقوانين التي وضعها الصينيون للرسم. وبلغ الأمر ببعض هؤلاء الشعراء أن كتبوا ورسموا قصائد «شرقية»؛ أي صورا تتجه إلى العين مباشرة، وانطباعات حرة في عدد محدود من المقاطع والسطور، وإيحاءات مركزة عن طريق تمثل الطبيعة لا عن طريق نسخها، وأبيات مقتصدة شديدة التركيز والأحكام من نوع «الأبيجرام»
8
المعروف في الغرب منذ عهد الإغريق. ومهما يكن الأمر فيبدو أن عددا كبيرا من الشعراء والفنانين الذين ستطلع على أعمالهم المشتركة قد تأثروا قليلا أو كثيرا بهذا التراث العريق عن العلاقة بين الشعر والرسم - بوجه خاص - ومع أن الشعر الحديث والمعاصر قد تطور وتعقد مثله مثل الرسم الحديث والمعاصر بحيث لم يعد كلاهما يسمح بتحديد مفهوم الشعر أو الرسم تحديدا تتفق عليه الآراء، فإن القصائد التي كتبها هذا العدد الكبير من شعراء العصر عن الصور واللوحات وأعمال النحت القديمة والوسيطة والحديثة تشهد شهادة كافية على «علاقة الرحم» التي تجمع الفنون ببعضها والشعر والرسم بوجه خاص
9 ...
نعم! ما أكثر ما ينظر الشعر بعينه إلى الفنون الأخرى ويستعير منها، كما تنظر هي أيضا إليه وتستعير منه! والأمثلة على هذه الصلة المتبادلة في الآداب المختلفة أمثلة كثيرة لا حصر لها، ويكفي أن نذكر هذا العدد القليل منها على صورة رءوس موضوعات لا يسمح المجال بالدخول في تفصيلاتها؛ وصف هوميروس لدرع أخيل في الإلياذة (النشيد 18، السطور من 478 إلى 608)، ووصف فرجيل في النشيد الثامن من الإلياذة لدرع إنياس (السطور من 478 إلى 608)، ووصف فرجيل في النشيد الثامن من (السطور من 625 إلى 721)، وصف دانتي «وحديثه المرئي» عن تمثال البشارة لمريم العذراء، وتمثالي داود وتراجان في النشيد العاشر من المطهر (أو الأعراف) من كوميدياه الإلهية، الموت المنتصر والموت المهزوم في فن الكلمة وفن التصوير في عصر الباروك، تصوير الأعمال الأدبية منذ العصور الوسطى والرومانطيقية إلى التكعيبية في عصرنا الحاضر في أعمال ديران وبيكاسو ودوفي، الصور التي رسمها شكسبير في مسرحياته، الصور الرمزية والشعارات «الإمبليمات» التي ارتبطت بنصوص شعرية وازدهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر بوجه خاص، قصيدة كيتس التي قدمناها قبل قليل عن الوعاء أو الزهرية الأفريقية بجانب قصائده التي كتبها متأثرا بلوحات تسيان وبوسان، الأبنية الرمزية والشكلية في شعر والت ويتمان ومشابهتها للأبنية الموسيقية، تأثير الفنون التشكيلية الحديثة، وبخاصة أعمال رودان وسيزان وباوكليه وبيكاسو على شبر «رلكه» المتأخر إلى حد التناظر في التعبير عن الشعور عنده وعند أولئك الفنانين، بجانب قصائده عن الكاتدرائيات، السمات التصويرية في التعبير الشعري لدى بعض الشعراء التعبيريين الألمان مثل جورج هايم، وجورج تراكل، وأرنست شتادلر، القالب السيمفوني في رواية هيرمان بروخ «موت فرجيل»، السمات القصصية في صور الفنانين السيرياليين كيريكو وماكس أرنست، قصائد «الفردوس غير المفقود» التي كتبها الشاعر الألماني أرنست شونفيزة لرسوم المصور والمثال إرنست بارلاخ على الحجر، مدرسة التصويريين في الشعر الإنجليزي والأمريكي الحديث التي تزعمها عزرا باوند، وبرز من أبنائها ت. س. إليوت، وكلاهما قد نهل من معين الحداثة (المودرنية)، أو بالأحرى الثورة المعرفية التي جاءت مع الفنون البصرية والتشكيلية الحديثة في النظرية والتطبيق وخصوصا مع التكعيبية والدوامية والسريالية، ناهيك بعد هذا كله عن اجتماع فنين في شخصية مبدعة واحدة مثل مايكل أنجلو، وفاجنروت. أ. هوفمان، ووليم بليك، وجبران خليل جبران، وجبرا إبراهيم جبرا، ورمسيس يونان، وحسن سليمان، وصلاح جاهين، وأحمد مرسي، وغيرهم ممن لا تحضرني الآن أسماؤهم. ومن الصعب أن نحصر عدد القصائد التي «وصف» فيها الشعراء لوحات الفنانين وصفا شعريا، وخصوصا لوحات الطبيعة كما صورها الفنانون الرومانطيقيون مثل كلود لوران «1600-1682م»، وسلفاتور روزا «1615-1673م». وأصعب من ذلك أن نحصر عدد القصائد التي استلهمت صورا ورسوما وتماثيل ونقوشا وأعمالا نحتية منذ العصور الإغريقية والرومانية حتى القرن العشرين الذي ازدهر فيه هذا الفن الشعري إلى حد مذهل، وساهم فيه شعراء كبار مشهورون وآخرون مبتدءون لم يكد يسمع عنهم أحد! والعكس كذلك صحيح؛ فعدد الفنانين الذين رسموا وصوروا قصائد لشعراء مشهورين - من هوميروس وفيرجيل ودانتي وشكسبير وملتون ولافونتين وجوته وبيرون وبودلير إلى الشعراء المعاصرين - عدد يفوق الحصر. وما أكثر القصائد التي ألهمت أكثر من فنان فلحنها مؤلف موسيقي، ورسمها رسام، وعبر عنها مثال! ويكفي أن نذكر قصيدة للشاعر الرمزي مالارميه (1848-1892م)، وهي قصيدة «عصر إله الغاب» التي صورها الرسام التأثيري مانيه، ولحنها الموسيقي التأثيري ديبوس، وحولها فنان الباليه نيجنسكي سنة 1912م إلى باليه ...
