إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
وأذكر أنني مضيت إليه مرة في صحب لي من خلصانه، وسألناه أن يترفق بالمؤيد، فلقد تظاهر عليه خصومه، وألبوا الجمهرة عليه، وأذكوا عليه حماسة الشباب في رأي له قد لا يحسن فهمه العامة، ولا يستريح إليه طموح الشباب، فأصغى إلينا وأحسن الإصغاء، وترك كل واحد منا يقول ما عنده، حتى إذا انتهينا ونحن على الظن بأنه نازل عند رأينا، عادل إلى ما سألنا، فإذا هو يرتج في مجلسه ارتجاجة عنيفة، ويقول في قوة وفي عزم حديد: «والله لا يعنيني أن يكون الناس جميعا في صف واحد، وأنا والحق الذي أعتقده بإزائهم في صف واحد!» وتركناه ونحن نرى منحدر المؤيد بطغيان الخصومة يوما بعد يوم!
ولقد كان الشيخ علي رحمة الله عليه رجلا متمكنا من نفسه حقا ، ولقد كان مما يشاع عنه - ولعل خصومه هم مبعث هذه الإشاعة - أنه كان يقول: أنا لا أبالي أن أخسر هذا البلد، ففي إمكاني أن أعود فأكسبه بثلاث مقالات ...!
ولقد عاشرت الرجل ما عاشرته، واستمكن ما بيننا من الود والإلف إلى الحد الذي يبعثني على الاعتقاد بأنه ما كان يخفي عني شيئا، حتى من نجوى نفسه في الأسباب العامة، وشهد الله ما سمعت منه قط هذا الكلام، ولا أية عبارة أخرى يمكن أن تؤدي معناه.
ولكن مع هذا لقد كان هذا هو الواقع - أعني الواقع من حاله لا من مقاله - فإنني لا أعرف رجلا سياسيا عظيما كان أقل الناس أنصارا وأكثرهم خصوما كما كان الشيخ علي يوسف، وخصومه على كثرتهم، لقد كانوا من جميع الطبقات، وكانوا من جميع الهيئات، وإنهم ليحيطون به إحاطة الطوق من كل جانب، وكلهم عامل على إسقاطه، جاهد ما امتد به الجهد في هدم المؤيد، مذك عليه الأقلام والألسن من كل ناحية، تدمغه بتهمة الخيانة الوطنية فما دونها في غير هوادة ولا إشفاق، والمؤيد يتقلص بين أيدي القارئين ويتقلص، حتى يظن أنه قد تشرف على العفاء، ثم إذا الشيخ يتجمع، وإذا هو يشرع القلم شرع الرمح الرديني، وإذا هو يطعن الطعنة البكر ها هنا مرة، وها هنا مرة، فلا يصيب إلا الكلى والمفاصل، وإذا هؤلاء الخصوم يتطايرون عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، وإذا المؤيد يرن في البلد رنينه، بعد ما تردد تأوهه وطال أنينه!
وقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان مبغضا إلى الكثرة في البلاد، وإن هذا البغض ليرجع في الأكثر إلى أسباب صناعية: منها المنافسات الصحفية، ومنها الغيرة من موضعه يومئذ من ولي الأمر، ومنها أنه كان هنالك رجال أقوياء ببسطه الجاه وسعة الغنى، وفيهم كذلك من ذهب لهم في العلم والأدب صيت وذكر، كان هؤلاء لا يستريحون إلى سياسة القصر، ولربما ظاهروا المعتمد البريطاني أحيانا في عدائه للقصر، فهم بالضرورة ينقمون من كل رجل توافيه للقصر، وخاصة إذا كان رجلا كالشيخ علي يوسف جبار العقل، جبار القلم!
أرأيت كيف كان هذا الرجل محاطا من جميع أقطاره بنطاق من العداوات المختلفة، بل التي يصطرع التناقض أحيانا بين أسباب بعضها وبين أسباب بعض؟ على أن إذكاء بغض الشباب والعامة للرجل من جهة، وبغض بعض الخاصة له من جهة أخرى، إنما كان يسلكه له خصومه من أحد طريقي الضعف فيه - إن صح هذا التعبير - أولهما: أنه كان معتدلا لا يرى العنف سبيلا إلى استرداد حقوق البلاد؛ بل إن هذا العنف لقد يرديها في أخطار لم تكن لها في الحساب، وكان طوعا لهذا يرى ألا يتحدث عن الشئون العامة إلا الشيوخ الناضجون المجربون، وهذا وهذا - ولا شك - مما لا يرضي الشباب المشتعل حماسة لحق الوطن، ولا تنس أن العامة من وراء هؤلاء.
أما السبب الثاني فلصوقه بالقصر، وشدة توافيه له، ومظاهرته له على الدوام، وأظن أن هذا مقام لا تحمد فيه إطالة الكلام.
مع هذا كله ففي الجلى، يوم تحدث الأحداث القومية، ينفض الناس قلوبهم حتى يتساقط عنها كل ما علق بها من الحقد على الشيخ علي يوسف، ويتلعون أعناقهم نحو المؤيد، شاخصة أبصارهم، مرهفة آذانهم، معلقة في انتظار ما يقول الشيخ أنفاسهم، فإذا النمر الجبار يثب على فريسته من عدوان العادين وثبته، فلا يزال يوسعها تمزيقا بمخلبه، وضغما بأنيبه، حتى ما يدعها إلا «أعظما وجلودا»!
Halaman tidak diketahui