فهو يصلي بالعربية، ويفكر بالتركية، ويستشعر بالفارسية، وقد بدأ يرى الأشياء بعين إنكليزية. هو ديمقراطي اللسان، أوتوقراطي العقل، ثيوقراطي القلب والمجموع ميل، بعد الاتكال على الله، إلى الاستبداد، «إنما العاجز من لا يستبد.»
لله من أولئك السياسيين، ومن فصاحتهم، ومن لطفهم، ومن حججهم وأحكامهم، ومن أساليبهم في الطعن والاغتياب! وما أكثرهم في بغداد! كم مرة وقفت في سراديب عقولهم السياسية! وكم مرة تغلغلت بعقلي وقلبي فيها لأفهم أقوالهم، وأدرك أفكارهم، ومقاصدهم، وأميز بين الأوهام والحقائق في مزاعمهم! وكم مرة أصغيت ساكتا صابرا للأحاديث الطويلة لأتحقق ما فيها من شكوى! وكم مرة أوقفني محدثي وأنا أتبعه مصغيا متنبها، كم مرة أوقفني بغتة في جادة ملتوية مظلمة؛ ليؤكد لي أنها ليست بجادته أو جادة حزبه، بل هي جادة الحكومة والإنكليز! - إني أطلعك، يا أستاذ، على حقائق هذه المسالك الملتوية المظلمة.
وهل يليق بي الشك وأنا في مجلس من أولاني صداقته، وأكد لي أنه يمشي ويتكلم أياما في خدمتي؛ لينير ذهني، ليطلعني على حقائق الدولة وأسرارها. ولولا وطنيتي وأدبي ورغبتي في التحقيق والتدقيق، لما كان يمشي خطوة، أو يفوه بكلمة. لا والله! فهل يليق بي الشك أو الاحتياط؟!
أما إنه كان في خدمته لي يخدم كذلك نفسه، من حيث لا يظن أني أدري، فذلك أمر لا ريب فيه. إلا أنه لا يمدح نفسه. كلا، ولكنه يرهفك بالحديث، ويعييك بالسير في سراديب السياسة؛ ليفهمك أنه أخلص سياسيي العراق وطنية، وأبعدهم نظرا، وأسدهم رأيا، وأصرحهم مقالا. هذا السياسي المدرب المجرب، اللطيف الشريف، سنيا كان أو شيعيا، كرديا أو مسيحيا، هو يوما للمعارضة ويوما عليها - مثل الزمان.
وسأعطيك الآن بعض الأمثلة من أعمال المعارضة، بادئا بالإضراب في صيف سنة 1931؛ لأنه من أهم حركات العراق الداخلية، وأقلها بركة. وها هي القصة في حقائقها العريضة.
كانت حكومة الاحتلال قد قررت وضع ضريبة على أصحاب المهن والحرف، ولكن قرارها لم ينفذ كل التنفيذ. وفي سنة 1929، تناولت حكومة العراق ذلك القرار فحولته إلى قانون يدعى قانون رسوم البلديات، وجعلته يشمل في ضرائبه الأهالي جميعا. إلا أن المادة الثالثة من هذا القانون تجيز لمجالس البلديات أن تخفض أو تلغي من جدول الضرائب ما لا يناسب أحوال الأهالي الاقتصادية.
ومع ذلك فقد تعددت أصوات الشكوى والاحتجاج، عندما شرعت الحكومة تنفذ القانون، فتمردت الحلة، وتبعتها بعقوبة في أوائل تموز، ثم أعلنت بغداد الإضراب وأمست مقفلة.
أما المادة الثالثة من القانون فقلما استرعت النظر. بيد أن بعض البلديات باشرت تحوير جدول الضرائب بموجب هذه المادة. ولكن الشعب لم يكترث، بل أصر على الإضراب الذي أضحى حركة وطنية.
وظل النظام سائدا والسكينة مستتبة في الأيام الخمسة الأول. وبعد ذلك فقد اصطدم الشعب بالشرطة وتضاربوا بضع مرات، واضطرب حبل الأمن في البصرة، وقتل في الناصرية اثنان. ما خلا هذا! فقد ظهرت الحكومة وظهر المضربون في مظهر من الثبات والسكينة يذكر فيشكر. ظلت بغداد مقفلة عشرة أيام، ثم بدت في بعض أمارات السأم والوهن. فأصدرت الحكومة بلاغا ثانيا افتتحته بهذه العبارة: «حيث إن الإلحاح المستمر على بعض الأشخاص، المعروفين بحسن النية والقصد، بلزوم الامتناع عن فتح حوانيتهم، أو مزاولة أشغالهم، قد سبب ضنكا للأهالي إلخ»، وأنذرت بعقوبة الحبس والغرامة كل من يردع أو يحاول أن يردع أحدا عن فتح حانوته أو استئناف عمله، «وكل من ينشر أخبارا كاذبة يقصد بها التدخل بالحرية العامة».
كان الملك فيصل يومئذ في أوروبا ومعه رئيس الوزراء السيد نوري السعيد. فعاد السعيد إلى بغداد في أواسط تموز، عند ما كان الإضراب آخذا بالتلاشي، وأول ما عمله أن استعان بالمادة الثالثة من قانون رسوم البلديات، فألغى بعض الضرائب، وأصدر بلاغا جامعا بين الشدة واللين، فتمكن في خلال ثلاثة أيام من إقناع الناس بلزوم العودة إلى أشغالهم. إنما بقيت البصرة متمردة، فلجأ إلى الحزم، فألقي القبض على بعض زعماء الإضراب، وأبعدوا، فعادت المياه إلى مجاريها.
Halaman tidak diketahui