فشهق حبيب شهقة كادت تودي بحياته، وطوق الفتى بذارعيه وهو يقول بصوت تقطعه العبرات: ولدي، ولدي، ولدي، كيف لم أعرفك حتى الآن؟ وكيف لم تنبهني عاطفة الحنان الأبوي إلى أن هذا الدم الذي يجري في عروقك هو دمي؟
فارتمى عزيز مدهوشا وهو يقول: والدي ...! شقيقتي ...! - أجل، إنك ولدي، وقد روت لك والدتك خبر موتي؛ لأنها رأت مصرعي بعينها، ولكن كتبت لي الحياة بعد ذلك بعناية أولي الفضل من خدام الله الصالحين، وقد بحثت بعد ذلك فلم أهتد إلى مكانها، فقطعت الأمل من بقائها في قيد الحياة، ولا سيما بعد أن رأيت آثارا جعلتني أتأكد موتها، ولكن فلنحمد الله الآن على إلهامه إيانا إلى معرفة هذا السر، وهيا بنا نبشر شقيقتك ماري بذلك؛ إذ لا يجوز أن ننفرد دونها في هذا السرور.
وهكذا نهض الاثنان، وهرولا نحو مخدعها، وكان حبيب يتقدم ولده وهو يقفز كالغزال، وشعر بأن دم الشباب قد عاد إليه، ولما بلغ مخدعها رآها جالسة تبكي بدموع حارة، فأسرع وقبل جبينها، ثم سألها عن سبب بكائها، فانطرحت على صدره باكية، وشرحت له ما وعته من الألفاظ التي تفوه بها عزيز أثناء مرضه، والتي استدلت منها على أن فؤاده مرتبط بسواها، وعليه؛ فقد صممت على الانفصال عنه، والذهاب إلى أحد الأديرة، حيث تقضي أيامها نادبة حظها متفردة في آلامها.
فجعل والدها يلاطفها ويقبلها، ثم أخبرها بأمر عزيز، وأنه أخوها، وقص عليها القصة من أولها إلى آخرها. وكان عزيز قد دخل حينئذ فوثبت نحوه وهي تقول أخي، فيجيبها شقيقتي، ثم تعانقا. وانضم إليهما الوالد، فامتزجت دموع الثلاثة، وسقت وجناتهم الملتهبة بنيران الانفعال، فكان لهم مشهدا لا يملك الناظر إليه نفسه من التأثر والبكاء.
الفصل الحادي والعشرون
ظهور الحقيقة
وفي عصر اليوم التالي برحوا مدينة بيروت عائدين إلى مصر، وكانت ماري تقص على عزيز أثناء الطريق أخبار روزه، وما تبينته فيها من دلائل الحب والتألم لبعده.
فكان يصغي إليها وحشاشته تتقطع حزنا وندما على ما بدا منه نحوها من الطيش والغدر، وما جلبه عليها من السقم والكدر. وقد وطن النفس على العودة إليها وطلب الصفح منها، وهو واثق بقبولها لتوبته لما يعهده بها من صدق المودة ورقة القلب، ولا سيما بعد أن اتضح عذره في إجابته دعوة المودة، وانقياده لجاذب الإخاء.
وبوصولهم إلى مصر أسرع عزيز توا إلى منزل روزه، فأخبر بوفاة والدها منذ يومين، وعدم تمكنها من مقابلة أحد لما هي عليه من الحزن والغم.
فعاد أدراجه أسفا على وفاة صديقه، متلهفا على رؤية حبيبته، وتفريج كربتها متأملا في حالتها، وما تتجرعه من غصص الكرب، فشعر أن الدنيا قد ضاقت به، فأسرع إلى منزله ليستريح قليلا من عناء السفر، فوجد أن خادمه الأمين قد قام بترتيب المنزل وتنظيفه مدة غيابه بما أوج ثناؤه عليه.
Halaman tidak diketahui