كلمة الترجمة
مقدمة
1 - محمد علي وارتفاع شأنه
2 - عماد الإمبراطورية
3 - عماد الإمبراطورية
4 - مسألة الجزائر وفتح سوريا
5 - فكرة إنشاء إمبراطورية والطرق البرية
6 - الحرب السورية الثانية وحبوط تدابير محمد علي
7 - حكم محمد علي في مصر
8 - آثار حكم محمد علي في جزيرة كريت وسوريا
الخاتمة
كلمة الترجمة
مقدمة
1 - محمد علي وارتفاع شأنه
2 - عماد الإمبراطورية
3 - عماد الإمبراطورية
4 - مسألة الجزائر وفتح سوريا
5 - فكرة إنشاء إمبراطورية والطرق البرية
6 - الحرب السورية الثانية وحبوط تدابير محمد علي
7 - حكم محمد علي في مصر
8 - آثار حكم محمد علي في جزيرة كريت وسوريا
الخاتمة
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي
مؤسس مصر الحديثة
تأليف
هنري دودويل
ترجمة
أحمد محمد عبد الخالق
علي أحمد شكري
كلمة الترجمة
إذا قلنا مصر الحديثة فقد قلنا الأسرة العلوية المجيدة، وفي طرفها الأول محمد علي الكبير، وفي طرفها الثاني جلالة الملك فاروق الأول حرسه الله. وليس يسع المؤرخ إلا أن يعجب حقا بما يبذله جلالة الجالس على عرش مصر من همة مقطوعة النظير لإتمام المهمة التي اضطلع بها أبوه العظيم ساكن الجنان الملك فؤاد الأول، وهي كشف ما يحيط بتاريخ مصر من غموض ولبس؛ ليظهر جليا واضحا للعالم أجمع، فيتسنى للأجيال المصرية المقبلة أن تشرب من هذا المعين الصافي، وتحمد لأسرة محمد علي ما قدمته من خدمات صادقات حولت مصر من ولاية تركية متواضعة الأهمية إلى مملكة مستقلة ذات سيادة، يحسب حسابها وينزل على رأيها. ويضيق المقام إذا أراد الباحث أن يأتي على كل ما عمله الملك الراحل في سبيل نشر تاريخ مصر. وإليك بعض ما أمر جلالته بوضعه من الكتب الفذة: (1)
فلقد أوصى الكاتب الفرنسي الكبير المسيو هانوتو بوضع كتاب عن تاريخ الأمة المصرية يقع في سبعة مجلدات ضخمة. (2)
عهد إلى المسيو دريو بوضع تاريخ مصر والدول الأوروبية العظمى (1839-1841)، ويقع في خمسة مجلدات. (3)
مختصر تاريخ مصر (من عهد ما قبل التاريخ إلى العصر الحاضر)، وهو من وضع فريق من المؤلفين الممتازين، ويقع في ثلاثة مجلدات. (4)
تاريخ الغزوات الحربية لمحمد علي وإبراهيم، وهو بقلم الجنرال فيجان القائد الفرنسي المشهور. (5)
تاريخ الغزوات البحرية لمحمد علي وإبراهيم، تأليف الأميرال دوران فييل. (6)
تاريخ ساكن الجنان إسماعيل، بقلم المسيو جورج دوران، وهو في 5 مجلدات. (7)
كتاب الفن المصري في خلال العصور المختلفة، وقد ظهر أخيرا في مجلد واحد. (8)
مؤلف مصور عن مصر من وضع الأستاذين بواسونلس وترامبلييه. (9)
وأخيرا هذا الكتاب الحاضر الذي نترجمه للقراء عن تاريخ محمد علي الكبير بقلم الأستاذ هنري دودويل مدرس التاريخ بجامعة لندن.
ولهذا الكتاب أهمية خاصة؛ فإن مؤلفه لم يدخر وسعا في الاطلاع على كثير من المستندات الرسمية ذات القيمة التاريخية في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، كما استطاع فوق ذلك الاطلاع على بعض التقارير المحفوظة في وزارة الخارجية البريطانية، وهي التي أرسلها القناصل الإنجليز في مصر إلى دولتهم.
يضاف إلى هذا أن الأستاذ دودويل كان قد هبط إلى مصر حيث أسعده الحظ بالتشرف بمقابلة جلالة الملك فؤاد، فتفضل جلالته بأن أذن له بالاطلاع على بعض الخطابات والأوامر التي كان محمد علي قد أصدرها إلى كبار موظفيه. •••
ويسير جلالة الفاروق على غرار أبيه العظيم؛ فجلالته لا يلقي اهتمامه إلى التاريخ فحسب، بل أصبح بحق راعي الحركة العلمية والثقافية في وادي النيل، بل لا يكاد أي مشروع يرمي إلى تقدم مصر يخلو من تعضيد الفاروق ومناصرته، وليس إنشاء جامعة فاروق الأول في الإسكندرية في أثناء حرب عالمية واتجاه النية إلى إنشاء جامعة أخرى في أسيوط بالشيء الهين. والآن وقد انتهت الحرب في القارة الأوروبية، فلسوف يشهد العالم العجب العجاب من آثار نشاط الفاروق - حرسه الله - في السير بوادي النيل في معارج الفلاح في كافة نواحي التقدم والعمران.
ولما كانت مصر الفاروق قد أخذت تتبوأ مكانة ممتازة ليس بين الشعوب العربية الشقيقة فحسب، بل وبين الدول الأوروبية؛ نظرا لموقعها الجغرافي ومركزها الثقافي - وها هو صوتها يدوي في المؤتمرات الدولية - فقد رأينا واجبا علينا أن نخرج للقراء هذا الكتاب النفيس عن الجد الأعلى للفاروق، مستعينين بالله تعالى، فمنه الهداية والتوفيق.
المترجمان
مقدمة
ليس ما سنعرضه أمام القارئ في كتابنا هذا سوى محاولة لاجتناب ما جرى عليه الكتاب الفرنسيون من التقاليد، من جعل الشخص الذي يترجمون له «بطلا»، وما ألفه الكتاب الإنجليز من جعل من يكتبون عنه «وغدا جبانا»، بل جعلت همي أن أتحقق مما قام به محمد علي؛ وذلك بتقصي ما يوجد من المادة الأساسية الأصلية، وهي مهمة أصبحت في السنوات الأخيرة من وجوه عديدة أسهل بكثير مما كانت في الماضي.
فلقد نشرت الجمعية الجغرافية في مصر تحت رعاية جلالة الملك فؤاد الشيء الكثير من المعلومات الجليلة، وما نشرته باللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية يعتبر على جانب عظيم من الأهمية وله قيمته الكبيرة.
ولم أقتصر على دراسة هذه الوثائق، بل قد اطلعت بالتفصيل على ما كتبه ممثلونا من التقارير المحفوظة ضمن أضابير وزارة الخارجية البريطانية ووزارة الهند، هذا إلى أنني قد تمكنت بفضل معونة الأستاذ قطاوي من الإفادة من تقارير القناصل العموميين الروس، وهي التقارير التي لم تنشر إلى يومنا هذا، وبخاصة تقارير الكونت ميديم معتمد روسيا، وقد كتبها في أحرج الأوقات التي مرت بمحمد علي.
كذلك استطعت أخيرا بفضل إذن جلالة الملك فؤاد أن أدرس طائفة قيمة من الخطابات والأوامر التي أصدرها محمد علي لكبار موظفيه.
وليس يسعني في هذا المقام إلا أن أنوه بما أسداه إلي من المعونة المشكورة كل من المسيو رينيه ويوسف جلاد بك (باشا)؛ فإنهما لم يضنا علي بمساعدتهما القيمة، كلما احتجت إليهما أثناء قيامي بمهمتي في القاهرة.
على أنني أشعر بأنني مدين للمسيو جورج دوين والأستاذ ل. م. ينسون؛ فلأولهما بسبب الانتفاع العظيم بالمجلدات القيمة التي كتبها للمجموعة التي نشرتها الجمعية الجغرافية الملكية في مصر، ولثانيهما لتفضله بقراءة مسودات الكتاب الحالي وتقديم ما عن له من الملاحظات النافعة.
هنري دودويل
الفصل الأول
محمد علي وارتفاع شأنه
لا يزال معشر أبناء الجيل الحالي يميلون إلى الاستخفاف بقوة أجدادنا في القرن الثامن عشر، وازدراء ما كان في أساليبهم من الخبرة والابتكار. فآدابهم الرسمية، وأزياؤهم المبرقشة، وأراجيزهم الحماسية، ورواياتهم الرقيقة الخيالية، وتواريخهم الشخصية؛ كل هذا يشعر بنهاية الدنيا القديمة أكثر مما يشعر ببداية دنيا جديدة. وعلى الرغم من هذا، يتعذر علينا المبالغة في مقدار ما نحن مدينون لهم به من الدين الحديث؛ فهؤلاء الأجداد لم يقتصروا على أن خلفوا لنا آراء معينة عن حب الإنسانية، ونظريات واضحة عن النهضة والرقي، بل تركوا لنا كذلك طريقة استخدام البخار في الصناعات، كما خلفوا لنا انقلابا في فنون الحرب، وهما النقطتان العظيمتان اللتان دارت حول محورهما آراؤنا وتاريخنا الحديث. وفي الواقع أن أجدادنا قد أحدثوا انقلابا كليا في موارد القوة، كانت نتيجته انهيار صرح الإمبراطوريات الكبرى وفشل ريحها؛ لأن القوة لم تعد قاصرة على سلالة أولئك القبائل الرحل الذين اندفعوا شرقا وغربا وجنوبا، وأخذوا يندفعون من براري روسيا الوسطى تجر في أذيالها مظاهر الخراب والقسوة. بل صارت الآن ملكا للشعوب التي تستطيع بما لديها من جنود المشاة المنظمة أحسن تنظيم أن تصمد بلا خوف ولا وجل في وجه أي قوة من الجنود الراكبة، بل أصبح في وسعها بفضل ما لديها من مدافع الحصار الضخمة أن تشق طريقا لنفسها وسط الأسوار مهما بلغت مناعتها وقوتها، كما أنها بفضل مدافع الميدان تقدر على تشتيت ما قد يستطيع الجنود الآسيوية الراكبة أن تحشده من التجمعات.
وبالجملة، لم ينته القرن الثامن عشر حتى كانت الولايات الهندية قد ذاقت الأمرين من فعل السلاح الجديد، وأخذت تطأطئ رأسها أمام شدة فتكه. هذا بينما كان الأتراك في الشرق الأدنى قد عجزوا عن مقاومته، وهم الذين كانوا قد تمكنوا قبل ذلك بكثير من اختراق جبال الكربات، وكادوا أن يستولوا على فيينا نفسها، وبدءوا ينسحبون أمامه؛ ومن ثم شرعت جنودهم تنجلي باستمرار عن المقاطعة تلو الأخرى وينتزع منهم الإقليم بعد الإقليم، بل إن قبضتهم على الآستانة أخذت تضعف رويدا رويدا. وكان بديهيا أن تنشأ عن ازدياد الشعور بالضعف العسكري جملة عواقب أدبية لها أثرها السيئ؛ ذلك لأنه كلما تلاشت الثقة بالنفس ازدادت الثقة المتبادلة انهيارا وضعفا. فقد تزعزعت ثقة الصاري عسكر - أو القائد العام - بمعاونيه من الضباط الذين كانوا بدورهم يرتابون فيه، ثم إن الآستانة أخذت تضمحل بشكل ملموس، وهي التي كانت يوما ما حصن الإسلام الحصين وركنه الركين، والتي أقيمت عليها المساجد في الماضي ذكرى لذلك الدين، لا بل إنه حتى المسيحيون المحتقرون الذين لبثوا القرون الطويلة وهم قانعون بحرث الأرض وأداء الجزية عن يد وهم وهم صاغرون - كما كان يفعل الرعايا الهندوس في دلهي - قد بدءوا يرفعون رءوسهم ويتهامسون بالاستقلال. وأصبح شأن باشوات السلطان كشأن أمراء الهند إبان سطوة إمبراطورية المغول لا ينفذون من الأوامر إلا ما يكفل لهم الربح ويعود عليهم بالمنفعة، ولم تكن «بشالك» بغداد ودمشق والقاهرة سوى ولايات تابعة في الاسم فقط.
علاقة مصر بتركيا
ذاقت ولاية مصر الكثير من مساوئ الحكم التركي في خلال العصور الطويلة، ولم تكن علاقاتها بالإمبراطورية يوما ما وثيقة حتى منذ الفتح العثماني في عهد السلطان سليم، بل لقد تركت غنيمة باردة يستبد بها من فروا من مذبحة المماليك، وأقاموا أنصع البراهين على نذالتهم وجبنهم بهجرهم لمولاهم. نعم؛ كان يشرف على أعمالهم أحد الباشاوات الذي تعينه حكومة الآستانة، وهذا الباشا الوالي نفسه كان عرضة للاستبدال من آن لآخر؛ لأنه لم يكن حاكما إلا بالاسم فقط لأن البيكوات وهم رؤساء المماليك وزعماؤهم قصروا مطامحهم على تحقيق اللبانات الشخصية الخاصة، بينما كان أتباعهم - وهم خليط من رقيق الجراكسة والكرج - يدربون على تأليف قوة من الجنود الراكبة غير النظامية. وفي الواقع، كانت هذه القوة أشجع وأسمى قوة راكبة غير نظامية في كافة أنحاء العالم، وكانت نفوس البيكوات تتطلع لاقتفاء الأشياء التي تهم ذواتهم. مثال ذلك أن الخراج الذي ينتزعونه من البلاد كان يذهب في ابتياع الثياب الزردية الفاخرة، وملء الإسطبلات بأفخر الجياد العربية، وتزيين القصور بأثمن السجاد الشرقي، وجلب أجمل بنات الرقيق إلى الحريم ووضعهن تحت حراسة الخصيان العبيد.
وقد غاضت موارد مصر وتلاشت بسرعة في عصر هؤلاء المحاربين السخفاء؛ فالترع التي لم يكن للزراعة حياة بدونها أصبحت مسدودة بسبب الإهمال، وبينما كان العمران يتلاشى في المدن كانت الصحراء تطغى على الجهات التي كانت يوما ما آهلة بالسكان. ثم إن الإسكندرية تدهورت إلى مدينة صغيرة لا يزيد عدد سكانها على 5000 نسمة بعد أن كانت ميناء عظيمة زاهية بتجارتها ومصنوعاتها. وكثيرا ما شن البدو الرحل الغارة على الجهات المسكونة، ولم يكن يخطر لأية قافلة من القوافل أن تقطع الطريق من السويس أو القصير إلى القاهرة في أمان إلا إذا كانت مصحوبة بقوة كبيرة من الحرس العسكري، وبالجملة فإن مصر في عهد المماليك كان مثلها كمثل السند في عهد الأمراء المغول سواء بسواء.
وقد أدى ظهور الأتراك العثمانيين إلى العدول عن طريق التجارة القديمة بين بغداد والخليج الفارسي أو بين الإسكندرية والبحر الأحمر، وهي التي كانت خلال العصور الطويلة وسيلة لنقل الجزء الأكبر من التجارة بين الشرق والغرب. ولكن حوادث الهند في أواسط القرن الثامن عشر اقتضت إيجاد وسائل للمواصلات مع أوروبا تكون أكثر سرعة من طريق رأس الرجاء الصالح.
فمشروعات «دبليه»، وأعمال «كليف»، ومعارك «وارن هاستنجز»، مضافا إليها مسألة المسائل؛ وهي: هل تحكم الهند بحيث يكون الإشراف على تجارتها بواسطة لندن أو باريس، كل هذه الشئون تطلبت اتخاذ قرارات عاجلة وإرسال الإمدادات على جناح السرعة، ومن ثم أصبحت لشئون مصر وسوريا والعراق أهمية عظيمة في نظر الدولتين الأوروبيتين المتنافستين.
وكان من عادة شركة الهند الشرقية الإنجليزية من عهد بعيد إذا أرادت إرسال بريد مستعجل إلى الشرق أن ترسل رسلها برا عن طريق حلب فبغداد، على أن يستقلوا السفن عند رأس الخليج الفارسي، ولكن هذا الطريق لم يكن مأمونا بحال ما؛ بسبب ازدياد القلاقل في «بشلك» بغداد من ناحية، وبسبب غارات القبائل البدوية المتوالية من ناحية أخرى. على أن الطرود التي كانت ترسلها الشركة لم تكن تحتوي على ما يمكن أن يسيل لعاب البدو أو يحرك شهواتهم، ولكنهم حتى وإن اعتقدوا أن الرسول لا يحمل في جعبته قسطا كبيرا من المال؛ فإنه كثيرا ما كان يعن لهم أن يتسلوا بقتل ذلك «الكافر».
ومع أن كثيرا من الطرود وصلت سالمة إلا أن حاملها كان عرضة للقتل أو على الأقل لأن يرغمه البدو على إتلاف أوراقه.
1
على أنه كانت هناك طريق أخرى عدا هذه الطريق بواسطة مصر ثم البحر الأحمر، وكان في اتباع هذه الطريق فائدة لا يستهان بها؛ وهي تقصير مدة السفر في المنطقة التي تقطنها القبائل الرحل من القاهرة إلى السويس. وليس من ريب في أن السفر بهذه الطريق كان يكفل انتظام الطريق وسلامته، بشرط الاتفاق قبل ذلك مع البكوات المماليك في مصر، فلما هبط الرحالة «جيمس بروس» إلى وادي النيل في سنة 1768م وجد علي بك حاكم مصر الفعلي رافعا راية العصيان علانية ضد الأتراك وشديد الميل لمصادقة «الكفار»؛ ليأمن بمساعدتهم له شر الاعتداء التركي، وقد كان من الذكاء، بحيث أقول بأنه سيتمكن بتشجيعه التجارة من زيادة إيراداته. وسرعان ما وجدت اقتراحات بروس المؤيدة من التجار الطليان المقيمين في الإسكندرية ظهيرا في الاقتراحات المقدمة مباشرة من القباطنة الإنجليز الذين رءوا تدهور التجارة في البحر الأحمر، فتصوروا أنهم قد يجدون لبضائعهم الواردة من البنغال سوقا رائجة في القاهرة.
وكان لعلي بك من الاهتمام بالموضوع أنه بعث بخطاب إلى ولاة الأمور الإنجليز في البنغال، مقترحا عليهم أن يفتحوا طريقا للتجارة مع السويس رأسا، وتحدى أوامر السلطان بأن لا يسمح لأي سفينة مسيحية بالاقتراب من الموانئ الواقعة في شمال جدة.
2
وعندما أصبح «وارن هاستنجز» حاكما لقلعة وليام في سنة 1772م أدرك فورا بثاقب رأيه ما عسى أن تفيده البنغال من قبول الاقتراحات المذكورة، وقد أرسلنا فعلا بإرشاده عدة قوافل تجارية، وهكذا إلى أن عقدت اتفاقية مؤقتة تعهد بها خلفاء علي بك بأن يضمنوا سلامة البضائع عند إرسالها من السويس إلى القاهرة.
3
على أن هذه الترتيبات لم ترتج لها شركة الهند الشرقية ولا السلطان الذي كان قد استرد بعض سلطته القلقة على مصر، فأما الباب العالي فقد خشي على موارد الحجاز من أن تتأثر فيما لو تحولت التجارة الهندية من جدة إلى السويس، وأما الشركة فقد كان تخوفها من أن يؤدي نشاط الحركة التجارية عن طريق مصر إلى الإضرار بما لديها من امتياز تصدير البضائع المهربة من الهند إلى أوروبا عن طريق البحر المتوسط.
وكانت نتيجة ذلك كله أن الشركة أصدرت في سنة 1777م أمرها بمنع إرسال السفن المشحونة بالبضائع إلى إحدى الموانئ الواقعة في شمالي جدة، ولكنها حصلت في الوقت نفسه من الباب العالي على وعد شفوي بأن يسمح لبريدها وطردها باجتياز الأراضي المصرية مجانا.
ولم تكن لهذا التدبير نتيجة أصلا؛ إذ لم يكن لا بوسع الشركة ولا الباب العالي تنفيذ هذه الأوامر حرفيا، فإن حق إرسال الطرود أسيء استعماله، وكان وسيلة لنقل البضائع المغشوشة؛ مما ترتب عليه إلقاء القبض في سنة 1779م، ثم في سنة 1780م على حاملي الطرود الإنجليزية وأودعوا السجن.
4
وأظهر الفرنسيون في الوقت نفسه أشد الاهتمام بما يمكن أن يؤدي إليه طريق مصر من الاحتمالات، فلقد كانت الطريق المذكورة تبشر في نظرهم بفوائد طائلة؛ لأنها من الوسائل المؤدية إلى تقليل شأن السيادة البحرية البريطانية تلك السيادة التي كان لها أسوأ تأثير في سير حرب السنوات السبع.
فلو تحول الشطر الأكبر من التجارة الهندية إلى طريق البحر المتوسط، فلن يقتصر الأمر على إفادة التجار الفرنسيين فوائد جسيمة، بل إن واجبات الأسطول الفرنسي تقل كثيرا عما عليه. ومما شجع على التعلل بهذه الأماني ما كان يلوح على الإمبراطورية العثمانية من علامات الاضمحلال والفناء، فإن شاءت الأقدار أن تتلاشى تلك الإمبراطورية؛ فإن جيرانها كروسيا والنمسا لا محالة تجنيان فوائد جسيمة في الحال. ولكن هذه الفوائد - كما لاحظ الفرنسيون في سنة 1873م - قد تصبح لا قيمة لها باحتلال الفرنسيين لمصر، على أنه كان يوجد رأي آخر له قيمته من حيث إنه يمكن تطبيقه عمليا فورا ألا وهو عقد محالفة مع البيكوات، وهو ما حدث فعلا.
ففي أوائل سنة 1785م توصل أحد المندوبين الفرنسيين إلى توقيع عدة اتفاقات مع البيكوات ومع العميل الأساسي، ومع أحد زعماء البدو على نقل البضائع الفرنسية في أمان في مقابل شروط مرضية، فكان مثل هذه الاتفاقات كمثل المعاهدة المؤقتة التي وصفها «وارن هاستنجز» بمعنى أنها أقامت الدليل ناصعا على قلق الموقف المصري، فلم يكتف الباب العالي برفض إبرام المعاهدة الفرنسية، بل عمل على تدعيم سلطته المزعومة على مصر.
وكانت النتيجة المباشرة أن الخطر الذي كان يهدد مركز الإنجليز في الهند تلاشى مؤقتا، ولكن كان لا يزال هناك احتمال بأن الفرنسيين قد يخطر لهم يوما من الأيام أن يوطدوا أقدامهم في مصر إما بالقوة أو بطريق المفاوضات، ومن ثم أخذنا نحتذي حذو الفرنسيين؛ فإن جورج بلدوين الذي لعب دورا مهما في مشروعاتنا الأولى عين قنصلا عاما، وصدرت التعليمات بأن يعقد مع البيكوات معاهدة كالتي عقدت بينهم وبين الفرنسيين، ولكن عودة النفوذ التركي بعد اضمحلاله جعل عقد هذه المعاهدة أشق مما كان ينتظر، وانقضى عام وتلاه عام آخر، ولاحظت وزارة الخارجية أن بلدوين كان يتقاضى سنويا مرتبا قدره 1400 جنيه دون أن يصنع شيئا.
