إهداء
النبي إبراهيم والتاريخ المجهول
تأسيس (1)
تأسيس (2)
الهجرة إلى فلسطين
المبالغات والتلفيقات «أور» المشكلة؟
إبراهيم في مصر
الرحيل جنوبا
العمالقة
فراعنة اليمن
Halaman tidak diketahui
مكة اليمنية
وعند لوط الخبر اليقين
مصادر البحث
إهداء
النبي إبراهيم والتاريخ المجهول
تأسيس (1)
تأسيس (2)
الهجرة إلى فلسطين
المبالغات والتلفيقات «أور» المشكلة؟
إبراهيم في مصر
Halaman tidak diketahui
الرحيل جنوبا
العمالقة
فراعنة اليمن
مكة اليمنية
وعند لوط الخبر اليقين
مصادر البحث
النبي إبراهيم والتاريخ المجهول
النبي إبراهيم والتاريخ المجهول
تأليف
سيد القمني
Halaman tidak diketahui
إهداء
كي تعرف - في زمانها - أننا قد أحدثنا الثقب في جدار الظلمة.
كي تعرف أننا أعطينا العمر لنمرر إلى جيلها خيط النور.
كي لا تشك أنه لم يكن في زماننا رجال!
لها أهدي هذا الكتاب.
ابنتي الرضيعة، نفرتي.
سيد القمني
وجئت آخر الأمر إلى الأقصر، أو بعبارة أصح، إلى مدينة الآثار، إلى الكرنك، وفيها تبدت لي عظمة الفراعنة بأكملها، وشاهدت كل ما تصوره الناس وما أخرجوه في أكبر صورة. وما من شعب قديم أو حديث - غير قدماء المصريين - قد صور لنفسه فن العمارة بهذا السمو، وهذه العظمة، وهذه الفخامة.
لقد كانوا يفكرون كما يفكر الجبابرة الذين تبلغ قامة الواحد منهم مائة قدم.
شامبليون
Halaman tidak diketahui
في 1828م
النبي إبراهيم والتاريخ المجهول
دراسة تحاول:
كشف التاريخ المزيف في علاقة النبي إبراهيم بفلسطين.
إضاءة المعتم في علاقة النبي إبراهيم بالمصريين.
الوصول إلى الموطن الحقيقي للنبي إبراهيم، وخط السير الصادق لارتحالاته في المنطقة.
تأسيس (1)
لا مراء أن شخصية النبي إبراهيم عليه السلام، تعد واحدة من أهم الشخصيات في التاريخ الديني؛ فقد بلغ هذا النبي منزلة لا نزاع حولها في الأديان الكبرى الثلاثة، التي أفرزتها المواطن السامية شرقي المتوسط؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، وتوطئة للبحث وراء ارتحالات النبي إبراهيم عليه السلام، والتي أدت - حسبما يخبرنا به التاريخ الديني - إلى نشوء علاقات بينه وبين أهل المنطقة، وما تبع ذلك بالضرورة من تفاعل جدلي في الفكر والثقافة والمعتقدات، نهيئ السبيل برؤية مكثفة وموجزة، لوضع النبي إبراهيم في الديانات الثلاث.
فهو عند العبريين:
أهم الآباء الأوائل للشعب العبري، وهو أب لسلسلة من الأبناء كانوا جميعا ذوي علاقة حميمة بالإله، وأنه يعود بموطنه إلى مدينة «أور الكلدانيين» على شاطئ نهر الفرات، وأنه قد هاجر من موطنه «أور
Halaman tidak diketahui
UR » في العراق القديم، على رأس قبيلته يبغي الذهاب إلى أرض كنعان، المفترض أنها أرض فلسطين الحالية، وأنه في كنعان التقى بربه، وهو الرب المعروف في التوراة بالاسم «إيل» أو «إل» - وإليه تنسب الأسماء مثل جبرائيل وميكائيل وإسرائيل وإسماعيل ... إلخ - ويفترض الباحثون أنه أصل لفظ الجلالة في اللغة العربية «إله - ألله».
وتذهب التوراة إلى أن الرب «إيل» قد اتخذ من النبي إبراهيم خليلا «خل - إيل» ومن ثم أقطعه ونسله من بعده أرض كنعان خالصة لهم، أو بنص التوراة:
وقال الرب لإبرام: ارفع عينيك وانظر إلى الموضع الذي أنت فيه، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا؛ لأن جميع الأرض التي أنت ترى، لك أعطيها، ولنسلك إلى الأبد.
سفر التكوين 13: 14، 15
ونص آخر يقول:
وأعطي لك ولنسلك من بعدك «أرض غربتك»، كل أرض كنعان، ملكا أبديا، وأكون إلههم.
سفر التكوين 16: 8
والواضح في هذه النصوص - ومثلها كثير في التوراة المتاحة الآن - أن النبي قد جاء أرض كنعان غريبا عنها «أرض غربتك» بقصد استيطانها، وعندما وصلها، منحها له رب التوراة «إيل».
ومع متابعة النص التوراتي، نجد «إيل» يوسع على خليله، ويزيد من مساحة الأرض المقطعة للنسل الإبراهيمي، وفق ميثاق وضعت فيه حدود الأرض، ونصه:
وفي ذلك اليوم، قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر، إلى النهر الكبير نهر الفرات.
Halaman tidak diketahui
تكوين 15: 18
وتم توثيق هذا العهد حسب الرواية العبرية بين «إيل» و«إبراهيم» بعلامة شاهدة، وخاتم لا يمحى
1
أصبح فيما بعد منسكا وفريضة على كل يهودي، هو الختان، وقد جاء ذلك في النص القائل:
وقال الله لإبراهيم: أما أنت فتحفظ عهدي بيني وبينكم، يختتن كل منكم، كل ذكر، فتختتنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم، فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا.
تكوين 16: 9-13
وبموجب هذه المجموعة من الحيثيات، فإن التوراة قد وضعت للقبيلة العبرية عدة قواعد : أهمها أن النبي إبراهيم هو أب العبريين جميعا، وأنهم تحدروا من صلبه خلفا عن سلف، وأنه تمكن بصداقته للرب «إيل» أن يضمن لهم أرضا خاصة، لم تكن أرضهم أصلا، إنما وفدوا عليها، وأن الشاهد على صدق ما حدث هو بصمة الختان، التي وثقت العقد، حتى أمست هذه العلامة البدنية مصدر اعتزاز لكل يهودي، وبحيث عدوها نيشان شرف يتميزون به على العالمين.
