107

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Genre-genre

ولا يزال الناس إلى اليوم كلما تذاكروا عهد مصطفى في القضاء يتناقلون حديث موقفه في قضية المرحوم محمد محب باشا، مثالا على مبلغ حرص القاضي النزيه على استقلاله، والتمسك بوحي ضميره، والاعتداد الرفيع بقوته وسلطانه فوق منصته، في غير إشفاق ولا خوف من أكبر سلطان.

وكان مصطفى النحاس يومئذ قاضيا في محكمة عابدين، وكان من بين القضايا التي عرضت عليه قضية رفعها أحد الأعيان على المرحوم محمد محب باشا مدير الغربية في ذلك الحين، بتهمة الاعتداء عليه، فلم يكد أنصار محب باشا يعرفون أن القضية سوف تعرض على مصطفى النحاس حتى أيقنوا أنه سوف يحكم فيها بروح العدل والإنصاف، وأنه سوف يكون شديدا في الحق لا يعرف فيه أي اعتبار، ولا يبغي عنه أي حول، فأرادوا أن يزحزحوه عن موضعه، فعمدوا إلى الدسيسة عليه، إذ أرجفوا بأنه من أشياع الحزب الوطني، وأنه سوف يغلب منزعه السياسي هذا ويستجيب له، فيحكم على محب باشا بالإدانة.

وعند ذلك سعت بعض الجماعات سعيها، فدعا المغفور له رشدي باشا - وكان وزيرا للحقانية في ذلك الحين - الأستاذ مصطفى النحاس قاضي عابدين إلى لقائه، فلما تلاقيا أفهمه الوزير في سياق حديثه أن المطلوب منه في قضية محب باشا الحكم له، أو التنحي عن نظرها.

فكان جواب مصطفى: «أما من حيث الحكم فسيجيء مطابقا لما يقضي به الحق وترضاه العدالة، فإذا كان محب باشا بريئا برأته، وإذا كان مدانا عاقبته. وأما من ناحية التنحي عن نظر القضية فإن هذا لن يكون، ولكني مع ذلك لست أريد أن أعرضكم لخطر يهددكم؛ ولهذا سأرفع إليكم استقالتي عقب إصداري الحكم في القضية مباشرة!»

فلم يكد رشدي باشا يسمع هذا القول الرائع الجليل من هذا القاضي الأبي الشهم النزيه الجريء في الحق - وكان رشدي رجلا ذا عاطفة سريعة التوقد، وشيكة الاستحماء والانبعاث مع الحماسة والاستجابة للجرأة في الخير - حتى ذهب يقول: «امض في القضية كما يوحي إليك ضميرك، وثق أنك إذا استقلت فإنني مستقيل معك!»

وقد قيل إن رشدي باشا ذهب يومئذ إلى السلطان حسين فحدثه بما علم وبسط له ما جرى؛ فغضب السلطان غضبة شديدة للحق وانثنى قائلا: «أنا أؤيدكما بكل قواي ...»

وبعد أيام صدر الحكم في القضية بإدانة محب باشا وتغريمه، فأثار ذلك اهتماما كبيرا عند الجمهور وراح حديث المجالس، وطافت أنباؤه الأندية والمجامع، وشغلت البلاد كلها بخبره، إذ كانت تلك هي المرة الأولى التي يعامل فيها مدير إقليم بل حاكم مقاطعة، في ظل الاحتلال، هذا النحو من المعاملة، كأنه بعض أفراد الناس، وشخص لا حساب له في موازين الأخطار والأقدار.

وعقب صدور الحكم أنعم السلطان حسين برتبة «البكوية» على القاضي العادل النزيه مصطفى النحاس، دليل تقدير وبرهان رضوان.

وليس من ريب في أن هذا الحادث الذي ظهر في حياة مصطفى النحاس وهو في سلك القضاء، قد ظل معناه قائما في نفسه، متابعا أبدا مسالكه وتصرفاته، باديا على أروعه في سياسته ووطنيته وزعامته، فقد فطره الله رجلا لا يعرف في الحق أشخاصا، ولا يعبأ من أجله أقدارا، ولا يبالي في الحرص عليه أخطارا، ولا يصانع فيه ابتغاء رضا أو مخافة إغضاب.

هكذا برأ الله مصطفى النحاس، وذلك هو طبعه ودأبه منذ بدأ حياته العملية، وقد صدمه هذا بحوادث كثيرة، وجلب عليه عداوات متعددة، وأفقده أصدقاء من أهل النفوذ وأصحاب السلطان؛ فآثر الصدمة في نفسه على قبول الصدمة للحق، وترك الحق ينتصر ويتغلب ولو على حساب راحته الشخصية، وأمانه من المخاوف، وسلامته من المكاره والأخطار .

Halaman tidak diketahui