إننا في مقام جنيد، وهو لا يزال مشهورا بما يأتيه من المعجزات، فينافس فيها الباز الأشهب وغيره من الأولياء. كان جنيد في زمانه - توفي في العقد الثاني من القرن الرابع للهجرة - أشهر المتصوفين المبجلين، فساوم الدنيا وما عاداها. قبل تبعة الحياة، وشذبها، فكان من أصحاب السيادة والكياسة، يرتدي الدمقس، ويسبح بسبحة من اللؤلؤ، ويتطيب بالعطور، ولا يحفل كثيرا بما لا يساق لطوعه من المحسوس والمنظور. بل حاول أن يسكت المناقضات، ويوفق بين النور والظلمات، فاعترف بفضل الماعون الفارغ يحمله الدرويش، كما اعترف بفضل الفراش الوثير يفرش للقضاة. أما الأول فهو رمز كل باطل في الحياة، وأما الثاني فهو رمز الحياة التي تظل ناعمة ولا بأس ... تحتنا.
كان جنيد محبا للجدل، شغفا بأساليب البيان، بل كان ممن تستهويهم الألفاظ، فيصيغون منها الحكم والآيات للناس، لا لأنفسهم. «البلاء سراج العارفين» قالها جنيد، وما عرف البلاء في الحياة الدنيا. وقال غيرها مما لا نكلفك إجهاد النفس في تصديقه، فقد سئل مرة عن غني شاكر وفقير صابر أيهما أفضل، فقال: «الذي آلم صفته وأزعجها أتم حالا ممن متع صفته ونعمها.» وقد كان هو، كما أسلفت، من الممتعين المنعمين، عفا الله عنه، وغفر له خصوصا لقوله: «ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا.» إن في كتابه «دواء الأرواح» من الغوامض الفكرية، والألاعيب اللفظية، ما يعيد إلى الذهن أسلوب يوحنا في إنجيله، وبولس الرسول في بعض رسائله.
وقد قال المستشرق الفرنسي «لويس ماسينيون»، المحيط علما بالمتصوفين المتضلع بالدراسات العربية والفارسية، إن في كتب جنيد وأمثاله مجالا للبحث في ما قد يكون من الصلة الروحية والفلسفية بين هؤلاء المتصوفين ونساك النصارى في العراق.
لست ممن يقولون إن كتبه - ومن يا ترى يقرأها اليوم - هي الضامنة لدوام ذكره. إنما أظن بل أعتقد أن ذكره منوط دوامه بفجيعة تلميذه وزميله الحلاج، الذي حكم عليه جنيد بالإعدام. وقد دفن الاثنان بالمقبرة الواحدة، في التراب الواحد، تحت قبتين متقاربتين.
وهو لا يزال في هذه التربة ممن يأتون بالمعجزات. فإن في الجامع الصغير الذي يحتوي ضريحه حجرين أملسين، على سجادة مفروشة فوق مائدة صغيرة، ينعمان بالصفة التي للطوب أبو خزامة. أجل، إن فيهما الدواء لكل الأمراض. فإذا وضعت المرأة أحد الحجرين على موضع الألم منها كان لها الشفاء، وإن كان الداء داخليا حملت المرأة الحجر على رأسها وطافت بالمسجد حول الضريح. وإن كانت عاقرا تبتغي ولدا مسحت بالحجر بطنها، وفي خارج المسجد بئر يحقق الغسل بمائها ما قد يعجز عنه الحجر العجيب. بل إن في ذلك الماء قوة تكيف الجنين ليرضي حاملته المؤمنة، فهي إذا أخذت ثلاثة دلاء منه، وصبتها على رأسها وجسدها، جاء مولودها ذكرا! حسبك من جنيد هذه المعجزة، وهو فيها منقطع النظير بين الأولياء.
على أن هناك غيره من الأخصائيين، فيقفون في البركة عند معجزة لا يعدونها. إن في هذه المقبرة القديمة تراب صوفي آخر، هو بهلول الذي كان معاصرا لهرون الرشيد، ومؤازرا لأبي النواس في منادمة ذلك الخليفة المريح. وإنه اليوم، وإن كان من الأبرار في الجنة، ينافس زميله جنيد بالمعجزات.
إنما لبهلول طريقة طريفة، توجب على الزائرين والزائرات - وخصوصا الزائرات - البناء والهدم في سبيل الله. فإن في ساحة المسجد الصغير، كومات من الحصى متعددة، هي بيوت القلوب؛ أي إن كل كومة منها هي بيت بنته إحدى الزائرات الناذرات؛ ليحتوي منية قلبها. وبعد أن تتم المسكينة بناء بيتها تتوسل إلى بهلول، وتقسم أنها لا تهدم ذلك البيت، قبل أن يستجيب دعوتها. فهل يجوز أن تدعي المعجزة البهلولية اللعب بالحصى؟ ما السبب إذن في ازدحام هذا المكان بالبيوت العامرة؟ ... لا أهدم بيتي، حتى تستجيب يا بهلول دعوتي ... «وعمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب» ... ذرهم في حوضهم يلعبون.
طوب أبو خزامة.
الصوفي الأكبر
ها نحن في ظلال - العفو، يا قارئي. ليس في هذه المقبرة غير الشمس في النهار، والظلمة في الليل، لا شجر ولا ظل بين هذه القبور. إنما نحن واقفون وراء ظلنا الضئيل الذي يقبل الآن عتبة مقام حسين بن منصور بن أبي بكر الأنصاري، المعروف بالحلاج، المشهور في الشرق والغرب.
Halaman tidak diketahui