ما أجمل الهدوء والسكون وما أحبهما للنفس. الساعة السادسة صباحا والباخرة لا صوت فيها، وصاحبي في الغرفة قد ذهب ليأخذ حمامه، وبقيت وحدي في هذا الوكر الضيق مطمئنا فوق المدينة السائرة.
بالأمس مررنا من مضيق بونفسيو ورأينا على الجانبين جزيرتي كورسكا وساردينيا، الأولى جدبة صخرية صفراء باقية على عهدها أيام ولد نابليون وعلى عهدها من قبله أيام قيصر والسالفين، والثانية أبعد عن القارب وأبعد عن الذهن لا يلتفت إليها أحد لأن الكل مأخوذ بصاحبتها.
فوق هذه الجزيرة الجرداء نما نابليون، بين هاته الصخور شب الإمبراطور، تلك الأرض الصغيرة أنبتت الرجل الكبير لينشر علمه على الارض وليذيع ذكرها في الخافقين، كذلك أنت يا كورسكا مسؤولة عن الدماء التي أراقها هذا الجلاد العظيم.
دق الباب ودخل صاحبي هاته اللحظة من حمامه فقطع علي سلسلة كتابتي.
صاحبي رجل طيب واسمه ع. ف. لا يلبث أن يرجع من حمامه حتى يفرد عباءته ويصلي، في حين أبقى أغلب الأحيان في سريري أو على الكنبة إلى جانبه حتى يناديني الخادم إلى دوري في الحمام ... ودوري من آخر الأدوار إن لم يكن آخرها.
أحسبنا اليوم ننزل مرسيليا؛ إذن ... الخادم يناديني للحمام، كيف ذلك؟ ... لأن كثيرين مشغولين بترتيب ما معهم فتركوا دورهم ...
ها نحن وصلنا.
13يولية
نزلنا مرسيليا صباح أمس بعد أن تركنا متاعنا لرجل من شركة توبن، خلصه حتى أنزله معنا في قطار المساء، وتمكن من أن يهرب لنا خمسمائة سيكارة بالاتفاق مع عامل الجمرك، ولقد تناول جماعة أصحابي من سمك (البويابس) في طعام غذائهم حتى لا تفوتهم أكلة مرسيليا الخاصة بها، ثم أخذنا عربة طفنا بها أنحاء المدينة وأزارتنا أماكنها الجميلة، دخلنا البرادو أكبر بستان في مرسيليا وجعلت العربة تسير بنا في جوانبه وتمر بنا من تحت أقبيته الخضراء كونتها الأشجار الكبيرة الفروع حتى تتقابل وتتداخل، ويتقن فيها البستاني فيصل إلى أعظم درجات الإبداع.
أما المينا نفسها فيما حول الكورنيش فيقف دونها الوصف، بيوت صغيرة منعزلة قائمة وسط زرقة البحر تصعد متدرجة فوق الربى وتحيط بها من كل جانب أشجار ونباتات تجعلها في وحدتها فريدة لا يداني جمالها جمال، وأمامها زرقة المتوسط وسماؤه الصافية، ومن حولها يأخذ بالعين الجو العظيم تظهر فيه عن بعد بيوت أخرى وهضاب وأشجار
Halaman tidak diketahui