ومن ثم قرر غرنفيل سنة 1793م إلغاء هذا المنصب أو أن تقوم الشركة الهندية بدفع مرتبه إذا كانت ترى ضرورة وجود بلدوين في مصر، وما كاد غرنفيل يقرر هذا حتى جاءت الأنباء سراعا بأن بلدوين قد نجح بعد طول الجهد في توقيع المعاهدة المطلوبة.
ولكن رجال الوزارة وقتئذ ما عدا «دنداس» أخذ اهتمامهم يتحول كلية عن مصر؛ بسبب الخطر المباشر الذي نشأ عن وقوع الثورة الفرنسية، ولكن سرعان ما دفع الفرنسيون أنفسهم إلى الاهتمام بشئون مصر؛ ذلك أن عوامل عديدة أجمعت في شتاء 1797م و1798م على تجهيز حملة عسكرية وإرسالها إلى الشرق.
وقد نمى إلى غرنفيل في فصل الربيع أن دور الكتب التابعة للحكومة قد فحصت فحصا دقيقا لاستيعاب ما فيها من الكتب الخاصة بالرحلات إلى مصر وإيران والهند، وأن الحكومة الفرنسية قررت الانتفاع بخدمات علمائها ممن لهم دراية بتاريخ العرب والترك والفرس، وأن الحملة جعلت غايتها احتلال مصر وشق الطريق عبر برزخ السويس.
نعم؛ لم يكن أحد يعرف وقتذاك إلى أي حد يمكن أن ينظر الإنسان إلى هذا المشروع نظرة جدية ولكن «دنداس» عده «مشروعا فائقا خيرا»، هذا بينما أن حاكم كلكتا العام رأى من قبيل الاحتياط لإحباط هذا المشروع سلفا أن يجهز على السلطان «تيتو» أو يكبح جماحه قبيل أن يوفق بونابرت بفضل مضاء عزيمته وجسارته إلى إيجاد وسيلة لإمداد السلطان بفرقة من الجنود الفرنسية. أما في إنجلترا فقد استقر الرأي على حشد أكبر عدد ممكن من السفن لتشتيت الحملة التي تجمعت في ميناء طولون كائنا ما كانت الغاية التي ترمي إلى تحقيقها. وبهذه المناسبة كتب «جون ننجتون» وكان صادقا فيما كتبه «أن إنجلترا لم يسبق لها اتخاذ قرار حكيم كهذا مقرونا بمثل هذا الحماس العام.»
وفي 19 مايو غادر نابليون ثغر طولون على رأس قوة تبلغ 38000 جندي، وفي 12 يونيو سلمت له مالطة سلاحها، ولم يحن آخر الشهر المذكور حتى ألقى نابليون مراسيه في الأراضي المصرية بالقرب من الإسكندرية، فاحتل المدينة من فوره وبدأ زحفه إلى الجنوب. وفي 18 يوليو أنزل بالمماليك هزيمة ماحقة في معركة الأهرام بالقرب من القاهرة، ثم دخل إلى العاصمة في 24 يوليو، وبعد ثمانية أيام التقى الأميرال نلسن بالعمارة الفرنسية فأجهز عليها في خليج أبي قير بعد أن قضى الأسابيع الطويلة يجد في اقتفاء آثارها.
ومن ثم بدأت تظهر للعيان آثار السيادة البحرية؛ ذلك أن نابليون بعد أن انقطعت عنه المؤن والإمدادات، بل والأنباء التي يمكن أن يكيف حركاته على ضوئها، قد تمكن بفضل عبقريته في التنظيم من إنشاء حكومة، وأن يسترضي الزعماء الدينيين في القاهرة، ويقمع الفتن ويضع البلاغات الطنانة. نعم؛ كان عليه أن يفعل ذلك كله، ولكنه كان في أعين الفرنسيين كمن يحرث أرضا مجدبة في حاجة إلى الماء، ولقد حاول شق مخرج لنفسه عن طريق سوريا، ولكن سفن أعدائه كانت قد نقلت إلى عكا المؤن والإمدادات بزعامة قائد محنك تمكن من القضاء على ما بذله الفرنسيون من الجهود الفريدة لاحتلال ذلك المكان.
ولئن طنطن نابليون أمام سكان القاهرة بأنه دك أسوار عكا وترك المدينة قاعا صفصفا؛ فإن ذلك لم يغير شيئا من الواقع، وهو أن الهزيمة حلت به ودارت الدوائر على مشروعاته الضخمة.
وأخيرا، اضطر إلى الإذعان أمام منطق الحوادث، فتخلى عن جيشه في مصر وانقلب راجعا إلى فرنسا في يوم 22 أغسطس سنة 1799م، تاركا مكانه في القيادة ل «كليبر» الذي كان على حق في التبرم بمنصبه هذا والارتياب فيه؛ فإنه ما كاد يسمع باقتراب الجيش التركي حتى شرع في مفاوضة السير سيدني سمث الذي كان يقوم بالدفاع عن عكا. وفي 24 يناير سنة 1800م عقد اتفاق العريش الذي نص على جلاء الجنود الفرنسية عن الأراضي المصرية والعودة إلى بلادها في السفن التي يجمعها ولاة الأمور الأتراك لهذا الغرض.
ولكن بينما كان هؤلاء مشتغلين بجمع السفن المطلوبة بما عرف عنهم من حب التراخي انتهزت الوزارة الإنجليزية الفرصة بناء على معلومات خاصة وصلتها عن قوة الحملة الفرنسية في مصر؛ لتعلن أنها غير مرتبطة باتفاق الفرنسيين سالف الذكر.
وقد أدت هذه الغلطة إلى إرسال حملة إنجليزية لإخراج الفرنسيين من مصر، وفي نهاية العام المذكور كان السير «رالف أبار كرومبي» يسير في اتجاه مصر على رأس قوة عددها 15000 جندي لطرد الفرنسيين من وادي النيل، بينما جهزت حملة هندية لمناوأتها من ناحية البحر الأحمر.
وفي 8 مارس سنة 1801م ألقي السير رالف مراسيه في خليج أبي قير، وكان القائد كليبر قد لقي حتفه قبل ذلك، وانتقلت القيادة إلى «مينو»؛ وهو قائد غير محنك اعتنق الإسلام، واقترن بزوجة مسلمة، ثم دارت رحى المعركة خارج الإسكندرية؛ فأسفرت عن قتل السير رالف، وعن التجاء قسم كبير من الحامية الفرنسية إلى الاحتماء داخل أسوار الإسكندرية، بينما عهد إلى بقية الحملة وعددها 12000 بالدفاع عن قلعة القاهرة.
ولم يكن في هذا المسلك البعيد عن الجرأة العسكرية ما يبشر بوقوع مقاومة عنيفة؛ إذ سرعان ما بدأت القاهرة تلقي سلاحها ثم تلتها الإسكندرية، ومن ثم وصل الاحتلال الفرنسي في مصر إلى تلك الخاتمة المحزنة. على أن هذا الاحتلال لم يكن بغير نتائج، فلقد زعزع حكم المماليك، كما أنه أزال الغشاوة التي كانت مخيمة على أعين الإنجليز، ونبهتهم إلى أهمية مصر من الوجهة العسكرية بصفتها دولة واقعة في منتصف الطريق بين الشرق والغرب، ثم إنه كشف للملأ عن عجز تركيا، وأخيرا جاء إلى مصر بطريق الصدفة بأحد المجازفين الألبانيين، ألا وهو محمد علي.
كانت ولادة محمد علي في سنة 1769م في دار صغيرة بأحد الشوارع المهجورة القديمة في قوله، وهي ثغر صغير يحيط به سور، ولا يعرف عن أرومة محمد علي إلا النذر اليسير، وهناك خلاف في الرأي على ذلك، فمن قائل بأنه منحدر من سلالة تركية، بينما يوجد من يقول بأنه من سلالة فارسية. ويستند القول الأول إلى قوة بنية محمد علي ومتانة أخلاقه، بينما يستند القول الثاني إلى ذكائه المرن وسعة حيلته.
وكان أبوه إبراهيم أغا قومندان فصيلة محلية من الجنود غير النظامية في خدمة الوالي، وقد لحق بربه تاركا ابنه الصغير في حضانة ذلك الوالي. ويخيل إلينا أن تربية هذا الصغير كانت على أسس عملية صارمة؛ ذلك أن الطعام كان يقدم إليه في الأوقات المناسبة كما كان يقسر على لبس ما يختار له من الملابس وأداء الصلاة في أوقاتها.
ثم درب على ركوب الخيل وحمل السلاح. وأغلب الظن أنه عندما بلغ سن الشباب خرج في صحبة الدوريات المكلفة بمطاردة العصابات أو بتحصيل الخراج.
ومن ثم تعلم القواعد الأولية للحرب، وفن مباغتة العدو وأساليب القيادة. وهناك ما يدل على خروجه على رأس بعض هذه الدوريات حيث أبلى أحسن بلاء.
وهنا نرى أنفسنا تحت رحمة القصاصين ومروجي الحكايات، الذين أولعوا بالمبالغة فيما يروونه من الروايات، وبما يضيفونه على الموضوع من الحواشي التي يتخيلونها تخيلا؛ لإظهار آثار العبقرية التي لمحوها حتى في تلك السن المبكرة لمحمد علي ومقارنة عظمته فيما بعد بما كان يظهر عليه في البداية من سيما التواضع.
ولما بلغ الفتى سن الثامنة عشرة زوجه الوالي من إحدى قريباته، فاستولدها خمسة من الأولاد الذكور، وهم الذين رزقهم محمد علي في حياته. ثم مالت نفسه لمزاولة تجارة التبغ؛ إذ ليس بخاف أن أجود أنواع التبغ التركي يزرع في الإقليم المتاخم لقولة، ولكن ليس في وسعنا أن نقول على أي مقياس كان محمد علي يعمل في تلك التجارة . وقد خيل إلى بعض المؤرخين أنه كانت لمحمد علي تجارة واسعة تستند إلى أموال قرينته الثرية، بينما يقول آخرون إنه استعان على الخروج من ورطته بقرض تافه لا يزيد على روبيتين. ومهما يكن من أمر فإن ما نعلمه بصفة قاطعة هو أنه كان يذكر حياته الماضية بالحنان المصحوب بالأسف. وقد ذهب في أخريات أيامه لزيارة مسقط رأسه، وأوقف وقفا خصص ريعه لنفقات إحدى مدارس قولة التي لا تزال موجودة إلى يومنا هذا.
5
فعندما اضطر الباب العالي - تحت ضغط إنجلترا - لحشد الجنود وإرسالها إلى مصر جريا وراء الأمل الكاذب وهو طرد الفرنسيين منها؛ طلب إلى والي قولة - أو كما يسمونه بالتركية: شوربجي قولة - أن يجهز فصيلة من الجنود قوامها 300 محارب، فصدع الوالي بالأمر وجمع الفصيلة المطلوبة تحت قيادة ابنه علي أغا وأرسل محمد علي كمساعد له.
ولكن السفر في البحر إلى أبي قير كان متعبا بسبب العواصف الجوية، حتى إذا ألقت القوة التركية مراسيها في الأراضي المصرية قاست الأمرين من الحرمان والفاقة، قبل أن يقذف بها الفرنسيون إلى البحر. وفيما ينقلونه من الروايات عن حادث الهجوم الفرنسي هذا استطراد بأن محمد علي نفسه كاد أن يلقى حتفه غرقا وهو يحاول ركوب السفينة، لولا مبادرة إحدى البوارج الإنجليزية الواقعة على مقربة من الميناء إلى إنقاذه.
ومهما يكن نصيب هذه الرواية من الصحة، فإن علي أغا قائد الفصيلة استولى عليه الجزع بسبب ما رآه من دوران البحر والجوع والعطش؛ فسارع بالعودة إلى بلاده وترك قيادة الفصيلة لمحمد علي. وليس من يشك في أن إقدامه من ناحية وسعة حيلته من ناحية أخرى استلفتا أنظار القادة الأتراك، بينما أكسبته حصافة رأيه وحسن رعايته للجنود ثقة رجاله.
فلم يحل عام 1801م حتى كان محمد علي أحد الضابطين الكبيرين المتوليين قيادة الفصيلة الألبانية، باعتبارها الجزء الرئيسي من القوة التركية المعسكرة في مصر. وقد تعاونت هذه القوة مع الحملة الإنجليزية إلى حد الاقتراب من الجهات غير المحصنة في مصر واحتلال الأماكن الخالية من الحاميات الفرنسية.
على أن هتشنسن وهو الذي خلف أبار كرومبي في قيادة الحملة الإنجليزية سرعان ما تزعزعت ثقته في مقدرة تلك القوة التركية، وأخذ يحس بعجزها عن الاحتفاظ بمركزها في مصر.
6
ومما عزز هذا الرأي في نفسه أن الباب العالي طلب إبقاء قوة إنجليزية في وادي النيل بعد طرد الفرنسيين منه؛ منعا لكل محاولة من ناحيتهم لاحتلال مصر مرة أخرى،
7
ولقد اقترح السفير الروسي احتلال النقط الحربية المهمة بالإسكندرية والسويس إلى نهاية الحرب على الأقل، وكان هذا هو أيضا رأي الحاكم العام في الهند البريطانية.
وقد انبرى بعض الكتاب لوضع كراسات بهذا المعنى.
8
وقد حبذ دنداس هذه الفكرة؛ لأنه كان على الدوام مقتنعا بأهمية مصر من الوجهة الحربية. وصادفت الفكرة قبولا لدى الوزارة التي أبدت رغبة شديدة في الوصول إلى تسوية العلاقات بين السلطان والبكوات للحيلولة دون تكرار سوء الإدارة، كالتي ساعدت الاحتلال الفرنسي وعاونته. وتحقيقا لهذه الغاية اقترح تحديد حقوق المماليك وواجباتهم وتنظيم طريقة لجباية الخراج،
9
وتعيين مبلغ محدد للاحتفاظ بقوة عسكرية تحت إشراف ضباط بريطانيين.
ولم يكن «إيلجن» سفيرنا بالآستانة - لسوء حظنا - بالرجل الذي يستطيع إقناع الأتراك بأن مصلحتهم تقضي بالموافقة على ترتيب أمين، برغم أنه كان مكروها في نظرهم. فبدلا من أن يقترحوا شروطا راحوا يقيمون الدليل ناصعا على ما اشتهروا به من نقض العهود؛ ذلك أن قبطان باشا - كما كانوا يسمون الأميرال التركي - أغرى بعض المماليك بالحضور على ظهر ذهبيتين، ومن ثم أمر بإطلاق النار عليهم واعتقل من نجا منهم من القتل. وكادت هذه الحادثة أن تؤدي إلى نشوب القتال بين القوات التركية والقوات الإنجليزية، ولم يطلق الأتراك سراح من وقع بيدهم من الأسرى إلا تحت تأثر التهديد، ومن ثم انسحب البيكوات إلى أعالي الصعيد بعيدا عن متناول يد الأتراك. وبينما كانت هذه المشاحنات والمنازعات قائمة على قدم وساق تم توقيع معاهدة «أمبان» التي قضت بإعادة مصر إلى حظيرة السلطان بتركيا، فأصبح لفرنسا الحق بمقتضى هذه المعاهدة بأن تطالب بجلاء القوات الإنجليزية عنها في الحال.
وبعد عدة محادثات ضعيفة لتسوية مسألة البيكوات ، قنع القائد البريطاني بإصدار أوامر بالعفو عن البيكوات وإعطائهم مديرية أسوان. ومن ثم شرعت الجنود الإنجليزية بعد ذلك تستقل السفن مصحوبة بأحد زعماء المماليك، وهو ألفي بك الذي ذهب لزيارة لندن، وقد عين الميجر «ميسيت» ممثلا لإنجلترا في مصر للإشراف على سير العلاقات بين الأتراك والمماليك، ولبذل كل ما في وسعه لمنع دخول الفرنسيين إليها. وهكذا انتهى الاحتلال البريطاني لمصر في مارس سنة 1803م.
وبديهي أن تعيين ميسيت ممثلا لإنجلترا كان يراد به إحباط دسائس القناصل الذين عينتهم فرنسا بعد توقيع معاهدة إمبان، ثم شرعت الدول المتاخمة لشواطئ البحر الأبيض المتوسط ترسل معتمديها إلى مصر، وحذت حذوها فيما بعد السويد وبروسيا وروسيا.
وقد كان هؤلاء المعتمدون منقسمين إلى فريقين صريحين، ففريق منهم كان يشغل معظم وقته بمراقبة الشئون التجارية، بينما كان الفريق الثاني يعنى بالمسائل السياسية. وبديهي أن هذا التقسيم كان بنسبة أهمية الدول التي كانوا يمثلونها، على أنه لم يكن في بداية القرن التاسع عشر من الشئون السياسية ما يستحق الاهتمام.
ولهذا كان القناصل العموميون من أمثال صولت ودورفيني يقضون الوقت في جمع التحف القديمة مثل ما يقضونه في تمثيل مصالحهم الوطنية، ولكن أصبحت لأعمالهم السياسية منذ سنة 1830م فصاعدا أهمية جديدة، وصاروا في الواقع - وإن لم يكونوا في الشكل - معتمدين سياسيين حقيقيين لدى بلاط الباشا، مهمتهم توجيه أعماله إلى ما يطابق سياستهم الوطنية، وقد أصبح بعضهم أصدقاء حميمين لمحمد علي، لا بل أن نفوذ الكولونيل كامبل الشخصي كان له أثر كبير في تكييف إدارة حكومة محمد علي، إن لم نقل في تكييف سياسته الخارجية.
وقد ترتب على رحيل الإنجليز أن خلا المسرح لسلسلة من الدسائس، ولنصب أشراك المؤامرات بشكل مقطوع النظير. فقد كان الأمر البادي للعيان أن هناك حزبين يتطاحنان في سبيل الاستيلاء على مصر، وهما الأتراك والمماليك، ولكن كانت الأمور في الواقع أعقد من ذلك بكثير؛ فقد كان الأتراك أنفسهم منقسمين إلى فريقين: فريق كان يأتمر بأوامر خسرو باشا المعين من قبل السلطان ليحكم مصر، والفريق الثاني وهم الألبانيون كانوا لا يأتمرون إلا بأوامر زعيمهما طاهر باشا ومحمد علي. كذلك كان المماليك شطرين، أحدهما يناصر البرديسي والثاني يؤازر الألفي، وكان كل من هذه الأقسام الأربعة أشد ميلا لسحق الأقسام الأخرى بدلا من تكاتف الجميع لدفع الخطر المشترك. ولهذا كانت احتمالات الائتلاف كثيرة؛ لأن الإنسان كان وقتئذ يمكنه أن يتكهن التكهن المعقول الممكن، وهو أن قسما من هذه الأقسام الأربعة ما كان ليستطيع البقاء طويلا بمفرده.
وكان خسرو باشا أول من اختفى من على المسرح السياسي، فعندما عين فيما بعد صدرا أعظم للإمبراطورية وصفه الساسة الغربيون بأنه «رجل متوحش وأمي ولكنه ذكي ومقدام.»
ولكن تبين في عام 1803م أن أخلاق خسرو لم تسم إلى هذا المستوى الراقي، وإنما وصف وقتئذ بأنه جاهل في الحرب والسياسة أو الإدارة تمام الجهل، ولا يعرف من هذه الفنون سوى حز الرقاب.
10
وبالطبع كان مركزه بمصر في منتهى الحرج؛ ذلك لأن الأتراك كانوا أبغض في أعين الشعب من الفرنسيين لأن جهلهم باللغة العربية - وهي لغة المصريين المقدسة - مضافا إليه لحنهم عند التكلم بها وصلفهم ودعواهم بأن لهم الحق في حكم البلاد؛ كل هذه الصفات ساعدت على استلاب كل معونة محلية منهم. وكثيرا ما دعا عليهم مؤرخ ذلك العهد «الجبرتي» بأن يمحقهم الله جميعا.
وكان على رأس الفصيلة الألبانية طاهر باشا الذي كان ما أصابه في بلاده من النجاح وما اشتهر به من الوحشية في قيادة إحدى عصابات قطاع الطريق سببا في مكافأته بالالتحاق بجيش السلطان. ولقد أبدى طاهر في مصر الشيء الكثير من الشجاعة وسعة الحيلة، ولكنه لم يكافأ المكافأة التي وعد بها.
11
ثم إن أنصاره كانوا في شدة التذمر بسبب عدم دفع مرتباتهم، وكانت النتيجة أنهم أثاروا فتنة في القاهرة في شهر مايو سنة 1803م، وهي حادث مألوف كان يقع يوميا في الجيش العثماني. ولما عرض طاهر باشا وساطته على خسرو رفضها هذا؛ فلم يكن من طاهر إلا أن ذهب في اليوم التالي على رأس الفصيلة الألبانية فهاجم القلعة واحتلها، وإذ ذاك فر خسرو إلى دمياط ، وارتقى طاهر منصة الحكم. ولما لم تكن الجنود العثمانية قد شدت أزر طاهر في هذه الحركة؛ فإنه أهاب بالمماليك أن يتقدموا لتأييده، ولم يترتب على مصرعه أي تغيير في الموقف المباشر؛ لأن محمد علي سرعان ما حل محله. وإذ ذاك اشترك الألبانيون والمماليك في إنزال الهزيمة بمينو بالقرب من دمياط، وقادوه أسيرا إلى القلعة في القاهرة، وكان هذا أول ائتلاف بين الألبانيين والمماليك ضد الأتراك.
وما كادت هذه الأنباء تصل إلى الآستانة حتى صدر الأمر إلى حاكم آخر يدعى علي باشا بالذهاب فورا على رأس قوة من 1500 جندي ليحل محل الحاكم المخلوع خسرو فوصل إلى الإسكندرية واحتلها. ولكن سرعان ما أوقع نفسه في نزاع مع قناصل الدول الأوروبية المقيمين في تلك المدينة؛ فلقد أعلن أن الامتيازات لا حرمة لها ما دام هو الحاكم بأمره. ولم يكن مطاعا بين جنوده، وقد كانوا يتسلون بإطلاق النار على الشعار المعلق فوق القنصلية السويدية، ثم إنه حاول أن يتدخل في حكم أصدرته المحكمة المحلية في صالح الفرنسيين لسبب مجهول. وفي أوائل سنة 1804م بدأ يزحف جنوبا في اتجاه القاهرة متوقعا أن يهب الألبانيون تحت قيادة محمد علي إلى مناصرته، ولكن الألبانيين لم يحركوا ساكنا، وأخيرا وقع الباشا في أسر البرديسي فأمر بإعدامه.
