وراح غاندي في جوابه ذاك يتشكك في مزايا الثقافة الإنكليزية، ويستريب بفضل التربية الإنكليزية قائلا إنها قد أحالت شباب الهند «خصيانا» ضعفاء؛ ولكنه أسف لما اتهمه به طاغور من أن وجه نظره ضيق لا يتسع لحرية الرأي.
على أن طاغور لم يكن يخشى غاندي نفسه، وإنما كان يخشى الغانديين وإيمانهم الأعمى به، ويظن الخطر العظيم في استيلاء غاندي على النفوس، واستبداده المطلق بالعقول؛ فكتب بيانه الخطير «نداء الحق»، وقد ثار فيه على هذا النزوع الرهيب، ذاهبا خلاله إلى أن الحركة الاستقلالية الهندية الأولى في سنتي 1907 و1908 كان يتولاها زعماء قد تأثروا بمبدأ كان نتاج قراءة الكتب، وثمرة مؤلفات بيرك وغلادستون ومازيني وغاريبالدي، فكان يفهمها الخاصة ولا يدركها العوام، ولكن جاء غاندي فحنا على الدهماء ولبس من لباسهم، وتزيا بزيهم، واندمج في غمارهم، وخاطبهم بلغتهم وعلى قدر عقولهم، فلم تلبث كل القوى الكامنة في النفوس أن هبت على ندائه، وبرزت على دعوته، وقد فرح طاغور لهذه الحياة الجديدة التي بدأت تظهر في بلاده، فعاد إليها من الغرب ليشهدها بعينيه، ولكنه ما لبث أن أحزنه مشهدها من قرب، فتلاشى فرحه وتبددت مسرته؛ لأنه رأى جوا خانقا حوله، وجمهورا يعيش تحت طاعة عمياء لسلطان زعامة تنادي بتعطيل الحياة وشل حركة الوجود.
وهكذا كان نقد طاغور موجها ضد تعصب الجماهير أولا وقبل كل شيء، ولكنه كان يمس غاندي أيضا باعتباره زعيمها، وصاحب السلطان على نفوسها، والمستبد بعقولها ومشاعرها؛ ليصرفها عن الاشتراك في الحضارة مع الإنسانية كلها، طالبا إليهم أن «يغزلوا فقط وينسجوا» مضربين عن شراء ما تخرجه الآلات وما تصطنعه ضخم الماكينات.
ولذلك يتساءل طاغور قائلا: أهذا رسول عصر إنشائي جديد؟! وإذا كانت الماكينات الضخمة تنطوي على خطر بالنسبة للغرب، أفلا تنطوي الآلات الصغيرة بالنسبة لنا نحن على خطر أكبر؟! إن يقظة الهند ينبغي أن ترتبط بيقظة العالم، وكل أمة تحاول أن تحتجز نفسها عن العالم، وتعيش بمفردها إنما تعتدي على روح العصر الجديد. بل لقد مضى طاغور يتحدث عن العظماء الذين لقيهم في حياته، أولئك الذين حرروا قلوبهم من أغلال القومية وقيود النزوع الوطني لكي يخدموا الإنسانية عامة، ثم ينثني يقول: «أفقدر على الهند وحدها أن تتغنى بهذه الأنشودة «السلبية» وتعنى فقط بخطايا الغير وظلمهم، وتجاهد في سبيل الحرية والاستقلال «السواراج» على أساس الكراهية والمقت والعداوة والحقد والبغضاء، إن الطائر إذ يستيقظ في عشه على مطلع الفجر لا يفكر فقط في الطعام والغذاء، وإنما تستجيب أجنحته إلى دعوة السماء، ونداء الفضاء، وشجي التغريد، وحلو الغناء؛ فلا تني حنجرته الدقيقة أن تمتلئ بالشدو الفرح والأغاريد العذاب، تحية لليوم المستهل والنهار المشرق وسطع الضياء، وها هي إنسانية جديدة ترسل نداءها، فليكن جواب الهند عليه متفقا مع طبيعتها، وليكن ردها هكذا: «إن واجبنا الأول في فجر هذا العهد ومطالعه أن نذكر الله الواحد الأحد الذي تتساوى عنده الطبقات والأجناس والألوان، والذي بخافي حكمته ومختلف قواه يكفل لكل طبقة حاجها، ويمد الجميع بعونه، فلندعه وهو الحكيم الواهب الحكمة أن يوحد قلوبنا ويؤلف بيننا، ويشد ما بيننا بفضل المودة والوئام ...»
وهكذا نرى كلمات طاغور، وهي أجمل ما توجه من الكلم إلى أمة من الأمم، أشبه شيء بقصيدة من خيوط الشمس، وأشعة الضياء، ومسكوب النور، محلقة فوق كافة الخلافات الإنسانية ومصارع البشر، ولكن النقد الوحيد الذي يمكن أن يوجه إليها هو أنها أعلى مما ينبغي، وأرفع محلقا مما يلزم، وأنها أسبق على الفكرة الأولى، فكرة التحرر أولا من الظلم والقيود والأغلال، ثم التوجه بعد ذلك إلى مطلب السلام والوحدة البشرية والإخاء العام؛ أي أن «غاندي» ينبغي أن يسبق طاغور، ويجب أن يأتي أولا ليؤدي رسالته، فإذا ما فرغ منها وانتصر بها وفازت الهند بحريتها وسراحها، جاء دور طاغور أو دور «الزعيم الإنساني» الذي يتغنى بأنشودة «البشرية» وترنيمة الإخاء والحب والوئام التام الذي يسود العالم من جميع نواحيه.
