Pengasas Mesir Moden
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة
Genre-genre
وظل معتمدو الدول ينظرون إلى هاتيك الحوادث دون أن يستطيعوا التكهن بما سوف تؤدي إليه من العواقب. ولقد راجت بعد مرور جيلين من وقوعها إشاعة، ربما كان باعثها الرغبة في استدرار السخاء الخديوي بأن ليسبس المعتمد الفرنسي أدرك عبقرية محمد علي من بداية الأمر، وأنه ساهم في ارتفاعه بما كان يبذله له من النصائح. ولكن توجد إلى جانب هذه الرواية الخيالية أقوال ليسبس نفسه لتليران عن محمد علي، فقد قال: «لست أظن أن محمد علي له من العبقرية ما يجعله يفكر في المشروعات الكبرى، ولو سلمنا جدلا أنه فكر فيها فليس لديه من الوسائل ما يمكنه من تنفيذ ما يفكر فيه.» من أجل هذا فإن ليسبس لم يكن يشجع هذا الزعيم ذا العبقرية المحدودة أو يميل إليه. كلا؛ بل كان ميله إلى البيكوات المماليك الذين كان يظن أن دعوتهم إلى كراسي الحكم سوف يتبعها ازدياد النفوذ الفرنسي.
19
وكان المعتمد البريطاني المأجور ميسيت معذورا في وقوعه ضحية لهذه الأماني الخداعة. على أن حوادث سنة 1905م كان لها الفضل كل الفضل في جلاء الموقف؛ فإن أهالي القاهرة بعد أن دفعهم المماليك إلى أحضان الجوع والفاقة، وبعد أن التهمهم الباشوات أخذوا ينفرون واشرأبت أعناقهم إلى الزعيم الألباني يرجون منه إنقاذهم من ويلاتهم. ولعلك تجد الباعث على هذا القلق في أعمال التحريض الماهرة أكثر مما تجده في الاعتراف بالجميل الناشئ عن الوجدان النفسي؛ فإن محمد علي - كما حدثنا المؤرخ العربي المعاصر - قد توثقت عرى الصداقة بينه وبين أحد العلماء، كما أنه كان يختلف خفية إلى داره ليتملقه، ويؤكد له أنه لو كان أمر مصر بيده لأدار دفة الحكم بالعدل ولاتبع ما يشير به عليه الزعماء الدينيون من الآراء والنصائح.
ومن ثم بدأ محمد علي بإعداد أنصار له في المدينة نفسها، وهي التي حاول خورشيد باشا عبثا أن يسيطر على مصائرها باحتجاز عالمين من علماء الدين كضمانة في يده.
ولم يكن بينهما العالم صديق محمد علي، ثم شرع في الوقت نفسه يأتي بالإمدادات من سوريا ليستغني بها عن معونة الألبانيين، فكان في حضور هذه الإمدادات إلى مصر فصل الخطاب؛ ذلك لأنه تبين أن قائدهم هو شقيق أحد الذين اشتركوا في اغتيال حياة طاهر باشا. وقد برهنت هذه الإمدادات على أن نظامها دون نظام الألبانيين أو المماليك بمراحل، وهنا راجت سوق الإشاعات المقلقة في الخارج عن مسلك هذه الإمدادات، ورويت روايات تقشعر منها الأبدان عن كيفية وصولها إلى القرى، وطردها السكان من مساكنهم، واعتدائها على عفاف نسائهم، ثم قتلهن بعد ذلك واختطافها الأطفال. على أن هذه الأقاصيص - إذا حكمنا بما راج من مثيلاتها في الجهات الأخرى - لم ينقص منها شيء أثناء ترديدها، ثم إن ما تضمنته من المبالغات لم يضعف من تأثيرها الأدبي. ومن ثم استولى الذعر على أهالي القاهرة من أقصاها إلى أقصاها، وأغلق الأزهر أبوابه، وخلت الأسواق من السابلة، وأصبح المرء لا يجرؤ على مغادرة داره إلا وهو يشعر بأنه يحمل حياته على كفه.
وكان محمد علي عند وصول هذه الإمدادات التي قضت مضاجع الأهلين بسلوكها الوحشي متغيبا عن القاهرة في غزو المماليك ومشتغلا بتشتيتهم، فلم يلبث أن عجل بالعودة. ولم ينقض أسبوع حتى دخل العاصمة على رأس 4000 جندي، زاعما أن الباعث له على دخول المدينة هو للحصول على مرتبات رجاله؛ وهي حجة سرعان ما صادفت نقطة حساسة في أنفس الإمدادات بصفتها مكونة من جنود أتراك. وفي يوم التاسع من شهر مايو كان الأمر قد التبس على خورشيد، فلم يدرك مغزى مجيء محمد علي، فانتهز فرصة عودته لإعلان الفرمان الشاهاني القاضي بإعطائه متصرفية جدة. ولقد كانت هذه الإشارة اللبقة المقترنة برغبة التملق الموجهة للزعيم الألباني بأن وجوده في مصر بات غير مرغوب فيه كافية لأن يبت محمد علي في الموقف بسرعة؛ فبينما كان خورشيد يتأهب للعودة إلى داره في القلعة إذا بالجنود الألبانيين يحيطون به ويستحثونه لدفع مرتباتهم، موجهين إليه تهمة الاستغناء عن جباية الإيرادات العامة، ثم أخذوا يهددونه بالقتل العاجل إن لم يدفع هذه المرتبات. وهنا تقدم أحد الضباط الألبانيين ليدرأ عنه عنف الجنود، وبينما كان خورشيد يعمل على التخلص من ذلك الموقف الحرج كان الشعب بإرشاد العلماء ينادي بمحمد علي واليا على القاهرة.
20
وأخيرا، تمكن خورشيد من الفرار إلى القلعة، ومنها حاول تصويب مدافعه على المدينة لإخضاعها، ولكن طوبجية الأتراك فشلوا في تحقيق هذه الغاية، ولم تؤد محاولتهم إلا إلى إهاجة الأهالي لا إزعاجهم.
ثم تقدم العلماء معتمدين على تأييد الألبانيين بسلسلة مطالب. ولقد كانت الحكمة في نظر القوم تقضي وقتئذ - كما تقضي الآن - بأنه في المساومات السياسية، كما في المساومات التجارية سواء بسواء، ينبغي أن تبدأ بطلب ما تعتقد أنه المستحيل. وجريا على هذه الحكمة طلب العلماء بأن تعسكر الجنود من ذلك الوقت فصاعدا على ضفة النهر الغربية، أي في جهة الجيزة، وألا يسمح لأي جندي مسلح بدخول العاصمة، وألا يكلف الأهالي بتقديم الإعانات.
21
Halaman tidak diketahui