12
وإذ ذاك عين باشا ثالث - وهو خورشيد - مكانه، وكانت العلاقات بين الألبانيين والمماليك قد أخذت تفتر؛ لأن الأولين كانوا شديدي التمسك بتسلم مرتباتهم كاملة، بينما لم يكن أمام المماليك إلا أن يلجئوا إلى القروض الإجبارية وغير ذلك من الوسائل العنيفة.
ولشد ما كان حزنهم أنهم رأوا أنفسهم مضطرين أن ينهبوا الأهالي لمصلحة الغير، ثم إنهم أظهروا ميلا لمساعدة خورشيد بصفته «باشا» مصر؛ وذلك نظرا لدماثة خلقه واعتدال آرائه. ومن ثم أصبح المجال واسعا خاليا لعقد ائتلاف جديد، وقد تم فعلا، كما كان مقدرا بالضبط؛ فلقد عاد ألفي بك من إنجلترا في فبراير سنة 1804م، وسرعان ما هب حزب البرديسي يساعده الألبانيون بتشجيع من محمد علي - على الأرجح - لمهاجمة حزب الألفي ونهب منازلهم في القاهرة . ولشد ما كان اغتباط محمد علي بهذا الانقسام بين صفوف البيكوات،
13
وراح من فوره ينشد حليفا آخر في شخص الباشا الجديد، وكان لا يزال في الإسكندرية. وقد أبلغ محمد علي المعتمد الفرنسي في القاهرة بأن الألبانيين بمجرد استطاعتهم الحصول من المماليك على مرتباتهم المتأخرة عن الأشهر الثمانية السالفة؛ فلسوف يعقبه انفجار يعيد الألبانيين إلى حظيرة رضا السلطان. ثم استرسل، فقال: «ماذا عسانا أن ننتظر من أناس كالمماليك؟! إنهم أعداؤنا الطبيعيون وهم لا يتحرجون عن الغدر بإخوانهم الأتراك.»
14
وقد حدث الانفجار في الوقت الملائم كما توقعوا. ففي يوم 11 مارس أغار الألبانيون في القاهرة على دور زعماء البيكوات، فسلمت القلعة. وإذ ذاك أعلن محمد علي الفرمانات بتعيين خورشيد باشا واليا على مصر،
15
وكان طبيعيا أن يتقدم الباشا للاتصال بحليفه، ثم دارت رحى القتال عدة أشهر حول القلعة بين البيكوات من ناحية وبين الباشا ومحمد علي من الناحية الأخرى، ولكن بدلا من اتجاه الألبانيين والمماليك في العام السالف لطرد خسرو باشا فإن هيبة الأتراك قد تلاشت الآن، حتى إن خورشيد أصبح لا يعتمد إلا على محمد علي، وكان نفوذه آخذا في الازدياد، وقد صار الباشا - كما حدثنا لسبس - بحق عبارة عن أداة يسخرها الألبانيون كما يشاءون في قضاء مأربهم،
16
وفي خريف هذه السنة تجلت هذه الحقيقة بشكل لا خفاء فيه، فلقد بدأ الألبانيون يضيقون ذرعا بمصر، وأخذ كثيرون منهم يحنون إلى أوطانهم ويجأرون بطلب العودة بصحبة ما جمعوه من الغنائم والأسلاب. ولكن خورشيد أحس بأن لا سبيل إلى احتفاظه بمركزه بغير مساعدة محمد علي المنطوية على الحزم وسعة الحيلة؛ ولذا ألح عليه في البقاء، ونحسب أننا لا نعدو الواقع إذا قلنا إنه لم يجد صعوبة في إقناعه بذلك.
17
وكان البؤس وقت ذاك قد ضرب أطنابه في كافة أنحاء القاهرة، ولكن لم يكن ثمة مناص من ترضية جنود محمد علي وحملهم على البقاء . وهنا لم ير خورشيد حيلة إلا أن يرضيهم بتجديد طرق الابتزاز التي كانت شائعة في أيام المماليك. مثال ذلك أن أعيان الأقباط جيء بهم إلى القلعة، وطلب إليهم تقديم 2000 كيس «نحو 10000 جنيه»، ولكن المماليك المعسكرين حول القاهرة قطعوا عنها الحبوب؛ فتفشت المجاعة في المدينة، ومن ثم أخذ المسلمون الصالحون يتحسرون على أيام حكم الفرنسيين الكفار!
18
وظل معتمدو الدول ينظرون إلى هاتيك الحوادث دون أن يستطيعوا التكهن بما سوف تؤدي إليه من العواقب. ولقد راجت بعد مرور جيلين من وقوعها إشاعة، ربما كان باعثها الرغبة في استدرار السخاء الخديوي بأن ليسبس المعتمد الفرنسي أدرك عبقرية محمد علي من بداية الأمر، وأنه ساهم في ارتفاعه بما كان يبذله له من النصائح. ولكن توجد إلى جانب هذه الرواية الخيالية أقوال ليسبس نفسه لتليران عن محمد علي، فقد قال: «لست أظن أن محمد علي له من العبقرية ما يجعله يفكر في المشروعات الكبرى، ولو سلمنا جدلا أنه فكر فيها فليس لديه من الوسائل ما يمكنه من تنفيذ ما يفكر فيه.» من أجل هذا فإن ليسبس لم يكن يشجع هذا الزعيم ذا العبقرية المحدودة أو يميل إليه. كلا؛ بل كان ميله إلى البيكوات المماليك الذين كان يظن أن دعوتهم إلى كراسي الحكم سوف يتبعها ازدياد النفوذ الفرنسي.
19
وكان المعتمد البريطاني المأجور ميسيت معذورا في وقوعه ضحية لهذه الأماني الخداعة. على أن حوادث سنة 1905م كان لها الفضل كل الفضل في جلاء الموقف؛ فإن أهالي القاهرة بعد أن دفعهم المماليك إلى أحضان الجوع والفاقة، وبعد أن التهمهم الباشوات أخذوا ينفرون واشرأبت أعناقهم إلى الزعيم الألباني يرجون منه إنقاذهم من ويلاتهم. ولعلك تجد الباعث على هذا القلق في أعمال التحريض الماهرة أكثر مما تجده في الاعتراف بالجميل الناشئ عن الوجدان النفسي؛ فإن محمد علي - كما حدثنا المؤرخ العربي المعاصر - قد توثقت عرى الصداقة بينه وبين أحد العلماء، كما أنه كان يختلف خفية إلى داره ليتملقه، ويؤكد له أنه لو كان أمر مصر بيده لأدار دفة الحكم بالعدل ولاتبع ما يشير به عليه الزعماء الدينيون من الآراء والنصائح.
ومن ثم بدأ محمد علي بإعداد أنصار له في المدينة نفسها، وهي التي حاول خورشيد باشا عبثا أن يسيطر على مصائرها باحتجاز عالمين من علماء الدين كضمانة في يده.
ولم يكن بينهما العالم صديق محمد علي، ثم شرع في الوقت نفسه يأتي بالإمدادات من سوريا ليستغني بها عن معونة الألبانيين، فكان في حضور هذه الإمدادات إلى مصر فصل الخطاب؛ ذلك لأنه تبين أن قائدهم هو شقيق أحد الذين اشتركوا في اغتيال حياة طاهر باشا. وقد برهنت هذه الإمدادات على أن نظامها دون نظام الألبانيين أو المماليك بمراحل، وهنا راجت سوق الإشاعات المقلقة في الخارج عن مسلك هذه الإمدادات، ورويت روايات تقشعر منها الأبدان عن كيفية وصولها إلى القرى، وطردها السكان من مساكنهم، واعتدائها على عفاف نسائهم، ثم قتلهن بعد ذلك واختطافها الأطفال. على أن هذه الأقاصيص - إذا حكمنا بما راج من مثيلاتها في الجهات الأخرى - لم ينقص منها شيء أثناء ترديدها، ثم إن ما تضمنته من المبالغات لم يضعف من تأثيرها الأدبي. ومن ثم استولى الذعر على أهالي القاهرة من أقصاها إلى أقصاها، وأغلق الأزهر أبوابه، وخلت الأسواق من السابلة، وأصبح المرء لا يجرؤ على مغادرة داره إلا وهو يشعر بأنه يحمل حياته على كفه.
وكان محمد علي عند وصول هذه الإمدادات التي قضت مضاجع الأهلين بسلوكها الوحشي متغيبا عن القاهرة في غزو المماليك ومشتغلا بتشتيتهم، فلم يلبث أن عجل بالعودة. ولم ينقض أسبوع حتى دخل العاصمة على رأس 4000 جندي، زاعما أن الباعث له على دخول المدينة هو للحصول على مرتبات رجاله؛ وهي حجة سرعان ما صادفت نقطة حساسة في أنفس الإمدادات بصفتها مكونة من جنود أتراك. وفي يوم التاسع من شهر مايو كان الأمر قد التبس على خورشيد، فلم يدرك مغزى مجيء محمد علي، فانتهز فرصة عودته لإعلان الفرمان الشاهاني القاضي بإعطائه متصرفية جدة. ولقد كانت هذه الإشارة اللبقة المقترنة برغبة التملق الموجهة للزعيم الألباني بأن وجوده في مصر بات غير مرغوب فيه كافية لأن يبت محمد علي في الموقف بسرعة؛ فبينما كان خورشيد يتأهب للعودة إلى داره في القلعة إذا بالجنود الألبانيين يحيطون به ويستحثونه لدفع مرتباتهم، موجهين إليه تهمة الاستغناء عن جباية الإيرادات العامة، ثم أخذوا يهددونه بالقتل العاجل إن لم يدفع هذه المرتبات. وهنا تقدم أحد الضباط الألبانيين ليدرأ عنه عنف الجنود، وبينما كان خورشيد يعمل على التخلص من ذلك الموقف الحرج كان الشعب بإرشاد العلماء ينادي بمحمد علي واليا على القاهرة.
20
وأخيرا، تمكن خورشيد من الفرار إلى القلعة، ومنها حاول تصويب مدافعه على المدينة لإخضاعها، ولكن طوبجية الأتراك فشلوا في تحقيق هذه الغاية، ولم تؤد محاولتهم إلا إلى إهاجة الأهالي لا إزعاجهم.
ثم تقدم العلماء معتمدين على تأييد الألبانيين بسلسلة مطالب. ولقد كانت الحكمة في نظر القوم تقضي وقتئذ - كما تقضي الآن - بأنه في المساومات السياسية، كما في المساومات التجارية سواء بسواء، ينبغي أن تبدأ بطلب ما تعتقد أنه المستحيل. وجريا على هذه الحكمة طلب العلماء بأن تعسكر الجنود من ذلك الوقت فصاعدا على ضفة النهر الغربية، أي في جهة الجيزة، وألا يسمح لأي جندي مسلح بدخول العاصمة، وألا يكلف الأهالي بتقديم الإعانات.
21
فلما رفضت هذه المطالب عادوا إلى المناداة بمحمد علي واليا على القاهرة بطريقة رسمية، وشرعوا في محاصرة القلعة، وبلغ حماس الأهالي إلى درجة الغليان؛ مما جعل يذكر رجال الجالية الفرنسية - وكانوا يرقبون تطور الأحوال عن كثب - بشدة اندفاع سكان باريس المتحمسين للثورة الفرنسية.
22
وفي الواقع كان هناك تشابه كبير بين الثورتين؛ فإن الشعب في كلتا الحالتين كان منهمكا في استبدال حاكم بآخر، على أنه برغم ذلك كان يوجد فارق جوهري بين الحالتين. فالشعب الذي كان يتدفق وراء غوغاء باريس ورعاعها كان يهدف إلى إيجاد معاهدة جديدة، بينما لم يكن للرجل الواقف خلف فتنة القاهرة من غاية سوى تعزيز نفوذه الشخصي بالوصول إلى كرسي الحكم. وإذا كان الفرنسيون كذلك قد هاجموا البستيل واستولوا عليه، فإن سكان القاهرة على الرغم من أنهم كانوا يقتلون أنصار خورشيد أينما عثروا عليهم في الطريق، وعلى الرغم من أن كلا من هؤلاء السكان حتى الأطفال راح يبتاع السلاح؛
23
فإنهم لم يستطيعوا الاستيلاء على القلعة. نعم؛ لقد تظاهر محمد علي بمساعدة الأهالي، فقد أمر بسحب المدافع إلى قمة جبل المقطم؛ حيث يشرف على القلعة، ووضع جماعة من الرماة الماهرين في مأذنة جامع السلطان حسن، ولكن الزعيم الألباني لم يكن يرى في الحالة ما يقتضي استعجال الأمور والوصول بها إلى نتيجة حاسمة. ولعله كان يعتقد أن ذلك يكلفه الكثير من الضحايا في وقت لم يكن يعتمد فيه الاعتماد كله على رجاله.
وفوق ذلك فإنه كان يفضل أن يصير باشا القاهرة برضاء الآستانة، لا أن يعلن عصيانه على السلطان، وقد ذهب المعتمد الفرنسي دورفيشي، وهو أبعد نظرا من سلفه ليسبس،
24
إلى الباب الموضوع في تقرير بعث به حوالي ذلك الوقت إلى حكومته في باريس، فقد كتب يقول:
إن تصرفات هذا الزعيم الألباني صاحب المشروعات الكبيرة تحملني على الظن بأنه يؤمل أن يصبح باشا القاهرة بلا قتال ما وبدون إغضاب السلطان؛ فكل تصرف من تصرفاته يكشف عن عقلية ماكييفالية، حتى لقد بدأت حقا أعتقد أن له عقلا أرجح مما لدى الكثيرين من الأتراك. ويخيل إلي أنه يرمي إلى اعتلاء كرسي الحكم باسترضاء العلماء والشعب، وهكذا يرغم الباب العالي على التنازل له عن طواعية عن كرسي الحكم الذي يكون قد تم له الاستيلاء عليه.
ولقد جاءت النتيجة طبق ما توقعه هذا المعتمد الحاذق؛ ذلك أن رسولا من قبل السلطان وصل إلى الإسكندرية في شهر يونيو يحمل أمرا بإعطاء ولاية مصر لخورشيد أو لمحمد علي، أي لأصلح الرجلين وأعزهما نفرا، وبعد لأي ما اعترف الرسول بأن محمد علي هو الأقوى، فخلع عليه الولاية ...
وفي يوم 7 أغسطس غادر خورشيد القلعة وأخذ طريقه إلى بولاق لركوب السفينة التي أقلته إلى الإسكندرية.
ولقد كان ما أظهره محمد علي من المهارة السياسية أثناء هذه الحوادث مما يعتبر - والحق يقال - خارقا للمألوف؛ فإنه أولا ساعد المماليك على قهر خسرو باشا، ثم إنه رجح بعد ذلك كفة أحد حزبي المماليك ضد الحزب الآخر، وبعد هذا وذاك شد أزر خورشيد باشا ضد المماليك ، وأخيرا وضع نفسه على رأس أهالي القاهرة في ثورتهم على خورشيد، وأيضا على الأتراك والمماليك بالتوالي. ولكنه كان في كل هذه الحركات واقفا عن كثب لا يسمح لنفسه بالتورط في تأييد أحد من هذه الأحزاب المتطاحنة، ثم إنه تمكن في نهاية الأمر من نيل رضاء السلطان بتوليته ولاية مصر، ولقد شاء بعض الباحثين أن يرى في سعي محمد علي للحصول على موافقة السلطان؛ رغبة منه في صبغ قوته بصبغة قانونية. ولكن محمد علي كان سياسيا عمليا قوي الشكيمة، لا يعنى إلا بلباب الأمور دون قشورها؛ ولذا لم يكن يحفل كثيرا بقيمة الحق المعنوي. على أن اعتراف السلطان لم يضاعف نفوذ محمد علي داخل مصر نفسها؛ لأنه لم يكن يتوقع لوصول إمدادات من الجنود من الآستانة لتأييده، ولا أن يواصل الباب العالي تأييده ولو أدبيا، بل إن الديوان المغامر الذي نخر سوس الرشوة عظامه لن يتردد في أن يقلب له ظهر المجن متى ظهر على المسرح مرشح يمكن أن تعقد عليه الآمال، هذا إلى أن المماليك كانوا لا يزالون يحتلون الوجه القبلي بأسره وجزءا غير قليل من الوجه البحري. ولكن الاعتراف الشاهاني بولايته قد أراح باله مؤقتا على كل حال، وجعله يطمئن إلى عدم التدخل من ناحية تركيا ولو إلى أجل مسمى. وهكذا صار في وسعه - ولو لبضعة أشهر - أن يتفرغ للمماليك وحدهم دون أن يكون مضطرا للموازنة بين الأتراك والمماليك، إلا إذا تدخلت في شئون مصر إحدى الدول الأوروبية العظمى صدفة.
ومهما كان من أمره فقد كان الشك يحيط بمركزه؛ لأن جيشه لم يكن يمكن الاحتفاظ به كمجموعة متحدة إلا عن طريق دفع المرتبات بانتظام أو إطلاق يده في أعمال السلب والنهب. ولذلك كان لا مفر له من الالتجاء في نهاية الأمر إلى سلوك خطة الابتزاز، وهي التي قضت على أسلافه، وفي الوقت نفسه ماذا عسى كان يكون مسلك الدول الأجنبية حياله؟ نعم؛ إن دورفيشي قد يسلم بمقدرة الباشا ويعترف بمواهبه الماكييفالية، ولكنه لم يكن يرغب وقتئذ في استمرار إدارته ، ثم إن زميله المعتمد الإنجليزي ميسيت لم يكن ميالا لاستمرار حكم محمد علي. وفي الواقع، إن كلا منهما كان قليل الثقة بحسن نية الباشا،
25
كما كان يرتاب في قدرته على الاحتفاظ بمركزه،
26
ومن ثم شرع المعتمدان المذكوران يشجع كل منهما حزبا معينا من أحزاب المماليك، على أن إجماع المعتمد الإنجليزي والفرنسي على مخاصمة محمد علي قد دفعه بالعكس إلى التقدم حثيثا إلى الأمام، وحفزه إلى العمل للحيلولة دون اتفاق كلمة المماليك ضده. وعلى الرغم من ذلك لم يكن دورفيشي مخدوعا بقوة البيكوات من الناحية العسكرية، وحسبك دليلا على هذا قوله:
إن زعماء البيكوات - حتى ولو اتحدت كلمتهم جميعا - ليس لديهم من الرجال ما يزيد عن 800 من المماليك، بينما الباقون هم شراذمة من اليونانيين والعثمانيين والأعراب الذين لم ينضموا إلى قضية البيكوات إلا طمعا في إشباع شهواتهم في النهب والسلب، وقد مضى الوقت الذي كان المماليك يخرجون فيه للقتال وراء زعمائهم كالضواري غير هيابين ولا وجلين يستقبلون الموت بنفوس هادئة. ثم إنهم أصبحوا هيئة ينقصها النظام والمران، وبعد أن كان بلاط البيكوات يعتبر بمثابة مدرسة للنظام العسكري وللتحلي بفضائل الأخلاق أصبح مهدا للرذيلة ولمخالفة النظام. وليس من ريب في أن معيشة المماليك في الزمن الأخير معيشة القبائل الرحل التي تقوم على السلب والنهب قد دفعهم إلى هذا الدرك الأخلاقي السحيق.
27
ثم ختم المعتمد المذكور أقواله عن مصر بألا أمل لها في أن تذوق طعم النظام أو الحكم الصالح إلا إذا عاد الاحتلال الفرنسي.
28
أما موقف الإنجليز فكان على النقيض من هذا من عدة نواح؛ فإن ما حصلنا عليه من التجارب إبان حملة سنة 1801م قد دفعنا إلى أن نعتقد اعتقادا جازما وبحق بأن الأتراك لن يستطيعوا أن يستعيدوا مراكزهم في مصر أو على الأقل لن يتمكنوا من الاحتفاظ به؛ فلقد وصفهم الجنرال هتشنسن بأنهم قوم ضعاف لا ثقة لهم بأصدقائهم، وقد جعلوا اعتمادهم على أعدائهم، وتنقصهم الموهبة لوضع أي خطة معينة، ويعوزهم النشاط لتنفيذ تلك الخطط فيما لو وضعوها،
29
وكان كل إنسان يعتقد في الوقت نفسه بأن الفرنسيين ما زالوا يحلمون بالعودة إلى فتح مصر. لهذا فإن نلسون بصفته القائد الأعلى في حوض البحر المتوسط قد صدرت إليه التعليمات بمجرد استئناف الحرب مع فرنسا بأن يراقب أي حملة فرنسية يقصد إرسالها إلى الشرق، بمجرد استئناف الحرب مع فرنسا، وهذا السبب نفسه هو الذي جعلنا نبسط سيطرتنا على جزيرة مالطة. وبديهي أنه لو صمم الفرنسيون على استئناف هجومهم على مصر وعجز الأتراك عن صدهم، فإن المماليك وحدهم يصبحون وقتئذ نواة الحكومة المحلية الفعالة؛ ومن ثم بذلت مساع عديدة، وطرح على الباب العالي مختلف المشروعات ليعهد إلى المماليك بإدارة البلاد، فلما تبين أن الباب العالي مصمم على عدم التورط في مشروعات من هذا القبيل بدأت إنجلترا تقترح احتلال الإسكندرية على الأقل. ولما كان الباب العالي غير ميال إلى اتباع هذا الرأي أيضا، فإن الوزارة البريطانية أصبحت من الآن فصاعدا تعتقد أن أعمال الفرنسيين قد تدفعها إلى احتلال الإسكندرية، سواء أرضي الباب العالي أو لم يرض،
30
وقد نفذت إنجلترا ذلك المشروع عندما رأت السلطان بمناسبة ما أحرزه نابليون من الانتصارات الباهرة في أوروبا في سنتي 1805م و1806م، وقضائه على الحلف الذي تألف، فقد اعترف به إمبراطورا، واستقبل السفير الفرنسي في الآستانة بحفاوة خارجة عن الحدود المألوفة؛ مما جعل الناس يؤولون هذه الظاهرة بأنها تطور يعتبر بمثابة فتح أبواب مصر أمام الفرنسيين يدخلونها أينما يشاءون، ومن ثم قررت إنجلترا احتلال الإسكندرية، فبعد أيام قلائل ذهب جزء من الجيش البريطاني المعسكر في صقلية قاصدا إلى الإسكندرية، فاحتل المدينة في ليلة 20-21 مارس سنة 1807م، ثم بادر المعتمد البريطاني ميسيت إلى دعوة حزب الألفي بك إلى شد أزرنا. هذا، بينما شرع القنصل الفرنسي بعد فراره إلى القاهرة يعد معدات الدفاع على عجل لصد غارة المغيرين.
ومما ساعد على احتلال الإسكندرية بهذه السهولة أنها لم تكن وقتئذ حتى ولا تحت سيطرة محمد علي الاسمية. وفي خلال سنة 1805م استصدر سكان المدينة بإلحاح من ميسيت فرمانا يجعل الإسكندرية تحت سلطة ضابط من ضباط البحر مستقل تمام الاستقلال عن باشا القاهرة، ومع أن الباشا قد حاول أن يرشي هذا القومندان البحري، ويحمله على قبول حامية ألبانية في المدينة فإن ميسيت تمكن من إقناع القومندان بأن يرفض الاقتراح المذكور.
