وبالعودة إلى منطق البدوي، الذي عاش حياة متفرقة في قبائل متنازعة متصارعة، ولم تجتمع كلمته في وحدة سياسية واحدة إلا نادرا، وحين حدوثها كانت تحدث بين أهل المدر، وليس بين أهل الوبر، مما جعل هذا البدوي عاجزا عن القيام بالأعمال الكبرى، والمشاريع الضخمة التي تحتاج إلى تكاتف قوى المجتمع الموحد، المنتظم في سلك المركزية لوحدة سياسية كبرى، وفي وقت كان جيرانه الذين انتظموا في وحدات إدارية مركزية كبرى قد تمكنوا من تنظيم العمل وتوجيهه إلى إقامة المشاريع الضخمة.
ومن هنا كان هذا البدوي المرتحل يرى في الأعمال المعمارية الهائلة، التي أقامها جيرانه في مصر والعراق أعمالا إعجازية وعجيبة، وبقي فهمه لها في المأثور العربي عن عجائب الدنيا السبع، ولم يكن - وهو في تفرقه القبلي - يتصور أن بإمكان البشر العاديين، إقامة شيء كالأهرام أو معابد الكرنك؛ خاصة أن هذه المعابد ذات أبهاء ضخمة وتقوم على أعمدة شاهقة، وأسقف بالغة العلو، مما دفعه إلى تصور أنها قد أنشئت أصلا لتناسب حجم وقامات بناتها، وهم بذلك ذوو قامات هائلة وأجسام عظيمة الجرم، وأن هذه المعماريات كي تقام فإنها احتاجت - لاريب - إلى قوة عضلية لا تتيسر إلا لهؤلاء الضخام الطوال، ومن ثم فلاشك أنهم كانوا «عمالقة»!
لكن حديث التراث العربي، هو عن عمالقة عاشوا في جزيرة العرب ثم بادوا، وهو ما يخالف تفسيرنا، وهنا نتذكر أن العمالقة عند الأصفهاني تستبدل عند ابن خلدون، بالاسم: عبد ضخم، وهو ما يشير إلى المعنى ذاته: العملقة، مما يدفعنا إلى الظن أن ابن خلدون قد قصد بعبد ضخم ذات مقصد الأصفهاني بالعمالقة، وهنا ننقل القارئ خطوة أخرى على سبيلنا، فنذكره أن الأصفهاني قد قرن بالعمالقة الاسم «جرهم» أبو الجراهمة، ثم نلقي بأسطع الأضواء على الكشف المأمول، والمتمثل في اسم مصر القديمة بلسانها «مجر»
6
الذي جاء منه بمرور الزمان الاسم «مصر».
وكثيرا ما حدثت في وادي النيل حدثان كبرى، تليق بكبر المجتمع وتتفق مع حجمه وأشكاله الاجتماعية، لعل أهمها الصراع الذي نشأ بين كهان مدينة «منف» المقدسة وكهان مدينة «عين شمس»، وانتهت بانتصار كهنة عين شمس واستيلاء كهنتها على عرش البلاد، مع نهاية الأسرة الرابعة الحاكمة في الدولة القديمة، والذي تبعه بالضرورة فرار كهنة منف وأتباع الدين المنفي في هجرة كبرى، ربما اتجهت إلى جزيرة العرب، إضافة إلى ما يعلمه التاريخ عن هجرات مثيلة، اتجهت إلى شرقي المتوسط وعبر بعضها البحر إلى ميسينا وكريت، وربما لم تكن هجرات بالمعنى الدقيق للكلمة، إنما نوع من الهرب الكبير. وبالنسبة لجزيرة العرب، فقد وجدنا من القرائن ما يشير إلى وجود مصري واضح فيها، أيا كان سببه، سواء كان نوعا من الهجرة أو نوعا من الجاليات الكبيرة، أو الحاميات المتقدمة، أو وجود بدأ عسكريا وانتهى باستقرار دائم، والأمر متروك للمهتمين من الباحثين، في ضوء ما سنقدمه من شواهد يشير إلى أن جرهم إنما كانت تشير إلى أهل «مجر»، مع تذكرنا أن الأصفهاني قد قرن جرهم بالعمالقة، وهو ما يدعونا إلى افتراض أن الجراهمة هم ذاتهم العمالقة.
وأول شواهدنا وأهمها لدعم فرضنا هذا، الذي نسوقه على مهل وحذر، هو ما وجدناه عند المؤرخ القس «أورسيوس 375م»، حيث يقول عن النبي إبراهيم: «وولد له إسماعيل من جاريته «هاجر العملاقة»، وتزوج إسماعيل امرأة «من العماليق» فولدت له اثني عشر ولدا.»
7
والمفترض، أن «أورسيوس» رجل دين ذو شأن غير هين، ويعلم تماما صحيح ما بين يديه من آي الكتاب المقدس، ولا يفوتنا أنه قد كلف بكتابة هذا التاريخ بتكليف من أخطر أساطين رجال الدين في زمانه «القديس أوغسطين »، وما كان ممكنا أن يتم هذا التكليف وفي ذلك العصر بالتحديد، إلا بعد تمحيص تام في شخص المؤرخ المنوط به هذه المسئولية الكبرى، وبعد ثبوت الثقة في علمه وفقهه، وتبحره في التوراة، هذا بينما التوراة على الطرف الآخر تؤكد بوضوح: أن هاجر كانت جارية «مصرية»، كما تنص في حديثها عن إسماعيل: «أنه سكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من «أرض مصر»» (تكوين 21: 21).
إذن «أورسيوس» يؤكد أن هاجر أم النبي إسماعيل «عملاقة»، وأن إسماعيل بدوره قد تزوج من «عملاقة»، والتوراة تؤكد أن هاجر «مصرية» وزوجة إسماعيل «مصرية»، وهنا نردف فورا ما جاء عند المسعودي في قوله: «تفرق العماليق بعد أن أقحط الشحر واليمن، ويمم عضهم نحو تهامة، وأشرفوا على الوادي الذي تقيم فيه هاجر وولدها قرب الماء، فتزوج إسماعيل منهم، ثم تركها وتزوج جرهمية.»
Halaman tidak diketahui