اللاأخلاقية عند نيتشه
أول ما ينبغي أن نشير إليه عند بحثنا للنقد الأخلاقي عند نيتشه، هو معنى «اللاأخلاقية» عنده؛ ذلك لأن المعنى الشائع بيننا لهذه الكلمة، هو التحلل من القواعد والمبادئ الأخلاقية؛ أي هو الدعوة إلى نوع من الهمجية والإباحية في علاقات الناس بعضهم ببعض، وعلى هذا النحو تفهم الأذهان السطحية كلمة اللاأخلاقية، التي تتردد كثيرا في نقد نيتشه للأخلاق. على أن نيتشه ذاته يحذرنا من أن نحمل فكرته مثل هذه المعاني العامية؛ إذ إن الناقد الصحيح للأخلاق لا يمكن أن يكون غير أخلاقي
unmoralisch
بمعنى الوقوف من الأخلاق السائدة موقف المخالف العاصي؛ ففي هذا اعتراف ضمني بالقيم التي تعبر عنها تلك الأخلاق، ومحاولة لمخالفتها فحسب؛ أعني أن المرء في هذه الحالة يعترف بما تسميه الأخلاق السائدة خيرا وشرا، ولكنه لا يحرص على أن يقف من هذه القيم نفس موقف سائر الناس، بل يعلن العصيان عليها ويأبى أن يطيعها، ومحال أن يكون هذا - كما قلنا - هو موقف الناقد الأخلاقي، بل هو موقف الانحلاليين والمنحرفين. وإنما يتخذ الناقد الأخلاقي موقفا ذا طبيعة مغايرة تماما؛ فهو لا أخلاقي
immoralisch ، بمعنى أنه لا يعترف أصلا بالقيم الأخلاقية السائدة، ويحاول مراجعتها من جديد. فهو إذن ليس مخالفا ولا عاصيا ولا منحرفا، وإنما هو مستقل عن هذه الأخلاق. وإذا كان لا يعترف بما تسميه خيرا، فهو أيضا لا يقترف ما تسميه شرا، وإنما يتخذ له موقفا يخرج عن نطاق تلك القيم الشائعة، وينظر إليها من الخارج فحسب، وتلك - في رأي نيتشه - هي صفة الناقد الصحيح؛ إذ لا يجب عليه أن يصدر حكمه من خلال أية قيمة أخلاقية سائدة، وإنما ينبغي عليه أن يضع هذه القيم ذاتها موضع الشك، ويتأملها كما لو كان مشاهدا محايدا يختبرها من بداية الأمر ليقرر مدى صلاحيتها، «فلكي يتسنى لنا أن نتأمل أخلاقنا الأوروبية من بعيد، ونقارنها بنظم أخلاقية أخرى، سابقة أو تالية، علينا أن نفعل ما يفعله السائح الذي يريد أن يعرف مدى ارتفاع أبراج مدينة، فهو عندئذ «يغادر» المدينة. فالتفكير في الأحكام الأخلاقية المتحيزة، إن لم يشأ أن يكون حكما متحيزا يصدر على أحكام متحيزة، هذا التفكير يقتضي اتخاذ موقف خارج عن الأخلاق، بمعزل عن الخير والشر.»
1
وإذا كانت الروح الموضوعية هي التي أملت على نيتشه اتخاذ هذا المنهج، وإذا كان يبدأ باتخاذ الشك والتساؤل سبيلا للتعمق في فهم طبيعة الموضوع الذي يعرض له - شأنه شأن كل باحث يتصف بالروح العلمية النزيهة - فإن لنا مع ذلك أن نتساءل عن مدى إمكان تحقق الموضوعية والنزاهة في مثل هذا المجال؛ ذلك لأن الأمر ليس متعلقا بظاهرة طبيعية يمكننا كلنا أن نتأملها تأملا محايدا، وإنما هو متعلق بقيم كامنة تتدخل في أحكامنا دون أن نملك لها دفعا؛ فالموضوعية في هذا المجال شرط عسير التحقق، بل يكاد يكون مستحيلا، ومحاولة خروج الإنسان عن القيم الأخلاقية السائدة في عصره خروجا تاما، هو مثلا أشبه بمحاولته الخروج عن الرمزية اللغوية السائدة، والعودة إلى أساليب الإشارة اليدوية والرسم على الحجر في التعبير؛ فتلك القيم كامنة فينا أكثر مما نشعر، وربما كانت كل محاولة نبذلها للخروج عن نطاقها، تتم من خلالها هي ذاتها. على أننا لا نود أن نستطرد طويلا في هذا الاعتراض الذي يتناول مدى إمكان تحقيق مثل هذا الهدف الذي وضعه نيتشه لنفسه، وحسبنا هنا أن نشير إلى صعوبة المحاولة التي قام بها، وهي الصعوبة التي تفسر لنا ذلك الإحساس الذي يتملك من يقرأ كتاباته؛ أعني الإحساس بأنه يناضل ويصارع خصما قويا عنيدا، وما هذا الخصم إلا تأصل القيم الأخلاقية السائدة في نفسه ونفس كل إنسان.
نقد الأخلاق السائدة
وعلى أية حال، فالمعنى الأول الذي ينبغي أن نفهم به نقد نيتشه الأخلاقي هو كما قلنا معنى الاستقلال عن التقويم الأخلاقي السائد ، ومراجعته من جديد، لا تعمد مخالفته أو الانحراف عنه. وفي هذا المعنى يناضل نيتشه نضالا عنيفا ضد التراث الأخلاقي الذي أخذت به المجتمعات المتحضرة حتى ذلك الحين، والذي كان يبدو راسخا متأصلا فيها، وكأنه مجموعة من المبادئ الأزلية التي لا يجرؤ أحد على مناقشتها.
هذا التراث الأخلاقي يتلخص في المعقولية الفلسفية والزهد الديني، وهما العنصران اللذان تكونت من مزيجهما تلك المبادئ الأساسية التي يسير عليها الإنسان الحاضر. ولا يفرق نيتشه بين هذين العنصرين كثيرا؛ فالإفراط في المعقولية يؤدي إلى خلق عالم من الأفكار المفارقة التي فقدت كل صلة لها بالواقع العيني، وعندئذ تكون القاعدة الأخلاقية للسلوك قريبة كل القرب من القاعدة الدينية الزاهدة. والمثل الواضح لهذا التقارب بين المعقولية المفرطة والزهد الديني فلسفة أفلاطون؛ فقواعده الأخلاقية ترتكز كلها حول إيمانه بمثال الخير، الذي هو أعلى المثل وأكثرها إيغالا في المفارقة والتجرد والبعد عن ملابسة المحسوس، ولهذا كانت لا تفترق عن القواعد الأخلاقية المسيحية إلا افتراقا يسيرا. ولا عبرة هنا بالإهابة بروح الاعتدال والتوازن التي عرفت عن اليونانيين القدماء؛ إذ إن أفلاطون - كما هو معروف - لم يستمد فلسفته من أصول يونانية فحسب، بل أضاف إليها تلك الديانات والنحل التي ترجع في نهاية الأمر إلى أصول شرقية.
Halaman tidak diketahui