كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد
تأليف: الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀
بسم الله الرحمن الرحيم ١
وبه نستعين وعليه نتوكل.
مما قال الشيخ الإمام وعلم الهداة الأعلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، لما ارتاب بعض من يدعي العلم من أهل العيينة، لما ارتد أهل حريملا، فسئل الشيخ أن يكتب كلاما ينفعه الله به، فقال رحمه الله تعالى:
- بسم الله الرحمن الرحيم
روى مسلم في صحيحه عن عمر بن عبسة السلمي ﵁ قال: "كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان. قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله ﷺ مستخفيا جراء١ عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: وما أنت ٢؟ قال:
_________
١ اعتمدنا في إثبات البسملة هنا على قول ابن غنام في روضة الأفكار والأفهام (قال الشيخ ﵀ بسم الله الرحمن الرحيم) .
1 / 281
أنا نبي، قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء. فقلت له: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد. قا: ل ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن معه. فقلت: إني متبعك. قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا. ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت. فأتني قال: فذهبت إلى أهلي. وقدم رسول الله ﷺ المدينة وكنت في أهلي. فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم نفر من أهل يثرب من أهل المدينة١. فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك. فقدمت المدينة فدخلت٢ عليه فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟ قال: نعم٣. أنت الذي لقيتني بمكة. قال: قلت بلى، فقلت: يا نبي الله أخبرني ٤ عما علمك الله وأجهلُه. أخبرني عن الصلاة. قال: صلِّ صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وحتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار. ثم صل، فإن الصلاة مشهودة
_________
١ لفظ "من أهل المدينة" في جميع النسخ الخطية وفي صحيح مسلم فسقوطه في بعض النسخ المطبوعة من قبل بعض النساخ.
٢ سقط لفظ "فدخلت عليه" من بعض نسخ الكتاب والصواب إثباته لأنه الموافق لنص صحيح مسلم.
٣ سقط لفظ "نعم" في بعض نسخ الكتاب وثبت في بعضها وفي اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو الموافق لنص صحيح مسلم.
٤ هذا لفظ مسلم - قال النووي هكذا هو (عما علمك الله) وهو صحيح ومعناه أخبرني عن حكمه وصفته وبينه لي.
1 / 282
محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإنها١ حينئذ تسجر جهنم. فإذا أقبل الفيء فصل٢ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر. ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار" وذكر الحديث.
قال أبو العباس رحمه الله تعالى: فقد نهى النبي ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب، معللا ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدو. ن لها ثم إنه ﷺ نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسما لمادة المشابهة.
ومن هذا الباب أنه كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن٣. ولم يصمد له صمدا؛ ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، ولهذا ينهى٤ عن السجود لله بين يدي الرجل، لما فيه من مشابهة السجود لغير الله ٥. انتهى كلامه٦.
1 / 283
فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه ما في هذا الحديث من العبر؛ فإن الله ﷾ يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم ليكون للمؤمن من المستأخرين عبرة، فيقيس حاله بحالهم، وقص قصص الكفار والمنافقين لتجتنب من تلبس بها أيضا. فمما فيه من الاعتبار أن هذا الأعرابي الجاهلي لما ذكر له أن رجلا بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس، لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه، وعلم ما عنده، لما في قلبه من محبة الدين والخير. وهذا فسر به قوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ﴾ ١ أي: حرصا على تعلم الدين لأسمعهم أي لأفهمهم. فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم عدل منه سبحانه، لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين. فتبين أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب هو عدم الحرص على تعلم الدين. فإذا كان هذا الجاهلي يطلب هذا الطلب، فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء وبلغه عنهم ما بلغه، وعنده من يعرض عليه التعليم، ولا يرفع بذلك رأسا؟ فإن حضر أو استمع فكما قال تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ ٢ وفيه من العبر أيضا أنه لما قال: أرسلني الله، قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بكذا وكذا.
فتبين أن زبدة الرسالة الإلهية والدعوة النبوية هي توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وكسر الأوثان؛ ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة، وتجريد السيف. فتأمل زبدة الرسالة. وفيه أيضا أنه فهم المراد من التوحيد. وفهم أنه أمر كبير غريب. ولأجل هذا قال: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد، فأجابه: إن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له، ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر؛ فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل، وأن الباطل قد يملأ الأرض.