31
وفي يوم 29 مارس خرجت فصيلة إنجليزية قوامها 1400 جندي متجهة إلى مدينة رشيد بقصد احتلالها، وكانت ترمي إلى غاية مزدوجة؛ الأولى: تسهيل دخول المؤن إلى الإسكندرية حتى إذا أصابت نجاحا باهرا حققت الغاية الثانية: وهي دفع المالية إلى المبادرة لمساعدتنا، ولكن المشروع قام على أساس خطة فاسدة نفذت بطريقة فاسدة أيضا؛ فأولا كان ينبغي على فريزر بصفته قومندان الحملة أن يتقدم بنفسه على رأس القسم الأكبر من جيشه،
32
وثانيا كانت قيادة الفصيلة التي ذهبت لاحتلال رشيد فاسدة، فإن قائدها فوشوب استخدم جنوده جميعا في الهجوم دون أن يترك لنفسه احتياطيا، فلما خر صريعا في بداية الهجوم خلفه أكبر الضباط مقاما، ولكن هذا أيضا سرعان ما أصيب بجروح، وإن تكن حالت دون اشتراكه مع جنوده في مواصلة القتال، إلا أنها لم تكن من الخطورة بحيث تحمله على التخلي لغيره عن القيادة، فكانت نتيجة ذلك كله أن الحامية الألبانية عندما أرغمت على التخلي عن مواقعها لم تكن ثمة مخافر أمامية لتحول دون عودتها. كذلك لم يهتم أحد بلم شعث الجنود في صعيد واحد بعد أن كانوا قد تفرقوا واختل نظامهم أثناء الهجوم، وما كان أشبه ما وقع بما سبق أن حدث في باتنا سنة 1763م؛ فإن العدو لما لم ير من يطارده أو يتعقبه نجح في لم شعثه، ثم لما تأكد من عدم اتخاذ احتياطات مضادة أعاد الكرة على المدينة ودخلها ثانية، ولما تبين له أن الجنود بلا حراسة انقض انقضاض الصاعقة، حتى إذا اختلط الحابل بالنابل ووصلت إلى القائد الجريح الأنباء المزعجة تترى، أصدر أوامره بالانسحاب العام، على أن هذا الخطأ سرعان ما تحول إلى كارثة كبرى؛ فالمألوف في الشرق هو أن تقلب الحظ مهما كان تافها سرعان ما يؤدي إلى تبدل موقف الأهالي، فإن القاهرة ما كادت تسمع باحتلال الإسكندرية حتى استولى الذعر على سكانها، ولم يخطر للجنود الألبانيين المعسكرين فيها إلا أن يفروا إلى سوريا، وقد ابتاعوا أثناء فرارهم من مصر الخيل والبغال والحمير بضعفي ثمنها لنقل أمتعتهم، بل إنهم لم يترددوا في شراء «السيكوين» - وهي قطعة تقود مدقوقة في مدينة البندقية - بأربعة عشر قرشا مع أن ثمنها المعتاد هو عشرة قروش، وأبدى الفلاحون استعدادهم للثورة ومنع المئونة عن بعض فصائل جنود محمد علي التي لم تكن من القوة بحيث تستطيع الدفاع عن نفسها، في حين أنهم قتلوا بعضا منها في كثير من الجهات.
33
حدث هذا كله كما قلنا عندما وصلت الأنباء باحتلال الإسكندرية، ولكن ما أصاب الجنود الإنجليزية من الفشل في رشيد غير الموقف كلية، فقد استرد الألبانيون شجاعتهم، ثم إن المماليك بدلا من أن يبادروا إلى الانضمام لجانب الإنجليز ترددوا أولا، ثم قرروا في النهاية أن يتفقوا مع محمد علي في مقابل شروط معينة، وترتب على هذا أن الأهالي عادوا إلى خضوعهم السابق، وأصبح يتعذر على الإنجليز أن يحصلوا على معلومات ما عن حركات العدو.
34
وقد تمكن محمد علي بفضل هذه التطورات من أن يحشد جنده ويرسلهم إلى الشمال لسد الإنجليز الذين كانوا قد قاموا بمحاولة أخرى للاستيلاء على رشيد، ولقد كان تقدمهم في هذه المرة بشيء من الحذر؛ بمعنى أنهم أطلقوا وابلا من القنابل على المدينة وأرجئوا مهاجمتها فعلا إلى أن تصل إمدادات المماليك التي وعدهم بها ميسيت. وبدلا من ظهور الحلفاء المزعومين ظهرت في مكانهم قوات محمد علي ... وسرعان ما وجد المحاصرون أنفسهم على غير انتظار بين نارين. ثم استمر القتال ومالت كفة النصر إلى هذا الفريق ثم إلى ذاك، وبعد أن سقط من رجالنا 400 جندي وأسر مثلهم صدر الأمر مرة أخرى بالانسحاب إلى الإسكندرية،
35
على أن محمد علي أخذ في القاهرة بأسباب سياسة الاعتدال التي سبق له اتباعها مع خورشيد من قبل، ولو أن شخصا تركيا عدا محمد علي أحرز ما أحرز من النجاح، لداخله الغرور وراح يقتل أسراه، ولأصدر أمره بإجراء عملية الختان لهم بخصيهم، ولقذف الباقين على قيد الحياة إلى اليم دون أن يحسب حساب العواقب. ولكن الباشا نزل على حكم العادة، فسمح بأن تحمل جماجم القتلى ويطاف بها في الأسواق، ولم يشأ أن يتناسى بأنه لا مفر من عقد الصلح عاجلا أو آجلا، وأن الأساطيل الإنجليزية لن تسمح لسفن العدو بالدخول إلى ميناء الإسكندرية أو مبارحتها، وإلى جانب هذا كله فإن بريطانيا لم تكن تسيطر على البحر المتوسط من الأمام وكفى، بل وعلى المياه الهندية من الخلف. ولهذا كله قرر محمد علي أن يعامل الأسرى معاملة حسنة، بل إنه أرسل أحدهم في شهر مايو إلى الإسكندرية مصحوبا بمترجم يوثق به للبحث في الشروط، التي ينسحب الإنجليز بمقتضاها، وقد عرض في مقابل انسحاب الحملة الإنجليزية أن يطلق سراح من وقع في يده من الأسرى وأن يصمد لأي قوة أوروبية ترمي إلى احتلال مصر أو اختراق الأراضي المصرية في طريقها إلى الهند،
36
ولكن هذه الاقتراحات قوبلت وقتذاك بالرفض، غير أن وزارة بورتلند التي تبوأت كرسي الحكم في ربيع سنة 1807م نظرت إلى الموقف العسكري نظرة حكيمة قائمة على حقيقة الواقع أكثر مما نظرت إليه الوزارة السالفة وزارة غرانفيل. ومن ثم تقرر الجلاء عن الإسكندرية التي كان في الاستطاعة احتلالها من جديد إذا اقتضى الأمر ذلك، وكان من نتائج هذا القرار أن اتفاقا عقد في 14 سبتمبر يقضي بالتخلي عن الإسكندرية للباشا، في مقابل إطلاق سراح الأسرى الإنجليز وإعلان العفو العام عن كل من كان له ضلع في مساعدة القوات الإنجليزية.
وهكذا مرت الأزمة بسلام. وليس من شك في أن الحملة البريطانية لو حسنت قيادتها لأجهزت على سطوة محمد علي الآخذة في الازدياد، ولأدت إلى إعادة مصر، إما إلى حكم المماليك أو الباب العالي، ولكنها قامت على فكرة خاطئة أسيء تنفيذها. وما أشبه ما حدث بالحملة العقيمة التي وجهناها في بداية الحرب العالمية الماضية إلى أعلى الفرات! فمن الخطأ الغريب أننا أغفلنا في جملة رشيد أن نرسل أحدا من الضباط الذين عملوا تحت قيادة آبر كرومبي أو هتشنسن إبان احتلالنا الأول للإسكندرية، كما أنه كان من المتعذر جدا سلخ قوات كبيرة من الجيش المرابط في صقلية لتحقيق الغاية المقصودة من إرسال تلك القوة إلى مصر. وبالجملة، فإن الفشل كان من كافة الوجوه ذريعا من حيث مداه ومن حيث الثمن الذي تقاضاه منا، ولكنه على ما يظن لم يكن فشلا تاما كما كان يلوح بادئ ذي بدء؛ ذلك لأن ذكاء محمد علي قد خلص من هذا الحادث بنتائج تتجلى فيها الحكمة؛ فلقد أدرك أن الجيش الفرنسي لا يمكن أن يحسب حسابه مباشرة كالأسطول البريطاني، ومن ثم بدأ يفكر في أن بريطانيا العظمى ربما تكون حليفا له قيمته في تحقيق مشروعاته التي كان قد بدأ فعلا في تنفيذها.
ومن ثم بدأت الحالة في مصر تنجلي تدريجيا؛ فقد صار الزعيم الألباني ممثل الآستانة، وأصبح التدخل الفرنسي مستحيلا، هذا إلى أن التدخل البريطاني قد حبط فلم يبق إذن سوى المماليك الذين ينبغي الإجهاز عليهم قبل أن يعتبر محمد علي نفسه سيد مصر الأوحد. على أنه كان مع ذلك تحت خطر متزايد بأن الغالب شأنه كشأن كثيرين من الموفقين المطالبين بالاستيلاء على تركة بواسطة القانون قد يجد نفسه في النهاية أنه لم يرث إلا تركة مثقلة بالديون.
فلقد كانت البلاد سائرة بخطوات واسعة نحو الخراب؛ فإن مديريات الوجه القبلي كانت تئن تحت وطأة المماليك الحديدية، هذا بينما كان الوجه البحري عاجزا كل العجز عن سد حاجات الجنود من جهة وحاجات الأهالي من الجهة الأخرى، بل لقد اضطر الفلاح في كثير من الأحيان في سبيل أداء مطالب الحكومة وما لحق به من وسائل الإكراه الظالمة التي كان يتبعها مندوبو الحكومة أن يتخلى حتى عن آلاته الزراعية. وقد أصبحت القرى الواقعة في الأراضي المتاخمة لساحل البحر مهجورة، ثم إن شواطئ النيل التي كانت في يوم ما جنة زاهرة قد حكم عليها بالخراب غير الطبيعي.
37
وقد كان الاحتفاظ بالجيش - كما كان شأنه في الماضي، وكما قدر له أن يبقى طويلا - علة العلل في حدوث القلاقل العظيمة؛
38
ففي سنة 1809م كان لدى الباشا نحو عشرة آلاف جندي، ولكنهم كانوا - كما تقضي التقاليد التركية - يتناولون مرتبات 30000،
39
ولقد زادت مرتباتهم هذه وما إليها من مصروفات الحكومة بمراحل عن إيرادات أراضي الوجه البحري حتى في سنة 1806م وعما تقاضته الجمارك من الرسم على تجارة متلاشية.
ولم يكن من سبيل إلى سد العجز إلا بتجديد الضرائب التي فرضها المماليك وخورشيد باشا في الماضي، وفي الضرائب التي أصبحت أثقل وأبغض إلى النفس مما كانت في أي زمن مضى؛ ذلك لأن كل إنسان أصبح مجردا حتى من أمتعته المنقولة، ثم إن الأجانب أنفسهم أرغموا على تقديم الأموال، كما أرغم القناصل على إبداء موافقتهم على ذلك العمل،
40
وقد حدثنا المؤرخ العربي أن الجنود وحدهم هم الذين كانت لديهم دون سائر السكان نفوذ يستطيعون إفراضها.
41
وكان شأن الألبانيين في مصر كشأن الجنود العربية المأجورة التي جاءت إلى بارودا أو إلى حيدر أباد، وكان موضع الحيرة في الموقف هو إما الالتجاء إلى السلب والنهب فيؤدي ذلك إلى استفزاز الأهالي، وإما إغضاء الألبانيين عن اغتصاب الجنود وإثارتهم.
ولقد بذل محمد علي - بلا ريب - آخر ما في وسعه للخروج من هذه الورطة؛ فلقد اجتذب إلى جانبه مثلا رجال الدين وبعض أعيان القاهرة بمنحهم بعض القرى التي كانت للبكوات والمماليك من قبل، وكان يرمي بذلك إلى الفصل بين أهالي العاصمة وحكامهم السابقين فيما لو تناسوا مظالمهم الماضية،
42
على أن المتاعب قد نشأت برغم ذلك من آن لآخر؛ مما أدى إلى إلقاء القبض على مختلف الزعماء أو على أشخاص كان يؤمل أن يكونوا زعماء،
43
وكان مسلك جنوده أشد خطرا من كل هذا.
فبينما كان عائدا إلى القلعة في أحد أيام شهر أكتوبر سنة 1807م أطلق النار عليه نفر من الجنود من منزل مجاور، فجرحوا جواده وأصابوا بعض رفقائه.
44
وبعد أيام قلائل احتشد لفيف من الجنود الألبانيين والعثمانيين أمام داره في المدينة وصوبوا النار فعلا إلى النوافذ، وسرعان ما تحرجت الحالة في المدينة فلم يجد مندوحة من مغادرتها للعودة إلى القلعة.
45
وأصبح باديا للعيان أن زيادة الإيرادات عن النفقات نقصها مهما كانت الطريقة التي تتم بها هذه المعجزة؛ هي أول شرط أساسي في سبيل تحسن موقف محمد علي. وكانت التجارة إحدى الموارد المالية التي فكر فيها على أن هذه الفكرة لم تكن جديدة. ولقد أساء الكتاب الذين أشاروا إلى مركز شركة الهند الشرقية فهم الحقيقة، عندما زعموا أنها محتقرة في أعين الشرقيين لا لسبب إلا لأنها تتاجر، ولكن التاجر العادي إذا شعر باحتقار فليس مرجعه اشتغاله بالتجارة، بل لأنه بلا حماية، لا بل كنت ترى في كافة أنحاء الشرق من الآستانة إلى الصين وبانجوك عددا من عظماء النبلاء وحكام الأقاليم وأبناء ملوك حاكمين وأمهاتهم بل الأمبراطرة أنفسهم كل هؤلاء كان لهم اهتمام مباشر بالتجارة، ولهذا فقد كانت طبيعية ومفهومة ولا محل للتشكك فيها تلك الخطوة التي خطاها محمد علي، وهو الذي احترف قديما تجارة التبغ قبل أن تحدثه نفسه بالانغماس في هذه الجريمة العظمى التي يسمونها في الشرف بالسياسة.
46
ولقد خدمه الحظ في هذه المسألة؛ فإن الإنجليز كانوا الأمة الوحيدة التي يستطيع محمد علي أن يتاجر معها؛ لأن الراية الفرنسية في السنوات الأخيرة من حروب نابليون كانت قد اختفت فعلا من بحار الشرق. ولقد قيل بمناسبة وصول إحدى البواخر الفرنسية إلى الثغر الإسكندري سنة 1808م أنها الأولى من نوعها منذ خمسة أعوام ونصف عام،
47
وقد دخلت هناك سفينة في سنة 1811م فكانت الأولى من عام ونصف عام،
48
ولم يكن يمكن تأمين السفن الفرنسية في مارسيليا إلا بعد دفع 50٪ من القيمة المؤمن عليها فورا. ثم إن الإسكندرية لم تكن يصلها من الصحف إلا صحيفة «مالطة غازيت»، وكانت تنصح - كما قال دورفيشي - بمختلف أنواع القذف ضد الحكومة الفرنسية،
49
ولكن الإنجليز كانوا في الوقت نفسه عملاء متهافتين على القمح المصري؛ إذ ليس يخفى أن تموين أساطيلهم التي تمخر عباب البحر المتوسط من مالطة إلى جبل طارق لمراقبة ما يجري فيه وتموين قواتهم الآخذة في الازدياد، وهي القوات التي كانت تقوم بالأعمال الحربية في إسبانيا، جعل الإنجليز يتهافتون على شراء مقادير كبيرة من القمح. ولقد كانت سنوات الحرب المذكورة سنوات شح في محصول القمح في العالم عدا في مصر، فقد كان الأمر بالعكس؛ لأن ارتفاع مستوى النيل أدى إلى وفرة المحصول،
50
ولقد انتهز الباشا هذه الفرصة التي ساقتها العناية الإلهية إليه، وسرعان ما أصبح تصدير القمح بمثابة امتياز، ويقال إنه أفاء عليه ربحا بلغ 500 في كل مائة.
ولقد بذل دروفيشي - القنصل الفرنسي في القاهرة - منتهى ما في وسعه للحيلولة دون ازدياد هذه الصلات وتوثيقها، ولم يخرج ما حصل عليه من الترضية في هذا الصدد عن مجرد التوكيد بأن الباشا إنما يعمل لمصلحته الشخصية فحسب، وعن إشارة من طرف خفي بأن الإنجليز يحتمل أن يستخدم ضدهم ما قدموه للباشا من أموال وذخائر،
51
ولم تقتصر حركة التجارة على بيع الحبوب ومشتراها. هذا في حين أن ثمنها دفع بعضه كسبائك ذهبية، والبعض الآخر بشكل ذخائر، والبعض بشكل سلع إنجليزية. فمثلا رأينا الساعات الإنجليزية راجت سوقها رواجا لا يوازيه رواج الساعات الواردة من جنيف (التي كان يقال كذبا إنها مصنوعة في بريطانيا)، وهي الساعات التي اعتاد أن يبيعها الفرنسيون في مصر، ثم إن البفتة كانت تستورد من الخارج وتستعمل بدلا من البفتة المصنوعة محليا.
52
ولعل أبغض شيء من وجهة النظر الفرنسية أن هذه العلاقات التجارية قد نشأت عنها صداقة سياسية؛ فإن دسائس دورفيشي ونصائحه في خلال الحملة الإنجليزية في سنة 1807م قد كللت بالنجاح في مبدأ الأمر. مثال ذلك أنه طلب - وقد أجيب إلى طلبه - بأن يعين حارس قضائي على البضائع الإنجليزية الواردة تحت الراية «الفرنسية»،
53
وأعلن حربا شعواء موفقة على أحد الرهبان لاجترائه على نشر نبأ معروف في الإسكندرية بطرد نابليون من الكنيسة،
54
ولكن حدث في سنة 1811م أن إحدى السفن الفرنسية المسلحة المكلفة باقتناص السفن التجارية قد حاولت بيع البضائع التي اغتنمتها، كما أن سفينة أخرى قد أعادت الكرة في سنة 1812م، وحاولت بيع سفينة إنجليزية استولت عليها، ولكن مندوبي إنجلترا أبدوا في الحالتين معارضة شديدة موفقة؛ فقد أدى اعتراضهما إلى بقاء المسألة معلقة ريثما وصلتهم فرمانات من السلطان. وكانت علاقات الصداقة قد توثقت بينه وبين إنجلترا بحظر بيع الغنائم أي البضائع التي تقع غنيمة بأيدي أحد فريقي النزاع في المواني التركية، ولكن هذا كما لاحظ دروفيشي في كثير من الغيظ، لم يمنع توريد بضائع الغنيمة التي حكمت بمصادرتها المحكمة الإنجليزية في لندن وتضييق مجال الانتقام أمام الفرنسيين، وقد قال بهذه المناسبة غالبا: ماذا عسى أن تكون قيمة الغنائم إذا لم نستطع أن نبيعها في جهة من الجهات؟!
55
ويلوح أن التجارة وقد دخلت في موضوع النزاع قد رجحت كفة الميزان كثيرا لمصلحة إنجلترا، وبخاصة لأنها عجلت في ملء خزائن الباشا بعد أن كانت خاوية على عروشها.
وفي الوقت نفسه وللوصول إلى الغاية عينها شرع محمد علي في إصلاح أداة الإيرادات، فلقد سار الفساد السياسي في عهد الإمبراطورية التركية وعهد المغول في هذه الطريق عينها؛ بمعنى أن الإيرادات العامة كانت تبذر يمينا وشمالا لسد مطامع شخصية، ثم إن طريقة فرض الضرائب وطريقة جبايتها كانت قد وضعت بشكل حير عقول الباحثين. وقد سن الأقباط الذين احتكروا لأنفسهم «مهمة المحاسبجية» طريقة حسابية تشبه في تعقدها ما كان يفعله جماعة البراهمة في دفتر بونا، ثم جاء سك العملة بمثابة فرصة نادرة لسلب الفلاح والحكومة على السواء، وأصبح الفدان تختلف مساحته باختلاف الأقاليم وباختلاف الجهات في الإقليم الواحد، ثم إن عادة تأخير مرتبات الموظفين شهورا عديدة أعطى لهؤلاء الحق - وهو ما يرجح أنهم كانوا يفعلونه على كل حال - أن يفرضوا ضرائب إضافية سرعان ما ضمت عند اكتشافها إلى سلسلة الضرائب العامة وحلت محلها ضرائب جديدة أخرى.
ولقد عقد محمد علي النية على أن يشق لنفسه طريقا وسط هذه المساوئ المتجمعة، فقرر في سنة 1808م إجراء تحقيق في مسألة ملكية الأطيان، ولكن أسلاف محمد علي من المصلحين الشرقيين سبق أن حاولوا أن يفعلوا هذا، فكان نصيبهم على هذا الإصلاح أن سلقهم الناس بألسنة حداد.
ولقد أراد الباشا أن يطبق في مصر ما فعله الإمبراطور «أكبر» في الهند، ولم يكن ثمة محيص عن هذا بل كان ضروريا؛ فالضغط الذي استعمله ضد الموظفين المكلفين بجمع الضرائب لم يكن من شأنه أن يحملهم على التخلي عن أجورهم الإضافية. كلا؛ بل أدى بالعكس إلى تشديد وطأتهم على الفلاح الذي بعد أن ضاق ذرعا بما يستعمله من وسائل السلب كل من الملتزمين والموظفين والبدو والمماليك والألبانيين جعل يفر من الأرض ويهجر الحقول دون أن يحرثها.
وكانت نتيجة ذلك أن أمر محمد علي بأن تفحص كافة الهبات التي يزعم الملتزمون لأنفسهم الحق في وضع أيديهم على الأرض بمقتضاها، فقضى بإلغاء جميع ما كان مختل الإجراءات، كما أنه نزع بعد ذلك ملكية الأراضي التي تأخر سداد الضرائب عنها عدة سنوات وعوض أصحابها عن ضياع أراضيهم بمعاشات معينة، ثم خطا محمد علي بعد ذلك بست سنوات خطوة أخرى، فألغى الحصانة التي كانت تتمتع بها الأوقاف إلى ذلك الحين، وأمر بمسح الأراضي من جديد؛ حيث تبين له أن الأطيان التي كانت تدفع عنها أموال أميرية كانت في كثير من الأحيان تدفع هذه الأموال عن نصف المساحة المنزرعة فعلا. وقد سهل محمد علي بهذه الطريقة مسألة توزيع الأراضي.
