حالة خالية الأيام الماضية، قبل أن حوى حده، وملك صورته واقتنى به خاصته. ونوعه وفصله وجنسه وعرضه، ثم إنه كان على حال أخرى ولم يكن يحب من ذلك أن لا يكون في الثاني على هذه الجملة؛ فكذلك إن كان الآن على ما هو عليه، ثم تحول عنه إلى ما ليس الآن عليه، ليس ينبغي أن يكون منكرًا مردودًا، متعجبًا منه مجحودًا، لأن الذات باقية كما كانت في الأول، وإنما تخللت حجبًا، وقطعت طرقًا، واستعملت أشكالًا، وأظهرت أحوالًا، واستكملت استكمالًا، ونالت شرفًا وعلوا وجلالًا.
المقابسة الثانية والثلاثون
في علة امتناع الرؤيا في المنام
سمعت عبيدة الكاتب يقول لأبي محمد العروضي وكان أبو محمد يتفلسف ولزم يحيى بن عدي دهرًا أنا قليل الرؤيا، وقد ساءني هذا، وقد خلت أن ذا من عمى القلب؟ فقال أبو محمد: هذا يكون من أمرين مختلفي المرتبتين: أحد الأمرين كدر النفس بالجهل، وظلمتها بالغباوة، وامحاء صورتها بصدأ الدهر، وقلة اقتناء المعارف، وشدة انجرادها من الغير، وهذه حال دهماء العوام. وأما الآخر فهو أن تعلو النفس في مراتب المعارف وترتعي رياض العلم، فيصير حالها في الحلم قسيمة حالها في اليقظة، إلى الكهانة، حتى إذا حدس قرطس، وإذا ظن ظن، وإذا وهم هجم، وإذا اعتبر عبر، وربما تحولت إلى ما يرفد العقل فقط باستخراج الدقائق، وتأليف المقدمات، واستنباط النتائج والوصول إلى سواد الحق وبحبوحة الصواب؛ وربما صارت الحال مصارفة للحقائق بزوال الوسائط، أي من غير إعمال أداة وإحضار آلة.
1 / 190