واشتهر بين الفتيان الأبطال في هذه الحرب غلام في الثالثة عشرة من عمره يدعى ألبير شوفرنكس وهو ابن حطاب في حراج رجمون بين الفيسول ومونبليار، مرت فرقة من الفرسان يوما ما في تلك الحراج وضلت طريقها فتقدم الفتى ألبير من الضابط وعرض نفسه كدليل للجنود إلى أن أوصلهم إلى ملهوز وهناك انتظم في سلك الفرقة وتبناه قائدها وأعطاه بندقية وعهد إليه في مراقبة طيارات الأعداء حتى إذا لمح إحداها في الجو - وكان حديد البصر - يطلق عليها الرصاص، ثم ترك تلك الفرقة وانتظم في سلك الفرقة الثالثة من الفرسان وكان يتقدم الصفوف ويطلق النار على الألمان حتى قتل كثيرين منهم، وهذا الغلام لا يزال إلى الآن فخر تلك الفرقة تتباهى به.
وممن اشتهر أيضا من الغلمان الأبطال أندره كيده في الثانية عشرة من عمره، وقال عنه جيران نائب مقاطعات كلفاروس في مجلس النواب: إن هذا الغلام الصغير لما رأى فرقة المشاة مارة ببلدته وسائرة إلى الحرب قال لأمه: «أريد يا أمي أن أذهب مع هؤلاء الجنود للدفاع عن وطني، فأودعك وإلى الملتقى.»، ثم جرى ركضا وراء الفرقة فلما رآه ضابطها جرفه سر بشجاعته ونخوته وأخذه معه وتبناه، فلبث أندره إلى جانبه في ميدان القتال أمام خط النار، وفي اليوم الثالث أصيب الضابط جرفه برصاصة فخر جريحا ونقل إلى المستشفى فاتبعه الغلام، وقبل موته وهبه (الضابط) سيفه ومسدسه، ثم رجع إلى فرقته وشهد معها معارك عديدة وكان يبرز وحده بشجاعة أمام الصفوف ويطلق الرصاص على الألمان، آخذا بثأر جرفه.
وفي ساحة الحرب الآن فتى آخر اسمه غستاف شابين تطوع مع الجنود وشهد معركة الآين الكبرى التي رد فيها الفرنسويون أعداءهم إلى الوراء إلى أن أصيب برصاصة في كتفه ونقل إلى مستشفى باريس وهناك زاره أحد كتاب الجرائد وكان يقول للطبيب: «أرجو منك أن تشفيني عاجلا لأعود إلى فرقتي.» ولما جاء أبوه ليأخذه لم يشأ الذهاب معه، فاضطرت السلطة العسكرية أن تمنحه وسام الحرب فذهب إلى بيته، وقد اختفى يوما ورجع إلى ساحة القتال.
وكثيرون من الغلمان الأبطال قتلوا في الحرب، نذكر منهم ثلاثة اشتهروا ببسالتهم وضحوا نفوسهم عن الوطن وكان موتهم فخرا لفرنسا وخجلا وعارا للجنود الألمانية ودليلا حسيا على أعمالهم الفظيعة حسب إقرارهم أنفسهم، وهذا ما كتبه جنرال بافاري في مذكرته التي عثر عليها معه بعد أسره: «لما اجتزنا واديا طويلا دخلنا قرية اسمها بورغوند عند حدود الألزاس فتلقانا أهلها بإطلاق الرصاص فقابلناهم بالمثل، وألقينا بعضهم صرعى وفر الباقون أمامنا، فدخلنا القرية والتقينا عند بيت منها بغلام في الثانية عشرة من عمره يدعى تيوفيل جاكو، فتقدمت إليه وسألته إذا كان أحد من الأهلين مختبئا داخل البيت، فقال: لا، ولما اجتزنا بضع خطوات خرج من ذلك البيت نفر من الرجال المسلحين واطلقوا علينا الرصاص غفلة؛ فاضطررت أن آمر بحرق القرية وقتل كل من وجدناه من الأهلين، ولما قبضنا على الغلام سألناه لماذا كذب علينا وهل كان يعلم أن في ذلك البيت رجالا مختبئين، فقال بشجاعة: نعم، فأخذناه وحكمنا عليه بالموت لأنه غدر بنا، وفي المساء أطلقت فصيلة من جنودنا النار عليه.»
