بداء من الحصار فأقم، والمأمون قد أوجس في نفسه خيفة، وتوقع منهم داهية مطيفة، فنقل ماله وأهله إلى المدور بعد أن حصنه، وملأه بالعدد وشحنه، وأقام بقصر قرطبة مضطربا، ولأول نبأة مصيخا ومرتقبا، إلا أن صبحوها يوما لعدة كانت بينهم وبين أهلها في تسم أسوارها، وتقحم أنجادها وأغوارها، فوقفوا هاربين، وتشوفوا راهبين، وأهلها يدعون بشعارهم، ويتبعون أهواء مردتهم ودعارهم، وكلهم يبدي تلومه وأحجامه، ويعتقك هولا لا يرى اقتحامه، إلى أن استهلوا استصعابه، وتوغلوا شعابه، وصمموا إلى القصر، وقد علموا قعود الجماعة عن الحماية له والنصر، فلما أحس بهم المأمون خرج بعدد قليل، وحد قليل، وقد رتبت له بطريقه رصائد، ونصبت له فيها مصائد، علق فيه زمامه، ورشق إليه منها حمامه، فانقضوا عليه انقضاض الجارح، وانصبوا إليه انصباب الطير إلى المسارح، فلم يكن له فيها أين يعرج، ولا وجد للخلاص بابا ينفرج، فقطع رأسه وحيز، وخيض به النهر وأجيز، ولما استقر بالمحلة رفع على سن رمح وطيف به في جوانبها، وأخيف به قلب مجانبها، وبقي جسده على الأرض مطروحا، كأنه لم يكن للملك روحا، ولا اختال في عراصه فحكى غصنا مروحا، وذلك بتقدير العليم ثم انتقلوا إلى رندة أحد معاقل الأندلس الممتنعة، وقواعدها السامية المرتفعة، تطرد منها على بعد ملتقاها، ودنو النجوم من ذراها، عيون لأنصبابها دوي كالرعد القاصف، والرياح العواصف، ثم تتكون واديا يلتوي بجوانبها التواء الشجاع، ويزيدها في التوعر والامتناع، وقد تجونت نواحيها وأقطارها، وتكونت فيها لباناتها وأوطارها، لا يعتذر لها مطلب، ولا يتصور فيها عدو إلا علقه ناب أو مخلب، فأناخوا منها على بعد، وأقاموا من الرجاء بها على غير وعد، وفيها ابنه الراضي لم يحفل بأناختهم بإزائه، ولا عدها من أرزائه، لامتناعه عن منازلتهم، وارتفاعه عن مطاولتهم، إلى أن انقضى في أمر إشبيلية ما انقضى، وأفضى أمر أبيه إلى ما أفضى، فحمل على مخاطبة ولله لينزل عن صياصيه، ويمكنهم من نواصيه، فنزل برا بأبيه، وإبقاء على أرماق ذويه، بعد أن عاقدهم مستوثقا، وأخذ عليهم عهدا من الله وموثقا، فلما وصل إليهم، وحصل في أيديهم، ومالوا به عن الحصن وجرعوه الردى، واقطعوه الثرى حين أودى، وفي ذلك يقول المعتمد يرثيهما وقد رأى قمرية بائحة بشجنها، نائحة بفننها على سكنها، وأمامها وكر فيه طائران يرددان نغما، ويغردان ترحة وترنما:
Halaman 20