ومن أساليب الوقاية قبل العلاج، أن يدرب القادة وهم في مطالع أمرهم، ويراض الرؤساء والذين ينتظر أن يصبحوا يوما في مواضع الزعماء، على أن يفهموا هذه الحقيقة الكبرى التي ينبغي لكل زعيم النزول عليها والائتمار بها، وهي أن الزعيم في الأمة هو خادمها الأمين على ما استودعته، العامل بمشيئتها؛ لأن مشيئة الشعب فوق مشيئته ...
لقد أسلفنا عليك ما للانفعال وسرعة الغضب من أسوأ الآثار وأكبر الأخطار على الزعامة، والآن نقول استكمالا لهذا الباب من الكلام إن هناك مظاهر أخرى لسرعة البادرة وتقلب الأهواء ينبغي التوقي منها والعمل على درء أسبابها، فثم مثلا سرعة الهياج، وعاجل الحدة، وتقلب المزاح، وانتياب الكآبة والوجوم والاغتمام، أو الانتقال السريع بلا سبب ظاهر ولا علة واضحة من التهلل والتطلق وإشراق الطلعة إلى الاكتئاب والتجهم والإطراق، وقد يصبح هذا في الحالات الشديدة عارضا مرضيا، وهو معروف «بالسوداء»، وهي حالة دقيقة تستوجب أبلغ العناية وأدق العلاج.
وثم حالة أخرى، وهي حالة النشاط العصبي الأهوج الذي لا يكف ولا يهدأ، أو فرط الانشغال المجرد مع العجز عن تركيز القوى في عمل ما أو مهمة معينة، وقد تلوح هذه النزعة الظاهرة القافزة للناظر في بعض الأحيان انبعاثا قويا، ونشاطا عظيما زاخر الأمواه، غزير التيار، ولكنها إذا ما اقترنت بالعجز عن التركيز والتمام، أو لم تتجاوز حد القدرة على الابتداء بعمل وتركه، والشروع في أمر والانصراف عنه؛ كانت مظهر تقلب خطير يحتاج إلى العناية والعلاج.
وقد تكون أسباب هذا التقلب كثيرة ومنوعة، وهي في أغلب الحالات ترجع إلى علل «عضوية»، وقد تكون عوارض لأمراض تتصل بعسر الهضم، والارتباكات المعدية، أو اضطرابات الغدد، أو الاختلال في الوظائف الجنسية، أو الشيخوخة وتقدم السن، أو التعب والإعياء، كما قد تكون مظاهر انزعاج وانشغال واضطراب نفسي عميق الأثر. ومثل هذه الحالات من شأنها أن تدع الأنصار والأشياع لا يجلدون على احتمال الأهواء الغريبة التي تولدها، والأوهام والأطوار الشاذة العجيبة التي تقترن بها في أغلب الأحيان.
على أنه ينبغي التمييز مع ذلك بين سرعة التقلب الذي تتجه آثاره وتحكماته نحو الناس فيضيقون بها ويستشعرون ضغطها وثقل وطأتها، وبين فورة العاطفة لفكرة ما أو قضية معينة تنزل من النفس منزلة التقديس، ففي هذه الناحية ليس من المحتم ارتقاب الثبات الرزين، ولا من المرغوب فيه إيثار السكينة الجامدة، وإنما لا ينفي هذا وجوب إنصاف الزعيم في هذه الناحية بحسن وزن الأمور، وأصالة الحكم، ودقة التقدير، بل المنتظر من الزعامة الرفيعة السامية أن تكون مفعمة العاطفة قوة ونشاطا وحماسة وفيضا روحيا، وأن تضع كل همها ومدخر قواها في تلك الفكرة المقدسة أو القضية العظيمة الشأن؛ لأن فورة الإحساس بسبيلها قوة مرهوبة، وحماسته من أجلها هي كل فضلها وسلطانها؛ بل إن سرعة التقلب عنده في هذا المعنى تجدي عليه أحسن الإجداء، وترد عليه خير مرد.
لقد أصبحنا نعرف اليوم أن المخاوف - وإن لم يعترف الأفراد بها في الغالب - قد تلعب دورا كبيرا للغاية في إفساد الصلات الإنسانية وتوهين الوشائج العظيمة الأثر بين الناس، ولئن كان يلوح غريبا مستغلقا على الذهن أن يقال عن فرد يتولى قيادة مجموع من الناس إنه يعتريه الخوف أحيانا، وينتابه الفرق والخشية والتوجس في بعض الظروف، فمما لا شك فيه أن ذلك هو الواقع، أو كثيرا ما يكون الصحيح، ونحن باحثون هنا في بعض أنواع الخوف التي يتأثر بها فريق من الزعماء والمتولين الرياسة في الناس.
فأولا قد يخاف بعض الزعماء ألا يكون الخليق بأداء مهمته، القدير على الاضطلاع بعمله، وقد يخشى ألا تكون لديه المؤهلات لها، أو أنه على وشك الفشل فيما بدأه، والخيبة المخزية فيما هو ماض فيه، وقد يتألم من إدراكه أنه ليس بالمتكافئ وأصحابه، المتساوي وزملاءه، في الحظ المظفور به من التربية والتعليم، أو من حيث الأصل والمحتد والنسب في المجتمع، أو في السمت والهيئة والمظهر، أو في الخبرة والشهرة بين الأنصار والأعوان.
وقد يحس الخوف من أن مركزه ليس مضمونا بسبب عجزه عن إرضاء الذين من فوقه أو من دونه، وقد يبلغ منه هذا الشعور أحيانا مبلغ المرض الفكري المثير لأشد الألم، المحدث لأعجب الأوهام والأخيلة والتصورات المزعجة، حتى ليتوهم أن ثم ائتمارا خفيا للإيقاع به، أو كيدا مبيتا لإحباط عمله وإفساد الأمر عليه؛ كما قد يكون في باب الخوف أو من بعض صوره وألوانه، الغيرة من أفراد يلوحون كأنهم موشكون أن يظفروا بمكان مساو لمكانه أو فوق ذلك مظهرا.
ولا خفاء في أن هذه الخوالج ونحوها مما يذهب بفضيلة الثقة بالنفس ويحطم قوة الاعتداد بالذات، ويصرف جميع القوى إلى جهة الشيء المرهوب، وناحية ما هو مثير للخوف والوهم، ويخمد الحماسة، وتخبو به الحمية، ويتلاشى من أثره النشاط؛ بل هي عامل سيئ، وحائل كبير دون بروز المواهب، وظهور القوة الشخصية، وإن كانت هذه الخلجات في العادة مسرفة معطاة أكثر مما تستحق من العناية، بل قد لا يكون ثم مبرر لها ولا عذر، وقد تدل على أن صاحبها لا يواجه الحقائق كما ينبغي بشجاعة وتؤدة واتزان أن تواجه.
وما أحوج رجل كهذا إلى مساءلة نفسه: ما هذا الذي أنا منه خائف، ولماذا أنا منه وجل ...؟! فإن المواجهة الصادقة لهذا السؤال كثيرا ما تكشف عن مبلغ الوهم فيه، وتبين للمرء أن لا شيء ثم يستوجب مخافة، أو إذا كان الأمر مستدقا بعيد الغور، فإن مجرد محاولة الاهتداء إلى السر وكشف الدافع قد يشجعه على معرفة ما في مكنته أن يتوسل به لإزالة أسباب هذا التوهم الملح الذي أوجده الخوف والإيجاس.
Halaman tidak diketahui