_________
١ سورة الأنفال آية: ٢٣.
٢ سورة آية: ٢-٣.
1 / 284
ولله در الفضيل بن عياض ﵀ حيث يقول: "لا تستوحش، من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين" وأحسن منه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ١.
وفي الصحيحين: "أن بعث النار من كل ألف تسعة وتسعون وتسعمائة، وفي الجنة واحد من كل ألف. ولما بكوا من هذا لما سمعوه. قال ﷺ: إنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية، فيؤخذ العدد من الجاهلية، فإن تمت وإلا أكملت من المنافقين". قال الترمذي حسن صحيح. فإذا تأمل الإنسان ما في هذا الحديث من صفة بدء الإسلام ومن اتبع الرسول ﷺ إذ ذاك، ثم ضم إليه الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم أيضا أنه ﷺ قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ"٢. تبين له الأمر إن هداه الله وانزاحت عنه الحجة الفرعونية ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى﴾ ٣ والحجة القرشية ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ﴾ ٤.
وقال أبو العباس- رحمه الله تعالى - في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم في الكلام على قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ ٥: ظاهره أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني ٦ للحم وقال فيه بسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه بسم الله؛ فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور.
_________
١ سورة سبأ آية: ٢٠.
٢ مسلم: الإيمان (١٤٥)، وابن ماجه: الفتن (٣٩٨٦)، وأحمد (٢/٣٨٩) .
٣ سورة طه آية: ٥١.
٤ سورة ص آية: ٧.
٥ سورة البقرة آية: ١٧٣.
٦ لفظ (النصراني) من اقتضاء (الصراط المستقيم) .
1 / 285
والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله. فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان. ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ، وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين؛ فانظر أرشدك ١ الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة وتصريحه أن المنافق يصير مرتدا بذلك. وهذا في المعين إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين.
وقال أيضا في الكتاب المذكور: وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة: اللات، والعزى، ومناة. وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب. فكانت اللات لأهل الطائف، ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا يلت السويق للحجاج، فلما مات عكفوا على قبره. وأما العزى فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات، وكانت هناك٢ شجرة يذبحون عندها ويدعون. وأما مناة فكانت لأهل المدينة، وكانت حذو قديد من ناحية الساحل.
ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادتهم الأوثان، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن، فلينظر إلى سيرة النبي ﷺ وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره
_________
١ كذا في مخطوطة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ومخطوطة سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم التي بخط عبد العزيز بن ناصر بن راشد وقع في مخطوطته الثانية التي هي بخط سالم بن علي (رحمك الله) وكذا في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام.
٢ ذكر لفظ "هناك" في أكثر النسخ الخطية وفي اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية.
1 / 286
الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء. ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم. ويسمونها ذات أنواط. فقال بعض الناس: "يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: الله أكبر؛ إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم"١. فأنكر ﷺ مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها أسلحتهم، فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه ... إلى أن قال: فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق، مثل مسجد يقال له مسجد الكف. فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبي طالب، حتى هدم الله ذلك الوثن. وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في البلاد وفي الحجاز، منها مواضع. ثم ذكر كلاما طويلا في نهيه ﷺ عن الصلاة عند القبور. فقال: العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك، ذكر ذلك الشافعي وغيره وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد كأبي بكر الأثرم، وعللوا بهذه العلة وقد قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ ٢ الآية.
ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم. ثم صورا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. ذكر هذا البخاري في صحيحه وأهل التفسير كابن جرير وغيره. ومما يبين صحة هذه العلة أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد. ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجسا. وقال عن نفسه: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"٣، فعلم أن نهيه عن ذلك كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها سدا للذريعة، لئلا يصلي في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله، لئلا يفضي ذلك إلى دعائها والصلاة لها. وكلا
_________
١ الترمذي: الفتن (٢١٨٠)، وأحمد (٥/٢١٨) .
٢ سورة نوح آية: ٢٣.
٣ مالك: النداء للصلاة (٤١٦) .
