آخر ممالك العراق المستقل في ذاك الزمان، فعاشت «أور» كمدينة كبرى، ذات دور فاعل، ما يزيد على ثلاثة آلاف عام متتالية، دون انحسار تام أو انكسار حاد، يذهب بها في طوايا القرى والقرون الخوالي.
وإن اتفاق الرواة المسلمين مع التوراة، حول العراق القديم كموطن أول للنبي إبراهيم، يظهر في قول الثعلبي النيسابوري: «لقد اختلف العلماء في الموضع الذي ولد فيه، فقال بعضهم: كان مولده بالسوس من أرض الأهواز، وقال بعضهم: كان مولده ببابل من أرض السواد بناحية يقال لها كوثا، وقال بعضهم: كان مولده بالوركاء في حدود كسكر، وقال بعضهم: كان مولده بحران لكن أبوه نقله إلى أرض بابل، وقال عامة أهل السلف من أهل العلم: ولد إبراهيم عليه السلام زمن نمروذ بن كنعان.»
14
وهكذا نجد «الثعلبي» لم يخرج عن حدود بلاد العراق القديم، أو القسم الجنوبي من وادي الرافدين بالتحديد، وهو القسم الذي كانت «أور» مدينته الرائدة، والمواضع التي ذكرها «السوس، الأهواز، السواد، كوثا، الوركاء، كسكر» إنما تقع حول «أور» القديمة، لكنه يشير إلى موطن آخر، هو لوجه الحق ملحوظة مهمة، سنجد أنها ذات قيمة لا تنكر في حينه، فيقول: «وقال بعضهم: كان مولده بحران»، ثم يستدرك «لكن أبوه نقله إلى أرض بابل.»
هذا عما جاء عند «الثعلبي»، أما زعيم طبقة كتاب السير والأخبار «ابن كثير»، فإنه يحسم المسألة بقوله: «إن أرضه التي ولد فيها هي أرض الكلدايين، يعنون أرض بابل، وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار، فقد انطلق تارخ (تارح في التوراة، ولنلحظ أن ابن كثير قد غير هنا من تسارخ إلى تارخ) بابنه إبراهيم وامرأته سارة، وابن أخيه لوط بن هاران، فخرج من أور الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين، فنزلوا حاران، فمات تارح له مئتان وخمسون سنة، وهذا يدل على أنه لم يولد بحران، إنما مولده بأرض الكلدانيين.»
15 (ولنلحظ في رواية ابن كثير هنا أن الأب كان هو قائد الرحلة، وهو ما قررته التوراة، وأن الابن خرج في الرحلة مع الأب، ولم يكن على خلاف معه طوال هذه السفرة الطويلة.)
ومرة أخرى، نجد التراثيين المسلمين في شك من الأمر، فيشيرون إلى احتمال «حاران» كموطن أول ومهد ميلاد للنبي إبراهيم عليه السلام، وهي كما قلنا إشارة لها أهميتها التي ستتضح بعد قليل، وحتى تتضح الصورة أمام قارئنا، فإن «أور» تقع - كما أشرنا - في أقصى الطرف الجنوبي للرافدين على حدود جزيرة العرب، بينما تقع «كنعان» إلى الغرب منها مباشرة، يفصلهما الجزء الجنوبي من بادية الشام، فهي منها قاب قوسين أو أدنى، أما «حاران» فتقع في أقصى شمال المنطقة وخارج حدودها، وبالتحديد داخل المنطقة التركية الأرمينية القديمة.
وإن وجود «حاران» هنا يشكل معضلة للباحث في التوراة، فهي تظهر كما لو كانت موطنا للقبيلة الإبراهيمية، أو هي موطنه الأصيل، إضافة إلى «أور» فالتوراة تقول: إنه بعد تحرك الأب «تارح» بعشيرته من «أور» لم يذهب مباشرة إلى كنعان - هدف الرحلة - رغم قربها منه، حيث تقع إلى الغرب مباشرة، إنما أخذ يضرب شمالا مسافات بعيدة، في رحلة كبرى:
فأتوا حاران وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران، وقال الرب لإبرام: اذهب من «أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك» إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم اسمك، وتكون بركة. فأخذ إبرام ساراي امرأته، ولوطا ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا، والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان.
تكوين 11: 31؛ 12: 1-5
Halaman tidak diketahui