وهناك وراء الآفاق في عواصم ألوية العراق، وفي ما دون العراق غربا وشمالا وشرقا - في سوريا وفلسطين ومصر وفي أنقرة وطهران - سمع صوت الخطيب الواقف على المنبر ببغداد. أجل، قد طارت كلماته على أجنحة الأثير لتحدث بأعجوبة هذا الزمان، وبأعاجيب أخرى في تاريخ العراق الحديث، فسمعها المؤمنون والمشككون، وثم يبسملون ويكبرون. سمعوها لأول مرة في حياتهم باللغة العربية، وسيذكرونها مدى الحياة.
سيذكرون - ولا ريب - الحدث العظيم. وسيذكرون - إن شاء الله - اسم صاحب الخطبة. وقد يذكرون بعض ما أشاد به من مظاهر النهضة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق، وبعض ما أشار إليه من أوليات هذه النهضة المباركة. ورأس الأوليات المعرض الزراعي الاقتصادي. فما رأت أرض الرافدين، منذ عهد السومريين إلى عهد الأتراك، معرضا مثله. ومن الأوليات في كل أزمنة التاريخ القديم والحديث حكومة العراق النيابية، وملك العراق الدستوري، ومدارس العراق العامة. وقد يذكر من سمع الخطيب أنه دعا العرب للاتحاد، ودعا زعماء الأقطار العربية للتفاهم والتعاون، وأنه أثنى على الملك فيصل الذي ساس العراق بالحزم والحكمة، فاجتاز بفضله المرحلة الأولى من مراحل الاستقلال الوطني والسيادة القومية. قد يذكرون كل ذلك أو بعضه. وقد لا يذكرون شيئا من الخطبة، غير أنها هبطت عليهم مثل الوحي من عالم الغيب، إنها إذن لوحي منزل. أستغفر الله. ليس فيها شيء عجيب غير أنها سمعت في وقت واحد في سائر المدن الكبرى في الشرق العربي.
على أن الخطبة ما نجت ولا نجا الخطيب، من صحافة بغداد، أو بالحري من صحافة المعارضة، فقد تناولت الخطبة، بل نتلتها بمخالب النقد، ومزقتها إربا إربا، ثم عرقت منها العظم، وتلمظت بالمرارة. قال أحد كتاب المعارضة: إن الخطيب من الثرثارين. وقال آخر: إنه يتزلف من الملك، وإنه من المستوزرين. وغمس آخر قلمه في دواة التهكم والظرف وخط الآية: إن الخطيب لمن ذوي الآذان الطويلة. وشخص آخر مرضه فقال إنه مصاب بداء التفاؤل.
فاستنتجت من كل ذلك أن المعارضة - أي الأحزاب المعارضة للحكومة - لا تزال حية ترزق، وأنها تعارض مبدئيا على طول الخط، ولا تبالي بما يقال في مواقفها. ولم المبالاة، ووظيفة المعارضة، كما يقول السياسيون، هي أن تعارض؟! إن في بغداد ثلاثة لا تتغير، هي: الغبار والوحل والسياسة.
وقد عجب أرباب السياسة لما في الخطبة من السطحيات. فكيف فات الجوهر الخطيب؟ ماذا دهاه فعمي أو تعامى؟ أما كان بإمكانه أن يرى، في نظرة سطحية، الحقائق البارزة؟ فالإنكليز لا يزالون في العراق، وما تحسنت اقتصاديات البلاد، وما تحررت الإدارات من المستشارين، وما، وما ...
هي المعارضة، ولا حرج، فقد نصبت مدافعها بين أدغال الصحافة، ووراء أكمات الأحزاب، وشرعت تطلقها في كل ناحية، من الطرف الأيمن في جبهة الحكومة إلى الطرف الأيسر، من القصر على شاطئ الكرخ إلى القصر على شاطئ الرصافة - على المندوب البريطاني، على الملك، على الوزارة، على البرلمان، وحتى على المعرض؛ لأنه من أعمال الحكومة! فلا عجب إذا أصابني رشاش من مدافعها، وأنا أتنقل مستكشفا - يا للحماقة! - من مكان إلى مكان في مرامي الجبهة.
ضعف المعارضة
ما أشرت في الفصل السابق إلى آفات بغداد الثلاث حبا بالإغراب والإبداع في الإنشاء. إنما هي الحقيقة تجمع في بعض الأحايين الشوارد والمتناقضات، فإذا هي شرع في كنهها أو في نتائجها. فإن الآفات البغدادية هي عاصفة التراب (أو ما يدعى «القاطرة» أو «الطوز») في الربيع، والوحل في الشتاء، السياسيون في كل فصول السنة.
أما الآفتان الأوليان فلا تنفرد بغداد بهما، وقد لا تكون فيهما كغيرها من المدن. فإن في أسواق باريس مثلا تتكون في الشتاء صفحة رقيقة من الوحل الرخو اللزج الذي يتحول تحت الأرجل إلى مزلقات، فهي إذا ذاك أكرب من بغداد، وإن ضباب لندن في الخريف، ذلك الضباب القاتم الكثيف المعمي، والمفعم بالروائح الكبريتية، هو أفظع من «قاطرة» بغداد التي لا رائحة لها ولا هي تسد عليك السبيل. أما سياسي بغداد فلا أظنك تجد له صنوا في الشرق أو في الغرب. فإنه في عقليته مزيج من الغبار والرماد. غير أن قلبه مضمخ بالطيب، ولسانه لسان خطيب.
أجل، إن إرث السياسي البغدادي لإرث مركب من شتى العناصر النفسية والعقلية والبيانية. فيستطيع لذلك أن يكون شفافا أو كثيفا، دقيقا أو غليظا، قويما أو مواربا، لطيفا أو خشنا، صريحا أو مجمجما. إن في عروقه العربية أثرا من الدم الفارسي والتركي والكردي والتتري.
Halaman tidak diketahui