113

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Genre-genre

وإزاء تلك الصيحة الصادقة المنبعثة من أغوار الصدر، لا عجب إذا تطلق وجه محدثه وأبرقت أساريره، وأنشأ يقول لمصطفى وصاحبه: «الآن لقد اطمأننت إليكما»، فقال مصطفى في دهشة: «وماذا تعني وأي اطمئنان تريد؟!»، فقال محدثهما مخافتا بصوته: «اسمعا! لقد فكرنا نحن فيما فكرتم فيه أنتم، ونفذنا الفكرة»؛ فازداد عجب مصطفى وراح يقول: «نفذتم الفكرة؟! وكيف كان ذلك؟!»، قال محدثهما: «إني أنا وسعد باشا، وعلي شعراوي باشا، ومحمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك نوالي الاجتماعات منذ أيام لتأليف وفد يشخص إلى أوروبا لبسط قضية مصر أمام ساستها، هذا سر بيني وبينكما، فاكتماه في أعماق قلبيكما، والزما أنتما وصحبكما كل هدوء الآن، ولا تكثرا الترداد علينا حتى لا نلفت الأنظار وتحوم الشكوك حولنا، أستودعكما الله ...!»

وانصرف مصطفى مفعم الصدر جذلا، ممتلئ الخاطر فرحا واغتباطا؛ فإن فكرته وجدت مستجابا خفيا من إلهامات النفوس وإيحاءات الأرواح قبل أن تتلاقى عندها الأذهان، ويتلقفها المنطق والشرح والبيان، نعم، لقد فرح مصطفى واغتبط في موقف رهيب تسائل النفس فيه قبل كل شيء: وماذا في الغد المنتظر؟ وترمي الأرواح بإحساسها عبر ظلمات الغيب لتخترق الأستار مخافة المجهول وخشية المحجب. وقد تنزوي إزاء هذا الظلام المترامي من فرق ورعب، ولكن مصطفى يومئذ كان قد فرغ من أمر نفسه فلم يعد يستمع إلى الخوف أو وسواسه، وأقبل على أمر عظيم يقتضي إنكار ذاته، فوجب أن يكون لها أشد المنكرين.

تقدم مصطفى ليضحي فلم يتراجع، ونهض ليكافح ويجاهد فلم يتراوح ولم يتشكك ولم يتردد، وحسبه أنه اعتزم، فما يبالي غدا على أي جانب مصرعه، ولا يحفل في الخطر اكتنافه ولا مدفعه، ويوم تتقدم النفوس الصادقة إلى عمل عظيم كهذا، ورسالة خطيرة من رسالات الحب والواجب والإيمان، ينزل الله عليها سكينة رهيبة، ويفرغ عليها صبرا جليلا، ويمدها بروح من عنده فتبتسم للمخاطر، وتسخر من الأهوال، وتضحك من المكاره، وتتصور لها المخاوف والأهوال على الطريق في صور صغار دقاق، فلا تنزوي حيال صورها، ولا تحس من الخشية ظلا واهنا من أثرها، وإنما تدفع بها من الداخل، حافز كبير وباعث روحي عظيم، فلا تبالي ماذا هي صانعة، ولا تعبأ ماذا في القدر مخبأ، ولا تحفل ماذا يحمل الغد في أطوائه؛ لأن شجاعتها هي عدتها، واعتمادها على الله هو سندها العظيم.

تقدم مصطفى النحاس القاضي الشاب بالفكرة ذاتها التي اختلجت في نفس الوقت في صدر سعد زغلول الشيخ ليكون للفكرة عنصرا الحياة نفسها: الشباب والشيخوخة، والقوة والحكمة، والنشاط والتؤدة، والسرعة والأناة، والصياح والسكون، والجيل القادم والجيل الذاهب؛ وليكون للفكرة كذلك قطباها المتلاقيان، وزعيماها المنتظران، وقائداها المتتابعان ليقود أحدهما؛ لأنه المجرب، ولكي يكون للشباب المعنوي في شيخوخته عجب، ويظل الآخر بجانبه، وموضع سره، ومحل إيثاره وحبه، وفي مجال مرانته وتدريبه، حتى يتولى الأمر عقب ذهابه، جامعا إلى حكمة الشيخ الذي اشترك معه قوة الرجل الذي أعدته الأقدار من بداية الرسالة الوطنية ليكون زعيما احتياطيا ريثما يحل أوانه، ويؤذن زمنه، ويأتي دوره المطلوب.