وأخيرا، قضى محمد علي في سنة 1814م بتجريد باقي الملتزمين من أطيانهم. نعم؛ كانت هذه التصرفات قاسية وبغيضة في نظر الأشخاص الذين كان محمد علي يدين لهم بفضل ما كان ينعم به من التأييد الشعبي، ولكن لم يكن ثمة مناص من أمثال هذه الإجراءات. ولقد بين دورفيشي في سنة 1808م أن ما يقرب من ثلثي الأراضي التي كانت مزروعة فعلا في سنة 1798م كانت بورا، على أن الباشا (مطبقا ما كان يروجه موظفو شركة الهند الشرقية من المبادئ) لم يسمح بأن تبقى الأراضي التي أصبحت في حيازته بلا زراعة، بل أمر الفلاحين بالبدء في حرثها، مع فرض أصرم الجزاء على من يتهاون في أداء أعماله
56
على أن هذا التدخل في حقوق الملكية الذي لم يغتفره الأحرار الإنجليز لمحمد علي لم يمر مصحوبا بذلك الاستهجان العام المألوف. كلا؛ بل إن الأمر لم يخرج عن بضعة اجتماعات بسيطة لا أهمية لها عقدت في الجامع الأزهر ولم تكن لها من نتيجة سوى انتزاع بضعة وعود بتحسين الحالة، وهي وعود لم يدر بخلد أحد أنها ستحترم.
57
وقد أدت هذه التصرفات المالية إلى توطيد الخزانة الأميرية في القاهرة، ومن ثم قل الخطر الناشئ عن جيش الباشا بنسبة الحرص على دفع مرتبات الجنود بانتظام. وفي نفس الوقت أخذت المسألة الخاصة بالمماليك تقترب تدريجيا من الحل الحاسم؛ فلقد رأينا بيكواتهم في سنة 1807م بسبب ما نصبه لهم محمد علي ودورفيشي من الدسائس، وبسبب الاختلاف فيما بين بعضهم والبعض، وبسبب فشل الإنجليز في الاستيلاء على رشيد من الناحية الثالثة أخذوا يهملون استغلال آخر فرصة أتاحها القدر لهم لاستعادة نفوذهم في القاهرة وفي الوجه البحري، ولكنهم كانوا لا يزالون يعتبرون هيئة خطرة يحسب حسابها، وكانوا لا يزالون يحتلون الصعيد تارة فيهددون بذلك القاهرة تهديدا فعليا أو ينسحبون إلى الجنوب نزولا على تقلبات القدر وتبعا للسيطرة العسكرية. وقد يحدث أحيانا أن تجرى المفاوضات فجأة فتسفر عن اتفاقات مؤقتة ليس في نية أحد الفريقين التقيد بها ولا أن تظل محترمة إلا بقدر ما استغرق إجراء المفاوضات من زمن،
58
وكان أشياع ألفي بك ما يزالون يعللون أنفسهم بالآمال بأن تصل إليهم حملة إنجليزية قوية جديدة، فتجهز كلية على عدوهم، ثم تعود في سفنها إلى إنجلترا. هذا بينما كان الأكثر حماسة يرى أن في الاستطاعة الحصول من الإنجليز على بعض الأموال؛ ليتمكنوا من شراء جنود محمد علي، ثم يتولون هم (أشياع ألفي بك) القضاء عليه نهائيا،
59
أما الباشا فكان قد صمم من جانبه على إذلال المماليك جميعا؛ ولذا وجه اهتمامه إلى حملهم على العودة إلى القاهرة ليعيشوا فيها تحت حمايته، ثم انقضت بعد رحيل الإنجليز عدة شهور بين مفاوضات وقتال من ناحية أخرى.
وأخيرا، قبل البيكوات في نهاية سنة 1809م المجيء للسكن في الجيزة
60
على أنهم رغم قبولهم هذا لم يصلوا إلى الجيزة قبل مرور ستة أشهر أخرى. ولما وصلوها فعلا إذا بهم كانوا أشد استعدادا للحرب منهم للسلم. ولقد ظلت جموعهم زمنا طويلا تواجه قوات الباشا، مع أن فريقا من زعمائهم قد انحاز إلى محمد علي إلا أن الأغلبية قررت استئناف القتال، ثم دارت عدة معارك تمكن الباشا فيها من التغلب على خصومه بفضل مدفعيته، وأخيرا قرر أغلب من بقي منهم على قيد الحياة أن يعلن في أوائل سنة 1816م خضوعه
61
بعد أن انهار سلطانهم وفشلت رغبتهم.
وقضت الاعتبارات السياسية المرعية منذ عهد بعيد بالإجهاز عليهم أجمعين؛ ولذا عقد محمد علي النية على أن يبيد كافة هؤلاء الطغاة بعد أن أوقعهم سوء حظهم في يديه. ولتحقيق هذه الغاية كان من المستحسن جمع أكبر عدد منهم في مكان أمين لا سبيل إلى فرارهم منه، وإذ كان قد تقرر إقامة مهرجان عظيم في أول مارس للإنعام على ابن الباشا بكسوة تشريفة بمناسبة تعيينه «باشا جدة» وقائدا للجنود المزمع إرسالها لقمع حركة الوهابيين في الحجاز؛ فقد رأى محمد علي أن يدعو جميع كبراء المماليك للاشتراك في المهرجان المذكور، وسألهم أن يأتوا بكل من شاءوا من الموالي والأتباع.
فانطلت عليهم الحيلة تماما وقصدوا إلى القلعة في حشد كبير للاشتراك في الموكب الذي تقرر خروجه من هناك قاصدا إلى المعسكر عن طريق بوابة الفتوح. وتنحدر من المنصة الصخرية التي تقوم عليها المباني الرئيسية في القلعة طريق ملتوية تتجه إلى العزب (وتؤدي إلى ميدان الرميلة)، وهذا يسهل الإشراف على كل نقطة فيه لإنزال الهلاك بكل من تحدثه نفسه من الأعداء باقتحام الباب. وقد بدأت الجنود الملتحقة بالموكب تنحدر في هذه الطريق، وكان في طليعتها الجنود العثمانيون، ثم الجنود الألبانيون، ثم المماليك، ثم جنود المشاة والسواري. وما كادت طليعة الجنود تعبر الباب حتى أمر الزعيم الألباني بإغلاقه، وكانت هذه إشارة لجنوده بإطلاق نارهم على المماليك وهم ينحدرون في الطريق المذكورة التي سرعان ما تعطلت فيها حركة المرور بسبب ما تراكم فيها من جثت القتلى من آدميين وخيول، أما من نجا فقد انهال عليه الرصاص وهو يحاول الفرار أو قبض عليه وجيء به إلى الباشا حيث أمر بإطاحة رأسه، ويقال إنه لم ينج إلا شخص واحد من المماليك في هذه المذبحة التي لم تكن فصل الخطاب بحال ما؛ ذلك لأن الأوامر قد صدرت إلى الجنود بأن يهبطوا إلى المدينة فيقتلوا كل من عثروا عليه من المماليك.
وقد صدع الجنود بالأمر وراحوا يشنون الغارة على قصور المماليك وينهبون ما فيها بعد أن أجهزوا على ساكنيها، وكان أحد الأوروبيين قد ذهب إلى دار قريبة من القلعة لمشاهدة الموكب المزعوم، ولكنه ما كاد يعود أدراجه إلى منزله حتى رأى جمعا من الأسرى المساكين وهم يساقون إلى ساحة الإعدام، لا بل لقد شهد بجانبه واحدا منهم يخر قتيلا بضربة سيف شطرته نصفين، وقد رأى نساء أحد البيكوات يسوقهن الجنود الألبانيون كأنهن قطيع من الغنم، وكان أينما ذهب وقع نظره على الجنود وهي محملة بمختلف أنواع السلب واغلة في الانتقام.
62
ولقد تمكن الباشا بعد ذلك بعام من تمثيل مأساة كهذه؛ فقد كان لا يزال يوجد بعض المماليك في مختلف مديريات الصعيد، فبعد أن لبث يطاردهم ويضيق عليهم الخناق مدة أشهر بالقوة التي أرسلها إليهم، وعلى رأسهم إبراهيم ابنه، سلم إليه 800 من المماليك ومعهم نحو 2000 من مواليهم، فأرسلوا جميعا إلى النطع من فورهم،
63
وبهذه الوسائل الشبيهة بوسائل كرومويل أصبح الباشا سيد مصر المطاع لا ينازعه أحد سيادة البلاد.
وليس فيما علق به دورفيشي على هذه الحوادث الشاذة ما يزيد الموضوع إيضاحا، فبينما كانت برك الدماء لم تجف بعد في القلعة، وبينما كانت المدينة ما يزال يلوح عليها أثر انتهاب قصور المماليك، ولم يكن ما حدث في نظره سوى «إعدام قطيع» جرد الإنجليز من أصدقائهم الباقين،
64
ولكن القنصل الفرنسي لم يتنبه إلى الجانب الأدبي للمأساة إلا بعد أن اجترأ ميسيت على ضم تهانئه إلى جانب تهاني الفرنسيين، وإلا بعد أن تبين أن مركز الإنجليز بدلا من أن يسوء قد أخذ يتحسن باطراد، ومن ثم أخذ القنصل الفرنسي المذكور يصف ما اتخذ أخيرا من الإجراءات ضد المماليك بأنها إجراءات شريرة ولا مسوغ لها.
وقد أراد البعض التخفيف من شأن هذه المذابح بأمرين؛ الأول: أن البكوات تآمروا فيما بينهم على خلع محمد علي. والثاني: أن ديوان الآستانة هو الذي حرضه على ارتكاب تلك الفعلة. وقد يكون كلا السببين صحيحا، ولكن السبب الحقيقي يختلف بلا جدال عن ذلك؛ فلقد كانت سلطة الباشا ما تزال مزعزعة، ثم إنه كان قد طلب إليه مرات عديدة أن يذهب على رأس حملة لتوطيد الحالة في بلاد العرب، فلم يكن يعقل طبعا أن يضعضع قوته ويترك للمماليك الفرصة للتغلب عليه.
وليس من شك في أن الباعث الذي دفع تيمور لنك إلى التخلص من أسراه بقتلهم أمام أبواب دلهي هو نفسه الذي دفع محمد علي إلى قتل المماليك، ثم إنه لا يوجد ما يدعو إلى الظن في أنه يتردد في تنفيذ نيته بمجرد اقتناعه بأن مركزه محفوف بالخطر، على أنه - والحق يقال - لم يكن من أولئك المتعطشين للولوغ في الدماء، كما أنه لم يكن ممن يعمد إلى القتل حبا في القتل، ولكنه من الجانب الآخر لم يكن مدفوعا بعاطفة الرقة حيال الحياة الإنسانية التي بدأت تعم بلاد العرب في إبان القرن الغابر، بل كان يرى أسبابا عديدة تسوغ القتل تمام التسويغ، ولم يكن اعتقاده هذا بالشيء الغريب؛ فإن كل من غشي ديوانه من الأصدقاء أو الرفقاء أو الضباط أو الرؤساء كان لا بد أن يرمي محمد علي بقصر النظر لو أنه رأى غير ذلك الرأي. وفي العام التالي تمكن جلال الدين - حاكم حلب - من إطاحة رءوس زعماء الإنكشارية جملة واحدة.
65
فكل ما فعله محمد علي هو أنه كان موفقا التوفيق كله فيما عجز قبطان باشا عن فعله من سنوات.
وليس ثمة ما يمكن إضافته بعد ذلك إذا نظرنا إلى المسألة من ناحية الأخلاق التركية. وبديهي أن وجهة نظر محمد علي وآراءه كانت كلها تركية تماما، ولم يكن يعقل أن تكون عدا ذلك، فإن مولده ونشأته وتجاريبه في الحياة، كل هذه العوامل أدت إلى إخراج رجل قوي الشكيمة لا يدركه الوهن دون غاية من الغايات . وليس وجه الغرابة في أن محمد علي قد أسس ملكه كما يؤسسه التركي، بل في قدرته - على عكس أي تركي آخر في زمنه - على التطور وامتصاص الآراء الجديدة وتحويرها؛ لتكون ملائمة لمختلف الظروف والملابسات الحديثة. وقد كشفت له عيناه الثاقبتان عن مواطن الضعف الأساسية في بناء الحكم الشرقي الحاضر، وكانت توجد إلى جانب سعيه المتواصل لوضع أسس سياسية حكيمة لتوطيد مركزه وتأمين مركز ذريته في المستقبل قوة كامنة غريبة وشعور بالقوى التي تبنى بها الدولة أو تكون سببا في انهيارها وخرابها، ومقدرة على مواصلة الكفاح للتحسين، وعين يقظى تنظر إلى مساوئ الأداة الإدارية. وهي صفات لم تجتمع لحاكم شرقي من أيام أكبر عاهل المغول. وفي الواقع فإن حكمه يعتبر بمثابة نقطة تحول لا في تاريخ مصر وحدها بل في تاريخ الشرق الأدنى بأسره؛ فلقد كان في طليعة معاصريه في تطبيق الأفكار السياسية الغربية على شئون الشرق.
الفصل الثاني
عماد الإمبراطورية
بلاد العرب والسودان
بعد أن دانت لمحمد علي الأمور وأصبح حاكم مصر الفعلي والأسمى، مرت فترة من الزمن تبلغ العشرين ربيعا، فدفعت به الظروف إلى أن يظهر بوجه عام بمظهر الخادم المخلص والعبد النشيط المطيع لأوامر مولاه صاحب الجلالة سلطان الروم والخليفة ظل الله في الأرض ... على أن طاعته هذه لم تكن حقيقية، كما أن غيرته كانت مصطنعة. وأغلب الظن أنه منذ أول يوم خطرت له فكرة أن الاستيلاء على حكومة مصر ليس بالأمر الذي لا يمكن تحقيقه عمليا؛ فإنه شرع يغذي الأمل في أن يحكم وادي النيل يوما ما، لا كنائب عن سيد آخر، بل كحاكم مستقل.
نعم؛ كان طاهر باشا زميله في حمل السلاح يحلم بالحكم المستقل، ولكن مواظبة محمد علي قد حققت هذا الحكم، فأخرجه من حيز التفكير إلى حيز العمل. ولقد عرض الزعيم الألماني على الإنجليز في سنة 1812م،
1
كما عرض على الفرنسيين في سنة 1810م
2
عقد محالفة فيما لو اعترف به هؤلاء أو أولئك حاكما للقاهرة، لا بل لقد عرض فعلا على ديوان الآستانة سنة 1810م أن يكون شأنه كشأن حكام ولايات البربر في شمال أفريقيا.
3
ولكن الإنجليز والفرنسيين رفضوا الاقتراح المذكور؛ مراعاة للحالة السائدة في أوروبا وقتئذ من ناحية، واحتراما لما بينهم وبين السلطان من المحالفات من الناحية الأخرى. ويلوح أن محمد علي لم يقدر تماما ما تقاضاه السلطان ثمنا للإنعام الذي طلبه زعيم الألبانيين، على أن هذا الفشل من آن لآخر لم يفت في عضده ولم يحوله عن رأيه، بل أدى فقط إلى حمل محمد علي على إخفاء نياته وكتمانها، ولقد كان من شأن إخفاقه في عقد التحالف مع إحدى الدولتين الأوروبيتين سالفتي الذكر، أنه امتنع عن مناصبة الباب العالي العداء، ومع أنه قلما أطاع ما صدر إليه من الأوامر إلا إذا كان من الممكن تحويله إلى تعزيز نفوذه وتوطيد مركزه؛ فإن تصريحاته العلنية كانت دائما، والحق يقال، تصريحات التابع الموالي المخلص. وبالجملة، فقد كان ثمة خلال هذه الفترة خلاف حاد بين ما يجاهر به محمد علي علنا وبين الغاية الحقيقية التي كان يرمي إليها سرا.
ولقد كانت الحالة الداخلية في الإمبراطورية العثمانية كثيرة الشبه وقتئذ بحالة إمبراطورية المغول في أوائل القرن الثاني عشر؛ فقد نخر السوس عظامها سواء بسواء، فديوان الآستانة كقصر المغول من قبله كان قد أصبح ولا شاغل له إلا شئون الوزراء الخصوصية والمصالح الفردية لكل منهم، ثم إن باشوات الإقليم التركية كنواب حكام المغول لم تكن تربطهم بالحكومة المركزية إلا روابط واهنة.
وقد كانت بغداد والقاهرة عاصمتين منفصلتين، كما كانت حيدر أباد ولكناو من قبل، ولكن كان ثمة فارق فيما يحيط بالإمبراطوريتين المتداعيتين من العوامل السياسية، فإن جيران المغول من قبائل ماراتا أو الأفغان كانوا بعيدين بعضهم عن بعض، ثم إن تصرفاتهم السياسية كانت مسيرة إلى أبعد حد بقانون الطبيعة، بحيث أن كلا الفريقين لم يحجم عن الاستيلاء على دلهي إلا خوفا من أن يخرج الفريق الآخر بنصيب الأسد من الغنيمة، أما أملاك السلطان فقد كانت - على العكس من ذلك - متاخمة لسلسلة من الدول الأوروبية، مرتبطة فيما بينها بعدة روابط كل منها متيقظة تمام التيقظ لتوسع الأخرى وانتشار نفوذها، فكانت النتيجة أن إمبراطورية المغول، بينما تركت وشأنها إلى أن تحللت بفعل العوامل الطبيعية وضربت فيها الفوضى أطنابها، فإن الأملاك العثمانية ظلت متماسكة بفعل المؤثرات الخارجية أمدا طويلا حتى بعد أن زال تماسكها الداخلي. من أجل هذا كان تصرف محمد علي بصفته دعامة الإمبراطورية مدفوعا بهذا الاعتبار.
ولم يكن ثمة ما يدعو محمد علي إلى الاعتراف بالجميل؛ لأن الباب العالي إذا كان قد ظهر ثبات في موقفه فقد كان فقط في عدائه لوالي مصر؛ فلقد بدأ باتهامه بالتآمر مع بيكوات المماليك لتحقيق لباناته الشخصية وإنزال الأضرار بالدولة، فلما أرسل رءوسهم لتعلق على الأعمدة عند مدخل البوابة الكبرى لقصر الآستانة، وجه إليه الباب العالي أشد اللوم لإقدامه على قتل أخلص أنصار السلطان،
4
بل إن الباب العالي كثيرا ما طالبه أثناء كفاحه مع المماليك من أجل عرش مصر أن يتأهب لقمع حركة الوهابيين في بلاد العرب، ولكن كان محمد علي يعتذر في كل مرة لغاية سنة 1811م، بما قد يترتب من الخطر بسبب ترك «أولئك الزعماء المصريين البؤساء خلفه في مصر»، ويشير إلى ما يصلهم من التشجيع والمساعدة من باشا سوريا المجاور لهم، ويبالغ في مصاعب الحصول على السفن اللازمة للملاحة، ولنقل مهمات الحملة في البحر الأحمر؛
5
فإذا كان محمد علي قد قرر في النهاية أن يصدع بأمر الآستانة، وأن يطيع ما يشير به السلطان، فلم يكن ذلك باعثه مجرد العواطف الجوفاء كالطاعة أو الولاء؛ فلقد رأى ألا حرج عليه من القيام بالحملة المذكورة ضد بلاد العرب بعد أن دانت له الأمور واطمأن باله من ناحية المماليك، ثم إنه رأى من ناحية أخرى أن الحملة قد تشغل أولئك الجنود الألبانيين المشاغبين الذين أطلقوا عليه النار وهو لا يزال منهمكا في مكافحة المماليك، وقبل أن تتم له الغلبة عليهم؛ لذلك أحس أن وجود الجنود الألبانيين في مصر أثناء تغيب بقية الجيش في بلاد العرب قد يغريهم ويدفعهم إلى أعمال الشغب بعد أن خلا لهم الجو ولم يبق أمامهم من يضرب على أيديهم. وأخيرا، رأى في إخراج الوهابيين من الأراضي المقدسة ما قد يرفع من شأنه ويعلي من مكانته في كافة أنحاء العالم الإسلامي.
وكان أول ظهور المذهب الوهابي في بلاد العرب حوالي منتصف القرن الثامن عشر، فإن زعيم الجماعة محمد بن عبد الوهاب بعد أن أتم دراسته في دمشق وبغداد ولى وجهه شطر مكة وألقى عصار التسيار فيها، وهناك جعل ينعم البصر عن كثب في كيفية معيشة الحاج وعاداتهم، ولم يكن من شأن كل هذا إلا أن يقوي في نفسه الاعتقاد بأن الإسلام قد أغارت عليه البدع، وأفسدته التقاليد الجديدة ولا محيص له من العودة إلى ما كان عليه في عهد السلف الصالح من الطهارة والبساطة، ومن ثم شرع يشن الغارة على زخارف الحياة في عصره، ويذكر الناس في عبارات بليغة مؤثرة بأعمال الهدى كما نص عليها القرآن الكريم، ويبين لهم متى يمكن تسويغ الانحراف عن المرمى المقصود من المعاني القرآنية، وقد طفق يبشر بهذه المبادئ الطهرية في قريته من أعمال نجد. ولما لم يكن كبير الشأن في قريته التي كان فيها مسقط رأسه، ونظرا إلى أنه كان إلى ذلك الحين بمثابة نبي غير مسلح، فقد هاجر كما هاجر من قبله النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
إلى حيث يستظل بحماية أمير الدارعية محمد بن السعود.
وسرعان ما اعتنق الأمير المبادئ التي كان يبشر بها محمد بن عبد الوهاب، وهكذا وجدنا في قلب نجد حكومة دينية متوحشة جعلت ديدنها شن الغارة وإعلان الحرب على جيرانها المسلمين الذين انحرفوا عن الدين بما ابتكروه من البدع. وقد سارعت الحكومة المذكورة إلى التنديد بالخلافة التركية، وبادرت إلى تحدي من يجاورها من باشوات الإمبراطورية العثمانية، وكان طبيعيا أن لا يجد المذهب الوهابي كبير مقاومة في حالة الضعف والوهن التي كانت فيها الإمبراطورية المذكورة وقتذاك، وقد ساوى الوهابيون في كرههم بين الشيعة والسنيين بانتهاك حرمة الأماكن التي يقدسها الفريق الأول في كربلاء والفريق الثاني في مكة والمدينة، ولم يتورعوا عن أن يقتلوا مئات المتعبدين والناسكين في داخل حرم الأماكن المذكورة.
