وكان علي الرازي يقول: من فهم هذا الكتاب - يعني الجامع الصغير لمحمد - فهو من أصحابنا، ومن حفظه كان أحفظ أصحابنا، وإن المتقدمين من مشايخنا كانوا لا يقلدون أحدا القضاء حتى يمتحنوه، فإن حفظه قلدوه القضاء وإلا أمروه بالحفظ. وذكر صاحب فتح الطيب أنه كان خارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر وفقيه مقلص تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له، وكان لا يجعل القالص منهم على رأسه إلا من حفظ الموطأ، وقيل من حفظ عشرة آلاف حديث والمدونة. وكان بديع الزمان الهمذاني يحفظ خمسين بيتا بسماع واحد، ويؤديها من أولها إلى آخرها، وينظر في كتاب نظرا خفيفا، ويحفظ أوراقا ويؤديها من أولها إلى آخرها، وينظر في الأربعة والخمسة الأوراق من كتاب لم يعرفه، ولم يره نظرة واحدة خفيفة، ثم يهذها عن ظهر قلبه هذا ويسردها سردا، وهذا حاله في الكتب الواردة وغيرها، وكان أبو رياش أحمد بن إبراهيم من رواة الأدب، يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة، وعشرين ألف بيت شعر، إلا أن أبا محمد المافروخي بذ عليه؛ لأنهما اجتمعا أول ما تشاهدا بالبصرة، فتذاكر أشعار الجاهلية، وكان أبو محمد يذكر القصيدة فيأتي أبو رياش على عيونها، فيقول أبو محمد إلا أن تهذها من أولها إلى آخرها، فينشد معه ويتناشدان إلى آخرها، ثم أتى أبو محمد بعدة قصائد، لم يتمكن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها، وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة حدثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما، قاله ياقوت في معجم الأدباء.
وكان الحفظ في كل فن شائعا بين أهل الأدب وطلاب العلم، على اختلاف ضروبه عند العرب، على نحو ما يتضح من تصفح سير رجالهم، ولو لم يكن استناد المؤلفين في الأغلب إلا على ما في لوح محفوظهم، لما تيسر لهم أن يؤلف أحدهم عشرات من المجلدات يعجز العالم اليوم عن نسخها، بل عن تصفحها.
فقد كان العرب قبل البعثة يروون قصائد شعرائهم وأغاني حداتهم، كما يؤخذ من اجتماعاتهم في سوق عكاظ ومربد البصرة، ولم تكن بضاعتهم من ذلك كثيرة؛ لأن أمراء الكلام لم ينبغوا إلا في الإسلام، بظهور نور النبوة وفصاحة الكتاب العزيز. ولقد كان الراوية والنسابة ينشد عشرات بل مئات من القصائد، كما يحفظ أحدنا لهذا العهد الأبيات القليلة غير متلعثم ولا متردد، خذ مثالا لذلك حمادا الرواية المتوفى سنة 155، فقد كان على قلة بضاعته من العربية يروي المئات من القصائد للجاهلين والمخضرمين، كما يروي فاتحة الكتاب، ويذكر أشعار العرب وأيامهم وأنسابهم ولغاتهم، كأنه يروي قصة، وكان ملوك بني أمية يرجعون إليه في هذا المعنى، ويحلونه منزلة عالية من التجلة والإكرام، روي أن الوليد بن يزيد الأموي قال له يوما وقد حضر مجلسه: بم استحققت هذا الاسم، فقيل لك الراوية فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف أنك لا تعرفه ولا سمعت به، ثم لا ينشدني أحد شعرا قديما ولا محدثا إلا ميزت القديم من المحدث، فقال: ثم فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثير، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام، قال: سأمتحنك في هذا، ثم أمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية، وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم، ونوادره كثيرة.
وكان الأصمعي المتوفى سنة 318 أو قبلها صاحب لغة ونحو، وإماما في أخبار العرب وملحهم وغرائبهم، قال عمر بن شبة: سمعت الأصمعي يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة، وقال إسحاق الموصلي: لم أر الأصمعي يدعي شيئا من العلم فيكون أعلم به منه، وحضر يوما عند الفضل بن الربيع هو وأبو عبيدة معمر بن المثنى فقال له: كم كتابك في الخيل؟ فقال الأصمعي: مجلدا واحدا، فسأل أبا عبيدة عن كتابه، فقال: خمسون مجلدة، فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضوا عضوا منه وسمه، فقال: لست بيطارا، وإنما هذا شيء أخذته عن العرب، فقال للأصمعي: قم وافعل أنت ذلك، فقام الأصمعي وأمسك ناصيته، وشرع يذكر عضوا عضوا ويضع يده عليه، وأنشد ما قالت العرب فيه إلى أن فرغ منه. قال أبو حمدون الطيب بن إسماعيل: شهدت ابن أبي العتاهية، وقد كتب عن أبي محمد اليزيدي قريبا من ألف مجلد عن أبي عمرو بن العلاء خاصة، ويكون ذلك نحو عشرة آلاف ورقة؛ لأن تقدير المجلد عشر ورقات.