1 / 287
الأمرين قد وقع. فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعوها بأنواع الأدعية. وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام. وصنف بعض المشهورين١ فيه كتابا على مذهب المشركين، مثل أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهما ممن دخل في الشرك وآمن بالطاغوت والجبت، وهم ينتسبون إلى الكتاب كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ ٢. انتهى كلام الشيخ ﵀.
فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام الذي ينسب عنه من أزاغ الله قلبه عدم تكفير المعين كيف ذكر عن مثل الفخر الرازي، وهو من أكابر أئمة الشافعية، ومثل أبي معشر وهو من أكابر المشهورين من المصنفين، وغيرهما، أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام، والفخر هو الذي ذكره الشيخ في الرد على المتكلمين لما ذكر تصنيفه الذي ذكر هنا قال: وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى.
وتأمل أيضا ما ذكره في اللات والعزى ومناة، وجعله فعل المشركين معها هو بعينه الذي يفعل بدمشق٣ وغيرها. وتأمل قوله على حديث
_________
١ كذا في مخطوطة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ومخطوطة سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم التي بخط عبد العزيز بن ناصر بن راشد وقع في مخطوطته الثانية التي هي بخط سالم بن علي (رحمك الله) وكذا في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام.
٢ سورة النساء آية: ٥١.
٣ هذا نص مخطوطة سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم التي بخط عبد العزيز بن ناصر. وفي روضة الأفكار والأفهام لابن غنام وبقية النسخ الخطية "وجعله بعينه هذا الذي يفعل بدمشق وغيرها".
1 / 288
ذات أنواط، هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة، فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟ فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام؟ وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيغهم.
قال رحمه الله تعالى أنا من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تبديع أو تفسيق أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا١ أخرى. انتهى كلامه. وهذا صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه، لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وإذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية. وصرح ﵁ أيضا أن كلامه أيضا٢ في غير المسائل الظاهرة فقال في الرد على المتكلمين٣، لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا. قال: وهذا إن كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه
_________
١ سقط لفظ "وعاصيا أخرى" في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام وفي بعض النسخ الخطية والمناسب لورود لفظ "أو معصية" في هذه العبارة ذكره كما ورد في مخطوطة سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم بخط عبد العزيز بن ناصر ومخطوطة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ.
٢ كذا ورد لفظ "أيضا" في هذين الموضعين في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام وفي مخطوطة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ومخطوطة سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم التي بخط سالم بن علي.
٣ يعني بذك "نقض المنطق" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
1 / 289
وسلم بعث بها وكفر من خالفها، مثل أمره١ بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم؛ فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين. وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي (يعني الفخر الرازي) ٢. قال: وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين. انتهى كلامه ٣.
فتأمل هذا، وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكرها أعداء الله، لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا على أن الذي نعتقده وندين الله به ونرجو أن يثبتنا عليه، أنه لو غلط هو أو أجل منه في هذه المسألة، وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين أو يزعم أنه على حق، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره٤، ولو غلط، من غلط فكيف والحمد لله ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في
_________
١ لفظ "أمره" من نقض المنطق لشيخ الإسلام ابن تيمية صفحة ٤٥ الطبعة الأولى بمطبعة السنة المحمدية.
٢ هذه العبارة التي بين قوسين مثبتة في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام وفي أكثر النسخ الخطية وسقطت في مخطوطة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ.
٣ أي في نقض المنطق لشيخ الإسلام ابن تيمية ص ٤٥- ٤٧ وقد اقتصر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب منه على ما هنا.
٤ لفظ " من تكفيره" ليس في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام، ولا في أكثر النسخ الخطية، وهو في نسخة سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم التي بخط عبد العزيز بن ناصر.
1 / 290
هذه المسألة؟ وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى﴾ ١، أو حجة قريش. ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ﴾ ٢.
قال الشيخ ﵀ في الرسالة السنية: لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره ﷺ بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، حتى أمر ﷺ بقتالهم، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة قد يمرق أيضا من الإسلام في هذه الأزمان٣. وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث يقول: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ ٤ الآية. "وعلي بن أبي طالب حرق الغالية من الرافضة. فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق". وهو قول أكثر العلماء. وقصتهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني! أو أغثني! أو ارزقني! أو اجبرني! أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه؛ افإن تاب وإلا قتل. فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له، لا يجعل معه إله آخر.
والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام،
_________
١ سورة طه آية: ٥١.
٢ سورة ص آية: ٧.
٣ وقع لفط "في هذه الأزمان" في هذا الموقع في بعض النسخ الخطية ووقع في "روضة الأفكار والأفهام لابن غنام" و"مخطوطة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ومخطوطة سماحة المفتي التي هي بخط سالم بن علي إثر قوله "أو السنة" وقبل قوله "قد يمرق".
٤ سورة النساء آية: ١٧١.
1 / 291
لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنْزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون صورهم١ ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا﴾ ٢ الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة ٣ ثم ذكر رحمه الله تعالى آيات. ثم قال: وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ٤. وقال تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ٥. وكان النبي ﷺ يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده". ونهى عن الحلف بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" ٦. وقال في مرض موته: "لعن الله اليهودوالنصارىاتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "٧. يحذر ما صنعوا، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" ٨. وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا. وصلوا علي حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني"٩. ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور. ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي
_________
١ في الأصل " يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم" ولكن لفظ قبورهم لا يناسب قوله: "مثل المسيح والملأئكة والأصنام" لأنه لا قبور لهم.
٢ سورة الإسراء آية: ٥٦.
٣ تمام عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية "فقال الله لهم هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلي كما تتقربون إلي ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي".
٤ سورة النحل آية: ٣٦.
٥ سورة الأنبياء آية: ٢٥.
٦ الترمذي: النذور والأيمان (١٥٣٥)، وأبو داود: الأيمان والنذور (٣٢٥١)، وأحمد (٢/٣٤،٢/٨٦،٢/٩٨،٢/١٢٥،٢/١٤٢)، ومالك: النذور والأيمان (١٠٣٧)، والدارمي: النذور والأيمان (٢٣٤١) .
٧ البخاري: الجنائز (١٣٣٠)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٥٣١)، والنسائي: المساجد (٧٠٣)، وأحمد (١/٢١٨،٦/٣٤،٦/٨٠،٦/١٢١،٦/١٤٦،٦/٢٥٢،٦/٢٥٥)، والدارمي: الصلاة (١٤٠٣) .
٨ مالك: النداء للصلاة (٤١٦) .
٩ أبو داود: المناسك (٢٠٤٢)، وأحمد (٢/٣٦٧) .
1 / 292
ﷺ عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها؛ لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه كما١. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ ٢ الآية. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه. وأعظم آية في القرآن آية الكرسي ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ٣. وقال ﷺ: "من كان آخر كلامه من الدنيا٤ لا إله إلا الله، دخل الجنة" ٥. والإله هو الذي تؤلهه القلوب عبادة له واستعانة به، ورجاء له وخشية وإجلالا. انتهى كلامه رحمه الله تعالى ٦.
فتأمل أول الكلام وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني! ونحوه، أنه يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل. هل يكون هذا إلا في المعين. والله المستعان. وتأمل كلامه في اللات والعزى ومناة وما ذكر بعده، يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى:
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: في شرح المنازل في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون آلهتهم
_________
١ ورد لفظ "كما" في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام وفي نسخة الشيخ محمد ابن عبد اللطيف آل الشيخ ونسخة سماحة المفتي التي هي بخط عبد العزيز بن ناصر وذلك هو الموافق لما في الرسالة السنية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
٢ سورة النساء آية: ٤٨.
٣ سورة البقرة آية: ٢٥٥.
٤ زيادة لفظ "من الدنيا" من روضة الأفكار والأفهام لابن غنام وفي نسخة سماحة المفتي التي هي بخط عبد العزيز بن ناصر.
٥ أبو داود: الجنائز (٣١١٦)، وأحمد (٥/٢٣٣،٥/٢٤٧) .
٦ ملخصا.
1 / 293
أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة. وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه "ديدنا له ١"، إن قام وإن قعد وإن عثر وإن استوحش، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم. فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر. قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ ٢ الآية. فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى. وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا٣ يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله. وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له ثم ذكر الشيخ - يعني ابن القيم ﵀ ٤ - فصلا طويلا في ذكر ٥ هذا الشرك الأكبر.