لو تركنا الفنون والفنانين وانتقلنا إلى النقد والنقاد لما وجدنا هؤلاء أقل حماسا أو اهتماما ببيان التقارب والتجاوب بين الفنون المختلفة والنقاش والجدل حول طبيعة العلاقة بينهما؛ فالشاعر والناقد الإنجليزي درايدن «1631-1700م» يكتب عن التوازي بين الشعر والرسم «1695م» مؤكدا أن الاستعارات الجريئة في الشعر تساوي الألوان القوية المتوهجة في الرسم، وأن التأثير الناتج عن بعض التشبيهات والكنايات وأشكال التعبير الشعري تشبه التأثير المنبعث من الألوان والظلال والأضواء على لوحة الرسام. وأديب الرومانطيقية وناقدها أوجست فيلهلم شليجل (1767-1845م) يطالب بترجمة الصور ترجمة شعرية، ويكتب عن بعض الصور الفنية مجموعة من السوناتات التي كان لها تأثير كبير على تطور قصيدة الصورة وإن لم تكن ذات قيمة أدبية كبيرة. والناقد الفني المعاصر «ماريو براز»
10
قد لمح صورة الشاعرين رامبو ولوتريامو - بجانب عالم التحليل النفسي فرويد! - في رسوم بيكاسو وسلفادور دالي، كما قارن بين الرسم السريالي وبين الأبيات التسعة التي تأتي بعد هذا البيت في قصيدة «إليوت» المشهورة «الأرض الخراب»، من الجزء الثالث الذي وضعه الشاعر تحت عنوان «موعظة النار»:
لقد زحف فأر في خفة بين المزروعات
وهو يجر بطنه الدبقة على الضفة،
Halaman tidak diketahui
بينما كنت أصطاد السمك في القناة المعتمة
ذات أمسية من أمسيات الشتاء خلف مستودع الغاز
وأنا أفكر في حطام أخي الملك
وفي موت أبي الملك من قبله.
أجساد بيضاء عارية على الأرض الوطيئة الرطبة،
وعظام ملقاة في غرفة صغيرة ضيقة جافة على السطح
لا يكاد يطؤها غير أقدام الفأر من عام إلى عام.
لكني ما أنفك أسمع من وراء ظهري بين الحين والحين
صوت الأبواق والمحركات التي ستعيد
سويني إلى مستر بورتر في الربيع.
Halaman tidak diketahui
11
وأخيرا فقد كشف هذا الناقد نفسه (وهو ماريو براز) عن العلاقة الوثيقة بين الفن التجريدي وقصائد الشاعر جيوم آبوللينير «كاليجرام»، كما ذكرته قصائد الشاعر كمنجز (1894-1962م) برسوم وصور موندريان وكاندنسكي وباول كليه، بل لقد وصف بعض قصائد هذا الشاعر بأنها شعر ورسم في آن واحد، وأنها تطبيق جديد للمبدأ القديم الذي عبر عنه هوراس عندما قال «كما يكون الرسم يكون الشعر» ...
ومهما يكن من تحذير بعض نقاد وفلاسفة الفن من الغلو في هذه المقارنات بين الفنون إلى درجة الاضطراب والغموض وتذويب الحدود بينها (مثل رينيه ويليك، وإتيين سوريو وجيمز مربمان)، فلا يمكن أن نتجاهل التأثيرات المتبادلة بينها، ولا أن نجرد رؤية الفنان للقصيدة من كل قيمة، ولا أن نغفل الثمار التي جناها الأدب والفن التشكيلي من التجاوب الروحي والعملي بينهما. ولا شك في أننا مهما ميزنا الفنون بعضها عن بعض وأبرزنا الفروق البنيوية التي تجعلها تعبر عن عوالم مختلفة بوسائل مختلفة، فإن الوظيفة الرمزية واحدة في كل أنواع التعبير الفني (كما تقول الفيلسوفة سوزان لانجر)، كما أن كل التقسيمات والتصنيفات والتصورات الجمالية المختلفة تنتهي في أعماقها العميقة إلى وحدة واحدة (كما يقول كروتشه في كتابه عن الشعر). وسواء فهمنا من هذه الوحدة الأخيرة أن جميع الفنون تطمح إلى أن تصبح انسجاما وموسيقى، أو أن تتحول في النهاية إلى عبادة وصلاة، فإن هذه الوحدة المأمولة تدل في كل الأحوال على الصلة الحميمة بين جميع الفنون ...
