Abad Kesembilan Belas
القرن العشرون
Genre-genre
كان الفيلسوف المادي - والعالم المادي معا - في منتصف القرن التاسع عشر يعلن الإيمان بالمادة دون غيرها لأنه يحسب أن وجودها هو الوجود الثابت بغير برهان، وأنها تملأ عيانه، وتصدم يديه وقدميه، ولا تحوجه إلى فهم حقيقتها وراء النظر واللمس، ووراء صدمة الواقع المقرر بغير جدال، ولا إمعان في الخيال.
ولكن ما هي تلك «المجردات» التي يتحدث عنها غير الماديين؟
وهم لا نراه، خيال لا نعقله، فروض لا تبرأ من النقائض، وضروب المحال.
ثم وصف علماء المادة وفلاسفتها هذه المادة التي لا تجريد فيها، فإذا هم يعيدون فيها ما قاله، الروحانيون عن المجردات، فما يقوله الماديون عن سر المادة إنما هو وهم لا يرى وخيال لا يعقل، ونقائض من الفروض في التفسير الواحد، ودع عنك غيره من التفسيرات. •••
كانت مادة الأقدمين معدنا للكثافة والغلظة، وضدا لمعنى الصفاء والتجريد؛ لأنها من معدن يناقض النور السماوي في بساطته ولطفه ونزاهة مكانه، فأصبح قوامها كله من النور المحض يتساوى أكثفها وألطفها، كما يتساوى أثقلها وأخفها في استمداد هذا القوام من ينبوعه الأصيل، وكلما ثقل وزنها كان هذا الثقل عنوانا لوفرة نصيبها من النورانية أو من الشعاع المنطلق بلا جثمان.
وكانت مادة المحدثين حقيقة واقعة مأخوذة في اليدين، يعدون من غريب القول إن يسأل السائل هل هي مفهومة أو غير مفهومة؛ لأنها أظهر وأثبت من أن يصل الأمر فيها إلى الفهم بالذهن المجرد وهي قائمة أمامنا بألوانها وأحجامها وأجرامها الصلدة التي تصدم الأكف والأقدام، فأصبحت هذه الحقيقة الواقعة المأخوذة باليدين شيئا يدق عن إدراك العقول ويبلغ من الدقة غاية ما يبلغ الروح المجرد في خفائه وصفائه، فكل هذه الأجسام الكثيفة إنما هي ذرات صغار لا تدركها العيون، ولا يدركها العقل إلا بالحساب والتقدير، وكل ما انطوت عليه هذه الذرات، إنما هي هزات أو جزئيات لا ندري على التحقيق أيهما تكون، وقد يفسرون الظاهرة الواحدة بالهزات من ناحية والجزئيات من ناحية أخرى، ويتممون هذه بتلك على نحو يستغربونه من شراح «الروحانيات» والمجردات، وما إليها من خلائق البديهة والخيال.
وما قصارى الهزات والجزئيات بعد هذا التردد بين التفسيرين؟ قصاراها أنها حركات في ظن من الظنون يسمى بالأثير، لا يعرف بلون ولا طعم ولا مس ولا عدد ولا طول ولا عمق مقيس بغير الحساب والتقدير.
وآل أمر الامتداد كذلك إلى الحساب والتقدير؛ لأنه جاوز الحس والتصوير ولحق في النهاية بالغيبيات وما شاكلها من فروض البديهة والخيال، ففي الثانية الواحدة يعبر شعاع النور قريبا من ثلثمائة ألف من الكيلومترات، وكم يعبر إذا انقسمت خفقة الثانية الواحدة إلى ألف خفقة؟ وماذا يكون جزء من ألف جزء من الثانية في حساب الزمن المعهود.
وتضاءل شأن «الامتداد» الذي سميت باسمه المادة فأصبح إدراكه وإدراك المعاني الذهنية على حد سواء، لا نهاية للصغر بعد أن كان المظنون أن اللانهاية صفة من صفات السعة الشاسعة من الآفاق والآباد.
وإذا تركنا اللانهاية في الصغر أو في الكبر، ووقفنا عند المحدودات في عالم الأجسام والمعاني، فالعجب هنا أعجب من كل أعجوبة روحانية عزت على قرائح المتعمقين في التفكير والتخمين.
Halaman tidak diketahui