إن عيب طاغور الوحيد هو أنه الطائر الشاعر، أو «القبرة» الصداحة الشادية، كما يقول «هايني» في وصف موسيقار بارع، بل الشاعر الجالس فوق أطلال الزمن يغني ويشدو ويعيش في الأبدية، ولا ينظر إلى حاجة الساعة التي هو فيها والعصر الذي يحتويه، وإنما كل تطلعه إلى الغد يرسمه في أغانيه جميلا ساحرا فاتنا يأخذ بالأبصار والألباب.
أما غاندي فهو الرجل الذي يفكر في حاجة الوقت الحاضر ومطالب الساعة ولوازم اليوم الذي هو فيه، فهو من هذه الناحية ينقصه التحليق الشعري الذي أوتيه طاغور، ويعد هذا من صاحبه «لعب أطفال» لا يستحق عليه جوابا، وإن كان متفقا معه في أن حرية الروح هي أوجب ما تكون، وأحق شيء بالحرص عليه قائلا في ذلك: «لا ينبغي لنا أن نسلم عقولنا لقيادة أحد من الناس، فإن الاستسلام الأعمى للحب قد يروح أحيانا أضر وأبلغ أذى من التسليم الإجباري للطمة الطاغية، إذ ثم أمل في نفس المستعبد بحكم الجبروت والطغيان، ولكن هيهات أن يكون ثم أمل لعبيد الحب والطاعة العمياء ...!»
إن طاغور هو «الديدبان» الأعظم، والحارس الذي ينبه إلى مقترب الأعداء، وهي التعصب المذهبي، والجمود الاجتماعي، والجهل والانحطاط. ولكن غاندي لا يشعر بمثل مخاوف طاغور، وإنما ينادي العقل، ويطالب قومه بالتفكير، ومن الخطأ عنده أن يقال إن الهند إنما تحركت بحكم الطاعة العمياء، وإذا كانت قد اعتزمت القناعة بالمغزل، فإن هذا الاعتزام منها جاء وليد تدبر طويل وأناة وتفكير. وإن طاغور ليتحدث عن الصبر، ويقنع بالشدو الجميل وعذب التغريد، ولكن هناك كفاح وصراع، وجلاد وجهاد، فليس على الشاعر المغني إلا أن يضع معزفه جانبا ويطرح قيثارته، وليعد إلى شدوه وغنائه إذا ما انتهى الصراع وكف الكفاح، وساعة يشب في الدار حريق، يجب على جميع سكانها أن يخرجوا فيحملوا الدلاء ملأى ليطفئوا النيران. «إن الهند في حريق، وأهلها في مجاعة، وبنيها في مسغبة، والجوع والفاقة والمتربة هي الحجج التي تجتذب الهند إلى عجلة المغزل، أما شاعرنا هذا - أي طاغور - فيعيش في الغد، ويحيا في المستقبل، ويريد منا أن نحذو حذوه ونتمثل به، ويروح يصور لنا الطير في بكرة النهار تغني راضية قانعة وهي في السماء صافات، ولكن هذه الأطيار قد أصابت طعام يومها في الليلة الماضية قبل أن تأوي إلى الوكنات فوق الأفنان. ولطالما شهدت - هكذا يقول غاندي - أطيارا من فرط الألم والإعياء وضعف القوى لا تستطيع أن ترف بجناحيها أو تعلو قليلا بخوافيها والقوادم. إن الطائر الإنساني في سماء الهند ليستيقظ في عشه أضعف مما كان لحظة مأواه إليه ورجعاه، حتى لكأن الحياة في نظر هذه الملايين قد استحالت يقظة أبدية أو غيبوبة دائمة. ولقد طالما عجزت عن مواساة المعذبين؛ لأن آلامهم لا تجدي فيها أية مواساة، ولا يصلح لها أي عزاء.» «أعطوهم عملا ليجدوا قوتهم ويأكلوا ... وقد يسأل سائل: لماذا أغزل وأنا لست بحاجة إلى العمل التماس القوت؟! والجواب عليه هو لأنك تأكل سحتا وتطعم مما ليس لك؛ ولأنك عائش على استغلال بني وطنك، ألا ابحث في مصدر كل درهم يصل إلى جيبك تجد الحق فيما أقول ... يجب على كل فرد في الهند أن يغزل ... بل فليغزل طاغور كما يغزل الآخرون ... وليحرق ثيابه المشتراة من الخارج، هذا هو الواجب اليوم، وأما الغد فالله يكفله والسماء تتولاه.»
تلك هي كلمات غاندي، وما أرهبها من كلمات موحشة محزنة تستفيض فجيعة وأسى وبلاء! بل ها نحن منها إزاء شقاء الإنسانية مرتفعا متقلبا فوق أحلام الشعر وأماني الخيال ... فمن ذا الذي لا يشعر شعور غاندي، ومن ذا الذي لا يتأثر بشجوه وندائه ونجواه؟!
وينبغي ألا ننسى عند محاولة فهم غاندي وإدراك لب رسالته أنه لا يقصد من «عدم التعاون» إيذاء الإنكليز خاصة، ولا هو بموجهه ضد الغرب عامة؛ وإنما هو يقيمه حيال الحضارة الحديثة، الحضارة المادية، وما يلازمها من جشع وطمع واستغلال للضعيف وعدوان عليه ووطء حقوقه بالمناسم والأقدام، أو بعبارة أخرى هو محاربة لخطايا أوروبا وأغلاطها، وكفاح ضد ذنوبها ونقائصها وآثامها، فهو من هذه الناحية خير لأوروبا ضمنا ونفع لها وإحسان بالسواء.
Halaman tidak diketahui