ولا بد من القول بأن تأكيد هذه الصلة الحميمة لا يعني ببساطة أن القصيدة الشعرية يمكن أن «تمثل» الصورة أو العمل التشكيلي بحيث تكون مطابقة لها، أو أن هذين الأخيرين يمكنهما أن يترجما المشاعر والأخيلة، والمواقف النفسية والعقلية التي تنطوي عليها القصيدة؛ فمن الفنانين أنفسهم من يحدثنا عن صعوبة استيحاء المضمون الشعري وتحويله إلى صورة. وقد اعترف الفنان الألماني «باول كليه» بأن من العسير إيجاد تشكيل فني يطابق الموضوع (أو الموتيف) الشعري مطابقة تامة. والعكس كذلك صحيح؛ فمن الصعب أن نعثر على الأعمال الفنية اللغوية (أي القصائد) التي تناظر الصور والتماثيل، أو تعكس على الكلمة ما أظهره الفنان في اللون والظل والخط والتشكيل. وسوف يتبين لنا بعد قراءة عدد من «قصائد الصور» أن من الشعراء من اكتفى بوصف الصورة، ومنهم من راح يمجدها ويمجد صاحبها، أو ينقدها ويتهكم عليها ، ومنهم كذلك من أخذ يخاطبها ويناجيها أو تركها تخاطبه وتناجيه، ومن ذكر مضمونها وروى قصة نشأتها وحياتها، ومن استخدمها مناسبة للاسترسال في تأملاته وتجاربه الشخصية. وربما فوجئنا بالشاعر الذي يكتب عن صورة فيخيل إلينا أنه هبط إلى ذلك الأساس أو الأصل الخفي الذي تكمن فيه قوانين الوجود، وتتلاقى الرياضيات والأحلام، وتنبثق كل الصور والكلمات كأنها تتدفق من نبع جياش. ولا بد أن نحس عندئذ كأن الشاعر الفريد قد جرب ذلك الانسجام الأصلي ومعه ذلك الانشقاق الأصيل اللذين تصدر عنهما الحياة الواعية واللاواعية التي تعمل عملها في كل الفنون ...
إن تجميع الصور والقصائد على النحو الذي تراه في هذا الكتاب سيتيح لك المقارنة بين الصورة والنص الذي كتب عنها، كما سيتيح لكل من الشعر والرسم أن يلقي أحدهما الضوء على الآخر ويتواصل معه؛ فالنص الشعري لا يفسر بنص نثري، وإنما يفسر بشيء مستقل عنه ينتمي لميدان فني آخر، شيء يمكن أن يرى وأن يقارن بالنص. ولما كانت قصيدة الصورة تقوم على أساس الاختلاف القائم بين الفن اللغوي وفن التصوير، ولا تمس الحواجز الفاصلة بينهما، فإنها تستطيع بوسائلها اللغوية والإيقاعية أن تفسر ما تمثله الصورة بوسائلها العيانية في وسط آخر. ولا تخفى الفائدة التي يمكن أن يجنيها الفن والأدب من أمثال هذه المقارنات، بل إن الأمر ليتخطى حدود الفن والأدب لينعكس على علوم الاجتماع والنفس واللغة والأدب المقارن والجمال؛ ففي إمكان المهتم بأحد هذه العلوم أن يقوم بهذا اللون الفريد من البحث المقارن ليلتمس فيه الإجابة على مشكلة تشغله. في إمكان عالم الاجتماع - على سبيل المثال - أن يعرف كيف تلقى الناس عملا من الأعمال الفنية في عصر معين بكل ما ينطوي عليه تلقي الفن من مضامين اجتماعية ودلالات على روح العصر وثقافة المجتمع وميول الطبقات المختلفة. وفي استطاعة عالم النفس أن يتوسل بالنص الشعري للتغلغل في نفسية الفنان والاطلاع على أسرار صنعته وإبداعه. ولن يتردد عالم اللغة عن دراسة القصيدة ليكشف عن دلالة الكلمات والصور والتكوينات اللغوية والإيقاعية، وهل اقتصرت كلمة الشاعر على الإشارة والوصف، أم حملت قوة الرمز وقدرته على الإشعاع والإيحاء والتلوين. أما مؤرخ الفن وناقد الأدب وفيلسوف الجمال فسيجدون في هذه المقارنات موضوعات للبحث لا تنفد، وربما وجدوا فيها حلولا لمشكلات لم يكن من السهل الإجابة عليها قبل ولوج هذه الأرض الحرام التي كانت تفصل بين الفن التشكيلي والأدب، فإذا بها تزدحم أمامه بعشرات من الفنانين والشعراء الذين تجمعوا من بلاد وعصور مختلفة، واخترقوا حدود الجنسيات واللغات لكي يلتقوا على هدف إبداعي وإنساني واحد ...