وقد أحدث احتلال الوهابيين الحجاز رجة وأي رجة في أنحاء العالم الإسلامي، وكيف لا وقد ترتب عليه تعطيل حركة الحج السنوي إلى الأماكن المقدسة تعطيلا تاما؟! ففي سنة 1805م وكذلك في سنة 1806م اضطر الحج السوري أن يعود أدراجه إلى الشام دون أن يتمكن من الوصول إلى الحرمين؛ مما أدى إلى معاقبة باشا دمشق واستبداله بآخر. وفي الحق، لقد كان هذا العقاب في محله، فإن أموال «الميري» عن أراضي مديريتي دمشق وطرابلس الشام قد خصصت «بحسب الأساليب التركية في الشئون المالية» للقيام بما يستلزمه إرسال الحج الشامي إلى الحجاز وحمايته من النفقات. وكأنما رأى باشا دمشق أن الوهابيين كانوا للحجاز بمثابة نعمة جادت بها السماء عليه؛ لأن تعطيل الحج يمكنه بناء على ذلك من تحويل الأموال المذكورة إلى جيبه الخاص. ومن هنا لم يلاحظ على باشا دمشق هذا أنه قام بأي مجهود يذكر لإقلاق خواطر الوهابيين وإقصائهم من مكة والمدينة.
6
وكان السلطان قد ظل السنوات العديدة قبل ذلك، وهو يصدر من الأوامر التي لا يؤبه لها إلى كل من والي دمشق وبغداد لطرد المغيرين من الأراضي المقدسة؛ ذلك لأن حماية تلك الأراضي يعتبر في نظر التقاليد الإسلامية من أسمى علامات الشرف، فلم يكن غريبا والحالة هكذا أن يعتبر طرد الأتراك منها عارا وأي عار. لهذا ولى الباب العالي وجهه شطر باشا القاهرة الناشئ، وقد خيل إلى السلطان أن يكون في الوقت نفسه قد قام بمناورة عظيمة لو أنه تمكن من حمل باشا القاهرة على إنهاك قواه وتبديد موارده باستخدام جنوده في القضاء على الوهابيين؛ لأنه بذلك لا يستعيد الحجاز فقط بل ويستعيد أيضا مصر إلى قبضة يده. وهكذا رأينا الباشا والسلطان يتحدان في النهاية (وإن كان هذا الاتحاد لبواعث مختلفة) تحدوهما رغبة واحدة في إعادة فتح بلاد العرب التي تعتبر مهد الإسلام.
ومن ثم، بدأ ابنه طوسون زحفه الحقيقي في أواخر سنة 1811م، وهو الزحف الذي بدأ مرة قبل ذلك بالوليمة التي شهدت مأساة المماليك في القلعة وطاحت فيها رءوسهم، على أن المأساة وقعت في هذه المرة، لا قبل الشروع في الزحف بل بعده؛ لأن الحملة نزلت في السفن في السويس وألقت مراسيها في ينبع، ولكنها حوصرت في أوائل سنة 1811م في مضيق واقع على الطريق المؤدي إلى المدينة، ودارت رحى القتال مدة ثلاثة أيام كانت نتيجتها عودة المغيرين القهقرى إلى ينبع، بعد أن فقدوا كافة بطاريات الطوبجية،
7
أما الانسحاب فقد بدأه كبير ضباط طوسن إلى أن وصل إلى ينبع في أمان، ولكن سرعان ما أطيحت رأسه - بناء على أوامر محمد علي - لشد عزيمة بقية الجنود. وقد انتهز الباشا فرصة هذا الانسحاب للتخلص من بعض المشاغبين من زعماء الألبانيين ممن كانت لهم نزعات ثورية وميول للشغب تسبب قلقا له، وكان طبيعيا بعد ما لحقهم من عار الهزيمة، وبعد أن ضاقوا ذرعا بمصاعب ومشاق القتال في بلاد العرب القحلاء، حيث لا تزيد فيها الغنيمة عن بضعة إبل مع ما يتعرض له الإنسان من خطر القتال، نقول: كان بديهيا بعد ذلك كله ألا يطيل أولئك الزعماء الألبانيون اعتراضهم عندما اقترح عليهم الباشا أن يغادروا مصر، وأن يبحثوا عن خدمة في الجيش العثماني في جهات أخرى تكفل لهم المكسب وتدر عليهم الأرزاق.
وقد انقضى فصل الحر عام 1812م في اتخاذ هذه الإجراءات والقيام بتجهيز الاستعدادات لحملة ثانية، وقد تضمنت هذه الاستعدادات إغواء بعض القبائل العربية في الحجاز بوسائل عرفناها في العصور الحديثة؛ لتسهيل الزحف على المدينة. وقد كللت هذه الإجراءات بالنجاح، وكانت نتيجتها طرد الوهابيين من المدينة في شهر نوفمبر، ومن مكة ثم جدة في أوائل العام التالي. ومن ثم بسط محمد علي ظله على الحجاز وأصبح سلطان الآستانة ينادى باسمه من جديد من فوق المنبر في الأراضي المقدسة.
8
ثم ذهب محمد علي بعد شهور قليلة بنفسه إلى مكة «لتوطيد دعائم النظام» في ممتلكاته الجديدة،
9
ولكن تبين أنه كان يرمي من وراء هذه الزيارة إلى تعيين «شريف» جديد في مكة؛ لأن الشريف القديم لم يكتف على ما يظن بالعطف على الوهابيين وتقديم المساعدة لهم، بل كانت في حيازته أيضا أموال طائلة، وقد تم خلع الشريف بمنتهى السهولة وأرسل هو أولاده الثلاثة إلى القاهرة،
10
على أن هذا التصرف قد أقلق عددا من القبائل العربية، ومن ثم شرع الوهابيون يحشدون قواتهم من جديد في الصحراء، وإذ ذاك أرسلت التعليمات إلى القاهرة في طلب عدد جديد من الجنود لصد هذا الخطر، فأمر الباشا بإرسال 10000 جندي في أسرع وقت ممكن، ولما لم يكن في مصر وقتئذ سوى 12000 جندي؛ فقد كان لا مناص من الالتجاء إلى التجنيد العنيف لسد هذا الطلب. ولهذا أخذ المراكشيون من بلاد البربر والرقيق السوداني واليونانيون - بل والأرمن - يلتحقون بالجيش ويرسلون أفواجا أفواجا إلى جبهة القتال
11
هذه الحملة التي بدأت في سنة 1814م افتتحت بكارثة كما افتتحت حملة طوسن من قبل.
فإن إحدى فصائل الجيش قد هاجمها العرب على غرة منها، وهي على مسيرة يومين من الطائف، وما كان الفريقان يلتحمان حتى فر من الميدان عشرة من الضباط الكبار الاثنى عشر وقد أخذوا معهم معظم رجالهم.
وهنا اعتلى محمد علي ظهر بعيره وانطلق كالسهم لمقابلة الفارين الذين لم ينفع الوعد ولا الوعيد في لم شملهم، فكانت نتيجة ذلك أن سبعة قومندانات حرموا من رتبهم وأعيدوا إلى القاهرة. والمظنون أن الثلاثة الباقين قد أعدموا،
12
وقد أصيب المصريون بهزيمة أخرى عندما شرعوا في مهاجمة «طربا» بقيادة طوسن.
ويظهر أن الفصيلة المذكورة قد ضللها الدليل؛ ولهذا داهم الوهابيون خيامها ليلا واستولوا على كافة أمتعتها ومدفعيتها، وكانت نتيجة هذه الكارثة تفشي اليأس بين الجنود المصريين. ولقد ذكر أحد أذكياء السائحين - ويشير ميسيت بهذا الوصف إلى الرحالة بوركنهاردث الشهير الذي كان وقتئذ في جدة؛ أي: في شهر أغسطس - ذكر أن الجنود قد خارت عزائمهم بصفة عامة، واستولى عليهم القنوط والتذمر بسبب غلاء المعيشة، حتى بلغت الأثمان هنا ضعفها في مصر، وخاصة أنه ليس ثمة أمل في المكسب ولا مجال للسلب والنهب؛ فليس في بلاد العرب فلاحون يمكن انتهابهم، ولا قرى عامرة صالحة للاستلاب؛ فأعداؤهم ليسوا إلا مجرد رجال بدو في أطمار بالية، وكل ما يطمع الجند المصري أن يغنمه بعد الجهود الشاقة هو بعير عراه الهزال من شدة الجوع.
13
ثم دار الزمن دورته وبدأ الحظ من جديد يبتسم للجنود المصرية. وجلية الخبر أن ابن السعود فارق هذا العالم في شهر أبريل ولم يتمكن أولاده الثلاثة من الاتفاق فيما بينهم،
14
وفي الوقت نفسه وصلت الإمدادات للجيش المصري، وأمكن استرضاء زعماء العشائر وأشياع مشايخ القبائلي، ونزل الباشا بنفسه بعد الاحتفال بالعيد في مكة إلى حومة الوغى بقيادة الجيش، ويقال إن الوهابيين كانوا قد حشدوا قوة تقدر بأربعين ألف مقاتل في جبهة «بصيلة» على مسافة 12 ميلا في غرب «طربا» فداهمهم محمد علي، وبعد معركة دموية حامية - وهذا وصف محمد علي نفسه - تفرق الوهابيون أيدي سبأ، وواصل الفرسان المصريون تعقب آثارهم مدة ساعة ونصف ساعة، وقد استولوا على المخيم الوهابي بما في ذلك 5000 رأس من الإبل وكثير من الأجهزة والأمتعة.
15
وقد كان هذا الانتصار الباهر خليقا بأن يؤدي إلى قمع الحركة الوهابية بصفة نهائية، ولكن هذا الأمل لم يتحقق لعدة أسباب، فإن الباشا كان بعيدا عن القاهرة أكثر من عام، ثم إن الباب العالي حاول مرة على الأقل أن يخلعه من باشوية مصر،
16
وفوق هذا، فإن عودة بونابرت من «ألبا» قد فتح الباب لحدوث اضطرابات جديدة في القارة الأوروبية بما يمكن أن يفيد محمد علي منها سياسيا؛
17
فلهذه الأسباب وغيرها قرر محمد علي أن يعهد لابنه طوسن بأن يواصل القتال إلى النهاية، وقد أظهر هذا عجزه كما أظهره في المرة السالفة، فلقد بدأ الزحف الذي كان ينبغي أن يؤدي به إلى قاعدة الوهابيين في «الدارعية»، ولكنه وجد أن المئونة قد نفدت، ونحسب أن الوهابيين لو كانوا تحت قيادة زعيمهم المتوفي وقتئذ لأنزلوا بالمغيرين المصريين هزيمة حاسمة، ولكن عبد الله أميرهم الجديد كان قد استولى عليه اليأس وفقد كثيرا من توازنه بعد انتصار المصريين في بصيلة؛ فأحجم عن الهجوم كما أحجم طوسون عن مواصلة الزحف، وكانت النتيجة أن الفريقين اتفقا على عقد صلح تنازل بمقتضاه الوهابيون عن كافة حقوقهم على القبائل الضاربة في الجهات التي استولى عليها محمد علي. ولما كان هذا الصلح قد ترك في أيدي الوهابيين بعض المناطق الواقعة في شمالي المدينة وشرقيها وفيما بينها وبين مكة؛
18
فقد كان يعتبر بمثابة هدنة مؤقتة تحترم إلى أن يأنس أحد الفريقين من نفسه القوة الكافية على استئناف القتال.
وفي أوائل شهر يناير سنة 1816م، أي بينما كانت القارة الأوروبية المتعبة تتمتع بفترة طويلة من السلام لم تعتدها من قبل، وصلت الأنباء - أو على الأصح أذيع في القاهرة - أن بعض القبائل العربية قد عكرت صفو السلام، وأشعلت نار الثورة بتحريض الوهابيين، وكانت المنية قد أنشبت أظفارها في طوسون بعد عودته من حروب الصحراء، ومن ثم عهد الباشا بقيادة الحملة الجديدة إلى إبراهيم وهو الابن الثاني لباشا مصر، وقد كان يسمى «أسد الشجعان الذي كانت آراؤه سديدة موفقة في كل حين.»
19
وشاءت الأقدار أن يلعب هذا القائد الجديد دورا مهما فيما يقع في السنوات المقبلة من الحوادث الخطيرة.
كانت ولادة إبراهيم في قولة سنة 1789م، وكانت سنه لا تتجاوز السادسة والعشرين ربيعا عندما اختير لقيادة هذه الحملة، كان قصير القامة قوي البنية وعلى جانب عظيم من النشاط، وكان في وسعه أن يقاوم متاعب اللذات ومتاعب الحرب على السواء، كان أزرق العينين عالي الجبين ذا لحية شقراء، وكان كثير النشاط عقلا وجسما، وكان أشبه بوالده محمد علي من حيث الشجاعة المقرونة بأصالة الرأي، ولكن كانت تنقصه حلاوة حديث أبيه وجاذبية أخلاقه وصدق فراسته، سواء في الناس أو في المواقف،
20
وكان صارما يبعث الرهبة في النفوس بعكس أبيه الذي يبعث الإعجاب ويسحر الناس بحلو حديثه. وأحسب أن إبراهيم ما كان ليستطيع أن يشق لنفسه طريق المجد كما فعل أبوه محمد علي، ولكنه كان جنديا يشار إليه بالبنان على كل حال، فقد أصبح الساعد الأيمن لأبيه، ينظر إليه بعين الهيبة المقرونة بالطاعة البنوية، وينفذ أوامره بمنتهى الإخلاص والدقة، ثم إنه ورث عن أبيه أيضا حب النظر في المسائل بنفسه ، بدلا من وضع ثقته فيما يقدم له من التقارير.
21
وكان أول ما وجه إليه اهتمامه ليس إدراك فوز حربي معين، وأنه كان يرى أن الوقت المناسب لم يحن له بعد، بل اكتساب بعض زعماء القبائل إلى الجانب المصري، بعد أن أخذوا يضيقون ذرعا بالحكم الوهابي. وبهذه المناسبة كتب «هنري صولت»، وهو الذي خلف ميسيت في منصبه في أوائل سنة 1817م، يقول: «إن ما أبداه إبراهيم من المواهب في استمالة مختلف القبائل البدوية ليدل على أن النجاح سيكون حليفه في النهاية.»
22
ولم يعد هذا العميد الحقيقة عندما عزا نجاح إبراهيم إلى عزيمته التي لا تفل أو على الأصح قسوته حيال معارضيه، وإلى إشرافه على خزانة الأموال وإلى ما كان له من حسن السمعة وشدة المحافظة على وعوده؛ وهي خلال ثلاث لا مناص منها لبسط نفوذ الإنسان بين القبائل العربية،
23
ثم إن إشرافه على مرءوسيه كان في الوقت نفسه يخالف كل المخالفة تساهل طوسن حيالهم. وقد ضرب لنا صولت مثلا على صحة هذا الأمر، فقال: «إن المدعو حسن أغا المشرف على شئون حدود الحجاز وقع في كمين؛ فبدلا من أن يكون أول الفارين إذا بالأغا يطلق النار على جواده فيرديه أمام خط القتال، وبذا شارك الأغا مصير رجاله.»
24
ولعمري إذا كان في استطاعة إبراهيم أن يثير في نفوس رجاله مثل هذا الشعور الشريف بالواجب فجدير به أن ينجح.
أما عبد الله بن سعود، فقد خيل إليه أنه في مأمن من طوارئ الحدثان؛ لوجوده في معقله الصحراوي في الدارعية، على أن إبراهيم سرعان ما زحف بعد أن أتم خططه وأكمل استعداده، وقد واصل زحفه لا كفاتح، ولكن كصديق وحام، ولم يكن هناك أي توازن في دفع ما يطلبه الجيش من قرب المياه أو التمر أو الخشب.
ثم إن ما سنه من النظام القاسي حال دون ما اعتاده الجنود من أعمال السلب وارتكاب المحظورات، وكان جديرا بأن يكسب بهذا التصرف شيئا من التأييد الذي كان من نصيب الجيش الإنجليزي أثناء زحفه في الهند. ولكن برغم هذا كله فإن الحملة قد أبهظ عاتقها ما كان يحيط بها من المصاعب الناشئة عن طول طرق المواصلات، وارتكازها على القاعدة البحرية في جدة. وفي الحق أن ما لا يقل عن 80000 بعير قد استخدمت في صيانة طرق المواصلات،
25
ولم يكن لدى إبراهيم عندما وصل إلى الدارعية سوى 6000 جندي فقط. وقد لبث أمام المدينة ثلاثة أشهر كاملة دون أن يستطيع شيئا، ومما زاد الطين بلة أن مخزن الذخيرة انفجر بفعل النار. ونحسب أن قائدا غير إبراهيم كان يهون عليه في ظروف حرجة كهذه أن يقود جنوده إلى أعمال النهب وسفك الدماء على طول خط التقهقر، ولكن إبراهيم احتفظ بمكانته وصمد لهجمات العدو إلى أن وصلته الإمدادات والذخيرة من جديد، ومن ثم أخذ يضيق الحصار، وأخيرا تمكن من الاستيلاء على القلعة في سبتمبر سنة 1818م، وقبض على زعيمين من مشايخ الوهابيين، فحلق لحيتيهما المرسلتين، وطمر أسنانهما، وجعلهما أضحوكة أمام الناس،
26
وفي الوقت نفسه قضى بإبعاد عدد من أفراد الأسرة إلى القاهرة،
27
وأرسل عبد الله بن سعود إلى الآستانة لمفاوضة السلطان في الصلح إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
وهكذا تلاشى الخطر الوهابي مؤقتا، ونجح ساعد إبراهيم القوي وعزيمة محمد علي المنظمة فيما أخفق فيه من قبل باشا بغداد أو باشا سوريا، وذلك على الرغم من قربهما النسبي من قاعدة الوهابيين «الدارعية»، وبالرغم من تغافل إبراهيم عن تنفيذ المشروعات السابقة؛ لمحاولة إقناع دعاة المذهب الجديد بالوسائل السلمية بأنهم قد حادوا عن طريق الصواب.
وقد أهدى أهالي الصوفية في فارس إلى محمد علي سيفا مقوسا نفيسا رصعت قبضته، فضلا عن غمده بالأحجار الكريمة النادرة.
28
بل إن الباب العالي لم يتمالك نفسه من شدة الفرح بمثل هذا النجاح الخارج عن المألوف، فأمر بقطع رأس شيخ الوهابيين وكبيرهم، وعين إبراهيم واليا على الحجاز والحبشة.
29
هذا بينما القنصل الإنجليزي قد اهتز طربا للقضاء على من أسماهم عصبة من اللصوص، برهنوا على أنهم أشد تعصبا وأقل تسامحا وأكثر عداء لتقدم المدنية من نفس أتباع العقيدة الإسلامية الذين كان الوهابيون يطمحون في أن يحلوا مكانهم.
30
ويظهر أن الإمبراطورية العثمانية كانت مرتاحة كإمبراطورية المغول وإمبراطورية المرانا والفرس والصينيين أشد الارتياح إلى عدم تعيين حدود أراضيها بصفة قاطعة؛ مما فتح الطرق أمام الآستانة لاستنكار أو تجاهل ما قد يقوم به الجيران من الحكام من أعمال الاعتداء والاستفادة من أعمال ولاتها في الأقاليم أو التنصل منها حسب ما يتراءى لها، فلقد كانت توجد دائما فيما وراء الأقاليم الواقعة تحت إدارة السلطان الفعلية والاسمية مناطق مبتهجة كان الأتراك قد هبطوها مرة كفاتحين.
وكان وجودهم فيها داعيا لإدخال الرعب مؤقتا في قلوب زعماء هذه الجهات، وحملهم على إعلان خضوعهم وطاعتهم لهؤلاء الفاتحين أو لتقديم ولائهم للسلطان بصفته الخليفة؛ طبقا للتقاليد الإسلامية القائلة بوجوب الاعتراف به والنزول على أوامره ونواهيه؛ فهذه المطالب التي لم تكن لتحتمل البحث لو عرضت أمام قضاة أوروبيين قد تناولت البقاع الممتدة على طول حوض البحر الأحمر وما وراءها إلى عدن، ثم عبر البحر المذكور إلى بعض المواني الصغيرة كمصوع وسواكن على الشاطئ الأفريقي، وهذا هو السر في أن لقب إبراهيم باشا تضمن أيضا الإشراف الاسمي على الحبشة، وهو الإشراف الذي لم يكن يزيد في الواقع على مجرد الحق في تعيين حكام في المواني؛ لتحصيل المكوس على منتجات السودان كالصمغ والعاج والرقيق، وهي المنتجات التي كانت تسير بها القوافل لبيعها لتجار جوجاراتي الذين يؤمنون مواني البحر الأحمر.
31
على أن محمد علي لم يقتنع مطلقا بهذه السلطة المحدودة؛ لأنه كان يطمع في الإشراف على التجارة نفسها؛ فلقد كان راسخا في اعتقاده أن أراضي السودان والحبشة غنية بما فيها من معدن الذهب، كما أنه كان يعرف أن الجنوب هو المورد العظيم لأولئك الأرقاء السود والأقوياء ولهم قيمة كبرى في مصر؛ فهذه البواعث الثلاثة كلها كانت قوية. ومن المتعذر أن يقول الإنسان هنا هل كان محمد علي مدفوعا برغبته في العثور على مناجم الذهب؛ ليتمكن من اكتساب صداقة ديوان الآستانة بأسره، أم كان مدفوعا بأمل الحصول على الرقيق؛ لتدريبهم على الشئون العسكرية تمهيدا لتكوين جيوش منهم تمكنه من الاستغناء عن مشاغب الألبانيين والأتراك، بحيث يستطيع يوما ما تحدي السلطان وكل ما يحشده من جنود وجحافل؟
ومن ثم أعد محمد علي العدة للقيام بحملة كبيرة إلى جهات الجنوب متظاهرا بأن الغرض منها رد إهانة قيل إنها موجهة من سلطان سنار، ثم لفتح الطريق أمام القوافل التجارية للوصول إلى القاهرة عن طريق النيل، ولم ينتصف العام حتى كان قد احتشد نحو 5000 جندي في وادي حلفا؛ وهي المنطقة التي لم يكن نفوذ الباشا يتجاوزها كثيرا، ثم عهد بقيادة الحملة إلى إسماعيل ثالث أولاد محمد علي، وقد عين في هذا المنصب للتمرس في شئون الحكم والحرب،
32
وسرعان ما تمكن إسماعيل من فتح إقليم سنار والقسم الشرقي من السودان وإخضاع زعماء هذه المناطق بعد قليل من المقاومة، ولم يكن ثمة ما يقتضي المباهاة في فتح هذه الجهات؛ أولا: لقلة دراية السودانيين باستعمال الأسلحة النارية. وثانيا: لانقسام الأهالي بعضهم على بعض برياسة زعيمين كانا يتطاحنان على الزعامة، وقد قتل أحدهما الآخر ثم فر إلى الحبشة. ومن ثم بادر الملك الأسمى إلى التسليم، ثم واصل الجيش المصري زحفه جنوبا إلى أن وصل إلى نقطة واقعة بين خطي العرض 10 و11 في الشمال
33
على أن الزحف هنا لم يكن مصحوبا بالتوفيق الذي شوهد في بدء الحملة؛ فقد كانت الغابات والأحراش من أكبر العوائق في سبيل الفاتحين، مع أن الدفاع عنها كان سهلا، وتفشت الدوسنطاريا وأمراض هذه المناطق بين الجنود المصرية، وقلت المئونة، وهكذا رأى إسماعيل نفسه مضطرا إلى الانسحاب إلى سنار.
