23

Mutawali Salih

المتوالي الصالح

Genre-genre

وأؤكد لكم أنه لم يؤخذ من جيوب القتيل شيء البتة؛ لأنه وجد مبلغا صغيرا في جيبه وساعته وبقي خاتمه الذهبي في يده، فلو كان الجاني أحد اللصوص لما ترك هذه الأشياء ولما ترك الجواد وملابس القتيل وكل ما كان يحمله معه، فالجريمة إذن مرتكبة عمدا، والدافع إليها شخصي، وهو إما الانتقام من القتيل أو إيقاع الأذى بسواه، ولما كان القتيل رجلا مسالما طيبا فالقتل لم يكن انتقاما منه، بل على ما أرجح انتقاما من آخرين.

ثم تبين من التحقيق الذي قام به أحد رجال الشرطة، ووافق عليه بعدئذ جميع الذين شهدوا موضع الحادثة أنه ليس من متسع لأكثر من شخص واحد يقابل المعتدى عليه حين وقوع الجناية، إذن لا يكون القاتل إلا رجلا واحدا وهو أعسر كما تبين لنا من البحث والاستقصاء (وهنا قامت ضجة في المحكمة وضحك بعض الحاضرين)، فقال القاضي: كيف تبين لك ذلك؟! فقد فقت الذين اشتهروا بالقيافة من العرب، ولعلك تورد لنا الأسباب التي حملتك على هذا الظن.

قال: إن القتيل بشهادة الطبيب (وهنا أبرز ورقة وسلمها للقاضي) قتل بآلة حادة؛ أي سكين، وقد طعن بها طعنة في صدره وأخرى في ظهره، أما الدليل على أن القاتل أعسر فهو أن الضربة الأولى كانت في الجهة اليمنى من الصدر، وقد انحرف الجرح نحو اليمين وهذا يدل على أن الضربة كانت باليد اليسرى، وهنالك خدوش في عنق القتيل وأعلى كتفه الأيمن، ويظهر من ذلك أن القاتل أمسكه بيده اليمنى وطعنه باليسرى، وهذا لا يكون إلا إذا كان القاتل أعسر.

ثم إن الضربة التي أصابت القتيل في ظهره كانت بعد أن أكب القاتل عليه، فكانت الطعنة في ظهره من الجهة اليسرى مع انحراف إلى اليمين.

وقد فحصنا جميع المتهمين، فليس بينهم واحد أعسر، فهم أبرياء من هذه التهمة الشنيعة.

وهنا ليسمح لي القاضي أن أبين له وللمحكمة كيف أن هنالك مساعي لتضليل المحققين؛ فقد ورد لسعادة القائمقام بلاغ من أحد الوجهاء يتهم فيه هؤلاء الأبرياء فلماذا؟ ذلك لأن هذا الوجيه الذي اتخذ السعاية له ديدنا هو المحرض على القتل لغاية في نفسه، حاول هذا الرجل أن يتزوج ببنت الهلالي فرفضوا مصاهرته، فأضمر لهم الشر، وانتقم منهم متهما محمد الهلالي بقتل أكبر صديق للعائلة، فجرح قلوب آل الهلالي بقتل صديقهم العزيز، ثم جرهم إلى السجون بتهمة فظيعة، جعلتهم في أحرج المواقف.

وظهر من تتبع آثار هذه الجناية أن لهذا الوجيه الذي فعل فعلته الشنعاء أجيرا اسمه «حامد» له صلة قرابة بسيده الذي يثق به كل الثقة، وهذا الأجير أعسر، وهو من أشد الرجال جسما، وأصلبهم عودا، وأقساهم قلبا، وأسرعهم إلى ارتكاب الشر، ولحسن الحظ ألقي عليه القبض أمس بتهمة أخرى لا شأن لها بحد ذاتها، ويستطيع الشرطة أن يحضروه إلى هنا، فمتى مثل أمام القضاء تظهر الحقيقة لديكم، ومتى ظهرت صحة قولي أمامكم يا حضرات القضاة أرجو أن تطلقوا سراح هؤلاء الأبرياء، وتأمروا بإلقاء القبض على المحرض الحقيقي الذي هو علة الشقاء.

فأمر رئيس المحكمة بإحضار «حامد»، ولما دخل إلى وسط المحكمة لم يبق عند أحد ريب في أنه هو القاتل الأثيم، وكانت آثار الخدوش لا تزال بادية على عنقه، فقال فارس أفندي: «هاكم آثار الخدوش بادية على عنق هذا المجرم الأثيم.» ثم نظر إلى حامد، وقال: «يا هذا، أسألك الآن أمام هيئة القضاء التي تمثل العدالة في هذه البلاد، وباسم الدين الذي يأمرك بالمعروف وينهى عن المنكر، وبحق كل ما هو عزيز لديك، أن تتكلم الصدق، فقد ظهر للمحكمة أنك كنت في يوم السبت الماضي واقفا على سطح منزل سلمان أحمد، فرأيت فارسا من بعيد، عرفت أنه سمعان إلياس التاجر، وهو عائد من «العمروسة» إلى «زحلة»، وطريقه يسير في مضيق في الجبل أقرب إليك منه، فجريت ومعك خنجر حاد، ومررت بدغل يفصل بين المنزل والطريق حتى وصلت إلى وراء صخرة بارزة تكاد تسد الطريق؛ حيث كنت ترى ولا ترى، فلما دنا سمعان إلياس - وكان قد ترجل عن جواده لوعورة المسالك - انقضضت عليه، وأمسكت بيدك اليمنى عنقه وطعنته بيدك اليسرى طعنة نجلاء خر على أثرها صريعا، وانكب على وجهه، ولم تكتف بذلك، بل أجهزت عليه بطعنة أخرى في ظهره، وعدت من حيث أتيت غير مشفق عليه أو راحم زوجته وابنه.» فوجم حامد ووقف شاخصا إلى السماء، وظن أن سيده أقر عليه؛ لأنه لم يعرف بسر الحادثة سواه وتفوه بهذه الكلمات: «من ذا الذي شهد ما حصل؟» فقال فارس أفندي: «إن الله يرقب الظالمين، وهو الذي يأخذ بيد الأبرياء المخلصين، ويعاقب المجرمين، والآن فلا يجديك الإنكار نفعا، فقد وضح الأمر، وليس لديك إلا أن تقرر الحقيقة خدمة للقانون والعدالة، وهذا يخفف من جرمك، ولعل المحكمة ترأف بك بعد ذلك.»

فصمت قليلا، ثم قال: يا مولاي ماذا أقول؟! إنه لم يكن موجودا حينما ارتكبت الجريمة طير يرف، وقد عرفتم تفاصيلها كما لو كنتم حاضرين، فكيف أنكر الحقيقة بعد ذلك، وليس هنالك إلا أحد أمرين؛ إما أن الله أنطق الجواد الذي فر حالما هجمت على سيده، أو أن الشيخ سلمان أحمد خانني؛ خوفا من أن تقع الشبهة عليه «هذه فعلته والله، فكم خان صديقا ووشى بصديق! لعنه الله، فقد كان أخبث الناس، وهو الذي دفعني لارتكاب هذه الجريمة الشنعاء تشفيا من آل الهلالي الذين لم يؤذه أحد منهم طول حياته.»

فقال فارس أفندي: «أرجو من المحكمة أن تقرر ذلك، وأنا أترك أمر هؤلاء الأبرياء للعدل يجري مجراه، ولسوف يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.»

Halaman tidak diketahui