غير أن القارئ الذي أدعوه للاستمتاع بقراءة هذه القصائد واللوحات ستواجهه مشكلة عويصة أو بالأحرى مشكلتان؛ كيف يقرأ القصيدة، وكيف يقرأ الصورة؟! لا شك في أن القراءات تتعدد بتعدد القراء، وربما اختلفت عند القارئ الواحد من لحظة إلى أخرى، ومن مرحلة من العمر إلى مرحلة، وفي كل مرة يكتشف طبقة من طبقات النص كانت خافية عليه ... ستسعفه قراءاته السابقة بطبيعة الحال، وربما أعانته تجاربه الأدبية والفنية التي اكتسبها من خبرته بالتراثين الأدبي والفني على الغوص في تلك الأعماق. وعلى قدر العمق الذي بلغته هذه الخبرة الحية يكون عمق القراءة. ومن الأمور المتفق عليها اليوم أن قراءة الشعر نوع من الخلق والإبداع؛ فنحن عندما نقرأ شعرا نتمثل ما فيه من مشاعر وتجارب وأخيلة، وتنفتح لعيون بصيرتنا مجموعة من الصور والمناظر والمواقف التي «رسمها» الشاعر ودفعنا على رسمها من جديد لنعايشها بحالة شاعرية وشعورية تكاد تكون قريبة من ذات الحالة التي صادفته عندما كتب قصيدته. وربما يكون الحال كذلك مع الصور واللوحات وأعمال النحت التي نتأملها ونحاول أن ندخل إلى عالمها؛ فهي تجسم أو تظهر - بالخط واللون والضوء والظل، أو بالحجر والخشب والنحاس ... إلخ - مجموعة من المشاعر والأفكار والتجارب التي اختلجت في عقل الفنان ووجدانه، وفي الحالين نجد أنفسنا مدعوين للمشاركة في تكوين أو تشكيل أو بناء خاص انصهرت فيه الألفاظ والصور والأوزان والإيقاعات من ناحية، والخطوط والألوان والمساحات والظلال من ناحية أخرى. وتزداد صعوبة المشكلة مع قصائد نقلت - على جسر الترجمة الواهن! - من لغة إلى لغة أخرى مختلفة عنها في نظامها الصوتي والنحوي والتركيبي والدلالي. والواقع أن كلمات الشعر - بل أحرف هذه الكلمات! - بترتيب سياقها في القصيدة، وبجرسها ورنينها الخاص، هي مفتاح الباب الضيق - أو الباب المغلق! - الذي ننفذ منه إلى عالم الشعر السحري، أصل النشوة والعجب و«التعجيب» الذي يأخذ بألبابنا عند قراءته. ولم يبالغ القاضي الجرجاني عندما وصف كلام الشاعر بأنه «أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار ...»
12
ولكن ما العمل إذا كانت القصائد لا تقدم في لغاتها الأصلية؟ وإذا كانت الترجمة تضحى مضطرة بصوت اللفظ الذي هو جزء لا يتجزأ من معناه، بل تنقل اللفظ الأصلي بجرسه الخاص إلى نظام لغوي آخر ينقله إلى لفظ آخر إلى صوت وجرس مختلفين؟ أليس معنى هذا أن تصبح قراءة النص الشعري أمرا مستحيلا لمجرد أنه نص مترجم؟
كل هذه مشكلات وأسئلة تطرح نفسها على الترجمة الأدبية بوجه عام وترجمة الشعر بوجه خاص. وليس هذا هو مجال مناقشة هذه المعضلة التي تتفرق حولها الآراء من قائل إن الشعر لا يترجم - كالجاحظ في عبارته المشهرة - أو إن جوهر الشعر نفسه هو الذي يذهب مع الترجمة، أو إن ما يبقى منه بعدها أكثر مما يضيع منه ... إلخ. ولا خلاف على أن ترجمة الشعر - حتى لو قيض لها أشعر الشعراء في لغاتهم الأصلية! - تمثل العقبة الكبرى أمام قراءته قراءة حقيقية يصحبها الفهم العميق والذوق الدقيق لدلالات الألفاظ وإيحاءاتها الصوتية والصورية والرمزية. ولقد تمنيت لو جاءت الترجمة العربية في مواجهة النص الأصلي في لغته التي قرأته بها، لكن ظروف النشر في عالمنا العربي لا تسمح بهذا العمل الواجب، وربما يزيد من أعباء النشر والطبع التي لا ضرورة لزيادة ثقلها. أضف إلى هذا أن القراءة المثالية إذا كانت قد أصبحت مستحيلة أو بعيدة المنال، فإن فرصة القراءة الممتعة التي تتيحها المقارنة بين النص والرسم بجانب مقارنة النصوص الشعرية بعضها ببعض لم تنعدم ولا يمكن أن تنعدم.