وكانت تقدمت في الوقت نفسه قوة من الجند بقيادة صهر الباشا الدفتردار بك قاصدة إلى كردفان والشطر الغربي من السودان، وبعد مقاومة أشد مما شوهد في سنار سقطت الأبيض وأعمل الجنود السلب والنهب فيها، وهكذا تم فتح السودان، ولكن إدارته تركت لأيد غير متمرسة. ولقد كان في نية محمد علي أن يعهد إلى إبراهيم بإدارة ذلك القطر وتنظيمه، ولكنه أصيب بالدوسنطاريا على أثر وصوله واضطر إلى العودة لمصر من فوره.
أما مناجم الذهب التي كانت مطمح أنظار محمد علي فلم يعثر عليها الجيش المصري، ثم إن عدد من وصل إلى أسوان من السودانيين القادرين على حمل السلاح لم يتجاوز الخمسمائة في شهر مارس سنة 1822م
34
بدلا من الجيش العظيم الذي كان يحلم به محمد علي، ثم إن إسماعيل نفسه لم يظهر كفاءة في إدارة السودان، وهذا ما حدا بمحمد علي أن ينصح ابنه مرارا عديدة باستعمال وسائل اللطف واللين، وأن يحكم بين الرعية بالعدل والعمل على مصالحة الناس.
35
ولكنه كان على الرغم من هذه النصائح يلح في مطالبة ابنه بإرسال فصائل جديدة من الرقيق، وهو ما لم يكن يمكن تحقيقه إلا بمواصلة الغارات على الأهالي الذين كانوا قد تملكهم الرعب والهلع.
وبديهي أن من المستحيل استمالة شعب ومحاولة استعباده في الوقت نفسه، وكان إسماعيل على ما يظهر يرى أن الأمر الثاني هو أولى بالعناية، ففي أواخر سنة 1822م ركب إسماعيل نهر النيل ورسا في مقابل شندي، وطلب إلى الزعيم السوداني هناك أن يقدم له خلال ثلاثة أيام 15000 ريال و6000 رقيق. فأخبره الزعيم أن ذلك خارج عن مقدرته، فلطمه إسماعيل بالكرباج على وجهه صائحا: «أتهينني أيها العبد؟!» وهنا تدخل زعيم آخر ووعد بتنفيذ الأمر وانسحب الزعيمان، وقد كانت الغاية من الانسحاب ليست النزول على أوامر إسماعيل، بل لجمع أنصارهما وأتباعهما. ولما اجتمعوا أحاطوا بقوات إسماعيل وسدوا الطريق في وجهها لهجوم فجائي قاموا به في الليل على غير انتظار، أما إسماعيل ومن معه من الجند في الضفة الأخرى فقد استيقظوا ووجدوا أن الدار التي كانوا فيها قد شبت فيها النار، ثم انقض عليهم الأعداء فمزقوهم إربا إربا.
36
ولكن الزعيم السوداني المسكين كان قد نسي شأن الدفتردار بك في كردفان، فما كاد يسمع بمصرع إسماعيل حتى عاد إلى سنار على جناح السرعة، وهناك انتقم من الأهالي أشد انتقام، ويقال إنه أطاح رءوس ما لا يقل عن 30000 شخص، وحدثت على أثر ذلك اضطرابات وقلاقل، وقام شخص يدعى المهدي، وانضم إليه أنصار كثيرون. وقد نما إلى القناصل الأوروبيين أن ذلك المهدي وقع في الأسر وأطيحت رأسه، ولكن تبين بعد شهر أنه لا يزال على قيد الحياة، ومن ثم أرسلت الإمدادات من أسوان لقمع حركته،
37
وهكذا قمعت القلاقل، ولم يحل عام 1826م حتى كانت السكينة مخيمة على ربوع السودان، وأصبح محمد علي قادرا على أن يتخذ ما يلزم من الإجراءات لإصلاح شأن ذلك الإقليم وتنمية موارده؛ فقرر إرسال ثمانية من كبار أعيان الوجه البحري بصحبة 110 أشخاص لتعليم السودانيين طريقة الزراعة في مصر.
38
ويلوح أن هذا التصرف وحده لم يأت بنتيجة ما، وأغلب الظن أن الجوع هو الباعث الوحيد الذي دفع شعبا متأخرا وساذجا كالشعب السوداني إلى الإقبال على الصناعة، هذا فضلا عن أنه لم يتعلم شيئا البتة من معلميه المصريين الذين لم يكن يظن فيهم التحمس لهذا الواجب الإلزامي.
ولعل أهم ما طرأ من التغيير في خلال السنوات العشر التالية هو أن الخرطوم تحولت من قرية صغيرة إلى مصاف المدن وبها 500 منزل مبنية بالطوب الأحمر، هذا عدا الثكنات والمخازن وغيرها من الحدائق التي يزرع فيها التين والعنب، وكان هذا من عمل خورشيد باشا الذي حكم الإقليم سنوات عديدة واتخذ الخرطوم عاصمة له.
وليس من ريب في أن ازدهار مدينة الخرطوم ونموها كان النتيجة التي تنشأ، وخاصة في الشرق، عن وجود قاعدة الحكومة في جهة معينة.
على أن محمد علي لم يكن كثير الارتياح لركود حركة الإنتاج في ذلك الإقليم؛ فلقد قضى في التفتيش في ربوعه ستة أشهر كاملة فيما بين سنتي 1837 و1839م، ولعل غايته من ذلك التفتيش كانت لتحقيق الحلم الذي ظل يداعب محمد علي نفسه ألا وهو العثور على الذهب، ولكنه كان يرمي فوق ذلك إلى غاية مهمة؛ وهي تنمية الزراعة في تلك الجهات وتوسيع مداها.
وفي الوصف المذكور عن رحلته هذه دلائل ناصعة على تفاهة النتائج التي تحققت وعما كان يجول في خاطر الباشا من الأفكار عن طريقة تنمية السودان، وعلى الرغم من - أو بالأحرى بسبب - ما كان ينتظر من كثرة المحصول، وقد قدره وقتئذ بنحو 60 ضعفا، فإن الزراعة كانت ما تزال مهملة والأرض لم تخل من قشرتها القابلة للزراعة إلا بواسطة قطع الأخشاب الكبيرة؛ ومن ثم تقرر إجراء تجربة أخرى ألا وهي تنمية زراعة قصب السكر والقطن والنيلة، واختير لهذه الغاية عدد من الشبان العرب من خريجي مدرسة المهندسخانة، وأعطى لكل منهم 100 فدان معفاة من الضرائب لمدة خمس سنوات، ووكل إلى كل منهم عددا من الشبان السودانيين لتعليمهم الوسائل الراقية المستخدمة في الزراعة المصرية.
ثم ألح الباشا في الوقت نفسه على الزعماء السودانيين أن يسعوا وراء تحسين الزراعة ويعملوا على تنشيطها، وكثيرا ما كان يقول لهم: لو احتذيتم حذو غيركم من الناس؛ فليس من ريب في أنكم سوف ترتقون من مستوى العجماوات إلى مصاف الأوروبيين، ولسوف تبلغون من الثروة وتتعلمون كيف تنعمون بمسرات الحياة مما يحول جهلكم دون تصوره، ولكن هذا ما كان ليتم بدون الأيدي العاملة وإلا لما تحقق شيء من هذه الأحلام. ويقال إن سامعيه قد خلبت ألبابهم تلك الصورة الزاهية التي رسمها لهم محمد علي عن المستقبل، حتى إنهم توسلوا إليه أن يأخذهم إلى مصر ليتعلموا الوسائل الفنية، ولكنه نصح إليهم بأن الأفضل أن يرسلوا أبناءهم.
39
ولما كان هذا كله قد تم في نهاية الفترة الإيجابية في إبان حكم محمد علي فلا مندوحة عن الاستنتاج بأن فتحه للسودان قد وطد سيادة مصر في ذلك الإقليم، ومكن الباشا من الحصول على عدد معين من العبيد، ولكنه لم يؤثر مطلقا فيما كان عليه السكان من الثقافة الفطرية، كما أنه - وهذا ما كانت له أهمية كبرى في نظر محمد علي - لم يؤثر أي تأثير في إنتاج الإقليم من الوجهة المادية، كما أن القضاء على الوهابيين لم تكن له أي نتيجة أكثر من إعادة فتح مكة والمدينة للحاج.
ومن ناحية أخرى فقد كان لاتساع نفوذ محمد علي شرقا وجنوبا نتائج على جانب عظيم من الأهمية، فبينما كان الساسة الفرنسيون واقفين وقفة المتفرج كانت للساسة الإنجليز مصلحة مباشرة في الموضوع، ويمكن أن يعزى منشأ ارتيابهم في سياسة محمد علي إلى الفترة الواقعة بين سنتي 1811م و1822م؛ فقد كانت لأعماله العسكرية في بلاد العرب والسودان آثار مباشرة في ثلاث مناطق كانت لهم فيها فعلا مصالح حيوية، ألا وهي: البحر الأحمر، والخليج الفارسي، والحبشة.
وكان معظم الأعمال التجارية في تلك المناطق تتناوله أيدي تجار معظمهم من أصل جوجاراتي جلبون متاجرهم من صورات وغيرها من مواني غرب الهند. ولم يكن في استطاعة إمبراطورية المغول - حتى في إبان شوكتها - أن تقدم للسفن الهندية التجارية الحماية اللازمة، بل اضطر الإمبراطور أكبر أن يحصل على جوازات من البرتغاليين، هذا في حين أن من جاء بعده من الأمبراطرة حصلوا من الهولنديين أو الإنجليز على خفر لحراسة السفن أثناء السفر. وفي أواسط القرن الثامن عشر - أي قبل أن تحصل شركة الهند الشرقية على ديوان بنغال - فإنها قد حصلت على لقب «أميرال الإمبراطورية»، وما يلحق بذلك اللقب من أبواب الإيرادات والأراضي، وقد ظلت شركة بمباي البحرية بعد ذلك سبعين عاما كاملة، وهي تقوم بحراسة السفن التجارية الهندية بانتظام بين الهند والبصرة أو بينها وبين جدة، وترفع فوق سارية سفنها راية الشركة وراية الإمبراطورية المغولية فوق جانبها، وقد ترتب على تضعضع قوة الفرس والعثمانيين أن أصبحت حراسة السفن أمرا لا مناص منه؛ فلقد تفشت القرصنة واتسع مداها بسرعة شديدة، ثم إن ما كان يقابل به من يقبض عليهم من القراصنة من الرحمة والشفقة الغريبة عند إطلاقهم، يضاف إليه سماح ولاة الأمور لبعض التجار بنقل الأخشاب لإصلاح السفن التي كانت تهاجمهم؛ إن ذلك كله لم يكن من شأنه أن يؤدي إلى وضع حد لأعمالهم المرعبة أو لزجرهم عن غيهم،
40
ومما ساعد على تفشي ذلك الشر من الوجهة الأدبية والسياسية والعملية نشوب الثورة الوهابية؛ لأن الوهابيين أنفسهم أنشئوا أسطولا للقرصنة في كوم فودة إلى جنوب جدة، فلا عجب أن يلتجئ إليهم قراصنة الخليج الفارسي عند سنوح الفرصة الملائمة.
41
وفي سنة 1808م وقعت إحدى السفن الإنجليزية في أيدي القراصنة الذين قتلوا الملاحين عن بكرة أبيهم، وفي نفس السنة استولى القراصنة على السفينة المسلحة التابعة للشركة واسمها «سيلف»،
42
فأرسلت حملة لتأديب القراصنة ، فأبادت كثيرا من السفن التابعة لهم في الخليج الفارسي. وفي سنة 1819م لم تتمكن الحملة القوية المجهزة في بمباي من الاستيلاء على أكبر معاقل القراصنة في رأس الخيمة فقط بمساعدة إمام مسقط، بل أرغمت كافة القبائل العربية المشتغلة بشئون الملاحة في الخليج أن تعقد معاهدة مع الشركة، وهي لا تقضي فقط بالعدول عن أعمال القرصنة، بل وترك تجارة الرقيق أيضا،
43
ولقد عللت الشركة نفسها بالأمل في أن تحصل على مساعدة إبراهيم باشا لتحقيق هذه الغاية بعد الاستيلاء على الدارعية، ولكن محمد علي لم يكن مهتما وقتئذ بالتطلع إلى شيء من هذا في مثل ذلك المكان السحيق؛ ولذا لم تصادف اقتراحات الشركة قبولا.
44
أما في البحر الأحمر، فإن الأمور كانت تسير سيرها الطبيعي الهادئ؛ فإن فتح مصر بواسطة نابليون قد وجه الاهتمام إليها، فمسحت البلاد في سنة 1795م على جناح السرعة وأصر لورد فالنشيا فيما بين سنتي 1804م و1805م على العودة بواسطة هذا الطريق عند ختام رحلته الهندية، وكان يرمي إلى أن يضرب عصفورين بحجر واحد، فكانت غايته الأولى البحث عن خير وسيلة لسد البحر الأحمر في وجه أي اعتداء يحتمل أن يجيء من العرب، والثانية تنمية التجارة الهندية. ولتحقيق هاتين الغايتين عمد إلى زيارة كافة الموانئ الرئيسية الواقعة في طريقة ابتداء من عدن فما بعدها، وقد عني بتدوين كافة ما يهمه من المعلومات عن سير الحالة التجارية، وكان من رأيه احتلال عدن. ولتحقيق الغايتين سالفتي الذكر عقد محالفة مع الوهابيين ومع الحبشة،
45
ولكن ظلت مقترحاته مجرد حبر على ورق، إلا فيما يتعلق بهنري صولت الذي كان قد رافقه في رحلته الشرقية، وعين فيما بعد قنصلا عاما في القاهرة؛ فإنه قد ذهب في سنة 1801م إلى بلاد الحبشة في بعثة خاصة على أمل توسيع نطاق التجارة فيما بين تلك البلاد وبمباي،
46
وكانت شركة الهند الشرقية ينوب عنها مندوب يقيم في «مخا»، ومعه مساعده بلزوتي الذي لعب فيما بعد دورا له نصيب من الأهمية في بداية تاريخ الحفريات في مصر، وقد ظل يتنقل بين عدن وغيرها من الجهات حسبما تقضي الظروف.
وكانت الغاية التي جعلها محمد علي نصب عينيه وقتذاك - كما بينا من قبل - أن يعيد التوازن في المالية المصرية بواسطة التجارة، فلم يكتف بإمداد المتعهدين الإنجليز في البحر المتوسط بالحبوب، بل عرض على حكومة الشركة في الهند اقتراحات لتنمية التجارة في البلاد الشرقية، ونظرا لأن الاقتراحات المذكورة قوبلت بشيء من الاهتمام فقد انتدب بلزوني للسفر إلى القاهرة؛ حيث تمكن من عقد اتفاقية مؤقتة وتوقيعها في 28 مايو سنة 1810م. وقد نصت الاتفاقية المذكورة على أن تكون الامتيازات التركية قاعدة المعاملات التجارية مع الهند، وأن يتعهد الباشا بألا يعتدي بأي حال من الأحوال على الأملاك والرعايا الإنجليز في حالة نشوب حرب بين إنجلترا وتركيا، بل أن يمدهم على العكس بالحماية اللازمة، وأن يتعهد بإعادة الفارين من السفن البريطانية حتى لو اعتنقوا الإسلام (وهو شرط كانت تركيا ترفضه باستمرار إلى الآن كما يؤخذ من كتاب أبوت تحت ظل الحكم التركي ص29)، وأن يمر المسافرون الذين يصحبون أمتعتهم الشخصية بدون دفع مكوس جمركية، وأن تصحب القوافل التجارية من السويس وإليها قوة من الحرس، في مقابل ثلاثة دولارات إسبانية عن حمولة البعير الواحد، وأن تكون الضريبة الجمركية 3٪.
على أن هذه الاتفاقية لم يقدر لها أن تبرم، وأغلب الظن أن الباعث هو التخوف من الإضرار بالعلاقات البريطانية مع الآستانة، وقد رفضت الحكومة البريطانية في الوقت نفسه أن تسمح لطرادة الباشا «أفريقيا» بالذهاب إلى البحر الأحمر عن طريق الرجاء الصالح،
47
وقد بقي الباشا في شبه حيرة وتردد، لا يدري ماذا يصنع ليحيط المحالفة التي كان يطمح إليها بما يجعلها جذابة ليحمل الإنجليز على توقيعها. ولقد رأيناه كثيرا ما يحظر على السفن القادمة من بمباي - نزولا منه على إرادة السلطان مع شيء من السخرية - بألا تواصل سفرها إلى ما بعد جدة شمالا
48
على أنه صمم في نهاية الأمر أن ينزل بنفسه إلى غمار التجارة الهندية وعين فوزيس وشركاه مندوبين عنه في بمباي التي أرسل إليها كمية هائلة من البضائع الأوروبية، عدا مليون دولار سبائك ذهب،
49
ثم إنه ألح على القنصل الإنجليزي في الوقت نفسه - وذلك نظرا إلى نشاط القراصنة الوهابيين - بضرورة إرسال قوة بحرية إلى هناك لرد إهانة القراصنة، وإلا أصبح من غير المأمون أن يطلب إلى أولاده النقل من الحجاز واليمن.
وهنا حبذ صولت هذا الاقتراح وعضده؛ إذ كتب يقول:
إن من المستحسن أن يكون لسموه التفوق بحيث يحول دون تسلط هؤلاء القراصنة الوهابيين على البحار، أما فيما يختص بمصر فإن سمو الباشا قد أصبح تاجرا بكل معاني الكلمة بحيث إنه أصبح في قبضة أيدينا وتحت رحمتنا، وقد أصبح إيراد الدولة متوقفا على التجارة ... بحيث لا يستطيع بدونها معونة حكومته عدة أشهر. ثم إن أميرال البحر الأبيض في حالة قطع العلاقات بوسعه أن يحمل محمد علي - على ما أعتقد - على الخضوع لشروطنا في كل وقت، بدون طلب قوة إضافية، عدا التي يشرف عليها في الأوقات المعتادة، وهذا بإلقاء مراسي أسطوله في أبي قير وضرب الحصار على الشاطئ، وهو ما يمكن أن نفعله في البحر الأحمر؛ فإن سفينتين من سفن البضائع تقفان بين جدة والسويس كافيتان لقطع مواصلات محمد علي عن طريق البحر وحمله على قبول شروطنا في أقرب وقت.
50
وقد كان من نتيجة هذه الاقتراحات أن سحبت الاعتراضات التي أقيمت في سبيل السماح بسفر طرادة الباشا إلى البحر الأحمر عن طريق رأس الرجاء الصالح.
51
فعلاقات الإنجليز مع الباشا بعد أن دانت له الأمور في مصر كانت للآن علاقة وداد وصداقة، ولا ريب، ثم إنها لم تشبها شائبة - كما رأينا - من جراء زحفه على الوهابيين، وإن كان بعض الأفراد الإنجليز قد استحسنوا تعضيد الأخيرين ومد يد المعونة إليهم،
52
ولئن كان ميسيت قد ساءه فوز محمد علي في بلاد العرب، فما ذلك إلا لشدة خوفه من أن هذا النجاح قد يغري الباشا بالتورط فيما سوف يؤدي إلى هلاكه «لأني أعتقد أنه إذا لقي حتفه في هذه اللحظة المبكرة؛ فإن هذه البلاد - مصر - سوف تعود من جديد إلى حالة الثورة التي انتشلها منها.»
53
ولقد صدرت الأوامر إلى الكابتن سادلير بإرسال تهانئه إلى إبراهيم بمناسبة ما أحرزه في الدارعية من النجاح، واقترح عليه القيام بعمل مشترك في الخليج الفارسي. كذلك عندما أبدى صولت تخوفه من أن تكون الحملة الموجهة للسودان مقصودا بها فتح الحبشة، ولفت نظر الباشا إلى أن مثل هذا العمل لن يقابل في إنجلترا بالرضاء والارتياح، بادر محمد علي إلى التصريح جهرة أن البلاد - وإن كانت تعج بمناجم الذهب والمعادن الثمينة والدرر النادرة، وبالرغم من أن الاستيلاء عليها لا يمكن أن يحوم الشك فيه - فإنه يفضل أن يعدل عن فتحها على أن يشوه علاقاته مع الإنجليز. وبهذه المناسبة كتب صولت، فقال: «ما عرفت الباشا يقطع لنا عهدا في أمر من الأمور إلا إذا كان ينوي المحافظة عليه.»
54
على أن ديوان الآستانة كان يرى في تلك العلاقات خطرا وأي خطر؛ فقد كان السائد في الأفهام هناك أن ذلك الباشا القوي البأس سوف يعقد مع إنجلترا التحالف الذي يرمي إليه، وبذلك يخلع عن عاتقه النير التركي بتاتا؛ ومن هنا كان اهتمام الديوان بانتهاز كل فرصة سانحة لإثارة القلاقل والمتاعب. مثال ذلك أنه حاول توريط محمد علي في تأييد قراصنة الخليج الفارسي على أن المتاعب الشديدة إنما نشأت عن تصرفات حاكم مخا، ففي سنة 1817م حجز أحد الأعراب في المصنع الإنجليزي مدة وجيزة من الزمن، ثم أطلق سراحه إجابة لرغبة الحاكم، ولكن الشرذمة التي تؤلف حرس المصنع اعتقل رجالها مع قومندان إحدى السفن التجارية التي وجدت هناك بالصدفة، وكذا المقيم البريطاني وضربوا ضربا مبرحا وعوملوا معاملة سيئة، بينما انتهب المصنع وسلب ما فيه، وبعد إضاعة وقت طويل في البحث وتحري الحقائق تقرر إرسال قوة عسكرية للحصول على الترضية المطلوبة.
ولم يكن اعتماد مخا على الإمبراطورية العثمانية وارتباطها بها إلا صوريا فحسب، فقد كانت أكبر مواني إمام صنعاء الذي لم يكن لسلطان تركيا عليه لا نفوذ ولا سيادة، ولكن محمد علي تمكن في خلال سنة 1818م من أن يسلم إليه بعض الأراضي المتاخمة للميناء الشمالية (الحديدة) في مقابل تعهده بتقديم كمية معينة من البن للسلطان سنويا؛ ومن ثم أصبحت بمثابة جزية مفروضة على بلاد صارت منذ ذلك الحين تعتبر مظللة بالحماية التركية.
55
وليس يخفى أن الدول الأوروبية ما كانت لتقبل مثل هذه النظريات، ولا أن تسلم بحقوق لم تكن مشفوعة بنفوذ حقيقي، ومن ثم راحت شركة الهند الشرقية تطالب إمام صنعاء بتقديم التعويض اللازم، فعمد إلى سياسة المراوغة المألوفة، ومن ثم صوبت المدافع قنابلها على مخا وهددت قلاعها.