وفي مكان آخر التقت فرقة من الجنود الألمانية بغلام فقبض قائدها عليه وسأله: «هل في البلدة أو في جوارها جنود فرنسويون.» فقال: لا أعلم، ولما ابتعدوا قليلا خرج من غابة قريبة بعض الأهالي وأطلقوا الرصاص على تلك الفرقة ولاذوا بالفرار، فقبضوا على الفتى وسألوه ألم تكن عالما أن في الغابة أناسا كامنين؟ فلم ينكر؛ فأخذوه وربطوه في عمود التلغراف وأطلقوا الرصاص عليه وهو ينظر إليهم باسما ساخرا بهم.
والشهيد الثالث من الغلمان هو ابن أحد عمال المعادن في بلدة لورنس اسمه إميل ديبريه، دخل الألمان هذه القرية واحتلوها وتفرق جنودهم وضباطهم في حاناتها يعاقرون الخمرة يصخبون ويرقصون فرحين بخمرة الظفر، وكان ضابط فرنسوي ملقى على الأرض في إحدى الحانات وهو مصاب بجرح بالغ يئن من الألم، ولم يجسر أحد من الأهلين أن يدنو منه أو يواسيه، إلى أن دخلت المرأة صاحبة الحانة ووضعت كئوس الشراب أمام الضباط الألمان فنهض أحدهم وضم المرأة إليه، وكان يشتم قومها وهو سكران سكرا شديدا، فلم يستطع الضابط الجريح الصبر على هذه الإهانة فرفع رأسه وجلس قليلا، وأخذ مسدسه وأطلق الرصاص على الضابط فجندله، وفي الحال ضرب بالنفير واجتمع الجنود وأخذوا الجريح الفرنسوي إلى ساحة البلدة؛ ليقتلوه على مشهد من أهلها، وهناك فتح الجريح عينيه، ورأى أمامه الغلام إميل ديبريه، فقال له: «اسقني فإني عطشان.» فأسرع هذا إلى بيت قريب وأتاه بكوز ماء وسقاه، فلما رأى الضابط الألماني ما فعل الغلام احتدم غيظا وقبض عليه بعنف وكاد يأمر جنوده أن يطلقوا الرصاص عليه.
ولكن خطر له خاطر فجأة ذلك أنه أخذ مسدسه من وسطه ودفعه للغلام، وقال له: «إن أطلقت الرصاص على هذا الجريح نجوت من الموت فهل تفعل؟» قال: نعم، ثم أخذ إميل المسدس وصوبه إلى الضابط الألماني الواقف أمامه وأطلق عليه الرصاص فجندله قتيلا، وفي اللحظة عينها صوبت الجنود الألمان البنادق نحو الغلام فمزق الرصاص جسمه إربا إربا.
وعلينا ألا نغفل أسماء كثيرين من الغلمان الصغار من الإنكليز والفرنسويين والبلجيكيين الذين تطوعوا في الحرب وبذلوا حياتهم فيها ومنهم فتى إنكليزي فقأت حربة ألمانية إحدى عينيه وخدشت وجهه في تيرلمون، وقد ذكرته جريدة التيمس. وفتاة إنكليزية في الثامنة من عمرها بتر الألمان يديها لأنها وضعت يدها على أنفها وسخرت بهم. ولا تنسوا ذلك الطفل البلجيكي وعمره سبع سنوات فإنه لما رآهم صوب نحوهم بندقيته الخشبية التي يلعب بها فأصلوه وابلا من الرصاص مزق جسمه الغض النضير؛ فلمثل هؤلاء الأبطال الصغار ستقيم مدينة باريس أنصابا وتماثيل في ساحاتها تخلد تاريخ ذكرهم المجيد. •••
أنا هو ذلك الطراد: مثل الربان فون مولر قومندان الطراد «أمدن» دورا عظيما في مأساة الحرب العظمى؛ فخلد له ذكرا يحسده عليه زعماء قرصان القرون الماضية، ومع ذلك لم يتعد قوانين الحرب المعهودة ولا أتى عملا خسيسا يلام عليه ويشهر به.
ابتدأ هذا الدور في 10 سبتمبر سنة 1914 وانتهى في 10 نوفمبر، فأغرق الربان فون مولر في غضون هذه المدة 16 باخرة تجارية، والبارجة «كاماستامارو» اليابانية، والطراد الروسي «جمشتوك»، والغواصة الفرنسوية «موسكي»، واستولى على 3 بواخر، وأسر 3 بواخر أخرى، ثم أطلق سبيلها، ومجموع حمولة هذه البواخر 97684 طنا عدا حمولة البارجة اليابانية التي لم يعرف مقدارها.
Halaman tidak diketahui