ولنجرب الآن - بوسائلنا النثرية الفقيرة - أن نقرأ بعض الصور التي ستجدها في هذه المجموعة المختارة ، ولنحاول أن ننظر إليها بعيون الشعراء الذين عرفوا كيف ينظرون، فربما نتعلم منهم شيئا من فن الرؤية الذي برعوا فيه، بينما نسير نحن في دروب هذا العالم كالذين يفتحون أعينهم ولا يرون ...
Halaman tidak diketahui
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن العمل الفني الحقيقي أشبه بمنجم غني بكنوز الأسرار وأسرار الكنوز، وكل من يتأمل ذخائره لا بد من أن يفعل هذا من وجهة نظر معينة تتحكم فيها عوامل لا حصر لها، ويستخرج منه هذا الجوهر الثمين أو ذلك حسب قدرته وموهبته وثقافته وخبرته ونظرته للحياة والكون والفن. ولن نستطيع بطبيعة الحال أن نقف أمام جميع الصور والأشعار التي يقدمها هذا «المتحف» الصغير؛ لأن ذلك يفسد الغاية من إتاحة الفرصة لكل قارئ لكي يتذوق ويجرب بحريته الكاملة؛ ولذلك سأكتفي بمحاولة النظر إلى ثلاث لوحات اخترتها من أكثر من أربعين لوحة، مع علمي أن المحاولة لا تخرج عن إلقاء بعض الأسئلة التي تحفز القارئ على الدخول في عالم هذه القراءة الفريدة، وتشجع على القيام بالمغامرة، وتغري الشاعر والمصور بمد أيديهما إلى بعضهما ...
وربما يسأل القارئ: كيف يمكنني أن أفسر قصيدة الصورة؟ وكيف أقارن بين نص لغوي وآخر مرئي؟ والإجابة على هذين السؤالين وأمثالهما متروكة لكل قارئ على حدة، وهي تعتمد - كما سبق القول - على ذوقه وتجربته، وثقافته ووجهة نظره في النقد والحياة. وإذا صح ما يقوله بعض نقاد الشعر من أن القراءات تتعدد بتعدد القراء، وأن كل قارئ يعيد إبداع القصيدة على طريقته ولا يقتصر على استحضار تجربة الشاعر الأصلية، فلا غنى لهذا القارئ نفسه عن - 24 - بعض الموجهات النظرية التي تهديه داخل المتاهة السحرية. ولذلك سنطرح بعض الأسئلة التي يمكن أن تساعد الإجابة عليها على القراءة المنظمة، ولا نقول العلمية أو الموضوعية حتى نترك للتذوق الحر مجالا يتحرك فيه؛
13
كيف ومتى التقى الشاعر بالصورة، وفي أي موقف من مواقف حياته وعصره ومجتمعه تم هذا اللقاء؟ هل نشأت قصيدته في مناسبة معينة، كأن تكون هذه المناسبة زيارة لمتحف أو مرسم أو معرض صور، أو احتفالا بذكرى فنان، أو حتى الحصول على بطاقة بريدية طبعت عليها الصورة؟ وكيف كان تأثير هذه الصورة عليه؟ هل جذبته إليها أم نفرته منها؟ هل شعر بغرابتها وغموضها ، أم أحس أنها تحرك عاطفته وتلهمه وتقدم له الراحة والعزاء؟ وهل نجح في أن ينقل مضمونها وشكلها إلى لغة القصيدة بحيث تعكس بنية القصيدة بعض العناصر المكونة لها؟ وإذا كان قد نجح في هذا فما هي الوسائل والأدوات الفنية التي لجأ إليها؟ كيف استطاع أن يجعل الصور الساكنة تنطق وتتحدث إلينا من طوايا الماضي البعيد أو الحاضر المباشر؟ وإذا كان قد وفق في التعبير عن بعض معالم الصورة وتفصيلاتها الدقيقة، فهل أغفل تفصيلات أخرى، ولماذا فعل ذلك؟ هل تمكنت القصيدة من تقديم تفسير للصورة، وما هي الوسائل التي استعانت بها لتحقيق ذلك؟ ثم ماذا كان هدف الشاعر من كتابة قصيدته عن صورة محددة؟ هل كان الهدف هو نقد عصره ومجتمعه، مثل معظم الشعراء الشباب الذين ستجدهم يكتبون عن «كآبة» دورر أو «جوكندا» دافنشي، فيدينون عصر القلق والأورام والرعب النووي وقواعد الصواريخ؟ أم كانت غاية الشاعر هي إطلاق العنان لخواطره ومشاعره، وإلقاء الضوء على الوجود الإنساني بوجه عام، ومحاولة الاقتراب من سره ومعناه؟ أم كان الهدف في النهاية غير مرتبط بأي هدف، اللهم إلا متعة التأمل والتذوق المنزهة عن كل هدف أو غرض، وهي المتعة التي جعلها «كانت» محور التذوق الفني والاستمتاع والمسرة الجمالية؟
وربما ينتقل القارئ إلى أسئلة أخرى أكثر ارتباطا «بحرفية» القصيدة وصنعتها فيسأل: كيف عالج الشاعر قصيدته و«وظف» كلماتها وعباراتها وصورها ورموزها؟ هل سلك طريق الوصف المباشر، أم سار على درب القصة والحكاية، أم لجأ إلى الحوار بينه وبينها؟ هل اتبع الأسلوب الغنائي أم التقريري أم أسلوب التعليم وضرب المثل؟ وهل أوجز وكثف أم أسهب وأطنب؟ في أي قالب وضع قصيدته ورتب أبياتها ومقاطعها؟ وهل التزم أوزانا من بحر معين ونوع القوافي، أم فضل الشعر الحر وبالغ في بعض الأحيان وكتب على طريقة الشعر المجسم (الذي كان آخر صيحة في عالم الشعر وتنظيم سطوره حتى عهد قريب)؟! هل يغلب على النص طابع التعبير العاطفي، أم طابع الإيماء والإيحاء، أم الدعوة إلى انفعال أو فعل معين؟ وهل يتكلم الشاعر عن الصورة نفسها أم عن الفنان الذي رسمها أم عنهما معا؟ وهل وفق آخر الأمر في «توصيل» تجربته أو «رسالته» أو «كلمته» والملاءمة بين أسلوب القصيدة وبنائها وبين الحقائق التي تمخضت عنها الإجابة على الأسئلة السابقة؟ إن هذه الأسئلة تصب كما ترى في تذوق القصيدة وتعين الإجابة عليها على تحقيق غاية المتعة الجمالية التي لا يختلف حولها أحد ...
