فماذا نقول عن كنت؟ إنه يبدو في ظاهره مفكرا لا يحسب حسابا إلا للعقل وحده، ولكن تحليل فلسفته الأخلاقية سرعان ما يكشف لك عن صلته العميقة بنفس الأصل الديني؛ فهو يتحدث عن «الأمر المطلق» الذي لا يناقش في لهجة تذكرك كثيرا بالطابع المطلق الذي تتخذه الأوامر الإلهية في الأخلاق الدينية. وهو يحمل على الغايات والمقاصد الإنسانية ويؤكد أن مجرد خضوع الفعل لواحدة منها يعني بعده عن الأخلاقية، وما أشبه هذا بالنزعة الدينية الزاهدة في حملتها على كل سعي دنيوي إلى النفع البشري! وهو يربط الأخلاق بعالم الأشياء في ذاتها، ويبذل كل جهده لإبعادها عن عالم الظواهر، مؤكدا أن حرية الإرادة بمعناها الصحيح لا تكون إلا في العالم الأول وحده، وما هذه التفرقة بين العالمين، ووصف العالم الذي تحيا فيه تجاربنا الإنسانية المعتادة بأنه هو العالم الأدنى، أو عالم الظواهر؛ ما هذه التفرقة إلا أثر من آثار التفرقة الدينية المعروفة بين عالمين، يحتل عالمنا منهما المرتبة الدنيا.
وإذن فالفلسفة متضافرة مع الدين فيما يراه نيتشه مؤامرة تهدف إلى اقتلاع الحياة من جذورها، وإحلال إرادة «إماتة الحياة» محل إرادة الحياة. ولنلاحظ أن نيتشه حينما يتحدث عن المسيحية، فهو في كثير من الأحيان يعني الأديان بوجه عام. أما حين يكون هدفه هو تعاليم المسيحية على التخصيص، فإن السياق يكفي عندئذ للكشف عن هذا الهدف، ولكن الاستعمال الأول هو الغائب لديه. ومن هنا كان الهدف الأول للاتجاه اللاأخلاقي عند نيتشه، هو الخروج عن هذا التقويم السائد للسلوك الإنساني، وهو التقويم الذي يؤدي في رأيه إلى تجريد الإنسان رويدا رويدا من كل ما يحبب إلى نفسه الحياة، وإلى بعث روح العزوف عن العالم فيه؛ فاللاأخلاقية عند نيتشه هي بهذا المعنى ثورة على أوضاع أخلاقية معينة سائدة في عصره. وسواء كان العصر يتصف بالصفات التي عزاها إليه أم لا يتصف، فعلينا دائما أن نذكر أن النقد الأخلاقي للعصر كان ينصب على مواضع ضعف معينة في ذلك العصر، رأى نيتشه أنها هي التي تميزه، وتصبغ أخلاقه بصبغة زاهدة.
وإذا كانت تلك الأخلاق، في اتجاهها العام، أخلاقا زاهدة لا تفي بمطالب الإنسان الحديث، فإنها في مبادئها التفصيلية تسير في نفس الطريق؛ ففي هذه المبادئ كلها تلمس نوعا من الخداع والتضليل، وتحس إحساسا غامضا بأن ظاهر المبدأ غير باطنه، وبأن ما يدعوك إليه مخالف للنتائج الفعلية الناجمة عنه. وتلك في الحق سمة واضحة في تلك الأخلاق الشائعة؛ إذ إن غايتها النهائية مستحيلة التحقيق؛ فمن المحال أن يتمكن الإنسان بالفعل من إماتة نزعاته الحية إلى هذا الحد، أو أن يسلك كما لو كان عقلا خالصا. وإذن فمن الطبيعي أن تنطوي هذه الأخلاق على خداع ذاتي تسببه تلك الهوة السحيقة بين غايتها وبين ما تستطيعه الطبيعة البشرية، ومن الطبيعي أن ينتقل هذا الخداع الذاتي إلى مبادئها التفصيلية كلها.
فلنتأمل مثلا فكرة الشفقة، إن الأخلاق المسيحية - والدينية بوجه عام - تجعل منها شعورا نبيلا يحتل موقع الصدارة من مشاعرنا الأخلاقية. ولكن هل هي شعور أخلاقي نبيل بحق؟ إن ظاهرها هو التعاطف مع الآخرين، والرغبة في مشاركتهم كل أحاسيسهم، ولكنها تنطوي مع ذلك على نفس الخداع الذاتي الذي لاحظناه في الاتجاه العام لتلك الأخلاق. فما هي في واقع الأمر إلا أنانية مستترة؛ ذلك لأننا كثيرا ما نشفق على الغير لخوفنا من أن يحدث لنا مثل ما حدث لهم، بحيث إننا نرمي من عطفنا عليهم إلى الدفاع عن أنفسنا ضد احتمال وقوع مثل هذا الضرر لنا، أو نحمي أنفسنا من الشعور المؤلم الذي ينتابنا كلما صادفنا مثل هذه الأزمات؛ فالمسألة في الواقع ترتد علينا نحن في نهاية الأمر، ونحن نشفق وفي ذهننا حالتنا نحن، لا حالة الآخرين.
2
وكذلك الحال في فكرة الغيرية، التي ترتبط بالشفقة ارتباطا وثيقا، بل تكون شرطها الضروري. والغيرية ليست عند نيتشه مجرد ظاهرة أخلاقية معتادة، بل هي الأساس الأكبر للأخلاق الشائعة، وهي الصدى الذي خلفته المسيحية في تلك الأخلاق؛ ومن هنا نراها تتكرر بصورة مختلفة عند معظم المفكرين الأخلاقيين، فهي تكون النغمة الأساسية لدى المفكرين الفرنسيين الأحرار، من لاروشفوكو
La Rochefoucauld
وفولتير إلى أوجست كونت، وهي تتردد لدى شوبنهور في ألمانيا وجون استورت مل في إنجلترا.
في كل هذه الحالات يظهر تأثير المسيحية. بل إن المذاهب الاشتراكية ذاتها قد خضعت لهذا التأثير؛ إذ لعبت فيها فكرة الغيرية الدور الأكبر.
3
Halaman tidak diketahui