كان مصطفى أمينا في رسالته، حفيظا لحدود مهمته، حريصا على تأدية ما عهد إليه، على حين راح الآخرون يعلنون الناس أن المشروع لا يخلو من مزايا صالحة، وفوائد ظاهرة واضحة، فكان رأيهم نازعا إلى ترويجه.
ولم يشترك مصطفى النحاس في الترويج، ولكنه - كما قلنا - كان «عارضا» فقط؛ فكان موقفه غير موقفهم، ونظره إلى ما أبدت الأمة على المشروع غير نظرهم؛ إذ بينما اعتبر هو ذلك «تحفظات»، ذهبوا هم يصورونها في صور «رغبات»، وشتان بين المأخذين، وما أبعد المسافة بين الرأيين.
وقد ظل هو على رأيه، كما بقوا هم على تفسيرهم، حتى ركبوا جميعا البحر عائدين إلى سعد بما حملوا من نتائج سفارتهم، وفي عرض البحر أنشأ مصطفى يتحدث إليهم في أمر المهمة التي اضطلعوا بها، وراح يقنعهم بوجوب تدوين محضر بما جرى بسبيل رسالتهم، وما زال بهم حتى أقنعهم بالفكرة، فرأوا أن ما سموه «رغبات» لم يكن في الواقع سوى «تحفظات»؛ أي «شروط» لا سبيل إلى قبول المشروع إلا بالاستجابة إليها، وإنزالها منازل القبول والرضوان.
وقد كان عمل مصطفى في هذا الشأن محل تقدير سعد وموضع إعجابه، وإن كان ذلك التشعب في الرأي بداية الخلاف، بعد أن عمدت السياسة الإنكليزية إلى المطاولة، ولم تشأ مواجهة الحقائق الماثلة التي اعترف بها اللورد ملنر في تقريره، مصرحا بأن الحركة المصرية هي حركة وطنية جدية، وأن الوفد المصري هو الحائز وحده لثقة المصريين.
وقد حرص سعد على حدود توكيله، فلم يشأ أن ينزع منازع فريق من أصحابه، فاشتد الخلاف بينهم وبينه، ولم يبق بجانبه يومئذ غير مصطفى وويصا وسينوت.
ومن ثم ابتدأ الانشقاق، وكان ذلك ظاهرة نفسية مفاجئة، ولئن كانت لا تخلو حركة الانقسام يومئذ من عنصر الحسد والنفس على سعد مكانه، وانفراده بالزعامة والسلطان الروحي على الشعب؛ فلم تكن في صميمها غير ردة نفسية أصابت الذين اختلفوا مع سعد ونفضوا أيديهم من يده، فقد أحسوا عند أول صدمة أن الطريق وعر، والشقة متطاولة، والغاية بعيدة، والمطلب عسير.
لم يكونوا يومئذ «خوارج» ولا «خونة» ولا «منشقين»، كما كانت الأمة تسميهم من غضبها، وكما كانت تصفهم من ألمها وأثر موقفهم السيئ من نفسها؛ ولكنهم كانوا يحسبون الغاية يسيرة المبلغ، قريبة الموضع، فأقدموا مع سعد ليبلغوها، وأقبلوا خفافا سراعا لإدراكها، وإذا هم يجدون الطريق طويلا، والمصاعب كثيرة، والأخطار مخوفة، والمكاره متعددة، فاستضعفوا، وخبت الجذوة التي كانت مشتعلة في نفوسهم، وتناجوا بأن الخير في الرجوع، والسلامة في الإياب، والأمان في المعاد نجيا.
لقد كانوا يتوقعون أن ينجح المشروع، فتنتهي قضية مصر وشيكا، وتحمد العاقبة، ويئوبوا غانمين؛ فإذا الحوادث تأتي بغير ما كانوا يظنون، وإذا البوادر تدل على أن دون الغاية أهوالا جساما، ومخاوف كثيرة، وجهادا محفوفا بالمكاره والمتاعب والخطوب، فراح اليأس يدب في قلوبهم، ولكنهم جعلوا يخفونه في الترائي بمظهر الحكمة، وصورة التروي، وبعد النظر والكياسة في المأخذ، والترفق في التناول؛ وسموا ذلك كله «سياسة»؛ ليشتهروا بأنهم البرعة فيها، الحاذقون لها، إخوان عبقرية في مجالها وأفانين.
وكان انفصالهم هذا، بتلك المظاهر والصفات، فائدة «غير مباشرة» لخصوم البلاد؛ فسمعنا لأول مرة الإنكليز يتحدثون عن الجهاد قاسمين أهله إلى «متطرفين» و«معتدلين»، وهم بذلك يعنون أن سعدا والذين ثبتوا بجانبه - مصطفى وزملاءه - هم المهيجون المتشددون الغلاة في مطالب بلادهم، وأن سواهم ممن تراجعوا تهربا من عناء الجهاد وأخطاره، وطول الطريق ووعثائه وصعوبة المسير فيه، هم أهل الاتزان والاعتدال الذين يصح أن يكون الكلام معهم؛ لأنهم «عقل» القضية المصرية ومنطقها، وليس الآخرون سوى «عاطفتها» الهائجة، وحاستها المائجة، وغريزتها الموحشة العنيفة، الراكبة رأسها، المتهورة لا تعرف الاتزان.
على أن سعدا لم يبال هذه النكسة التي أصابت فريقا ممن وضعوا من قبل أيديهم في يده، وإنما مضى في طريقه، ومن حوله مصطفى وأصحابه، وكان مصطفى يعذر لو أنه في تلك الوقفة الرهيبة قد تراجع، إذ كان دون الجماعة كلها في الرزق موارد، وفي العيش استغناء.
Halaman tidak diketahui