وكان هذا الرجل واحدا من كثير من أمثاله ليس عندهم من الهمة ما له، فانتظروا قريبا من الشاطئ وهجموا جميعا على الباخرة دفعة واحد، ومن بينهم فتيان صغار وفتيات عليهن أثر الجمال استلفتن إليهن المسافرين وأخذن منهم ما جادوا به.
ألقت الباخرة رواسيها ونزلنا المدينة مع دليل يعرف العربية ساقته الصدفة، فبعد أن طردنا شرذمة من الأولاد الذين أحاطوا بنا يطلبون إحسانا باسم المكرونة، اخترنا عربتين من بين كثير مصطفة على جانبي الطريق، عربات متسعة لا تضيق الواحدة منها بخمسة أشخاص أو ستة، لكنها قديمة بالية مقطوع جوخها قذر داخلها وخارجها، فلما كنا عندها اتجهت إلينا أنظار الحوذية وهم جميعا وقوف إلى جانب خيولهم المشتغل بعضها بطعامه والآخر بدفع الطير عن جسده، بعد مداولة قصيرة أخذنا عربتين من بينها، كان معي في العربة صديقي ب. وآخرون، وقد اشتغلت عنهم بالنظر عن يميني ويساري إلى المباني الفادحة الارتفاع وإلى الشوارع الجميلة التنسيق.
وصلنا إلى شوارع متسعة تدل حالها وعلائم السكون البادية عليها أن الناس بها أرقى حالا، وجعلت تتكرر أمامنا فيها وفي كل ميدان وعلى باب كل بناء عظيم التماثيل المختلفة لا نعرف عنها شيئا فلا نفهم لها معنى، ولما كان الدليل في العربة الثانية مع أصحابنا استفسرنا حوذينا فابتدأ بذلك فصل مضحك: حوذي يرطن بالتليانية يريد أن يفهم شبانا لا يفهمون من كلامه كلمة.
زرنا الجالريا والأكواريم، الأولى متحف التماثيل والأخرى مجتمع أغرب الأسماك مما لا يخطر في البال إن لونا أو شكلا أو حركة
1
ورجعنا بعد ذلك إلى سوق المدينة بقينا به حتى تناولنا عشاءنا فأخذنا من (الأسباجتي) ما ضاقت دونه بطوننا ثم قمنا إلى المركب فوصلناها قبل موعد سفرها بنصف ساعة.
أبحرت الباخرة الساعة العاشرة مساء فتجلت ميناء نابولي تأخذ بالأبصار القلوب، قامت صفوف الأنوار في نصف دائرة بعضها فوق بعض تطوق بحر المرفأ وتطرح على الماء الهادئ اللابس كساء الليل خيوط النور والذهب تبعث إليه الحياة والجمال وتبين صاعدة من أعماقه مرتقية تتدرج إلى أعالي المدينة وتلاقي هناك عند مرمى النظر نجوم السماء.
وكلما ابتعدنا عنها اقتربت من بعضها حتى صارت عقد جيد الأفق، ثم أخذت الباخرة طريقا آخر وابتلع الليل المرفأ في دجنته.
يقول الإيطاليون: «زر نابلي ثم مت.» أصحيح ما يقولون؟
12 يولية
Halaman tidak diketahui