وهو عند المسيحيين:
لا يقل رتبة عنه عند اليهود؛ لأن إنجيل «متى» يقرر أن إبراهيم هو الجد الأعلى ليسوع المسيح، ومتى يصف إنجيله من البداية: أنه «كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم متى 1: 1». ولوجه الحق فإن ما يستعصي على الفهم هنا هو: كيف يتفق أن يكون المسيح من نسل إبراهيم، مع جوهر الاعتقاد المسيحي وأساسه الأول. والمعلوم أن المسيحية تعتبر يسوع المسيح إلها ليس له أب بشري، وإذا حاولنا التملص باحتساب هذه الأبوة الإبراهيمية للمسيح، إنما تأتي عن طريق أمه «مريم»، فإن الإنجيلي «متى» لا يترك لنا هذه الفرصة، فيؤكد الأبوة الإبراهيمية ليسوع المسيح عن طريق آخر، ويرصد لذلك سلسلة من نسب الأبناء والأحفاد، تمتد من إبراهيم - مرورا بداود وسليمان - حتى تصل إلى «يوسف النجار» الذي يصفه بأنه «رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح».
2
Halaman tidak diketahui
وتأسيسا على ذلك فإن إبراهيم هنا سيكون أيضا أبا لكل المسيحيين؛ لأن المسيحيين، حسب العقيدة المسيحية، إنما هم جميعا أبناء ليسوع المسيح، وذلك عن طريق الإيمان به، وبموته على الصليب، وبقيامته، وبأن لاهوته لم يفارق ناسوته ولا لحظة واحدة
3
ومن هنا كان نداؤهم الجهير: «أبانا الذي في السماوات»، وعليه فإن جميع المسيحيين أبناء لإبراهيم عبر الإيمان بحفيده يسوع.
ومن ثم تصدق المسيحية بالروايات التوراتية حول خروج النبي إبراهيم من «أور الكلدانيين» إلى أرض فلسطين الكنعانية، فيقول سفر أعمال الرسل الإنجيلي: «ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم قبلما سكن حاران، وقال له: اخرج من أرضك ومن عشيرتك، وهلم إلى الأرض التي أريك، فخرج من أرض الكلدانيين وسكن في حاران، ومن هناك نقله بعدما مات أبوه إلى هذه الأرض، التي أنتم ساكنون فيها» (7: 2-4).
وهو عند المسلمين:
خليل الله النبي الكريم، أب الأنبياء جميعا، فقد انحدر من صلبه سلسلة من الأبناء والأحفاد، وأحفاد الأحفاد، يحملون بذرة النبوة، ومن ثم كانوا سلسلة من الأنبياء، وهو ما تشير إليه الآيات القرآنية دون لبس، وذلك في قوله تعالي:
وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب (العنكبوت: 27)، وهو في الآيات خليل الله
واتخذ الله إبراهيم خليلا (النساء: 125)، أما الأهم من ذلك كله، فإنه كان غريبا على بلاد العرب.
4
ومع ذلك فقد نالت هذه البلاد من نسله نصيبا، بعد أن زارهم وترك فيهم ولده إسماعيل، ثم عاد إلى زيارته في بلاد العرب الحجازية بعد يفوعه، حيث قاما بإعادة بناء البيت الإلهي «الكعبة» في مكة الحجازية، والذي كان مقدسا لدى عرب الجاهلية قبل الإسلام، وقد أوضحت الآيات ذلك بقولها:
Halaman tidak diketahui
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل (البقرة: 127)، لكن ربما كان أخطر ما قرره القرآن الكريم بشأن النبي الخليل، هو أنه المؤسس الأول لملة الإسلام، وإعلانه السافر والمتحدي:
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (آل عمران: 67).
وبذلك قطع القرآن الكريم بشأن النبي إبراهيم، وقصته في القرآن الكريم معروفة، لا تحتاج إلى مزيد شرح أو تفصيل، إلا أن الأمر فيه إشكالية دعت إلى بحثنا هذا «وربما إشكاليات»؛ فالتوراة تصر من جهتها على الصمت المطبق إزاء ما أعلنه القرآن الكريم حول علاقة النبي إبراهيم ببلاد العرب الحجازية، فلم يرد لهذا الأمر أي ذكر في التوراة المتاحة بين الأيدي اليوم، وهو بحد ذاته مدعاة للتقصي إزاء ما ورد في الإسلام عن علاقات حميمة وأساسية وجذرية للنبي إبراهيم بجزيرة العرب وديانة الإسلام، خاصة مع علمنا أن التوراة قد انتهت كتابتها قبل تسعة قرون من الميلاد في بعض أسفارها، في أبعد تقدير وقبل قرن واحد من الميلاد، في أقرب تقدير لأسفار أخرى؛ بمعنى أنها قد حازت في معارف الإنسان قصب السبق، مما يدعو للوقوف مع مسألة هبوط النبي إبراهيم عليه السلام بلاد الحجاز، وجهل التوراة بهذا الأمر، بغرض الوصول إلى المصداقية، حسب مقررات المنهج العلمي، وما تتطلبه شروط هذا المنهج الصارمة من قرائن وأدلة، لدعم الرؤية الصادقة. ومن هنا سنضطر إلى التأني مع قصة التوراة عن الخليل، وبحثها بحياد العلم، علها تكشف لنا في الأمر أمرا، وهذا بحد ذاته سبيل وعر، وعروج محفوف بالمحاذير والصعوبات، وربما كان قطع القرآن الكريم في الأمر مدعاة للتساؤل حول جدوى مثل هذا البحث أصلا!
لكن وجه الإشكال لا يقتصر على عدم إشارة التوراة لزيارة النبي الخليل إلى البلاد الحجازية، فهناك تفاصيل أخرى عديدة، وردت في القرآن الكريم ولم ترد في التوراة. وأمثلة لها قصة تكسير النبي إبراهيم لأصنام قومه، أو مثل قصة إلقائه في النار، أو مثل خلافه مع أبيه حول صادق العقيدة، أو مثل حواره مع الملك المذكور في التراث الإسلامي باسم «نمروذ». وفي المقابل نجد تفاصيل هائلة بالتوراة لم ترد بالقرآن الكريم، ولا يفوتنا هنا أن نذكر: أن القس المبشر «د. ف. ب. ماير» لم يجد حرجا في الاستفادة من الروايات الإسلامية، رغم عدم ورودها في التوراة، فيقول عن النبي إبراهيم: «وإذا صحت الروايات التي تقال عنه، وهي بلا شك تستند إلى شيء من الصحة، إن لم تكن كلها صحيحة، تبين لنا أنه منذ البداية كان يتصف بأخلاق غير عادية، وتتضمن هذه الروايات أن إبراهيم لما كان شابا، قاوم - بعنف - تيار الشر الذي جرف إلى لججه كل البلاد، بل غمر بيت أبيه أيضا (لاحظ أن ذلك الكلام لم يرد به أي نص توراتي، والإشارة من عندنا)، ثم إنه أشهر في وجه تلك الممارسات الشريرة سلاح الهزء والسخرية، ثم إنه كان كلما رأى تمثالا حطمه، وكان يأبى أن يجثو للنار، وهذه الروايات لا تستند إلى أية إشارة في الكتاب المقدس، على أنه من الناحية الأخرى لا توجد فيه أية إشارة تنفيها.»