قال أبو نواس: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب، منهم الخنساء وليلى، فما ظنك بالرجال، قلت: ولذلك جاء شعر أبي نواس أحسن شعر المولدين، كما شهد له بذلك أصحاب الشأن في هذه الصناعة، وفي مقدمتهم الجاحظ الذي فضل شعره على شعر العرب العرباء، قال إسماعيل بن نوبخت: ما رأيت قط أوسع علما من أبي نواس ولا أحفظ منه، مع قلة كتبه. ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا فيه إلا قمطرا فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو.
قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: دخل أبو عمرو إسحاق بن مراد الشيباني البادية، ومعه وستيجتان من حبر، فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب، وكان أبو عمرو عالما بأيام العرب، جامعا لأشعارها، ويروى عن عمرو بن أبي عمرو قال: لما جمع أبي أشعار العرب كانت نيفا وثمانين قبيلة، وكان كلما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفا بخطه، ويحكى أنه أخذ عن المفضل الضبي دواوين العرب، وسمعها منه أبو حيان، وابنه عمرو بن أبي عمرو الشيباني من العلم والسماع أضعاف ما كان مع أبي عبيدة، ولم يكن من أهل البصرة مثل أبي عبيدة في السماع والعلم، قال سلمة: أملى القراء كتبه كلها حفظا لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين، ومقدار كتب الفراء ثلاثة آلاف ورقة، وكان مقدار الكتابين خمسين ورقة، ويقال: إن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة، وكان الخليل يحفظ نصف اللغة، وكان أبو فيد يحفظ الثلثين، وكان أبو مالك يحفظ اللغة كلها، وكان الغالب على أبي مالك حفظ الغريب والنوادر. وكان ابن الأعرابي أحفظ الناس للغات والأيام والأنساب، وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: قال لي ابن الأعرابي: أمليت قبل أن تجيئني يا أحمد حمل جمل. وقال ثعلب: انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابي. وقال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول في كلمة رواها الأصمعي: سمعت من ألف أعرابي خلاف ما قاله الأصمعي.
وكان قتادة عالما نحريرا، وأجمع الناس لأشعار العرب وأنسابهم، قال أبو عبيدة: ما كنا نفقد كل يوم راكبا من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة، فيسأله عن خبر أو نسب أو شعر، وكان من أنسب الناس، وكان ابن الكلبي النسابة واسع الرواية، ومن أعلم الناس بالنسب، وكان من الحفاظ المشاهير، قال: حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد، كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن، فدخلت بيتا وحلفت ألا أخرج منه حتى أحفظ القرآن، فحفظته في ثلاثة أيام، وتصانيفه تزيد على مائة وخمسين تصنيفا وتوفي سنة 204.
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارهم وأشعارهم ، قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه، ومع أنه كان يلحن ويخطئ إذا قرأ القرآن، وإذا أنشد بيتا لا يقيم وزنه، وإذا تحدث أو قرأ لحن اعتمادا منه؛ لذلك فقد صنف قرابة مائة مصنف، وكان يرى رأي الخوارج؛ ولذلك كثر الطاعنون في نسبه ومشربه ومذهبه وتوفي سنة 209.
