وقوله: ولكن اعتزل الناس السسماك الأعزل، وارتفع أهل الدرج العليا وانخفض أهل الدرك الأسفل، وضيع الناس السهام وأصبت أنت بواحدها المقتل، فأنت الرامي وغيرك الرائم، وأنت الحامي وغيرك الحائم، وحروفك الأزهار وكتبك الكمائم، وقلمك الساقي وخواطرك الغمائم، وبقولك يضن ويغالى، وإذا قلت يا خيل الأقلام اركبي ملأت الأرض تصهالا وصيالا، ونفرت إليك المعاني خفافًا وثقالًا، وأذنت فيها بالحج ضمائر على كل ضامر ورجالًا، وأنت الحاضر والغيب الحضور، وأنت الحاضر والغيب الحضور، وأنت السيد وغيرك الحصور، والأسماع إلى ما تقول في دمشق صور، ولو قدحت الماء لاستطار شرارًا، ولو أجرت ورد الخد لكنت له من بنفسج العذار جارًا.
وقوله: فلله هو من كتاب كأنه سورة، وكل آية فيه، سجدة، وقابله بالخشوع كأنما قلم الكتاب القضيب وطرسه البردة.
وقوله: وما هذه الكتب إلا كتائب، وما هذه الأحرف إلا قواضب، ولا الأسطر بها إلا مراكب، ولا النفس منها إلا عجاج يسفر عن الصباح إسفار الغياهب.
وقوله: وكأنما ذخر قلمها للمملكة يحوك وشيها، وصائغا يخلق حليها، وكأنما هو أمير والكلام رعيته فهو يصرف أمرها ونهيها، وكأنما أودع الله سبحانه خاطرها سحابا وكتابها روضا جعل القلم دولابها والدواة نهيها.
وقوله: وارتحت لما امتحت على بعد أرضي من غمامه، واويت القب الدوي من آلامه بلمامه، وأعاد علي زمن رامة كما هو بآرامه، وطلع علي مطالع الأهلة؟ هل هي إلا قلامة أقلامه.
وليكن هنا آخر ما أورده للقاضي الفاضل من هذا النوع، وإن كان ذلك قطرة من حوض، وزهرة من روض.
مناسبة اللفظ للمعنى
قال في فصل بعدما تقدم: وقد نيط بسيدنا قلما الخط اللذان ينسب أحدهما إلى المداد، وينسب الآخر إلى الصعاد.
أقول: أما نسبة القلم إلى المداد فجائز، وأما نسبة الآخر إلى الصعاد فما أدري ما هو. فإن الصعاد هي الرماح التي تنبت مستقيمة فلا تحتاج إلى تثقيف.
فنسبة الرماح إلى الصعاد، أو الصعاد إلى الرماح من باب نسبة الشيء إلى نفسه، وهو غير جائز. وما تنسب الرماح إلا إلى الأعلام أو الأسنة أو الطعن، كما تنسب الأقلام إلى المداد والكتابة.
قال: ومن ذلك ما ذكرته في وصف القلم فقلت: وقد أوحى الله إلى قلمه ما أوحى إلى النحل، غير أنها تأوي إلى المكان الوعر وهو يأوي إلى المكان السهل، ومن شأنه أن يجتني من ثمرات ذات أرواح لا ذات أكمام، ويخرج من نفثاته شراب مختلف طعمه فيه شفاء للأفهام.
أقول: قوله ثمرات ذات أرواح لا ذات أكمام غير مناسب، إذ المناسبة تقتضي أن يقول: ذات أرواح لا ذات أجسام، أو ذات طيالس لا ذات أكمام، ليناسب بين الروح والجسم والطيلسان والكم. ثم نسبة الروح إلى الثمرة أمر خارج عن العادة، ولم يسمع بثمر له روح وثمر ما له روح. وإذا قصدت المبالغة في وصف الثمرة قيل إنها ماء تجمد أو هواء تجسد.
وما أحسن قول أبي الطيب.
لها ثمرٌ يشير إليك منه ... بأشربةٍ وقفن بلا أواني
اللفظ والتركيب
قال في القسم الأول من المقالة الأولى: وكذلك ورد قوله تعالى: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة ". فلفظة لي مثل لفظة تؤذي وقد جاءت في الآية مندرجة متعلقة بما بعدها، وإذا جاءت منقطعة لا تجيء لائقة، كقول أبي الطيب:
تمسي الأمانيّ صرعى دون مطلبه ... فما يقول لشيءٍ ليت ذلك لي
أقول: أي شيء أنكره من هذه اللفظة: وليس الذي ذكره غير دعوى مجردة، وهذه لفظة لي قد وقعت متمكنة، والقافية إذا جاءت متمكنة فإنها من حسن التركيب وعذوبة الانسجام. وأما لفظة تؤذي في قوله: تلذ له المرؤة وهي تؤدي فإنها جاءت ركيكة بخلاف لي في البيت المذكور. ولا تعاب هذه في هذا البيت، إلا أن تعاب لفظة بي في قوله:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وما رأيت من عاب هذا البيت ولا هذه القافية، وإنما هو معدود في المحاسن التي انفرد بها أبو الطيب، لما فيه من مقابلة خمسة بخمسة. ولم يتفق هذا العدد لغيره.
وكذا لفظة تؤذي التي عابها، لو وقعت قافية متمكنة لم تعب.
وما أحسن قول الشيخ مجد الدين بن الظهير الإربلي:
قلبي وطرفي ذا يسيل دما وذا ... دون الورى أنت العليم بقرحه
1 / 29