5
تأسيس (2)
لكن يظل التساؤل: وما الداعي لبحثنا هذا؟ ومن ثم نرصد مزيدا من الدواعي والدوافع، فرغم الاختلافات بين التوراة «المسلم بها من جانب المسيحيين كمقدس» وبين الإسلام؛ فإننا نجد الأديان الثلاثة «اليهودية والمسيحية والإسلام» في جانب، وعلم التاريخ في جانب آخر؛ حيث نجد هذا العلم لا يعلم من وثائقه الأركيولوجية والآثارية شيئا البتة عن النبي إبراهيم، ورغم اتفاق القصة التوراتية مع قصص الإخباريين المسلمين حول موطن النبي إبراهيم الأصلي، والتي تقول: إنه هاجر من موطنه الأصلي في بلاد الرافدين إلى فلسطين، وأنه زار مصر زيارة مهمة وخطيرة، و«كانت هذه الزيارة لمصر أساسا للثروة الطائلة التي تمتعت بها ذريته فيما بعد» فيما يقول المستر «ماير»، فإنه لم يعثر حتى الآن على أي دليل آثاري، سواء كان كتابة أو نقشا، أو حتى نقش يقبل التفسير، أو في نصوص تقبل - حتى - التأويل يمكن أن يشير إلى النبي وقصته سواء في آثار وادي النيل، أو آثار وادي الرافدين، على كثرة ما اكتشف فيهما من تفاصيل ووثائق.
وهذا بدوره سبب كاف لدعم دوافع باحث مهتم، كي يضع المسألة كلها قيد البحث، خاصة أن عدم معرفة علم التاريخ بهذا النبي رغم حضوره الكثيف في الديانات الثلاث، قد أدى ببعض الباحثين إلى حسبانه شخصية أسطورية، لا تمت لعلم التاريخ بصلة، حتى إن هذا البعض قد احتسب جميع قصص البطاركة القدامى مجرد قصص خرافية لا ظل لها من حقيقة، وقام منهم من يدلل على أن أسماء هؤلاء إنما كانت أسماء لشخصيات إلهية في عبادات قديمة، وأن أساطيرها كانت متداولة قبل التوراة في القصص الأسطوري لبلاد كنعان، وأن العبريين عندما جاءوا أرضهم وورثوها، ورثوا معها تراثها، فوجد هذا التراث طريقه إلى التدوين في التوراة، كقصص لأنبياء بني إسرائيل. بينما يشير آخرون بخصوص النبي إبراهيم إلى أسطورة باسم «براما» كانت واسعة الانتشار قبل ظهور العبريين، وعرفت في بلاد إيران والهند وما حولها، وأنها أصل عقيدة «براهما» الهندية، وأن العبريين بدورهم قد تبنوا هذه الأسطورة وحولوها إلى شخصية إنسانية، واحتسبوا «براما» جدهم البعيد، تأسيسا على منهج التدين القديم، القائم على تقديس الأسلاف.
1
وكان عدم وجود الدلائل التاريخية مدعاة لأن يقول باحث مثل «فلهلم رودلف»: إن حفاوة القرآن الكريم بالنبي الخليل ترجع إلى محاولة النبي محمد
Halaman tidak diketahui
صلى الله عليه وسلم
تألف قلوب يهود يثرب مع القوة الإسلامية الطالعة. وعندما فشلت المحاولة، أخذه من الجميع عنوة واقتدارا، وزعم أنه جده البعيد، وجد جميع العرب المسلمين ومؤسس العقيدة الإسلامية.
2
ولعلنا لم نزل بعد نذكر تلك الضجة الكبرى التي ثارت حول ما كتب عميد الأدب العربي «طه حسين»، ويشبه إلى حد بعيد ما ذهب إليه «فلهلم رودلف» حيث يقول: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا أيضا، لكن ورود هذين الاسمين في التوراة، لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، ونحن مضطرون إلى أن نرى «في هذه القصة نوعا من الحيلة، في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى» ...»
3
والآن: هل لم يزل ثمة مدعاة للتساؤل حول جدوى بحثنا هذا؟ ... ولعل التساؤل حول الجدوى، تلحقه اعتبارات تقلل من قيمة البحث ونتائجه، تأسيسا على عدم وجود أية مصادر تاريخية تشير إلى إبراهيم، سواء في مصر أو الرافدين، ومن ثم ستكون أية محاولات هي مجرد تخمينات وافتراضات تنتهي بدعم أولئك أو هؤلاء. حقيقة نحن مضطرون هنا إلى الاعتراف بعدم وجود الأدلة المباشرة، مما سيلجئنا إلى استخدام كل ما يخدم بحثنا من مناهج، والتعامل مع النصوص بأسلوب التحري والمباحثية؛ لتجميع ما يلزم من قرائن، يمكن إذا تجمعت أن تكتسب ثقل الأدلة التي يمكن أن تدلنا على الطريق القويم والنتائج الأقرب إلى الصدق.
وهنا ستجدنا مضطرين إلى اللجوء للتوراة الحالية «ولا مفر» وكتب التراث الإسلامية، إضافة بالطبع إلى القرآن الكريم والحديث الشريف. وإن لجوءنا للتوراة قد يلقى الاعتراض من بعض المهتمين، لكن لذلك أسبابه ووجاهته التي ستتضح في حينه. علما أن التوراة - بعكس القرآن الكريم تماما - فهي كتاب في التاريخ في المقام الأول، وكتاب في الدين في المقام الثاني (مع ملاحظة أن هذا التاريخ قد تمت صياغته وفق أهداف أصحابه وخططهم)، حتى إن التاريخ يشكل - دون مبالغة - أكثر من ثمانين بالمائة من مجموع صفحات العهد القديم المكتظ بالأسفار، وتزيد صفحاته على ألف وثلاثمائة صفحة. أما بالنسبة لكتب الأخبار الإسلامية، فقد لجأت لذات التوراة الموجودة بين الأيدي اليوم، واستقت منها تفاصيل هائلة كما وكيفا، بحيث أصبحت هذه التفاصيل مرجعا إسلاميا للمسلمين، لورودها في أمهات الكتب الإسلامية وتشكل كما هائلا داخل هذه الكتب.