كان أبو المحاسن الرؤباني (المتوفى سنة 502) من رءوس الأفاضل في أيامه يقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من خاطري. وقال أبو بكر النحوي لما قدم الحسن بن سهل العراق، قال: أحب أن أجمع قوما من أهل الأدب، فأحضر أبا عبيدة والأصمعي، ونصر بن علي الجهضمي وحضرت معهم، وأفضنا مرة في ذكر الحفاظ، فذكرنا الزهري وقتادة ومررنا، فالتفت أبو عبيدة فقال: ما الغرض - أيها الأمير - في ذكر من مضى وبالحضرة ههنا من يقول ما قرأ كتابا قط، فاحتاج إلى أن يعود فيه، ولا دخل قلبه شيء فخرج عنه، فالتفت الأصمعي وقال: إنما يريدني بهذا القول أيها الأمير، والأمر في ذلك على ما حكى، وأنا أقرب إليك قد نظر الأمير فيما نظر فيه من الرقاع - وكان نظر قبل أن يلتفت إليهم في رقاع بين يديه للناس في حاجاتهم، فوقع عليها فكانت خمسين رقعة - وأنا أعيد ما فيها وما وقع به الأمير على رقعة رقعة، قال: فأمر وأحضرت الرقاع، قال الأصمعي: سأل صاحب الرقعة الأولى كذا واسمه كذا فوقع له بكذا، والرقعة الثانية والثالثة حتى مر في نيف وأربعين رقعة ، فالتفت إليه نصر بن علي فقال: أيها الرجل، أبق على نفسك من العين. فكف الأصمعي.
وما لي وتعداد الأسماء على هذا النحو فكتب القوم طافحة بها، وإنما يكفي منها التمثيل والقليل يغني، ولقائل إن هذا القدر من الحفظ كان بعضه شائعا في القرنين الأولين والقرون الثلاثة، وقد بالغ فيه الرواة حتى اتصل بنا على هذه الصورة، وما حجتي في نقض هذا إلا وقوع أمثال أمثاله في كتب أهل القرون المتأخرة، مما تواطأ الثقات على نقله وتحرزوا في إثباته، ولقد كان الغرب في هذه المزية كالشرق؛ إذ قد حذا المغاربة في حضارتهم وعلومهم حذو المشارقة، فقد كان ابن عبدون - أحد فحول شعراء الأندلس وكتابها - مستكثرا من الحفظ، قال الوزير أبو بكر بن زهر: بينا أنا قاعد في دهليز دارنا، وعندي رجل شيخ أمرته أن يكتب لي كتاب الأغاني، فجاء الناسخ بالكراريس التي كتبها فقلت له: أين الأصل الذي كتبت عنه لأقابل معك به؟ قال: ما أتيت به معي، فبينا أنا معه في ذلك إذ دخل رجل بذ الهيئة عليه ثياب غليظة أكثرها صوف، وعلى رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان وقال لي: يا بني استأذن لي على الوزير أبي مروان، فقلت له: هو نائم، هذا بعد أن تكلفت جوابه غاية التكلف، حملتني على ذلك نزوة الصبا، وما رأيت من خشونة هيئة الرجل، ثم سكت عني ساعة وقال: ما هذا الكتاب الذي بأيديكما، فقلت له: ما سؤالك عنه فقال: أحب أن أعرف اسمه، فإني كنت أعرف أسماء الكتب، فقلت: هو كتاب الأغاني، فقال: إلى أين بلغ الكاتب منه؟ قلت: بلغ موضع كذا، وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به والضحك على قالبه، فقال: وما لكاتبك لا يكتب، قلت: طلبت منه الأصل الذي يكتب منه لأعارض به هذه الأوراق فقال: لم أجيء به معي، فقال: يا بني خذ كراريسك وعارض، قلت: بماذا وأين الأصل، قال: كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي، قال: فتبسمت من قوله فلما رأى تبسمي قال: يا بني أمسك علي، قال: فأمسكت عليه وجعل يقرأ فوالله إن أخطأ واوا ولا فاء، قرأ هكذا نحوا من كراسين، ثم أخذت له في وسط السفر وآخره، فرأيت حفظه في ذلك كله سواء فاشتد عجبي، وقمت مسرعا حتى دخلت على أبي فأخبرته بالخبر، ووصفت له الرجل فقام كما هو من فوره، وكان ملتفا برداء ليس عليه قميص، وخرج حاسر الرأس حافي القدمين لا يرفق على نفسه وأنا بين يديه، ويقول: يا مولاي أعذرني فوالله ما أعلمني هذا الخلف إلا الساعة، وجعل يسبني والرجل يخفض عليه ويقول: ما عرفني، وأبي يقول: هبه ما عرفك فما عذره في حسن الأدب، ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به فتحدثا طويلا، ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافيا، حتى بلغ الباب وأمر بدابته التي يركبها، فأسرجت وحلف عليه ليركبنها، ثم لا ترجع إليه أبدا، فلما انفصل قلت لأبي: من هذا الرجل الذي عظمته هذا التعظيم؟ قال لي: اسكت، ويحك، هذا أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الآداب، هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون أيسر محفوظاته كتاب الأغاني. رواها المراكشي.
Halaman tidak diketahui