فلنحاول أن نقرأ معا بعض الصور القليلة التي تجدها في هذا الكتاب على ضوء القصائد التي قيلت عنها. ولنتذكر أن قراءتنا ليست سوى قراءة واحدة من بين قراءات أخرى ممكنة؛ أي إنها تقدم تفسيرا واحدا ولا تزعم أنه هو التفسير الوحيد. ولنبدأ ب «الجوكوندا» أو «الموناليزا» التي تعد من أشهر كنوز الفن، كما تعد ابتسامتها المميزة لغزا أبديا ربما يفوق في غموضه وحنانه وسخريته ابتسامة أبي الهول ...
ماذا تقول هذه الابتسامة التي لا تنطق؟ وبماذا تتحدث هذه النظرة الهادئة المفعمة بالتعاطف والأسى والدعابة والتعالي؟ إن الرزانة والصبر تحيطان هذه السيدة الإيطالية البيضاء المنعمة، ويداها المشبوكتان على صدرها كحمامتين تتناجيان فتزيدان من الإحساس بالرضى والاستسلام والحنان. كل شيء فيها ومن خلفها يكرس هذا الإحساس ويقلقه في آن واحد؛ المنظر الطبيعي الساكن الذي يوشك أن يحيلها هي نفسها إلى طبيعة ساكنة، البحر البعيد والصخور البلورية والسماء المتلاشية الزرقة، والماء الفضي المنحدر من الجبل، والشجر وجذوع الشجر ناصعة البياض، والظل الراسخ الداكن الذي يتحدد على «الخلفية»، ولا يفلح لمعان الماء الفضي ولا نصوع الجبين الوضاء والصدر المرمري وأنوار الفجر المتوهج من بعيد، لا تفلح كلها في زحزحة هذا الظل الجاثم ومعه الأفول والنضوج والحكمة المترفعة.
لكن روعة المنظر الطبيعي الملتف في ثوب الغروب أو في ثوب الحداد لا تستطيع أن تشغلك عن النظر إلى العينين اللتين لا تتحولان عنك، ولا يمكنك أن تحول عينيك عنهما! وهي تعجز بالتأكيد عن تشتيت انتباهك إلى الابتسامة التي لا تدري هل تفتر عن الحب أم عن القسوة؟ وهل هي ابتسامة الأنثى الخالدة التي تجذبك إليها، أم ابتسامة النمرة المتربصة التي تغوي ضحيتها وتهلل لقرب انتصارها عليها؟ ...