وقد أدرك زعيم طبقة كتاب الأخبار والسير «الحافظ ابن كثير الدمشقي» حساسية الأمر، ومع ذلك اعتمد كثيرا من الأخبار التوراتية، لذلك نجده يبدأ مقدمة مؤلفه الموسوعي «البداية والنهاية» بتقديم مبررات الاعتماد على الإسرائيليات، فيقول: «ولسنا ننقل من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله، مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم
وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا، مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به، لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه.»
Halaman tidak diketahui
ثم يدلي «ابن كثير» بسنده الشرعي للأخذ من التوراة، حتى لا يقع عليه لوم أو تثريب، فيورد حديث النبي محمد
صلى الله عليه وسلم : «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.»
ثم يعقب على الحديث بالقول: «فهو محمول على الإسرائيليات المسكوت عليها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا يكذبها، ويجوز روايتها للاعتبار، وهذا هو الذي نستعمله في كتابنا هذا.»
4
وهكذا يعي «ابن كثير» حجم المعارضة التي قد يلقاها من المسلمين نتيجة لجوئه إلى الإسرائيليات، فيقرر - بداية - للجميع أنه لن ينقل منها إلا ما وافق الشرع، ولم يخالف الكتاب والسنة، ثم يصف ما حشا به مؤلفه الهائل من إسرائيليات، بأنها - نعم - وردت في التوراة، لكن لم يصدر بشأنها حكم إسلامي بالصدق أو الكذب، ولعل «ابن كثير» كان واضحا تمام الوضوح، وصريحا كل الصراحة، وهو يورد الأسباب التي دعته للأخذ بالإسرائيليات، وهي أولا: أنه قد جاء في الإسلام أمور مختصرة تحتاج لمزيد شرح وتفصيل «مما فيه بسط لمختصر عندنا»، وثانيا: إعطاء الأسماء والإيضاحات لأمور وردت في الشرع الإسلامي، لكنها غير مفهومة «تسمية لمبهم ورد به شرعنا»، أما لماذا كانت مبهمة وغير مفهومة في الإسلام؟ فهو ما يجيب عنه بالقول: لأنه «لا فائدة في تعيينها لنا»!
وهنا نقف مندهشين من أمر هذا الكاتب الجليل، فإذا كان القصد من شرعنا في اختصاره وإبهامه أنه لا فائدة من تعيينه لنا، وكانت تلك قاعدة، فلماذا إذن تجاوزها ابن كثير الدمشقي وصحبه، ومن ضرب في دربه من الإخباريين المسلمين وهم كثير؟! الأمر إذن ليس بقاعدة دائمة الحضور، ولا ريب أنه بعد مرور ستة قرون منذ زمن النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
وحتى عصر ابن كثير، كانت كفيلة بظهور إشكاليات لم توجد زمن النبوة، ومن هنا احتاجت طبيعة المجتمع الجديد إلى تفصيل المختصر وبسط المبهم، ولا ينسى الحافظ ابن كثير أن يشير بحذر واضح إلى أن التفاصيل المأخوذة من التوراة إنما جاءت «على سبيل التحلي بها لا على سبيل الاحتياج إليها»، بينما الواضح أنه قد أورد مقدما أسباب هذا «الاحتياج إليه» وظروفه، خاصة أنه لجأ إلى حجة أخرى غير مجرد التجمل والتحلي، فيقول: إنه لجأ إلى إسرائيليات مسكوت عنها في الإسلام، ولم يصدر بشأنها قرار واضح المعالم، لذلك وجبت روايتها «للاعتبار» والاعتبار يعني الفائدة الحكمية منها، وأخذ العبرة والعظة، إضافة إلى ما يحمله تعبير «الاعتبار» من معنى عدم الإهمال والتغاضي عنه، والإقلال من شأنه.
وإذا كان عصر ابن كثير بعد ستة قرون من النبوة قد اضطره إلى اللجوء للتوراة، فإن عصرنا بعد أكثر من أربعة عشر قرنا «قد أصبح يحتاج إعادة نظر في الأمر برمته»، وبخاصة في إسرائيليات التراث الإسلامي، التي كانت توراتية الأصل، وأصبحت منذ عهد الإخباريين المسلمين تراثا إسلاميا بحتا.
وإعمالا لكل ذلك، فإن لجوءنا للتوراة، لبحث الإشكاليات المثارة في بحثنا هذا حول النبي إبراهيم عليه السلام، والتي ربما كانت التوراة ذاتها سبب إثارتها الأساسي، ليس ابتداعا من جانبنا لجديد، لكن الرجوع من جانبنا للتوراة، لن يكون لمجرد التحلي بها ، فهي في بحثنا هذا طرف جدلي يسبب إثارة المشكلة، ويشارك في حلها ولو مضطرا، مع الاستعانة بكتب التراث الإسلامية، التي لم تكن بالطبع مجرد تابع أمين للتوراة، إنما خالفت هنا، وقالت كلمتها هناك، كما أنه قد ورد عند الإخباريين المسلمين ما نزعم أنه ليس مجرد أساطير الأولين، ومخاريق الأقدمين، بل فيه للباحث المدقق إشارات واضحة إلى سبل عدة، يمكن لو استقرأها واستشرفها أن تهدي إلى إضاءات وكشوف، شرط الالتزام بصرامة شروط المنهج العلمي، وما تفرضه من وجوب محاكمة النصوص محاكمة عادلة؛ ليتمكن في النهاية من استصفاء ما يتفق ومنطق الحدث، وزمانه ومكانه وظروفه.
Halaman tidak diketahui
ولا نزعم هنا قدرة حل جميع الإشكاليات المطروحة، إنما سنحاول فقط. وربما أثرنا أثناء البحث إشكاليات جديدة، لكن بحثنا هذا على أية حال، هو توجيه - في المقام الأول - إلى باب حان ولوجه، ووجب أن يقوم له فرسانه من الباحثين، وهم لا شك كثيرون. وربما قبل ذلك نبهونا إلى أننا قد أصبنا هنا، أو أخطأنا هناك، وربما وافقنا البعض، وربما خالفنا الكثيرون، لكن الذي لا خلاف حوله، أنه في ساحة البحث العلمي متسع للجميع.
الهجرة إلى فلسطين
عبر خمس وعشرين آية، من الإصحاح الحادي عشر بسفر التكوين، تثبت التوراة نسب النبي إبراهيم عليه السلام وتصعد به عبر أسلافه حتى تصله بسام بن نوح، مع تفصيل وشرح يتعلق بعمر هذا الفرد أو ذاك، من شجرة العائلة يمكن اقتضابها جميعا في القول: إن النبي إبراهيم هو: «إبرام بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام بن نوح.» (تكوين 11: 10-26).
