وروى أيضا قصة تشبهها قال: إنه لزم أبا جعفر الحميري آخر من انتهى إليه علم الآداب بالأندلس المتوفى سنة 610 نحوا من سنتين، فما رأيت أروى لشعر قديم ولا حديث، ولا أذكر بحكاية تتعلق بأدب، أو مثل سائر، أو بيت نادر، أو سجعة مستحسنة منه، أدرك جلة من مشايخ الأندلس، فأخذ عنهم علم الحديث والقرآن والآداب، وأعانه على ذلك طول عمره، وصدق محبته، وإفراط شغفه بالعلم، قال لي ولده عصام: وقد رأيت عنده نسخة من شعر أبي الطيب قرئت علي أو أكثرها، فألقيتها شديدة الصحة، فقلت له: لقد كتبتها من أصل صحيح وتحرزت في نقلها، فقال لي: ما يمكن أن يكون في الدنيا أصل أصح من الأصل الذي كتبت منه، فقلت له: أين هو؟ فقال لي: عن يمينك، فعلمت أنه يريد الشيخ، فقلت: ما على يميني إلا الأستاذ، فقال لي: هو أصلي وبإملائه كتبت، كان يملي علي من حفظه، فجعلت أتعجب، فسمع الأستاذ حديثنا فالتفت إلينا وقال: فيم أنتما؟ فأخبره ولده الخبر، فلما رأى تعجبي قال: بعيد أن تفلحوا، يعجب أحدكم من حفظ ديوان المتنبي؟! والله لقد أدركت أقواما لا يعدون من حفظ كتاب سيبويه حافظا ولا يرونه مجتهدا.
ومن نظر فيما أثر عن الأندلسيين وحدهم من هذا القبيل يكتب أوراقا كثيرة، وكنت قرأت في الاستقصاء أن من جملة من غرق مع السلطان أبي الحسن لما قصد الغرب في البحر بأسطوله الغريق، وكان مؤلفا من نحو ستمائة قطعة مع من غرق من الفقهاء، والعلماء، والكتاب، والأشراف أبو عبد الله محمد بن الصباغ المكناسي الذي أملى في مجلس درسه بمكناسة على حديث يا أبا عمير ما فعل النغير أربعمائة فائدة.
وقيل: إن صدر الدين بن الوكيل، ويعرف عند المصريين بابن المرجل من أئمة الشافعية، حفظ المفصل في مائة يوم ويوم، والمقامات الحريرية في خمسين يوما، وديوان المتنبي على ما قيل في جمعة واحدة.
وذكر المقريزي عن حكايات أهل الأندلس في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ إشبيلية، بل الأندلس في عصره أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب، كان أعجوبة دهره في الرواية للأشعار والأخبار، قال ابن سعيد: أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساء إشبيلية، فجرى ذكر حفظه، وكان ذلك من أول الليل، فقال لهم: إن شئتم تخبروني أجبتكم، فقالوا له: بسم الله، إنا نريد أن نحدث عن تحقيق، فقال: اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها حتى تعجبوا، فاختاروا القاف، فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن «أرق على أرق ومثلي يأرق» وسماره قد نام بعض وضج بعض، وهو ما فارق قافية القاف، وقال أبو عمران بن سعيد: دخلت عليه يوما بدار الأشراف بإشبيلية، وحوله أدباء ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرمة، فمد الهيثم يده إلى الديوان المذكور فمنعه أحد الأدباء، فقال: يا أبا عمران أواجب أن يمنعه مني وما يحفظ منه بيتا وأنا أحفظه؟! فأكذبته الجماعة ، فقال: اسمعوني. وأمسكوه فابتدأ من أوله حتى قارب نصفه، فأقسمنا عليه أن يكف وشهدنا له بالحفظ، وكان آية في سرعة البديهة مشهورا بذلك، قال أبو الحسن بن سعيد: عهدي به في إشبيلية يملي على أحد الطلبة شعرا، وعلى ثان موشحة وعلى ثالث زجلا كل ذلك ارتجالا.
قال ابن خلكان: كان أبو الفرج الأصبهاني - صاحب كتاب الأغاني - يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب، ما لم أر قط من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخر، منها اللغة ، والنحو، والخرافات، والسير، والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئا كثيرا، مثل علم الجوارح والسيطرة، ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك، وذكر صاحب الصبح المنبي أن العلم الفرد في قوة الحافظة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما. ولقد شرط الملك المعظم عيسى لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة.
قال أبو عمر الطلمنكي: دخلت مرسية فتشبث بي أهلها يسمعون على الغريب المصنف، فقلت: انظروا من يقرأ لكم، وأمسكت أنا كتابي، فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيدة - وهو صاحب المخصص في اللغة الذي طبع مؤخرا - فقرأه علي من أوله إلى آخره فعجبت من حفظه. ولقد لازم ثعلب بن الأعرابي، فما رآه نظر في كتاب، وأخبار الأصمعي في الحفظ والرواية أشهر من أن تذكر، وكذلك خلف الأحمر والكلبي وعبيد ودعبل، وكان أبو تمام لا يلحق في محفوظاته، وقيل: إنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب، غير القصائد والمقاطيع، قال أبو الحسن محمد بن علي العلوي: كان المتنبي يلازم الوارقين، فأخبرني وزان كان يجلس إليه قال: ما رأيت أحفظ من هذا الفتى ابن عبدان السقي «المتنبي»، قلت له: كيف؟ قال: اليوم كان عندي وقد أحضر رجل كتابا من كتب الأصمعي، يكون نحوا من ثلاثين ورقة لبيعه، فأخذه فنظر إليه طويلا، فقال له الرجل: أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك، فإن كنت قد حفظته في هذه المدة فمالي عليك، قال: أهب لك الكتاب، قال: فأخذته من يده، فأقبل بهذه علي إلى آخره، ثم استلمه فجعله في كمه، وقام فتعلق به صاحبه طالبا بماله، فقال: ما إلى ذلك سبيل وقد وهبته لي، قال: فمنعناه منه وقلنا: أنت شرطت على نفسك هذا للغلام فتركه عليه، والأمثلة كثيرة في هذا الباب والله أعلم.
الإنشاء والمنشئون1
إذا أردنا أن نحكم على المنشئين بما انتهى إلينا من خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم ومصنفاتهم، وبدأنا بأهل القرن الأول للإسلام، نرى على رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - فإنه سيد البلغاء على الإطلاق، وواضع بنيان البيان العربي، وكلامه كما قال العارفون: بعد كلام الله وكلام رسوله - عليه الصلاة والسلام - أبلغ كلام، ونهج البلاغة
2
الذي جمعه الشريف الرضي من كلامه، وشرحه ابن أبي الحديد كتاب الدهر الخالد، وقد عد كثير من الصحابة أئمة في الكتابة والخطابة (راجع «إعجاز القرآن» للباقلاني و«الإتقان» و«المزهر» للسيوطي).
Halaman tidak diketahui