وتهز رأسك حيرة وعذابا، ثم ترفعه وتثبت عينيك على عينيها وشفتيها. لا شك في أنها تريد أن تقول شيئا أو أشياء، لكن هل تقوله للفنان الذي كان عاكفا على رسم صورتها، أم تقوله لكل من سيقف أمامها في مستقبل الأيام والأجيال، أم تخاطب به نفسها في عزف منفرد يصمت في نطقه وينطق في صمته؟ إن النظرة الممتلئة بالحياة - على الرغم من سكونها الظاهر - والبسمة التي تختلج على الشفتين محاولة الإفلات من اللون والظل والمكان الذي قيدت فيه منذ أكثر من خمسة قرون، لترقص وتهتز وتتحرك في الزمان، إنها جميعا لتحيرك فلا تدري هل تتوقف أمامها وتملأ عينيك من جمالها وحنانها وحبها ودفئها، أم تلوذ بالفرار قبل أن تعرى من ثياب عاداتك، وتنفذ في صندوق أسرارك، وتفضح تفاهة عالمك المزهو بغروره وسخافاته وظلماته، وتجرجر لنفسك «نسخة» منها قبل أن تخرج من الباب. وتظل الحيرة من لغز الموناليزا أو ألغازها تطاردك؛ هل كنت أمام المرأة أم العروس أم «الهولي» أم القديسة البتول؟ هل تكلمت إلي بصوت العرافة القديمة، أم رتلت صلوات المؤمنة الراضية؟ هل ضحكت أم بكت؟ وهل رحبت بزيارتي أم طردتني من بيتها؟ أتراها حملتني بهداياها - النور مع الموسيقى زادا لبقية عمري - أم أثقلت روحي برموزها وأسرارها، وأرهقت ضميري بالبحث عن سري ورمزي ولغزي؟ وليت شعري هل اقتربت منها أم ابتعدت؟ وإذا وضعت صورتها في بيتي - كما يفعل ملايين الناس - فهل ستكون نعمة أم نقمة؟ وهل أتمكن يوما من فض اللغز الأبدي؟ إن الفنان العظيم قد رسم «فلسفته» عندما رسم هذه المرأة - الهولي أو هذه الحواء - الملاك، ولكنه - شأنه شأن كل فيلسوف حق - قد دعانا للمشاركة والحوار، وصان رؤيته من التمذهب والتحجر والتعصب ... وليت صغار المتسلطين والمستبدين في الأدب والفن والعلم والحياة يعرفون أخيرا أن هذه المفاهيم نفسها تناقض التسلط والاستبداد ولا تليق إلا بالبهيم والجماد ...
وننتقل في الزمان سنوات قليلة بعد ليوناردو دافنتشي (1452-1519م) والجوكوندا التي صورها حوالي سنة 1503م، لنقف أمام لوحة هي آخر ما رسم فنان آخر من أصحاب الرؤية، وهو بيتر بروجل الأكبر (من حوالي 1525م إلى 1569م). إن العميان الستة (وقد رسمها حوالي سنة 1568م) يجتاحهم الرعب، ويتحسسون الطريق واحدا بعد الآخر متشبثين بعصا أو قضيب طويل يمسك أولهم وآخرهم بطرفيه. كل منهم يضع يده على كتف المتقدم عليه في الصف، والذي يستند عليه قد ارتج جسده واختل توازنه. ما السر وراء الزلزلة أو العاصفة أو الموت الداهم؟ إن الثاني في الصف يعرف وإن كان مثلهم لا يرى؛ فلقد وقع الرائد والقائد في حفرة، وانهار فوقع التالي وانهار عليه، أما الأربعة الباقون فقد استشعروا الخطر وفتحوا المحاجر الجوفاء على اتساعها كأنهم يريدون أن يروا الظلمة المطبقة ويتأكدوا من أنها ازدادت كثافة وإطباقا ... من هم هؤلاء الرجال الستة؟ أيسيرون على طريقهم المعتاد كل يوم؟ هل وقعوا في هذه الحفرة من قبل أم فاجأتهم على غير توقع؟ من بعيد تظهر بعض بيوت القرية والكنيسة الريفية الصغيرة والأشجار الراسخة والبحيرة. ولم يسعون أو يوشكون على السقوط في الحفرة دون أن يشعر بهم أحد؟ كيف اندفعوا في الليل الأعمى؟ من حركهم؟ هل هو مثلهم قدر أعمى؟ ولماذا يتخلى عنهم؟ ولماذا لم ينتظروا أن يشرق فجر أو تطلع شمس نهار؟ هل دار بخاطرهم أن الرؤية بالليل تكون أتم؟
Halaman tidak diketahui
الأعمى، يتبعه أعمى، يمسك بعصا يمسكها أعمى، يضع يديه على كتفي أعمى ... والكل تعثر وسيسقط حتما في الحفرة ... أهي رؤية ونبوءة؟ هل رسم الفنان هؤلاء العميان أم كان كأفلاطون في أسطورة الكهف (آخر الكتاب السادس وبداية الكتاب السابع من الجمهورية) يقدم رمزا أو أمثولة؟ هل نحن العميان المقصودون، والموت أو القدر الأعمى أو ما شئت من المحن الكبرى هو تلك الحفرة؟ ألا تنطبق الرؤية أو النبوءة علينا نحن في هذا العصر، عصر الاضطراب الشامل الذي نشقى به، والكوارث الكبرى والصغرى التي تتجسد أمامنا في كل مكان، عصر يشن فيه الجميع الحرب على الجميع، ويتوقعون الكوارث كل يوم، ويقتاتون عليها كل صباح، ويأخذونها إلى نومهم كل مساء؟ ألا يمكن أن نقول مع أحد الشعراء الذين «قرءوا» العميان إنها ليست مجرد صورة، بل وصية، في زمن جمع أصحاب الرؤية من أمثال بروجل (رابليه ومونتني وشكسبير)، وجسد الرعب من المجهول وما أفظع تخريبه للأفراد والشعوب؟ أم نقول أخيرا إن عميان بروجل يرون بأعينهم أكثر مما نرى، ويحسون بنا أكثر مما نحس بأنفسنا؟ هم أسرى القيد المجهول. من فينا إلا وهو اليوم أسير مثل العميان، سجين أو مشنوق؟
وتوسيع خطاك وأنت تنتقل عبر الزمن لتجد لوحة أخرى لراء آخر؛ إنه فنسنت فان جوخ (1853-1890م)، ولوحته هي حقل القمح مع الغربان التي كانت آخر ما رسم قبل إقدامه على الانتحار بأيام قليلة. انظر الصورة وحاول أن تقرأها قبل أن تضاهيها بنصوص الشعراء. سيفاجئك إلى حد الدهشة طوفان القمح الذهبي، وستمسك أنفاسك خوفا أو عجبا من أسراب الغربان السوداء الطافية على سطح الموج، ودائرة النار ووهج البريق، وتلبد السحب وزفير الأرض، أهي غضبة الوجود وحريقه أم رماد العدم المتبقي بعد الثورة؟ أم هو قلق الفنان المتمزق بهواجسه «الميتافيزيقية» التي لونها بالأحمر والأصفر الفاجعين (من الأسف أن الصورة بالأبيض والأسود لا بالألوان الأصلية!)