وأول ذكر للنبي إبراهيم عليه السلام في التوراة يأتي في سياق حديثها عن هجرة قادها أبوه «تارح بن ناحور» مع أفراد عائلته، من موطنهم الأصلي، فتقول:
وأخذ تارح إبرام ابنه، ولوطا بن هاران ابن ابنه، وساراي كنته، امرأة إبرام ابنه، فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران.
تكوين 11: 31-33
ويفهم من هذه الرواية :
أن قائد هذه القبيلة المرتحلة، كان هو «تارح» أبو النبي إبراهيم، وأن زوجة النبي إبراهيم كانت تدعى «ساراي» وأنه كان له أخ يدعى «هاران» لم يكن مع المرتحلين، إنما كان ولده «لوط» هو رفيق ترحال عمه إبراهيم، وهو ما دفع المفسرين للقول: إن «هاران» قد مات في «أور» وهو ما يقول به «ماير».
ويذهب في قوله - مخالفا النص - إلى أن إبرام كان هو قائد الرحلة، وليس الأب «تارح» فيزعم أن إبرام «أخذ أباه تارح، فخرجوا من أور الكلدانيين، ونحن لا ندري كيف ارتضى تارح أن يترك وطنه العزيز، ومقابر موتاه، حيث رقد هاران ابنه، واضح على الأقل أنه لم يكن جادا في السير، ولا كانت البواعث التي دفعته للمسير صافية، ولهذا كانت مرافقته لإبراهيم سببا في تعطيل مسيره ...»،
1
Halaman tidak diketahui
ولما لم يكن في التوراة أية إشارة تدفع إلى مثل هذه الاستنتاجات، فمن الواضح هنا أن «ماير» قد تأثر بالروايات الإسلامية حول مخالفة الابن لأبيه في العقيدة، وهو ما لا يمكن الخروج به من التوراة إطلاقا، حتى ولو من باب التأويل.
إن هؤلاء المرتحلين قد خرجوا من مكان أسمته التوراة «أور الكلدانيين»، دون أن توضح سببا عقديا، أو حتى خلافا فقهيا، أو سياسيا لخروجهم من هذا المكان الحضاري العريق. فقط تذكر التوراة أن هدف المرتحلين كان أرض كنعان - المفترض أنها فلسطين الحالية - والتي تواتر وصفها في التوراة بأنها «أرض اللبن والعسل»؛ مما يشير إلى أن هدف الرحلة كان الوصول إلى أرض أكثر خيرا وفيئا. ولعل أول خلاف نلحظه بين هذه الرواية التوراتية وبين الرواية القرآنية، هو أن القرآن الكريم يذكر أبا إبراهيم بالاسم «آزر»، فالآيات تقول:
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة (الأنعام: 74)، والخلاف هنا ليس فقط حول الاسم «تارح/آزر»، إنما هو خلاف عقدي أيضا، حيث تفهمنا الآيات أن الابن كان يخالف الأب في معتقده، وأن هذا الأب كان يعبد نوعا من التماثيل الإلهية، وهو ما لم تشر إليه التوراة بالمرة، بل ولم تشعرنا أنه كان ثمة خلاف بين الأب والابن من أي نوع. وكل ما توحي به أسفار تلك الحقبة، أن الابن إنما كان على سنة الأب والعشيرة يسير، وأن الأب كان القائد والموجه. وإذا لجأنا إلى كتب التراث الإسلامية نستنطقها القول حول هذا الخلاف، نجدها تؤكد أن أبا إبراهيم كان مقربا من الطاغية، الملك الكافر نمروذ، وأن هذا الأب كان صانعا للتماثيل الإلهية، بارعا في فنها، مما أدي إلى خلاف شديد بين الابن الذي يرفض عبادة التماثيل وما تمثله، وبين الأب الذي يعتقد فيها، ويتقوت من صناعتها وترتقي مراتبه الاجتماعية بقربها. أما الخلاف الثاني المتعلق باسم أبي إبراهيم، فإن معظم التراثيين يسيرون خلف رواية التوراة سيرا دقيقا، ويتابعونها متابعة عجيبة في غالب أمرها، حتى لا تكاد تجد خلافا إلا في الروايات التي انفرد بها القرآن الكريم دون التوراة، فعلى سبيل المثال يؤكد «ابن حبيب» في محبره: أن تارح هو آزر دون أية مناقشة أو اعتراض.
2
وابن حبيب إنما يسير في هذا الشأن على درب سلكه أصحابه من أهل التراث، فابن كثير بدوره يكاد يطابق الكثير من دقائق التوراة، وإن اختلفت بعض «الحروف» بين يديه، كنتيجة لما تتمتع به اللغات السامية من تبادل الحروف ذات المخارج الواحدة في النطق، إضافة لعدم وجود التشكيل والتنقيط في الكتابات القديمة، مع ظاهرة القلب اللساني (كما في زوج وجوز مثلا)، وفي قصة ابن كثير عن النبي إبراهيم شجرة نسب تطابق تماما شجرة النسب الإبراهيمية في التوراة، مع الاختلافات الحرفية المشار إلى بعض أسبابها، فيقول: إن إبراهيم هو ابن تسارخ (تارح في التوراة) بن ناحور بن ساروغ (سروج في التوراة) بن راعو (رعو في التوراة) بن شالح بن أرفخشد (أرفكشاد في التوراة) بن سام بن نوح.
لكن ابن كثير يرسل قوله الواعي الحذر «وهذا نص أهل الكتاب»؛ ليلقي بالمسئولية على أصحاب التوراة، متخلصا من تبعاتها بمهارة هادئة، وفي الآن ذاته يثبت تحليه بالأمانة.
3
ولا تفوت «ابن كثير» مسألة «آزر» و«تارح»، فيتناولها - بذات الحذر - ويحيلها إلى «ابن جرير» محملا إياه خطل الرأي من صحته، فيقول: «وقال «ابن جرير»: الصواب أن اسمه آزر، ولعل له اسمان علمان، أو أحدهما لقب، والآخر علم».
4
وفي معنى كلمة «آزر» ذهب «البيضاوي» إلى أنها اسم وصفي، بمعنى: القوي أو العضد أو المعين، أما الاسم العلمي فهو «تارح».
Halaman tidak diketahui
5
ولنذكر أن في اللغات السامية: «عازر» و«عزير» تساوي «آزر» وتفيد النصرة والتقوية، وقد عرفت السامية استبدال العين بالهمزة وبالعكس، ووضح ذلك في الآية القرآنية ... فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه (الأعراف: 157)، وعليه فإن الروايات الإسلامية لم تحاول بحث أمر «آزر» و«تارح» أبعد من ذلك، وعمدت إلى الأسلوب التوفيقي بين ما جاء في القرآن وما جاء في التوراة، رغم عدم اضطرارها شرعا لذلك، مما يشير إلى رغبة عجيبة في الالتقاء مع التوراة والتوافق معها وعدم ردها، رغم أن الشرع قد أعطاهم هذا الحق في الرفض، وهو أمر يمكن أن نرى فيه وجهين؛ فهو من جهة دلالة طيبة على علمية هؤلاء الإخباريين من حيث عدم رفض الرأي الآخر لمجرد المخالفة العقدية، لكنه من جهة أخرى يشير إلى رغبة محمومة في الالتقاء مع التوراة، «تضع علامات استفهام حول مبرراتها»!
