مذهبه النحوى:
كانت المذاهب النحوية فى عهد ابن جنى ثلاثة: مذهبان قديمان، وهما البصرى والكوفى.
ومذهب حدث من خلط المذهبين والتخير منها. وهو مذهب للبغداديين.
وكان ابن جنى-كشيخه أبى علىّ-بصريا. فهو يجرى فى كتبه ومباحثه على أصول هذا المذهب، وهو ينافح عنه ويذب، ولا يألو فى ذلك جهدا. وتراه فى «سر الصناعة» فى حرف النون، يقول: كما قال الآخر:
أن تهبطين بلاد قو … م يرتعون من الطلاح
فهذا على تشبيه «أن» ب «ما» التى فى معنى المصدر، فى قول الكوفيين. فأما على قولنا نحن فإنه أراد أن الثقيلة، وخففها ضرورة. وتقديره: أنك تهبطين.
وفى «سر الصناعة» أيضا فى حرف الكاف: «فإذا قلت: أنت كزيد، وجعلت الكاف اسما فلا ضمير فيها؛ كما أنك إذا قلت: أنت مثل زيد، فلا ضمير فى مثل؛ كما لا ضمير فى الأخ ولا الابن، إذا قلت: أنت أخو زيد، وأنت ابن زيد. هذا قول أصحابنا. وإن كان قد أجاز بعض البغداديين أن يكون فى هذا النحو الذى هو غير مشتق من الفعل ضمير؛ كما يكون فى المشتق». ومن الجلى أنه يريد بقوله: «أصحابنا» البصريين.
ولم يدر بخلد ناظر، إن كان ابن جنى كوفيا؛ فهذا ما لم يجر فى الوهم والخيال. ولكن بعض الباحثين طاب له أن يسلك ابن جنى فى عداد البغداديين. وشبهته فى هذا أن سكن بغداد واستوطنها، حتى لقى ربه فيها. وإنما كان مقامه ببغداد بآخرة بعد أن نضج واستقرت إمامته وتأصل عده فى البصريين. والناظر فى كلام ابن جنى من الدلائل ما لا يحصى على هدم هذه الدعوى، ونقضها.
ومن هذا ما سقته عن سرّ الصناعة. وفى هذا الكتاب أيضا فى حرف الفاء: «وقوى البغداديين: أنا ننصب الجواب على الصرف، كلام فيه إجمال، بعضه صحيح، وبعضه فاسد. . .». وفيه أيضا فى حرف الواو: «واعلم أن البغداديين قد أجازوا فى الواو أن تكون زائدة فى مواضع. فأما أصحابنا فيدفعون هذا التأول البتة، ويجيزون زيادة هذه الواو».
على أن الرجل كان منهوما بالعلم يأخذه عن أهله، بصريا كان أو غيره. فهو كثير النقل عن ثعلب والكسائى وأضرابهما، حسن الذكر لهذين الرجلين والثناء عليهما. فهو يقول فى الكسائى-فى الخصائص: «باب فى قلب لفظ إلى لفظ بالصنعة والتلطف لا بالإقدام والتعجرف»: «وكان هذا الرجل كبيرا فى السداد والثقة عند أصحابنا».
وهو برئ من العصبية التى تعمى عن الحق، وينحى باللائمة على من ينساق معها، ويمضى فى سبيلها. فتراه يقول فى سرّ الصناعة، فى حرف الهاء: «ورأيت أبا محمد بن درستويه قد أنحى على أحمد بن يحيى فى هذا الموضع من كتابه الموسوم بشرح الفصيح،
1 / 56