ولبثت مصغية إلى كلماته المتقطعة إلى مطلع الفجر؛ لعلها تتمكن من اكتشاف سره واستطلاع أمره، فلم تفلح، وكان والدها يسير في الغرفة ذهابا وإيابا، ويفرك كفيه مجهدا قريحته في حل ذلك السر الذي أخذ يجمع حواسه، ولما أعياه التعب خرج الردهة ضائع الأفكار بعيدا عن محجة الهدى، ورمى بنفسه على المقعد خائر القوى.
وعند الساعة العاشرة من صباح اليوم الثاني، كانت قد خفت وطأة الحمى عن الجريح ففتح عينيه، وأمر يده على جبهته، ثم أجال نظره في الغرفة، فأبصر ماري إلى جانبه شاحبة الوجه مقرحة الأجفان، فتناول يدها وأدناها من شفتيه.
وكأن تلك القبلة سم نفثته عقارب الغيرة على يد الفتاة، فأسرعت وسحبتها من يده مستنكرة أن تمسها ما زالت تتحرك بذكر ضرة لها، وأشارت إليه بالسكوت، قائلة: إنك مريض أيها الصديق وتحتاج إلى الراحة.
فأغمض عينيه، وعاد إلى سبات النوم الذي كان لم يزل مخدرا دماغه المتأثر بفعل الحمى.
وعاده الأطباء على أثر ذلك؛ فرأوا من تحسن حاله ما بشرهم بزوال الخطر عنه.
وما فتئ يتقدم إلى الصحة رويدا، حتى إذا أصبح قادرا على الحديث قص على ذويه حادث تلك الليلة المشئومة. قال: بينما كنت عائدا إلى الفندق نحو الساعة التاسعة مساء، لم أشعر إلا وذراعان قويتان أحاطتا بي، فلم تدعا لي مجالا للحركة، فصحت بالفاعل، وللحال انتصب أمامي رجل كبير الجثة، وطعنني في صدري تلك الطعنة التي لم أعد أعي بعدها شيئا.
فتبين من حديثه أنه لبث على تلك الحال نحو ساعة إلى أن قيض له مرور بعض خدم الفندق فعرفوه، وأتوا به على ما ذكرنا. برئ جرح عزيز بعد أسبوعين فما صدق حبيب أن رآه معافى حتى أتاه يوما مستطلعا سر الذخيرة، فوجده يبحث بين ثناياه وفي جيوبه وعلائم القلق بادية على محياه وفي حركاته.
فسأله عما به، فأجابه: إني أطلب ذخيرة ذهبية كانت معي ليلة جرحت، وأخشى أن يكون قد استولى عليها الأشقياء مع ما سلبوه مني.
فأخرجها حبيب من جيبه، وأراها إياها قائلا: أليست هذه هي؟
فأجابه بالإيجاب، ومد يده لاستلامها مسرورا، فبقي حبيب قابضا عليها، وسأله ببشاشة: من أين لك هذه يا عزيزي؟ - إنها آخر تذكار قلدتنيه والدتي وهي على فراش الموت؛ ولذلك فهي ثمينة لدي ولا سيما أنها تحتوي على رسم والدي المتوفى. - متى توفي والدك؟ - في إحدى معارك جبل لبنان سنة 1860، وأسرت والدتي أيضا في المعركة نفسها، وكانت إذ ذاك حاملا بي، ثم قدرت لها النجاة بوساطة شهم باسل، ففرت عائدة إلى بيت نشأت فيه، واستغفرت مربيها عن جرم أتته بزواجها سرا، وفرارها مع قرينها، فصفح لها، وعادت إلى سابق معيشتها في منزله، غير أن حزنها الشديد على زوجها أسقم جسدها، وذهب بنضارتها، فسارت نحو القبر بخطوات مسرعة إلى أن لحقت به وأنا في الخامسة من العمر، ولما كانت على فراش الموت دعتني إلى جانبها، وقصت علي تاريخ زواجها، ثم تناولت هذه الذخيرة، وقبلت الرسم الذي في داخلها باكية، وطوقت عنقي بسلسلتها وهي توصيني بالاحتراس عليها، ثم قبلتني وأسلمت الروح. - وماذا كان اسم والدتك، وما هو اسم مربيها؟ - اسم والدتي فاتنة، ومربيها أحد أمراء جمبلاط.
Halaman tidak diketahui