أما المسألة الأخرى التي تتفق فيها الروايات الإسلامية مع روايات التوراة، فهي القول بخروج النبي إبراهيم عليه السلام من بلاد الرافدين يقصد أرض كنعان، وعلمنا أن التوراة قد حددت مركز انطلاق هذه الرحلة في مدينة «أور الكلدانيين» بالذات.
وإذا بحثنا عن مدينة باسم «أور
UR » في الخريطة التاريخية للمنطقة، وتنتسب في ذات الوقت إلى دولة الكلدانيين، سنجدها على الشاطئ الغربي لنهر الفرات، في أقصى جنوب الوادي الخصيب، ولكن تخصيص «أور» بأنها «أور الكلدانيين» لا يعني للعارف بالتاريخ أنها وجدت فقط في عصر الدولة الكلدانية، التي قامت ما بين عامي 625 و538 قبل الميلاد، فهي مدينة عريقة عراقة العراق، وتعد من أشهر حواضر هذا الإقليم الحضاري الكبير، بينما الكلدانيون لا يحسبون إلا على الهامش الأخير لهذه الحضارة الكبرى، فهم أصحاب دولة بابل الحديثة، التي سبقتها دول كبرى وعظمى، بدأت منذ منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد، على يد السومريين
6
وكانت «أور» آنذاك دولة مدينة مستقلة
7
ذات شأن ومكانة، وظلت «أور» على مكانتها مع الدول التي تتابعت في المنطقة بعد السومريين، وظلت مدينة إدارية ودينية رفيعة الشأن، إبان حكم الأكاديين
8
Halaman tidak diketahui
وإبان العصر السومري الثاني
9
وإبان حكم دولة بابل الأولى
10
وظلت صامدة أيام الاحتلال الجوتي
11
والكاسي
12
واستمرت على ازدهارها حتى قيام الدولة الكلدانية
13
Halaman tidak diketahui
آخر ممالك العراق المستقل في ذاك الزمان، فعاشت «أور» كمدينة كبرى، ذات دور فاعل، ما يزيد على ثلاثة آلاف عام متتالية، دون انحسار تام أو انكسار حاد، يذهب بها في طوايا القرى والقرون الخوالي.
وإن اتفاق الرواة المسلمين مع التوراة، حول العراق القديم كموطن أول للنبي إبراهيم، يظهر في قول الثعلبي النيسابوري: «لقد اختلف العلماء في الموضع الذي ولد فيه، فقال بعضهم: كان مولده بالسوس من أرض الأهواز، وقال بعضهم: كان مولده ببابل من أرض السواد بناحية يقال لها كوثا، وقال بعضهم: كان مولده بالوركاء في حدود كسكر، وقال بعضهم: كان مولده بحران لكن أبوه نقله إلى أرض بابل، وقال عامة أهل السلف من أهل العلم: ولد إبراهيم عليه السلام زمن نمروذ بن كنعان.»
14
وهكذا نجد «الثعلبي» لم يخرج عن حدود بلاد العراق القديم، أو القسم الجنوبي من وادي الرافدين بالتحديد، وهو القسم الذي كانت «أور» مدينته الرائدة، والمواضع التي ذكرها «السوس، الأهواز، السواد، كوثا، الوركاء، كسكر» إنما تقع حول «أور» القديمة، لكنه يشير إلى موطن آخر، هو لوجه الحق ملحوظة مهمة، سنجد أنها ذات قيمة لا تنكر في حينه، فيقول: «وقال بعضهم: كان مولده بحران»، ثم يستدرك «لكن أبوه نقله إلى أرض بابل.»
هذا عما جاء عند «الثعلبي»، أما زعيم طبقة كتاب السير والأخبار «ابن كثير»، فإنه يحسم المسألة بقوله: «إن أرضه التي ولد فيها هي أرض الكلدايين، يعنون أرض بابل، وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار، فقد انطلق تارخ (تارح في التوراة، ولنلحظ أن ابن كثير قد غير هنا من تسارخ إلى تارخ) بابنه إبراهيم وامرأته سارة، وابن أخيه لوط بن هاران، فخرج من أور الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين، فنزلوا حاران، فمات تارح له مئتان وخمسون سنة، وهذا يدل على أنه لم يولد بحران، إنما مولده بأرض الكلدانيين.»
15 (ولنلحظ في رواية ابن كثير هنا أن الأب كان هو قائد الرحلة، وهو ما قررته التوراة، وأن الابن خرج في الرحلة مع الأب، ولم يكن على خلاف معه طوال هذه السفرة الطويلة.)
ومرة أخرى، نجد التراثيين المسلمين في شك من الأمر، فيشيرون إلى احتمال «حاران» كموطن أول ومهد ميلاد للنبي إبراهيم عليه السلام، وهي كما قلنا إشارة لها أهميتها التي ستتضح بعد قليل، وحتى تتضح الصورة أمام قارئنا، فإن «أور» تقع - كما أشرنا - في أقصى الطرف الجنوبي للرافدين على حدود جزيرة العرب، بينما تقع «كنعان» إلى الغرب منها مباشرة، يفصلهما الجزء الجنوبي من بادية الشام، فهي منها قاب قوسين أو أدنى، أما «حاران» فتقع في أقصى شمال المنطقة وخارج حدودها، وبالتحديد داخل المنطقة التركية الأرمينية القديمة.
وإن وجود «حاران» هنا يشكل معضلة للباحث في التوراة، فهي تظهر كما لو كانت موطنا للقبيلة الإبراهيمية، أو هي موطنه الأصيل، إضافة إلى «أور» فالتوراة تقول: إنه بعد تحرك الأب «تارح» بعشيرته من «أور» لم يذهب مباشرة إلى كنعان - هدف الرحلة - رغم قربها منه، حيث تقع إلى الغرب مباشرة، إنما أخذ يضرب شمالا مسافات بعيدة، في رحلة كبرى:
فأتوا حاران وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران، وقال الرب لإبرام: اذهب من «أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك» إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم اسمك، وتكون بركة. فأخذ إبرام ساراي امرأته، ولوطا ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا، والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان.
