فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه ما في هذا الحديث من العبر؛ فإن الله ﷾ يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم ليكون للمؤمن من المستأخرين عبرة، فيقيس حاله بحالهم، وقص قصص الكفار والمنافقين لتجتنب من تلبس بها أيضا. فمما فيه من الاعتبار أن هذا الأعرابي الجاهلي لما ذكر له أن رجلا بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس، لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه، وعلم ما عنده، لما في قلبه من محبة الدين والخير. وهذا فسر به قوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ﴾ ١ أي: حرصا على تعلم الدين لأسمعهم أي لأفهمهم. فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم عدل منه سبحانه، لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين. فتبين أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب هو عدم الحرص على تعلم الدين. فإذا كان هذا الجاهلي يطلب هذا الطلب، فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء وبلغه عنهم ما بلغه، وعنده من يعرض عليه التعليم، ولا يرفع بذلك رأسا؟ فإن حضر أو استمع فكما قال تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ ٢ وفيه من العبر أيضا أنه لما قال: أرسلني الله، قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بكذا وكذا.
فتبين أن زبدة الرسالة الإلهية والدعوة النبوية هي توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وكسر الأوثان؛ ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة، وتجريد السيف. فتأمل زبدة الرسالة. وفيه أيضا أنه فهم المراد من التوحيد. وفهم أنه أمر كبير غريب. ولأجل هذا قال: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد، فأجابه: إن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له، ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر؛ فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل، وأن الباطل قد يملأ الأرض.
_________
١ سورة الأنفال آية: ٢٣.
٢ سورة آية: ٢-٣.
1 / 284