الاستعارة من أشرف صنعة الكلام وأجلّها، وكان القدماء يسمّونها الأمثالَ فيقولون: فلان كثير الأمثال. ولقبُها بالاستعارة ألزمُ لأنه أعَمّ، ولأن الأمثالَ كلَّها ليس تجري مجرى الاستعارة، ألا ترى قول السُّلَيْك بن السُّلَكَة وقد وقع عليه رجلٌ وهو نائم فضغطَه السُلَيكُ، فحبَقَ الرجل، فقال السليك: أضرطًا وأنتَ الأعلى! فأرسلها مثلًا، وقد أورد الشيءَ على حقيقته. ومن أبرع ما قيل في الاستعارة قول ذي الرّمّة:
أقامتْ به حتى ذوى العودُ في الثّرى ... وساقَ الثُّريّا في مُلاءَتِه الفجْرُ
قال أبو عمرو بن العلاء: كانتْ يدي في يد الفرزدق فأنشدته بيت ذي الرمة، فقال: أُنشِدُكَ أم أدعُك؟ قال: قلت: بل أنشِدْني، فقال: أقامَت به حتى ذوى العودُ والثّرى، ثم قال: العود لا يذوي مهما أقام في الثرى، ثم قال: ولا أعلمُ كلامًا أحسنَ من قوله: وساقَ الثريّا في مُلاءَته الفجْرُ، ولا مُلاءَة له وإنما هي استعارة. وقال ابن المعتزّ: العود لا يذوي ما دام في الثّرى. قال الصّولي: اجتمعتُ وجماعةً من فرسان الشعر عند عبد الله بن المعتز، وكان بعِلمِ البديع محقِّقًا ينْصُرُ دعواه لسانُ مذاكرتِهِ، فلم يبقَ مسلَكٌ من مسالكِ الشر إلا وسلكناه، وأوردْنا أحسن ما قيل في معناه، الى أن قال ابنُ المعتز: ما أحسنُ استعارةٍ للعرب اشتملَ عليها بيتٌ من الشر؟ فقال الأسدي: قول لبيد:
وغداةَ ريحٍ قد كشَفْتُ وقرّةٍ ... إذْ أصبَحتْ بيدِ الشّمالِ زمامُها
فجعل للشمال يدًا وللغداةِ زِمامًا، فقال ابن المعتزّ: هذا حسن وغيرُه أحسن منه، وقد أخذَه من قول ثعْلَبة بن صُعَيْر المازني يصفُ نَعامةً وظَليمًا:
فتذكّرا ثَقَلًا رثيدًا بعدَما ... ألْقَتْ ذُكاءُ يمينَها في كافِرِ
الثَّقَل: بيضُ النعام، والرثيد: المنضود بعضُه على بعض، وذُكاء: الشمس، وكافر: الليل، جعل للشمس يمينًا ملقاةً في الليل. قال: وقول ذي الرّمة أعجب إليّ منه وإنْ تأخّر زمانُه، حيث يقول:
ألا طرَقَتْ مَيٌّ هَيومًا بذِكْرِها ... وأيْدي الثُريّا جُنَّحٌ في المغاربِ
وقال بعضُنا: قولُ لبيد أحسن:
ولقد حَمَيْتُ الحيَّ تحمِلُ شكَّتي ... فُرُطٌ، وشاحي إذ غدَوْتُ لجامُها
يقال: فرسٌ فُرُط إذا تقدّم الخيلَ وسبقها. قال ابنُ المعتز: هذا حسن، وانظروا الى قول الهُذَليّ:
ولو أنني استودَعْتُهُ الشّمسَ لارتَقَتْ ... إليه المنايا عينُها ورسولُها
ثم قال: هذا بديع، وأبدعُ منه في استعارة لفظ الاستيداع قولُ الحُصَيْن بن الحُمام المُرّي حيث يقول:
نُطاردُهُم نستودِعُ البيضَ هامَهُمْ ... ويستودعونا السَّمْهَريَّ المُقَوَّما
في هذا البيت معنىً لطيف يدلّ على إقدامهم وتأخّر خصومهم، فاعرِفْه من لفظه، وقال بعضُنا: قول ذي الرمة أحسن:
أقامت به حتى ذَوى العودُ في الثّرى ... وساق الثريّا في مُلاءَتِه الفجْرُ
فقال ابنُ المعتز: هذا هو الغاية، وذو الرمة أبدعُ الناس استعارة. قال الصّولي: فكأنه والله نبّهني على ذي الرمّة، فقلت: بل قوله أحسن:
ولما رأيتُ الليلَ والشمسُ حيّةٌ ... حياةَ الذي يقضي حُشاشةَ نازِعِ
فقال ابن المعتز: اقتَدَحْتَ زنْدَك فأوْرَى يا أبا بكر، هذا بارعٌ جدًا، ولكن قد سبقَه الى هذه الاستعارة جرير وأجاد بقوله:
تُحْيي الرّوامِسُ رَبْعَها فتُجِدُّهُ ... بعدَ البِلَى، وتُميتُهُ الأمطار
قال: وهذا بيت حسن قد جمع الاستعارة والمُطابقة، لأنه جاء فيه بالإحياء والإماتة والبِلى والجِدّة، ولكنْ ذو الرّمة قد استولى ذِكرَ الإحياء والإماتة في موضع آخر فأحسنَ بقوله:
ونَشْوانَ من طِولِ النُعاس كأنّهُ ... بحَبْلَين في أنشوطةٍ يترجّحُ
إذا ماتَ فوق الرّحْلِ أحْيَيْتُ روحَه ... بذِكْراكِ والعيسُ المراسيل جُنَّحُ
قال الصّولي: وانصرفْنا وما من الجماعة إلا من قد غمرَهُ بحْرُ ابنِ المعتز في عِلم الشعر، وحُسْن تصرّفهِ في الكلام.
وأقول: إنّ أوّل مَن استعارَ في الشِّعر امرؤ القيس، فمن استعاراته قولُه:
1 / 24