تكوين 11: 31؛ 12: 1-5
Halaman tidak diketahui
لاحظ هنا أن التوراة تشير إلى «حاران» بأنها: «أرضك وعشيرتك وبيت أبيك»، ثم هناك إشارات أخرى متعددة تشير إلى مواطن أخرى للنبي إبراهيم، فبعد أن يترك «حاران» ويستوطن «كنعان» غريبا، وينجب ولده الثاني «إسحاق»، تقول التوراة:
وشاخ إبراهيم وتقدم في الأيام، وبارك الرب إبراهيم في كل شيء . وقال إبراهيم لعبده كبير بيته: ... ضع يدك تحت فخذي فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض، ألا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم، بل إلى «أرضي وعشيرتي» تذهب وتأخذ زوجة لابني إسحاق.
تكوين 24: 1-4
أما أين أرض العشيرة الإبراهيمية، التي اتجه إليها العبد ليأتي بزوجة لإسحاق؟ فهو ما يوضحه استطراد التوراة:
إن العبد ذهب إلى أرام النهرين: إلى مدينة ناحور.
تكوين 24: 10
وناحور هو جد إبراهيم، هو أبو تارح أبو إبراهيم، أي إن أرام النهرين هي موطن الأجداد والعشيرة!
ثم نجد إشارات لمواطن أخرى، فهذا إسحاق يسير على سنة أبيه، مصرا على نقاء الدم العبري، وعدم تدنيسه بدم آخر، لذلك فإن إسحاق:
دعا يعقوب «ابنه» وباركه وأوصاه، وقال له: لا تأخذ زوجة من بنات الكنعانيين، قم واذهب إلى «فدان أرام» ... وخذ لنفسك زوجة من هناك ... فخرج يعقوب ... وذهب إلى «حاران»!
تكوين 27: 1، 2، 7، 10
Halaman tidak diketahui
والملحوظة الجديرة بالبيان هنا، هي أن «أرام النهرين، وفدان أرام، وحاران» كلها مناطق تقع شمالي بلاد الشام، وشمال غربي العراق، فما للتوراة إذن و«أور الكلدانيين» في أقصى الجنوب؟ ويبدو أن هذه الإشكالية قد واجهت مؤرخينا الأوائل، وتركتهم بين الشك واليقين، أو بين «أور» و«حاران» كموطن للقبيلة الإبراهيمية ومهد أول، فقال الثعلبي محاولا الحل: «وقال بعضهم: كان مولده بحران، لكن أبوه نقله إلى بابل». أما ابن كثير فأكد أنه من مواليد «أور» الكلدانية الرافدية، بدليل أن أباه مات في «حاران» بعد الرحيل إليها، ويعقب بالقول: «وهذا يدل على أنه لم يولد بحران، إنما كان مولده بأرض الكلدانيين!» أما المستر «ماير»،
16
فقد بلبلته إشارة التوراة، إلى أن عبد إبراهيم لما ذهب يأتي بزوجة لإسحاق، توجه إلى «أرام النهرين مدينة ناحور»، فهذا الجد البعيد «ناحور» لا يقيم في «أور الكلدانيين»، إنما في «أرام النهرين»، قرب «حاران» في أقصى الشمال، وخلاصا من البلبلة حل «ماير» الإشكال بجرة قلم، وقال:
يظهر أن ناحور كان قد سبق ... إلى حاران، إذ إننا نجد ذريته لاتزال موجودة فيها فيما بعد.
17
ويحيلنا إلى دلائل هذا التواجد بالتوراة في سفر التكوين (11: 29؛ 22: 20-23؛ 24: 10-27، 43).
أما الباحثون المحدثون في علوم التوراة، فيبدو أنهم قد أهملوا مسألة «حاران»، وتوقفوا عند «أور» يبحثون ويفحصون، ومن ثم أعلن الأستاذ «دي فو
DE-VAUX » أن إبراهيم قد هاجر من «أور» ما بين عامي (1900-1850ق.م) مؤسسا إعلانه على زعم أن سبب الهجرة هو النزاع الذي قام في جنوبي الرافدين حينذاك، بين دولتي «إيسن» و«لارسا»
18
مما أدى إلى هجرات متتابعة من المنطقة؛ هربا من أوار الحرب، وقد دعم «دي فو» مذهبه بنقوش تم العثور عليها في المنطقة، منقوشة على ألواح بابلية، جاء بها الكلمتان: «أبام رام» و«آباراما» واحتسبهما صيغتين لاسم النبي «إبراهيم»، أو «إبرام».
Halaman tidak diketahui
19
والغريب في أمر الأستاذ «دي فو» أنه يعلم يقينا الموعد المقبول لزمن النبي إبراهيم، وحدده هو نفسه بين عامي 1900-1850ق.م أو بالتقريب حوالي 1700ق.م عند غالب الباحثين، ولا شك أنه يعلم يقينا أن دولتي إيسن ولارسا غير دولة الكلدانيين، وأنهما قد سبقتا دولة الكلدان بحوالي ألف عام، وهو زمن - في عرف التاريخ - غير هين أو قليل فكيف اتفق له ذلك؟ كيف جاز أن يعثر على «أبام راما» على نقش بابلي، فيعلن فورا: هنا ولد إبراهيم! كما لو كان «إبرام» هو الوحيد بين الساميين الذي انفرد باسم «إبرام»، في منطقة تموج بضجيج الشعوب السامية وتفور!
أما الباحث في التوراة الأستاذ «فيلبي»، فقد وقف بدوره عند «أور» لا يتجاوزها أنملة، لا يرفع عينيه عنها، وانتهى من بحثه إلى قراءة نقوش بابلية، تحكي عن ملك حكم في جنوب الرافدين، قامت ضده حركة انقلابية أقصته عن البلاد، وكان اسمه «يثع إيل
YATHI-IL » وقد استنتج «فيلبي» أن هذا الملك هو النبي إبراهيم، استنادا لترجمة العلامة
DOUGHTY
لاسم «يثع إيل» بمعنى «خليل الله» والصفة «خليل الله» هي صفة إبراهيم في التوراة.
