161

نعم، لقد كان يقول الشيخ علي فيروي كل غلة، ويشفي كل علة، ويعلو بسطوة قلمه حتى ما ينتهي منتهاه في ذاك أحد، والناس طرا لهذه النصرة بين مهلل وبين مكبر! هذه كانت قدرة الشيخ القادرة، وهذه كانت قوته العبقرية النادرة، وهذه مقالاته في أعقاب حادثة دنشواي ما برحت ترن في آذان من قرأوها إلى الآن.

وإني لأذكر له حادثا طريفا في هذا الباب: فشت الفاشية، لا أعادها الله بين المسلمين وإخوانهم الأقباط عقب مصرع المرحوم بطرس باشا غالي، وكان ذلك في سنة 1910 على ما أذكر، وعقد الأقباط مؤتمرا مليا لهم في أسيوط، وأجابهم المسلمون بمؤتمر مثله في القاهرة، وأفضوا برياسته إلى أكبر رجل في البلاد يومئذ، وهو المرحوم مصطفى رياض باشا، واختار القائمون على هذا المؤتمر مثوى لاجتماعه ملعب مصر الجديدة، ومضى الناس أفواجا في اليوم المشهود، واجتمع رجالات البلد لم يتخلف منهم إلا من انقطع به العذر، وتصدر الحفل رياض باشا، وتعاقب الخطباء كابرا بعد كابر، فأبلوا في المقال أيما بلاء، وأبدعوا في الخطاب أيما إبداع.

حتى إذا كانت النوبة على الشيخ علي أذكى بعض شبان الحزب الوطني في المحتشدين في بهو الملعب طائفة من الفتيان من طلبة الأزهر وتلاميذ المدارس، يسألون القوم ألا يصفقوا إذا خطب الشيخ، ولا يظهروا أية إشارة تدل على الاستحسان، فوعدهم أكثر الناس بهذا، وأصروا عليه مخلصين لما تنطوي صدورهم من حقد عليه ومن بغضاء.

وينبعث الشيخ يخطب، وهو كما قدمت لك غير خطيب - أستغفر الله - بل لقد انبعث يتلو مقالته في أوراق بين يديه، وأنت حق خبير بالفرق الهائل بين أثر التالي وأثر الخطيب، وما إن مضى في تلاوته بضع دقائق حتى أخذ الناس عن نفوسهم، ونسوا ما عاهدوا أولئك الفتيان وعاهدوا أنفسهم عليه، فبروا من التصفيق أكفهم، وشققوا بالصياح حناجرهم تشقيقا، فكنت تسمع من هتافهم مثل الرعد القاصف، وترى من اضطرابهم وتموجهم فعل الريح بالأغصان في اليوم العاصف! وكان من أشدهم سعرا من كلام الرجل هم أولئك الفتية الذين كانوا يروضون الناس على ألا يلقوا خطابه إلا بالجمود والإعراض.

وجهد بالرجل فتعاور التلاوة عنه كل من أستاذنا إبراهيم بك الهلباوي، والمرحوم أحمد بك عبد اللطيف المحامي الأشهر، وأنت كذلك خبير بأثر خطبة يتلوها في الساعة غير منشئها، ما أرخى إليها من قبل نظرا، ومع هذا فما برحت تزداد الفورة ويشتد بالقوم الفتون!

ولقد أذكر أنه بعد إذ فرغ من خطاب الشيخ، وافقت في طريقي صديقا لي من شبان الحزب الوطني، وهو الآن من أعلام الفضل الذين يتولون منصبا جليلا في السلك القضائي؛ وكان يومئذ مسرفا غاليا في التشيع لمبادئ حزبه، مفرطا في بغض الشيخ، شديد الحمل عليه؛ ورأيته يضرب كفا بكف ، فسألته: ما به؟ فأوما إلى مكان الشيخ من منصة الخطابة وقال: «على حس الخطبة دي، يقعد ابن ال ... يخون في البلد ثلاث سنين أخر!»

ولا زلت كلما لقيت صاحبي أذكره هذه الحكاية، فيضحك في غيظ، لا أدري: أمن تذكيري له بهذه القصة، أم أنه ما تزال في صدره بقية من هذا الضغن القديم؟! الله أعلم! •••

وقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان رجلا مكافحا، بل إن قلمه لم يكن يجود في شيء مثلما كان يجود في الكفاح، ولم تكن سياسة الاحتلال في مصر تخشى سطوة قلم قدر ما تخشى قلم هذا الرجل، فإنه كان - فوق كفايته البيانية، وما آتاه الله من شدة العارضة، والتمكن من نواصي جلائل المعاني - لا يهرول إذا هرول في الصغائر، ولا يطعن إذا طعن إلا في الصميم.

ولا أحب أن أتجاوز هذا المعنى في الرجل قبل أن أدل على خلة من خلاله في كفاحه: ذلك بأنه كان يعتمد أضعف النقاط في خصمه فيتجمع لها، ثم يثب عليها بكل قوته، ولا يبرح يطعنه منها دراكا، حتى يدوخ رأسه، ويذهله عن سائر أسلحته، إذا كانت له أسلحة أخرى تجهز بها لذلك النضال.

وكان في كتابته سريعا جدا، حتى لتحسبنه ويده تجول في القرطاس عازفا على قانون، لا مسطرا بيراع، وتراه كلما فرغ من وجه الرقعة من الإضمامة دفع بها إلى من يفضي بها إلى المطبعة، وهكذا حتى يأتي على غاية المقال، لا يتتعتع، ولا يتحبس، ولا يحتاج إلى مراجعة شيء مما أسلف، ومع هذا تجد المقال سويا غاية في الحبك وتناسق الأطراف!

Halaman tidak diketahui