ولكن تأمل قوله: وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز
_________
١ لفظ "ديدنا له" من مدارج السالكين شرح المنازل.
٢ سورة الزمر آية: ٣.
٣ سقط لفظ "لا" في بعض النسخ الخطية. والصواب إثباته كما وقع في أكثرها وفي مدارج السالكين.
٤ عبارة يعني ابن القيم من نسخة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ﵀.
٥ لفط "ذكر" هنا هو الذي ورد في هامش مخطوطة الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز الحصين ﵀ ومعه لفظ "صح" بعد الضرب علي لفظ "تقرير" الذي ورد في النسخ الخطية وغير الخطية.
1 / 294
من لا يعادي من أنكره يتبين لك بطلان الشبهة التي أدلى بها الملحد وزعم أن كلام الشيخ (في الفصل الثاني يدل عليها وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى وذكر) ١، في آخر هذا الفصل، أعني الفصل الأول، في الشرك الأكبر الآية التي في سورة سبأ ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ٢ إلى قوله ﴿إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ وتكلم عليها، ثم قال: والقرآن مملوء من أمثالها. ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا. وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب ﵁ "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول ﷺ ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، فالله المستعان.
(فصل) .
وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقول: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده.
_________
١ قوله: "في الفصل الثاني.... إلى قوله في آخر هذا الفصل" لم يذكر في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام والظاهر أن سقوطه من قبل النساخ لأن ذكره هو الموافق لما في مدارج السالكين والنسخ الخطية.
٢ سورة سبأ آية: ٢٢.
1 / 295
ثم قال الشيخ يعني ابن القيم ١ رحمه الله تعالى بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر: ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد٢ للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ؛ فإنها شرك عظيم. ومن أنواعه النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره، وإضافة نعمه إلى غير. هـ ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم. فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده؛ فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن. والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي ﷺ إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة.
فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقص الأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياءه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، أو أنهم أمروهم به. وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم! ولله در خليله إبراهيم ﵇ حيث يقول: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ
_________
١ عبارة "يعني ابن القيم" من نسخة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ﵀.
٢ لفظ "سجود المريد" ورد هكذا في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام وأكثر النسخ الخطية ومدارج السالكين.
1 / 296
النَّاسِ﴾ ١ وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله. انتهى كلامه ٢.
والمراد بهذا أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن هذا شرك أصغر. وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني الذي ذكر في أوله الأصغر، وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول والثاني صريحا لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة، منها: أن دعاء الموتى والنذر لهم ليشفعوا له عند الله هو الشرك الأكبر الذي بعث الله النبي ﷺ بالنهي عنه، فكفر من لم يتب منه، وقاتله وعاداه. وآخر ما صرح به قوله آنفا "وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبرط إلى آخره فهل بعد هذا البيان بيان إلا العناد؟ بل الإلحاد، ولكن تأمل قوله: أرشدك الله وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين ... إلى آخره٣ وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك الأكبر، وإن لم يعادهم فهو منهم، وإن لم يفعله وقد ذكر في الإقناع عن الشيخ تقي الدين أن من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، وأن من شك في كفره فهو كافر. فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع عداوته له ومقته له، فكيف بمن يعتقد أنه مسلم ولم يعاده؟ فكيف بمن أحبه؟ فكيف بمن جادل عنه.
وعن طريقته وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك. وقد قال تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ ٤، فإذا كان هذا قول الله تعالى فيمن تعذر عن التبيين بالعمل بالتوحيد ومعاداة المشركين بالخوف على أهله وعياله، فكيف
_________
١ سورة آية: ٣٥-٣٦.
٢ مختصرا.
٣ سقط قوله (فهل) إلى قوله (إلى آخره) في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام، وأثبت في جميع النسخ الخطية.
٤ سورة القصص آية: ٥٧.
1 / 297
بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة؟ ولكن الأمر كما تقدم عن عمر ﵁: إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، لهذا لم يفهم معنى القرآن وأنه أشر وأفسد من الذين قالوا: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ .
ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاق، وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون، وأن عبدة الأوثان أهل الحق والصواب، كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه، خطه بيده يقول: بيني وبينكم أهل هذه الأقطار وهم خير أمة أخرجت للناس وهم كذا وكذا. فإذا كان يريد التحاكم إليهم. ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، فكيف أيضا يصفهم بشرك. ومخالطتهم للحاجة؟ وما أحسن قول أصدق القائلين: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ ١، ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ ٢، فرحم الله أمرأ نظر٣، لنفسه وتفكر فيما جاء به محمد ﷺ من عند الله من معاداة من أشرك بالله من قريب أو بعيد، وتكفيرهم وقتالهم حتى يكون الدين كله لله. وعلم ما حكم به محمد ﷺ فيمن أشرك بالله مع ادعائه الإسلام وما حكم به في ذلك الخلفاء الراشدون كعلي بن أبي طالب ﵁ وغيره لما حرقهم بالنار، مع أن غيرهم من أهل الأوثان الذين لم يدخلوا في الإسلام لا يقتلون بالتحريق، والله الموفق.
وقال أبو العباس أحمد ٤ بن تيمية في الرد على المتكلمين ٥ لما
_________
١ سورة آية: ٧-٩.
٢ سورة ق آية: ٥.
٣ كذا في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام وفي أكثر النسخ الخطية ووقع في نسخة سماحة المفتي التي بخط سالم بن علي (نظر في نفسه) .
٤ لفظ (أحمد) من نسخة سماحة المفتي التي هي بقلم عبد العزيز بن ناصر.
٥ كتاب "نقض المنطق".
1 / 298
ذكر بعض أحوال١. أئمتهم قال: وكل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء. وإن رجح الموحدين ترجيحا ما فقد يرجح غيره المشركين. وقد يعرض عن الأمرين جميعا. فتدبر هذا فإنه نافع جدا. ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك. وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد. بل يسوغون الشرك أو يأمرون به. أو لا يوجبون التوحيد؛ وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة، أنفس الأنبياء وغيرهم، ما هو أصل الشرك. وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل. والتوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له وهذا شيء لا يعرفونه. فلو كانوا موحدين بالقول والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لا بد من أن يعبد الله وحده ويتخذ إلها دون ما سواه، وهذا هو معنى قول لا إله إلا الله. انتهى كلام الشيخ ٢.
فتأمل رحمك الله هذا الكلام فإنه مثل ما قال الشيخ فيه، نافع جدا، ومن أكبر ما فيه من الفوائد أنه يبين حال من أقر بهذا الدين وشهد أنه الحق وأن الشرك هو الباطل وقال بلسانه ما أريد منه، ولكن لا يدين بذلك إما بغضا له، أو عدم محبته كما هي حال المنافقين الذين بين أظهرنا، وإما إيثارا للدنيا
_________
١ كذا في جميع ما لدينا من النسخ الخطية ووقع في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام (أحوال بعض أئمتهم) .
٢ في نقض المنطق صفحة ١٧٧ طبعة مطبعة للسنة المحمدية.
1 / 299
مثل تجارة أو غيرها فيدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ ١ الآية. وقال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾ ٢ إلى قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾ ٣. فإذا قال هؤلاء بألسنتهم: نشهد أن هذا دين الله ورسوله، ونشهد أن المخالف له باطل، وأنه الشرك بالله، غر هذا الكلام ضعيف البصيرة. وأعظم من هذا وأطم أن أهل حريملا ومن وراءهم يصرحون بمسبة الدين، وأن الحق ما عليه أكثر الناس، يستدلون بالكثرة على حسن ما هم فيه من الدين، ويفعلون ويقولون ما هو من أكبر الردة وأفحشها. فإذا قالوا: التوحيد حق والشرك باطل، وأيضا لم يحدثوا في بلدهم أوثانا، جادل الملحد عنهم. وقال: إنهم يقرون أن هذا شرك، وأن التوحيد هو الحق، ولا يضرهم عنده ما هم عليه من السب لدين الله، وبغي العوج له، ومدح الشرك، وذبهم دونه بالمال واليد واللسان. فالله المستعان.
وقال أبو العباس أيضا في الكلام على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة. بل قال الصديق لعمر ﵄: "والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه" فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب. وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة، وهي مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة. وكان من أعظم فضائل الصديق
_________
١ سورة المنافقون آية: ٣.
٢ سورة النحل آية: ١٠٦.
٣ سورة النحل آية: ١٠٧.
1 / 300