14
هل كان هذا الفنان يتضرع لله أن يخلصه من يأسه فكانت الصورة هي نشيجه وبكاءه، وكانت الألوان هي صلاته، لكن الفنان قد أطلق آخر سهم في جعبته، والسهم اتجه إليه وغار في لحمه، وانفتح الجرح كما تنفتح الهاوية السوداء. هل هو جرح وجود الإنسان على الأرض، في زمن الجوع، القسوة، والتعذيب، أم هو جرح الفنان البائس، جرح العين التي «رأت» من هول الحقيقة أكثر مما تطيق عين البشر؟ وها نحن أولاء نرى بعض ما أصابها بالدوار فيصيبنا الدوار ...
بقي علينا أن نعرج على أدبنا العربي ونطرح هذا السؤال: هل نجد أثرا لقصيدة الصورة في تراثنا الشعري والنقدي قديمه وحديثه ومعاصره؟ وإذا صح توقعنا للجواب فهل يمكننا - إزاء التراث العريق ومراعاة لمقتضى الحال في مثل هذا التقديم! - أن نتتبع الخيوط الأساسية للاهتمام بالصورة في جانبها الذي يؤكد المقارنة القديمة بين الشعر من ناحية والتصوير أو الرسم من ناحية أخرى؟
من الطبيعي أن نجد الصورة الفنية على اختلاف أنواعها ومستوياتها ووظائفها في الشعر العربي، شأنه في ذلك شأن كل شعر آخر؛ فقد كانت الصورة ولم تزل هي جوهر الشعر الثابت ووسيلته التي لا يستغنى عنها في الكشف عن الحقائق الشعرية والإنسانية التي تعجز اللغة العادية واللغة العلمية عن الكشف عنها وتوصيلها. ومن الطبيعي أيضا أن يحظى بحث الصورة بعناية النقاد والبلاغيين القدامى، وأن يستفيد من جهود اللغويين والمفسرين والمتكلمين في تحديد مفاهيم التشبيه والاستعارة والمجاز، كما يستفيد من شروح الفلاسفة المسلمين لنظرية المحاكاة لأرسطو على ضوء كتبه في الشعر والخطابة والنفس وما بعد الطبيعة.
وربما يكون «الجاحظ» هو أول من التفت إلى طبيعة الشعر من حيث هو «ضرب من النسيج وجنس من التصوير»، وأول من طرح في تاريخ النقد العربي بعض الأفكار الهامة التي سيطرت على أجيال طويلة من البلاغيين والنقاد من بعده، ولو قرأنا عبارته المشهورة في كتاب الحيوان (3 / 131-132) لتبينا الدلالات المختلفة التي يفهمها من كلمة التصوير، والمبادئ التي يقوم عليها هذا الفهم: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي والمدني، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير.»
والعبارة تقدم لنا مصطلح التصور الذي يهمنا في هذا السياق. والجاحظ يستخدمه في العبارة السابقة وفي كتبه ووسائله استخداما يمكننا أن نستشف منه ثلاثة مبادئ؛ أولها: أن للشعر أسلوبا خاصا في صياغة الأفكار أو المعاني، وهو أسلوب يقوم على إثارة الانفعال واستمالة المتلقي إلى موقف من المواقف. وثانيها: أن أسلوب الشعر في الصياغة يقوم على تقديم المعنى بطريقة حسية؛ أي إن التصوير يترادف مع ما نسميه الآن بالتجسيم. وثالث هذه المبادئ أن التقديم الحسي للشعر يجعله قرينا للرسم ومشابها له في طريقة التشكيل والصياغة، والتأثير والتلقي، وإن اختلف عنه في المادة التي يصوغ بها ويصور بواسطتها،
15
ومن الواضح أن المبدأ الأخير يشير إلى دلالة كلمة التصوير على رسم لوحة أو تشكيل تمثال، بحيث يصبح معنى الصورة مرادفا للوحة المرسومة، ويكون ربط الشعر بالرسم أمرا ناتجا عن إدراك أن التقديم الحسي للمعنى أو التجسيم عنصر مشترك بين الشعر والرسم؛ لأن كلا من الرسام والشاعر يقدم المعنى بطريقة بصرية.
Halaman tidak diketahui