20
ومرة أخرى نجد في حديث الأستاذ «فيلبي» غرابة حديث الأستاذ «دي فو»، فلا شك أنه يعلم أن الاسم «يثع إيل» كان اسما متواترا بين الساميين عموما وبين عرب الجنوب خصوصا. وقد بحثنا فعثرنا على أسماء لعدد من الملوك في قوائم العربية الجنوبية بهذا الاسم، فهناك ثلاثة ملوك حكموا بهذا الاسم في الجيل الأول من مكاربة سبأ،
21
واثنان آخران في باقي الأجيال الخمسة من ملوك سبأ، وغيرهم كثير، فهل كانوا جميعا خلانا للإله وأنبياء له؟ وإذا كانوا جميعا كذلك فمن منهم كان هو النبي إبراهيم على وجه القصد والتحديد؟ حقيقة إن سند الأستاذ «فيلبي» هنا سند غير تام الإقناع بدوره. وكان الاسم «يثع» منتشرا في بلاد العرب الجنوبية، وكان أحد أسماء الإله القمر، كما كان ينطق أيضا: «يشع»، «يشوع»، وفي هذا الحال كان يعني المخلص. وقد تخلف في اسم «يشوع بن نون» وبتبادل حرف «ش» مع حرف «س» ينطق أيضا «يسوع»، الذي تخلف في اسم المسيح، وبالقلب تنطق «يسوع» نطقا صحيحا تماما «عيسى».
Halaman tidak diketahui
22
وهكذا لا نرى المسألة قد حلها «الثعلبي» أو «ابن كثير» رغم اجتهادهما، ورؤيتهما الاحتمالية لموطن إبراهيم عليه السلام بين «حاران» وبين «أور»، ولا حلها القس «ماير» بتخلصه السريع الفكه، ولا حلها الدارسون المحدثون في علوم التوراة، وضربنا منهم مثلا بالأستاذين «دي فو» و«فيلبي». وعليه فتبقى الإشكالية تطلب حلا، ممثله في التساؤل: هل كان موطن النبي إبراهيم عليه السلام هو: «أور الكلدانيين»، أم «حاران»، أم «أرام النهرين» أم «فدان أرام»؟ وهل كان في أقصى جنوب العراق على الحدود العربية؟ أم في أقصى الشمال داخل الحدود الأرمينية؟
المبالغات والتلفيقات
تأتينا في القرآن الكريم مزيد من الأخبار عن النبي إبراهيم عليه السلام، لم تعرفها التوراة بالمرة، لعل أهمها أن إبراهيم عليه السلام كان موحدا، بينما كان أبوه عابدا للأوثان صانعا لها. هذا إضافة إلى قصة تكسير إبراهيم عليه السلام لأصنام قومه، وما ترتب على ذلك من حدث إلقائه في النار، ونجاته منها بأمر الله بلطف منه. وما دار بينه وبين «نمروذ» من جدل حول صحيح العقيدة مع شروح أخرى كثيرة، وإضافات أكثر جاءت بكتب التراث الإسلامية، بعضها ترديد للقصص القرآني، وبعضها ما أنزل الله به من سلطان، ويعد من قبيل الشغف بالمبالغات. وأكثرها لم يرد له في التوراة ذكر، وبعضها الآخر نوع من الإسرائيليات الواضحة التي أخذها الإخباريون المسلمون دون تحقيق أو تدقيق، لذلك رأينا التوقف هنا للتعرف على الصورة التي خططها هؤلاء للنبي إبراهيم عليه السلام، وهي تتعلق في رأي أصحابها، بالفترة التي قضاها الخليل في موطنه الأول قبل هجرته إلى أرض كنعان.
تقول هذه الروايات: إنه ما إن استقرت البذرة الإبراهيمية المباركة في بطن أم إبراهيم عليه السلام، حتى لاحظ القوم أن الأصنام قد نكست رءوسها (؟!)، وظهر وقتها نجم في السماء له طرفان
1
وأن الدارس للأساطير وتاريخ الأديان يمكنه أن يلحظ، دون جهد، أن مثل هذه الإضافات المبالغة، تلحق بقصص الأبطال الأسطوريين لدى الشعوب القديمة وبشكل متواتر، حيث كان لابد أن تسبق ميلاد البطل إشارات ونبوءات، من نوع الخوارق الطبيعية للإعلام بمقدمه، فمثلا إله فارس القديم «ميثهرا» صحب مولده نجمة بذيل عظيم، كذلك «نيرون الروماني»، كذلك «زرادشت» المزعوم أنه نبي فارس، كذلك قاد شعاع هذه النجمة المجوس إلى حيث ولد «يسوع المسيح» حسب رواية الأناجيل ... إلخ.
وعندما ولد النبي إبراهيم عليه السلام كان يحكم بلاد الرافدين الطاغية «نمروذ الجبار بن كنعان» الذي ادعى الألوهية. هذا ما ترويه كتبنا التراثية، وقد بحثنا عن اسم «نمروذ» في قوائم ملوك العراق القديم، فلم نظفر بنتيجة وطاشت جهودنا، غير أننا لحظنا وجود منطقة آثارية يطلق عليها هذا الاسم «نمروذ»، ومن الواضح أن هذا الاسم قد أطلق في بداية العصور الإسلامية تأثرا بهذه الروايات، ومن المعلوم أن هناك أسماء كثيرة وغفيرة قد أطلقت على مواضع مختلفة في كثير من البلدان نتيجة لمثل هذه الروايات، وفقدت أسماءها القديمة، أو أصبحت الأسماء القديمة علامات تاريخية في كتب المؤرخين والآثاريين المتخصصين فقط، وكثير من مواطن فلسطين والشام والعراق قد أعيدت صياغة أسماء المواضع فيها أكثر من مرة، وكان للتسميات التوراتية بالتحديد نصيب الأسد في هذه المعمعة التلفيقة.
وتستمر الروايات فتقول: إن «نمروذ» قد غالى في طغيانه، وأخذ يجبر الناس على عبادته. وذات يوم ذهب إليه كبير كهانه وعرافيه؛ ليعلمه بأنه قد آن أوان ميلاد شخص جليل، وأنه على يدي هذا الشخص سينتهي شأن النمروذ، فما كان من هذا الملك الطاغي إلا أن أمر بتقتيل جميع الذكور الذين ولدوا في هذا العام، ولنلحظ مرة أخرى أن البطل في القصص القديم عادة ما كان يتعرض لمحنة القتل والموت، وحتى يكون بطلا فإنه لابد أن يجوز المحنة ويقضي على الطاغية، الذي يمثل دور الشر في الأسطورة، إضافة إلى العنصر الدرامي الثالث وهو النبوءة، التي عادة ما يمثلها كاهن شرير لديه قدرات خرافية على رأسها معرفة الغيب، ومن ثم يحاول الملك الشرير أن يبطل مفعول النبوءة السحري بالتحايل على القدر، أو محاولة التغلب عليه، لكن القدر بالمرصاد، ولابد أن ينتصر الخير على الشر، فينجو الطفل من المذبحة لتكتمل فصول الملحمة القدرية. والدارس للأساطير القديمة يلحظ بوضوح سيادة فكرة القدر في القصص الميثوبي، فهذا «سرجون الأول» ملك أكاد يتعرض للمحنة، فتلقي به أمه في صندوق من القش في مياه النهر.
2
Halaman tidak diketahui