لقد أراد الله أن تكون الحركة المصرية موفقة من أولها، فاختار لها الترتيب الكفيل بنجاحها، ووضع لها النظام المنسق الضروري لحسن مسيرها، وتعاقب أدوارها، ومختلف مراحلها، وسيق بسعد لقيادتها، حتى يتحقق به معنيان، ويبرز به عاملان خطيران: وهو أن يكون في الحياة محركا عظيما، وأن يروح في الممات أعظم منه حيا؛ إذ يستحيل بموته قوة غير منظورة، وسلطانا روحيا خفيا، وفكرة خالدة غير فانية، وعقيدة هي في تركيبها الخطير مزاج من تعاليم دنيا ودين.

فرح مصطفى النحاس يومئذ أصدق الفرح؛ لأنه متقدم إلى جهاد محفوف دون شك بأكبر الخطر، وقد يكون هذا الإحساس قد اختلج يومئذ في صدر سعد الأكبر، ولكن أمر سعد لم يكن كأمره، فقد كان سعد وزيرا سابقا برز خطره، وارتفع شأنه، وخشي جانبه، وعنده ما يعتمد عليه، وفي ملكيته ما يستند إليه، وله جلال الشيخوخة التي يحسب حسابها، مهما كان العنف عند السلطات العسكرية هو أداتها وأسلوبها، على حين لم يكن مصطفى يومئذ سوى قاض في المحاكم الابتدائية لا يملك غير راتبه، ولم تسبق له في معارك السياسة سابقة، ولم تعرف الجماهير عنه شيئا خارج ساحة المحكمة وما بين المتقاضين، ثم هو إلى ذلك كله شاب لم يتقدم طويلا في مراحل الحياة، وليس للشباب عند بطش الباطشين كبير تقدير ولا عظيم حساب.

مصطفى النحاس.

فرح مصطفى بالفكرة، ولكنه أمسك بفرحه في صدره مخافة عليها من الخطر، قبل خيفته هو على نفسه، فقد كان كل خشيته يومئذ أن ينكشف خبرها فيعاجلها الفشل، وهو يطوي الجوانح على أكبر الأمل في نجاحها، وإن جاء هذا النجاح بثمن نفسه التي بين جنبيه، وعرضه للخطر أشد تعريض.

وقد قدر لمصطفى وأصحابه يومئذ أن يكونوا منقذي الوفد قبيل تأليفه، وهو عمل عظيم قد يجهله إلى اليوم أكثر الناس، وإن كان مصطفى نفسه قد عرض له في بداية زعامته خلال خطابه، إذ قال: «في اليوم العاشر من شهر نوفمبر سنة 1918 علم أحدنا أن دار الحماية قد وصل إليها نبأ اجتماعات سرية تعقد بمنزل سعد باشا، وهي تتتبعها وتتربص بها، فأسرعنا إلى إخبار الجماعة، فأجمعوا أمرهم على الظهور بنياتهم، فطلبوا في اليوم التالي - وهو الحادي عشر من نوفمبر، يوم عقد الهدنة - مقابلة سير ونجت المندوب السامي، فتحددت المقابلة يوم الأربعاء الثالث عشر من نوفمبر.»

ولكن لهذا الحادث قصة تدل على مبلغ الحرص الذي كان يحسه مصطفى وإخوانه على الفكرة، ومقدار الحذر عليها من السوء، وإحاطتهم لها بكل بلاغة اليقظة والسهر والحراسة والكتمان.

Halaman tidak diketahui