Seruan Kebenaran
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Genre-genre
سيقودنا هذا كله إلى تحليلات هيدجر المعروفة عن الأداة، وهي - في تقديري على الأقل - من أروع ما قدمه «الوجود والزمان» وأبقاه، ولا شك أن القارئ قد اطلع على بعض هذه التحليلات فيما اطلع عليه في العربية من فصول ودراسات عن هيدجر، ويبقى علينا الآن أن نحدد معنى هذه التحليلات.
لا يعني هيدجر، بطبيعة الحال، أن يوجه للناس نصائح تفيدهم في التعامل مع الأشياء التي يستخدمونها في حياتهم؛ لأن هذا التعامل هو أقرب الأشياء منا وآلفه عندنا؛ فنحن ننشأ في هذا العالم وننمو ومعنا ينشأ التعامل مع أشيائه وينمو، ولا يعني هيدجر كذلك بأن يلقي علينا درسا في تغيير العالم باستخدام هذه الأشياء والأدوات، ولا في اغتراب الإنسان عن نفسه من خلال العمل وكيف يقضي على هذا الاغتراب، إن الهدف من التحليلات «الأداتية» أن تبين لنا الفهم المسبق أو «المعرفة السابقة» التي تفترض في كل إلف يتم بين الإنسان والأداة (مع ملاحظة أن هذه المعرفة السابقة لا تصدر عن أي موقف معرفي نظري، وأن التعامل مع الأداة يتم من منظور قبلي خاص سابق على كل معرفة نظرية، بل إن البدء من هذه المعرفة لن يمكننا من التواصل إلى طبيعة الأداة).
لنضرب مثلا بسيطا، فلو رأيت أمامي مطرقة وحاولت أن أصفها وصفا نظريا، كأن أصف حجمها وشكلها ولونها ووزنها والمادة التي صنعت منها ... إلخ، لما أدركت ماهية هذه المطرقة ولا عرفت شيئا عن الوظيفة التي جعلت لها، وهي أنها شيء يستخدم في الطرق، ولن أدرك أبدا من خلال التأمل النظري الخالص إن كانت هذه المطرقة خفيفة أو ثقيلة، مناسبة للحمل أو غير مناسبة، إنما أدرك هذا من خلال التعامل معها واستخدامها، فكل أداة تصلح لشيء ما، وفي كل تعامل مع الأداة يخضع المرء لنوع من الصلاحية؛ ولهذا نرى هيدجر يصف الأسلوب النوعي الذي يميز وجود الأداة بأنه «الوجود في متناول اليد»، وإن راعك هذا التعبير أو فاجأك بغرابته فتذكر أن الفيلسوف لا يزيد عن استخدام لفظ عويص للتعبير عن خبرة نحياها كل يوم!
إننا لا نبدأ بالنظر الخالص إلى الشيء «الحاضر» أمامنا ثم نضيف إليه قيما وخصائص معينة تجعل منه ما نسميه «بالموجود في متناول اليد»، ونحن لا نضع هذا الشيء، كما يتصور الرأي الشائع، في موضع الشيء الممتد (كما فعل ديكارت) ثم نلبس امتداده خصائص وصفات مختلفة، وإنما نتعامل معه دائما من خلال ما يسميه هيدجر بالتدبر أو التبصر،
39
فالشيء الماثل في متناول أيدينا هو أقرب الأشياء في المحيط الذي نضطرب فيه، ونحن نرتب حياتنا من خلاله، ونستخدمه لتلبية حاجاتنا، وننشغل به ونهتم بأمره.
لنقترب خطوة أخرى من الأداة، قلنا إنها دائما أداة تستخدم من أجل شيء أو غرض ما، والعمل الذي نستخدم له أداة كالمطرقة أو الفارة أو الإبرة أو الحذاء يحمل من ناحيته أيضا نوع وجود الأداة، فالحذاء الذي يتم إعداده يستخدم أداة للمشي، والساعة التي يتم صنعها تصلح لمعرفة الوقت، والعمل الذي نلتقي به خصوصا في غضون التعامل المنشغل أو المهتم - أي ذلك الذي يجري إعداده - يجعل قابلية الاستخدام التي تتعلق به تعلقا أساسيا متضمنة للهدف من هذا الاستخدام، أما العمل الذي يصنع فلا يكون إلا على أساس استخدامه وعلى أساس «نسق الإحالة للموجود» الذي يكتشف في هذا «الاستخدام»،
40
أضف إلى هذا أننا نستخدم في الإنتاج شيئا لا غنى عنه للعمل المنتج، فالعمل يحيل إلى المادة التي صنع منها، وهذه تحيل إلى الطبيعة مصدر كل مادة خام، كالحديد والخشب والحجارة والحيوانات، وهكذا نكتشف الطبيعة حين نستخدم الأداة (الإبرة، المطرقة، المسمار، إلخ)، كما أن الإنتاج لا ينفصل عمن يستخدمونه (كالزبائن مثلا) ولا عن الذين يقومون به (كالعمال والصناع).
ولكن ما شأن هذا التحليل للأداة بسؤالنا السابق عن «عالمية» العالم، أي عما يجعل العالم عالما؟
Halaman tidak diketahui