2
بل إن القرآن الكريم أكد هذا المعنى بدوره، فقال: إنه بعد أن شب إسماعيل وافاه أبوه إبراهيم، وأنهما أقاما قواعد البيت، وذلك في الآيات:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل (البقرة: 127).
وهنا تبدو عدة مسائل بحاجة إلى الإيضاح، فالنبي يهبط جنوبا إلى جزيرة العرب، ويترك ولده إسماعيل وأمه هاجر عند «بيت محرم»، ومع ذلك فهناك آيات أخرى نفهم منها أن البيت المحرم لم يكن قائما بالفعل، إنما أقامه النبي إبراهيم وابنه إسماعيل، ولذلك رواية طويلة معروفة في كتب التراث، ثم نفهم من آية ثالثة أن هذا البيت يعد أقدم بيوت العبادة، وأنه كان قائما فعلا في موضع أسمته الآيات «بكة»، بينما نعلم أن ذلك البيت هو المقام بموضع «مكة» من أرض الحجاز، فلماذا الاختلاف في التسمية هنا إذا كان المقصود هو ذات نفس البيت، وفي ذات نفس المكان، والمفسرون يذهبون إلى أنه مجرد اختلاف لهجوي، لكن إذا كان الموضع هو ذات الموضع والسكان هم ذاتهم، فلماذا الاختلاف اللهجوي؟ وتبقى المسألة الأكثر إثارة للاستفهام، وهو أنه لا يمكن فهم كيف كان البيت قائما بالفعل، عندما ترك النبي ولده إلى جواره، وكيف قاما بعد ذلك ببنائه؟ ويذهب المفسرون هنا إلى القول إنه كان قائما من زمن بعيد لكنه تهدم حتى جاء النبيان فأقاما قواعده، مما يشير إلى أن قواعده كانت موجودة من الأصل، لكن كيف يمكن قبول ذلك في ضوء الآية
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم
مما يشير بوضوح إلى بيت قائم بالفعل؟
حقيقة، الأمر لم يزل بحاجة إلى توضيح وإضاءة.
ثم هناك مسألة جرهم والعماليق أنسباء النبي إسماعيل، وتذكر بعض الروايات أنهم شاركوا في بناء البيت ... وهم من العرب العاربة.
ربما كانت إجابة التساؤلات في متابعة العرب العاربة، فلنمسك بطرف هذا الخيط ونتتبعه. قال حمزة الأصفهاني: إن العرب العاربة هي: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وعماليق، وعبيل، وأميم، ووبار، ورهط، وجاسم، وقحطان، بادت ومن بقي منهم أطلق عليهم اسم الأرمان. وقال ابن خلدون: إنهم عاد، وثمود، وطسم، وجديس، ثم لا يذكر عماليق، إنما يذكر «عبد ضخم وجرهم» إضافة إلى عبيل، وأميم، وحصور، وحضرموت، والسلفات.
ومع بعض الجهد، يمكن العثور على إشارات إلى أسماء قبائل، وإلى مواضع في جزيرة العرب، تشير بوضوح إلى تلك البائدات، مما يعني أن الأمر ليس برمته من أساطير الأولين، فهذه «العبيلة» شرقي الجزيرة قرب الإمارات العربية المتحدة الحالية، تشير إلى «عبيل» وإلى الشرق منها على الساحل تجد «حصور» - بعد القلب - في ميناء «صوحار» بعمان، وهذه «ثمود» في أقصى الجنوب، في القسم الشمالي من اليمن الجنوبي باسمها البائد لم تتغير، وتلك «بئر طميس» قرب ثمود، تشير إشارة واضحة بعد القلب إلى «طسم»، أما «وبار» فتتناثر باسم «الوبرة»، و«الوفرة» في مناطق متعددة من الجزيرة، كذلك «أميم» لم تزل علما على قبائل «أميم» الحالية، و«حضرموت» لم تزل شاهدا صامدا في الجنوب، أما «عاد» فأمرها أتى في بحثنا، وسنوضحه تفصيلا، لكن «السلفات» فأعتقد - وربما أخطأت وربما أصبت - إنها بالقلب «فلسات»، وهي بهذا النطق تصبح حفرية لغوية عظيمة الأهمية بقيت علاماتها في قبيلة «طي» التي كانت تعبد ربها على جبل «أجا» باسم «الفلس». وبنسبة الفلس إلى طي، فإنه سيكون «فلس طي» أو «فلسطي»، ولا أظنني أبعد في هذا التخريج كثيرا، عن حسبان هؤلاء هم «الفلستي» أو «الفلسطي» القدماء، أصلا لمن عرفناهم بعد ذلك هجرة وصلت إلى ساحل البحر المتوسط الشرقي باسم «الفلستيين» أو «الفلسطينيين»؛ ليعطوا أرض كنعان اسم فلسطين. ومن الجدير بالذكر أن الباحثين يزعمون أن الفلستيين أقوام جاءت كنعان قادمة من بحر إيجة، أو من جزيرة كريت،
Halaman tidak diketahui