129

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Genre-genre

منطق القلب هو الحب، والحب أس الفضائل جميعها، وهو واحد وإن تعددت أنواعه وأسماؤه؛ فحب الله هو الدين، وحب الفضيلة هو الأدب، وحب الوطن هو الوطنية، وحب العشيرة هو القرابة، والحب الجنسي هو الذي اصطلح الناس على تسميته حبا أو عشقا، وحب الصديق هو الصداقة، وهكذا كل العواطف يجمعها شعور واحد، هو الحب؛ ومصدرها واحد وهو القلب، والقلب من الله، والله محبة كما جاء في التوراة ...

إن عاطفة الحب في أساسها عبارة عن تمازج الأرواح؛ فقد يكون خاصا، ويدخل في ذلك حب الأسرة وحب الصديق؛ أو عاما، وهو المحبة الوطنية أو الدينية أو غيرهما، ولا تظنوا أن المحبة العامة مجرد عاطفة خيالية، كلا بل هي في بعض الأوقات - وبخاصة في أوقات الحماسة - أوقع في القلب، وأكبر أثرا في النفس من المحبة الخاصة، بل إن الإنسان كثيرا ما يضحي بالمحبة الخاصة في سبيل المحبة العامة، فيضحي بمصالحه وأولاده ونفسه في سبيل حب بلاده، أو فكرة سامية أخذت بقياده.

ولست أحتاج إلى الذهاب بعيدا للتدليل على هذا الحب العجيب، والدرجة القصوى التي قد يصل إليها؛ فإن المثل الحي قريب منا، في بلادنا ونفوسنا، وإن شاءوا دليلا ماديا فليبحثوا عنه في قبورنا وسجوننا.

إن حب المصري لأخيه المصري في تلك السنوات الأخيرة ليس مجرد عاطفة وطنية، بل هو حب المؤمن لأخيه المؤمن، وإنما المؤمنون إخوة؛ وحب الجندي لأخيه الجندي، فهو إذن حب قوي، تجمعه فكرة واحدة، وجيش واحد، وقائد واحد. وقد ذهب هذا الحب بأبنائنا فسفكوا في سبيله دماءهم، وضحوا من أجله بحريتهم.

وإن شئتم مثلا آخر يدلكم على مقدار هذا الحب العام، فهاكم ما جرى لنا في «ممباسة» عند عودتنا من سيشل، فكلكم تعرفون أن الهنود على اختلاف طوائفهم، أكرمونا إكراما عظيما، وأضافونا في بيوتهم، بعد أن رفض الإنجليز أن يقبلونا في فنادقهم؛ لأننا شرقيون محتقرون! وعندما سافرنا من ممباسة ودعنا أولئك الإخوان، وكانوا يبكون، وكنا نبكي دموعا حارة، كأنما قد تركنا ثم أعز أحبابنا. والواقع أننا أحببناهم وأحبونا؛ لأنه جمعتنا بهم جامعة عامة، هي جامعة الشرق الواحد، وجامعة الظلم الواحد ...

مكرم عبيد.

إن أحسن وصف لهذا الحب العام هو ما جاء في الكتب المنزلة، من أن أصحاب الإيمان الواحد، أو الفكرة الواحدة، هم إخوة وأقرباء، وكنت قبل الآن أحس بكثير من الدهشة عندما كنت أقرأ في الإنجيل الشريف أنه قيل للسيد المسيح: إن أمك وإخوتك بالباب يطلبونك، فأجاب بلهجة شديدة قائلا ما معناه إن أمه وإخوته وأقرباءه هم الذين يتفقون معه في الرأي والعمل الصالح، نعم هم الأقرباء الحقيقيون تجمعهم صلة النفوس، لا صلة الأجساد.

ولا يغرنكم قولهم إن الحب لأعمى، فلا يعمي البصائر إلا الكره والحسد، ولا يعرف الصفات أو الفضائل الإنسانية في إنسان إلا من كان له صديقا صدوقا، وأمكنه أن يطلع على دخائل قلبه ومكامن نفسه. أما العدو فلا يرى في عدوه إلا عكس هذه الصفات، كما أن من يعرفك معرفة سطحية لا يرى فيك إلا الصفات السطحية، فالحب إذن بصير «لا تخفى عليه خافية»، ولو أنه لا يهتم لدقائق السطحية التافهة.

لقد امتزج سعد ومصطفى بالروح، وتحابا أصدق الحب بالتماثل والتناسب، وأخلص كلاهما إلى الآخر أسمى الإخلاص؛ لأنه الإخلاص المنزه عن المصلحة، المطهر من شوائب الغرض والمنفعة، فانتهى ذلك الدور من حياتهما، وسعد زعيم الثورة ومصطفى وقادها، كلما طلبت غذاء التمسه لها واحتطبه من أجلها؛ بل انتهى ذلك الدور وهما مشتركان في الألم والنفي والعذاب؛ ليتم لهما النصر فيشتركا في تنظيم الفوز، واستثمار النجاح، وإقامة القواعد في الدور التالي لحياة جديدة، هي حياة الديمقراطية والدستور، يقيمان لها العمد، ويرفعان الدعامات، وينهضان بالصرح والبنيان.

سعد ومصطفى يبنيان للديمقراطية والدستور

Halaman tidak diketahui