56
وسلم الإمام بحكم القوة ما كان ينبغي أن يسلمه من قبل من المطالب التي لا تستند إلى قوة السلاح؛ فعقدت معاهدة نص فيها على أن تكون للمقيم قوة من الحرس، كما لزميله في بغداد أو البصرة، وأن يسمح له بالظهور أمام الملأ، وهو على ظهر جواده، وأن تخصص مقبرة لدفن الموتى المسيحيين فيها، وأن يعترف أن تجار صهورات هم تحت الحماية البريطانية، وأن تخفض المكوس الجمركية التي يدفعها التجار الإنجليز إلى المستوى الذي يدفعه التجار الفرنسيون.
57
وهكذا سقط هذا الحصن الإسلامي الذي كان المسيحيون فيه إلى ذلك الحين عرضة لكافة أنواع الإهانات التي تذهب بلا حساب أو عقاب، وكان محكوما عليهم بالسير على الأقدام مع حظر مرورهم أمام بوابة معينة وجعلهم يشهدون جثث مواطنيهم تنهشها الكلاب وابن آوى، وحيث أرغم التجار الهنود على أداء مبالغ جسيمة من الأموال بتعريضهم للاختناق بدخان كبريت العمود.
58
وكان بديهيا أن يؤدي مثل هذا التغيير الممقوت إلى سيل من الإشاعات؛ مثال ذلك أن الشركة كانت قد أنزلت إلى البرسلكا بحريا لاستعمال طراداتها. ومن ثم انتشرت الإشاعة من أن حلقة من هذا السلك قد نقشت عليها اسم طلاسم سحرية، وأن السلك سوف يستعمل في سحب المدينة بأسرها إلى البحر أو لانتزاع الجبال تمهيدا لفتح طريق إلى صنعاء نفسها،
59
أما في الآستانة التي كانت قد وصلها صدى هذه الإشاعات فقد وجه نقد شديد إلى السفير البريطاني، بينما صدر الأمر بتوبيخ محمد علي وتقريعه على مثل ذلك الإهمال، وكلف باحتلال كافة مواني البحر الأحمر لغاية عدن باسم السلطان.
وقد تلا هزيمة الوهابيين وفتح السودان تنظيم قوات محمد علي العسكرية تنظيما باهرا يلفت الأنظار؛ فإن الجنود التي تسنم على أكتافها المجد لم تكن سوى جماعة من الغوغاء المسلحين لا يحفلون بالنظام ولا سبيل إلى كبح جماحهم إلا بدفع مرتباتهم بانتظام وباستعمال العقاب الصارم، وقد كانوا عقبة كأداء في سبيل احتفاظ الباشا بمركزه بقدر ما كانوا لازمين له للوصول إلى ذلك المركز. مثال ذلك أن ميسيت أرسل في تقرير له سنة 1816م يقول إن شطرا كبيرا من الجيش قد أرسل إلى السواحل، وإنه عندما استفسر من محمد علي عن السر في هذا الترتيب أخبره أنه «بعد أن أيقن بعجزه عن كبح جماح أعمال العنف التي ارتكبها الجنود في خلال الأشهر القليلة الماضية، رأى أن يلجأ إلى حيلة لطيفة بأن يكلفهم بالخروج من المدينة على أمل أن يسلس قيادهم، ويصبح في الاستطاعة إخضاعهم وجعلهم مطيعين للنظام بعد أن يصيروا شراذم صغيرة متفرقة.»
60
فلهذه الأسباب استقر رأي محمد علي على إنشاء نظام جديد، أي إنشاء جيش جديد يكون نظامه وتدريبه والإشراف عليه أوروبيا. وبديهي أن احتفاظه بمركزه يترتب نسبيا إلى نجاحه في ذلك المشروع الذي كان - ولا ريب - يعتبر من أشق المشروعات وأصعبها؛ فإن السلطان سليما قد خلع ثم قتل حديثا لاجترائه على أن يقحم آداب الكفار إلى الإسلام بمحاولته إدماج جنود الإنكشارية في فيلق جديد. ولم يكن الباشا ممن يتهيبون المضي في مشروعه لمجرد خطورته وصعوبته لأنه لم يكن يؤمن بأن الإصلاح العسكري يقابل بالنفور من سواد الشعب، بل من الزعماء وحدهم؛ لأنه لم يكن ينتظر منهم أن يصبروا على كشف أكاذيبهم التي ظلت مدة طويلة متسلطة على الخزانة العامة،
61
وسرعان ما نهض الدليل على عدالة هذه النظرية عند أول محاولة لإدخال الطريقة الأوروبية في التمرين العسكري.
وقد حدث هذا عند عودته من الحجاز. فلقد بدأ يطبق هذا الرأي في جماعات الجنود الذين تحت إشراف أقاربه، ولكن سرعان ما رأى علامات السخف والتذمر عندما أراد توسيع هذه الطريقة وتطبيقها على الجنود الذين يقل سلطانه عليهم عنه في جماعات الجنود سالفة الذكر. وإذ ذاك أصدر الباشا إعلانا بأن كل جندي لا يميل إلى إطاعة الأوامر يمكن أن يأخذ ما يكون متأخرا له من المرتب وأن يرحل عن البلاد، على أن أحدا لم يحاول أن يفيد من هذا العرض إلى أن حدث بعد ظهر أحد الأيام أن اجترأ لفيف من الجنود في ميدان الأزبكية بالقاهرة أمام قصر الباشا وبدءوا ينهبون الدكاكين فجأة وهم يصيحون: «لا إله إلا الله.» وفي اليوم التالي انتشرت الفتنة في كافة الأنحاء وأصبحت الدكاكين والمخازن عرضة للنهب والسلب، واعتدى على الحي الفرنسي عدة مرات، وأصبح الأوروبيون لا يجرءون على الخروج من دورهم إلا بالزي التركي،
62
ومن ثم تقرر العدول مؤقتا عن المشروعات الجديدة.
على أن المقاومة بدلا من أن تضعف عزيمة محمد علي أو تصرفه عن الغاية التي وضعها نصب عينيه، جعلته يفكر فيما عسى أن يتبعه من شتى الوسائل لتنفيذ ما استقر عليه رأيه من الإصلاحات. وقد بينا فيما سبق أن بين بواعث إرسال الحملة السودانية كانت رغبته في الحصول على العدد اللازم من الرقيق الذين يمكن تدريبهم على شئون الحرب على النمط الذي يهواه، وهذا هو السر في إصدار الأوامر إلى إسماعيل لجميع العبيد السودانيين، وإرسالهم إلى أسوان على جناح السرعة، ولما لم يكن ينتظر بحال ما أن يكون أولئك السودانيون مادة صالحة لإيجاد الضباط منهم، فقد أرسل إلى أسوان للتمرس في شئون الحرب نحو 300 من رقيق المماليك، وكانوا ملكا خاصا لمحمد علي.
وقد عهد إلى الكولونيل سيف الفرنسي بالإشراف على هذه المدرسة العسكرية الجديدة، وكان الكولونيل المذكور قد تخرج من تحت السلاح، ثم شق لنفسه طريق المجد حتى استحق صليب الليجيون دونير (جوقة الشرف)، ثم اعتزل الخدمة برتبة كابتن بعد أن أبلى خير بلاء في موقعة «ووترلو». وفي سنة 1819م هبط سيف إلى مصر، وقد ملكت عليه حواسه حسن صفات الباشا وأخلاقه ورقة شمائله. وفضلا عن هذا فقد ترك دينه المسيحي واعتنق الإسلام، ولم يكن في عمله هذا شيء من الخفة والنزق الذي يقترن دائما بالمرتدين عن أديانهم، ثم صار سيف الخادم الأمين والعبد الطائع لمحمد علي. ولما أصرت بريطانيا العظمى بعد ذلك بعشرين ربيعا إلى إعادة سوريا إلى مساوئ الحكم التركي بذلت مساع عديدة مع سليمان باشا - كما كان الجنرال سيف يسمى وقتذاك - لإرشائه وحمله على التخلي عن محمد علي، ولكن لا العرض يجعله واليا على إحدى الولايات، ولا اقتناعه بخسران القضية التي يدافع عنها أثر فيه أو حوله عن ولائه، بل كان جوابه أنه مدين لمولاه لا بواجب الشكر فحسب، بل بواجب الإخلاص والتفاني الذي لا حد لهما.
63
وما من شك في أن الأعباء الأولى في إعداد النظام الجديد كانت من أصعب ما واجهه سيف في مصر طيلة حياته؛ فإن النظام العسكري تحت إشراف جندي أوروبي كان أمرا مستغربا وغير طبيعي في مصر، حتى إن حياة سيف كانت عرضة للخطر أكثر من مرة. مثال ذلك أنه بينما كان مرة منهمكا في تعليم فرقة من حملة البنادق ضرب النار إذا به يسمع صفير الرصاص فوق رأسه،
64
ويقال إنه اكتشف مرة أخرى مؤامرة بين المماليك لاغتيال حياته عندما جمعهم ليخبرهم بالمرسومات الجديدة التي تتبع في الجيش، فاضطر حينذاك أن يجرد حسامه وأن يدافع عن نفسه بمفرده، وأن يصد كل من تقدم إليه منهم.
65
وكان معسكر أسوان في البداية يحتوي على شبان المماليك، وجماعة الرقيق السودانيين، ولكن الأخيرين قد خيبوا ما كان معقودا عليهم من الآمال. نعم؛ إنهم كانوا على جانب عظيم من الشجاعة ولين العريكة ، وقد خضعوا صابرين للنظام العسكري وأحسنوا دراسة تمريناتهم، ولكن طبيعتهم لم تكن تعرف مقاومة الأمراض، فكانوا يموتون بالعشرات؛ فالأمراض التافهة التي لم تكن تقضي على الجنود الأوروبية أو العربية بملازمة الفراش كانت تفتك في السودانيين فتكا ذريعا. ولذلك كنت تراهم يموتون كالأغنام، فلم يحل عام 1814م حتى كان عددهم في معسكر أسوان 20000، ولكن لم يبق من هذا العدد في ذلك العام نفسه أكثر من 3000 شخص.
ولعل مرجع هذا الفشل - الذي يختلف كل الاختلاف عن تجاربنا في تلك الأصقاع - أن جنود محمد علي لم يكونوا أحرارا بل كانوا أرقاء.
وقد أدى الإخفاق في استغلال ذلك المورد العسكري المنتظر إلى العمل بالنصيحة التي أبداها دورفيتي - قنصل فرنسا العام - بتطبيق فكرة التجنيد على الفلاحين في مصر. ولعل هذه الفكرة خطرت من تلقاء نفسها بعد ما شوهد من النجاح العظيم في تطبيق النظم الأوروبية على الهنود في الجيش البريطاني، ولكن كل مقارنة من هذا القبيل يقلل من شأنها أنه لم يحلم إلى الآن أحد باستخدام الفلاح المحتقر كجندي، بينما أن الجندي الهندي كان طيلة حياته من صميم الطبقة العسكرية.
على أن الاقتراح باستخدام الفلاحين سرعان ما وضع موضع التنفيذ، ولكن نظرا لخروجه عن المألوف فقد أدى إلى حدوث القلاقل والفتن في بعض الأقاليم،
66
وإن كان هذا لم يمنع من إرسال 30000 من الفلاحين إلى أسوان وسمح للكولونيل سيف بزيادة ما لديه من المدربين الأوروبيين الذين جعل لهم هذا الضابط الفرنسي سمعة سيئة بعد أن عين رئيسا لهم، فقد وصفهم بأنهم جماعة من اللاجئين ممن قذفتهم إسبانيا أو نابولي أو بيدمونت، وأنهم لا يعرفون الصدق ولا عهد لهم بالأمانة أو الشرف، وبالجملة فهم أسوأ عصابة أشرار يمكن أن يعثر عليها الإنسان في أي جهة من جهات العالم.
67
وبالرغم من ذلك فقد أدوا واجبهم تحت إشراف سيف على أكمل وجه، وقد رافق صولت محمد علي في زيارة معسكر التعليم في سنة 1824م، وقد حدثنا أن من حق الباشا أن يبتهج ويفاخر بجيشه الجديد. وهو رأي قامت على صحته الأدلة العديدة في الخدمات العسكرية التي تمت فيما بعد تحت إشراف إبراهيم باشا في المورة وفي سوريا. ولعل أهم ما لوحظ من النقض بين هؤلاء الجنود عدم وجود مصلحة طبية منظمة على نحو ما يراه الإنسان في الجيوش الأخرى، ولم يكن في الاستطاعة - كما قال «صولت» - أن تغرس مدرسة للطب كما يغرس البستاني حقل البطيخ، ثم إن الفلاحين كانوا يتحولون إلى جنود بأسرع مما كانوا يتحولون إلى أطباء.
وأول ما بدأت هذه الأفكار تتجلى بشكل واضح في خلال حروبه في بلاد العرب؛ فلقد هدد قراصنة الوهابيين بقطع المواصلات البحرية بين السويس وجدة. ولذا حرص على إرسال طرادته المسلحة «أفريقيا» إلى البحر الأحمر، فلما خاب أمله في ذلك من جراء منع الإنجليز الإذن بمرورها أصدر أمره بإنشاء «فرقاطة» حربية في بمباي،
68
وقد سعى لحمل أحد زعماء القراصنة العرب للعمل معه،
69
بل إنه تمكن من إنشاء سفينة حربية في السويس مسلحة بستة عشر مدفعا،
70
وبالجملة فقد تمكن من أن يحشد في البحر الأحمر عمارة بحرية تستطيع صد غارات الوهابيين ودفع عاديتهم.
وبعد ذلك بقليل بدأ بتنفيذ هذه النظريات في حوض البحر المتوسط، فبدأ بابتياع ما يمكن ابتياعه من السفن الموجودة في هذه السواحل الشرقية للبحر المتوسط، أو التي بنيت في جنوا أو البندقية، ثم سعى لتعزيز مركزه بالحصول على سفن أخرى من طراز أجود وأسمى.
وفي سنة 1821م طلب إلى كل من فرنسا وإنجلترا بأن تبني له كل منهما فرقاطتين من أحدث طراز.
71
وقد أعارت الدولتان طلبة أذنا صماء، وبهذه المناسبة كتب كاننج يقول: «إن من المستحيل استحالة باتة على حكومة جلالة الملك أن تلبي هذا الطلب، وإلا كان ذلك بمثابة انتهاك مباشر لحرمة الحياد الذي أعلن الملك لأمنيته على مراعاته في خلال هذا النزاع المنكود بين الباب العالي واليونان.»
72
ومن ثم سعى محمد علي - وحصل فعلا - إلى إنشاء فرقاطتين وسفينة حربية في مرسيليا، وهكذا لم يبدأ محمد علي بأن ينشئ لنفسه جيشا على الطراز الأوروبي فقط، بل وأن يكون له سفن حربية تمكنه من مكافحة اليونان، وأيضا مكافحة أسطول السلطان نفسه في يوم من الأيام لا يستطيع التكهن به بصفة خاصة.
الفصل الثالث
عماد الإمبراطورية
الحرب اليونانية
كان من نتائج فتح بلاد العرب والسودان تنظيم جيش محمد علي، وتأسيس قوة بحرية، واتساع نفوذ الباشا وسلطانه إلى حد بعيد. على أن تقدمه هذا لم يؤد إلى هذه اللحظة إلى اشتباك في عراك مع إحدى الدول الأوروبية؛ فقد كانت سياسة فرنسا وقتئذ بعيدة عن كل عدوان، ثم إذا كان هناك بعض أفراد من الإنجليز ينظرون إلى استخدام الضباط الفرنسيين بعين الغيرة؛ فإن لندن نفسها لم يبد عليها شيء من القلق. هذا بينما كانت كلكتا أكثر ميلا إلى التعاون على توطيد دعائم الأمن العام بدلا من مقاومته في المناطق المهمة التي تروج فيها سوق التجارة الهندية الخارجية،
1
وقد أخفقت حتى الآن كافة محاولات الباب العالي لتوريط محمد علي في نزاع مع بريطانيا.
وفي أبريل سنة 1821م اغتنم اليونانيون فرصة الفتنة التي أشعل علي باشا نارها في يانينا فرفعوا راية العصيان، وكان يوجد نحو 20000 من المسلمين موزعين في أنحاء البلاد فلم يشعروا إلا وقد بدأ اليونانيون في الاعتداء عليهم، فالتجأ من استطاع منهم إلى الحاميات التركية، أما الباقون فقد أبيدوا عن بكرة أبيهم. ومن ثم بدأت محاصرة الحاميات؛ فاستسلم بعضها بعد الحصول على وعد بالأمان وسلم البعض الآخر نزولا على حكم العقل ومنطق الحوادث.
بيد أن هذا لم يكفل لا للأولين ولا للآخرين تمييزا في المعاملة؛ فإن اليونانيين قد أعملوا السيف فيهم جميعا. وقد تمكن 3000 يوناني من هزيمة 5000 تركي بالقرب من تريبولتزا، وكانت نتيجة هذه الموقعة أنهم قد استولوا على هذا المكان وكذا نافار، ولم يراع الثوار شروط التسليم في كلا هذين المكانين، بل قتلوا في تريبولتزا ما لا يقل عن 8000 من رجال المسلمين ونسائهم وأطفالهم. وقد تلت هذه الحوادث طبعا مذبحة عظيمة في الآستانة وغيرها ذهب اليونانيون ضحية لها؛ حيث شنق بطريرك الروم وأربعة من كبار الأساقفة وقتل على أقل تقدير يوناني واحد في نظير كل مسلم سقط ضحية حوادث المورة، بل إن شيخ الإسلام - وهو كبير رجال الدين في الآستانة - قد عزل من منصبه وخرج مغضوبا عليه لمحاولته وقف تيار هذا الانتقام.
2
وكان طبيعيا أن تنتشر الحركة ويتسع نطاقها إلى أن تشمل جزر البحر، وكانت السفن الصغيرة التي تنقل معظم تجار البلاد المتاخمة إلى شاطئ البحر المتوسط في الشرق ملكا لليونانيين من سكان الجزر، ثم إن الأيدي العاملة في هاته الجزر كانت كلها يونانية، كما أن الملاحين كانوا أيضا يونانيين، وهكذا أمكن تكوين أسطول حربي أصبح بعد قليل صالحا لضرب النار، وقد أزعجت هذه الأعمال الملاحين الأتراك وأدخلت في قلوبهم الرعب، ولا ريب أن السيادة في البحر معناها انتصار الثوار في البر، فتشكلت حكومة وطنية وعقدت جمعية شعبية. ولئن كان في وسع السلطان أن يثأر للدم بالدم في أزمير والآستانة؛ فإن ذلك ما كان ليمكنه من استعادة أملاكه المفقودة، وفي الحق لقد كان عجزه أمام الأروام الكبار أشبه بعجزه إزاء الوهابيين.
ويلوح أن محمد علي كان ينظر إلى هذه الحوادث بشيء من عدم الاكتراث؛ فقد تخلص في الوقت المناسب من جنوده الألبانيين الذين لم تكن له بهم حاجة بأن شجعهم على ترك خدمته والاستعاضة عنها بالخدمة في يانينا، ولقد نما إليه نشاط الجمعيات اليونانية الثورية التي أسست في الإسكندرية والقاهرة، ولكنه لم يحرك أصبعا لوقف حركاتها، بل إنه لم يحاول بعد أن يمنع سفر متطوعي الأروام من الإسكندرية. وأكثر من هذا أنه أطلق سراح بعض اليونانيين الأرقاء الذين أرسلهم إليه باي الجزائر بمثابة هدية.
3
وفي سنة 1822م وهبه السلطان كريت بعد أن تمكن من إطفاء نار الثورة فيها، أما الجزيرة فقد كانت ميدانا للمذابح من الفريقين، ومن ثم تقرر إرسال حسن باشا زوج إحدى كريمات محمد علي إلى الجزيرة، ثم بعد وفاته تقرر إرسال حسين بك، وكان ثوار كريت كثيري العدد وعلى جانب عظيم من الشجاعة والإقدام، ولكنهم خضعوا في النهاية بعد ما تلقوه من دروس القمع العديدة وقد استغرقت هذه العملية نحو عامين، فلم يحل عام 1824م حتى كان لمحمد علي مركز يسمح له أن يعلن أن «سناكيا» الحصن الأخير الذي اعتصم به الثوار قد أصبح خلوا منهم وأن زعماءهم قد أعدموا. ولإقامة الدليل على صدق قوله أرسل إلى الباب العالي «غرارة» بآذان القتلى لتعليقها على البوابة الكبرى للقصر.
4
ولم يكتف حسين بك بهذا الدليل على نجاح أعماله العسكرية، بل أراد إقامة دليل آخر، وذلك بتوسيع دائرة تلك الأعمال. وكان يوجد بالقرب من شمال جزيرة كريت للشرق جزيرتان صغيرتان، تسمى الأولى «كاسوس» والثانية «سكاريانتو»، وكانت أولاهما مقر عدد كبير من البحارة الذين سبق أن عضدوا قضية استقلال اليونان أعظم تعضيد، وذلك باصطياد التجارة التركية ووضع يدهم عليها، فجهز حسين بك حملة عسكرية ضد هاتين الجزيرتين، أما سكان كاسوس فقد رفضوا دعوته إلى التسليم، وإذ ذاك أغارت الجنود على معاقلهم واستولت عليها عنوة، ثم أطلق القائد أيدي جنوده في أعمال السلب والنهب مدة 24 ساعة، فتمكنوا في هذه الفترة من قتل 100 نفس وأخذوا أسرى ما لا يقل عن 900 من النساء والأطفال. هذا عدا ما غنموه من السلع التي ادخرها أهل الجزيرة؛ كالبن والحرير ... إلخ.
ولمضاعفة العقاب اختار حسين بك من رجالهم نحو 500 شخص للخدمة في السفن بنفس الأجور التي كان يتقاضاها الملاحون المصريون وقتئذ.
أما سكان الجزيرة الثانية «سكاربانتو» فقد ألقوا سلاحهم بمجرد وصول الإنذار إليهم، فاكتفى حسين بك بتكليفهم بدفع جزية الأعوام الثلاثة التي كانت عليهم للحكومة العثمانية. وهذا الحادث يمكن أن يتخذ دليلا عادلا على سياسة محمد علي، وهي تقضي بإبادة العصاة شديدي المراس بلا رحمة ولا شفقة واستعمال الرفق والهوادة مع غيرهم ليظل شعور الأمل، وكذا شعور الرهبة حيا في النفوس.
وكان طبيعيا أن يؤدي نجاح الثورة الكريتية إلى زيادة مطالب الباب العالي من الباشا، ففي أوائل سنة 1824م أصدر السلطان محمود الثاني فرمانا تعطف فيه بإسناد ولاية المورة إلى محمد علي. وليس من المعقول أن يكون قبول هذا التعطف السامي منشؤه الخوف من إغضاب السلطان. كلا؛ فقد كان هناك الجيش الجديد الذي أبلى بلاء حسنا في كريت، وأراد محمد علي أن يجربه في أعمال أخرى أوسع نطاقا، وكانت بريطانيا العظمى ما تزال ملتزمة الحياد، وليس في وسع أي إنسان مشهور في القاهرة بمعرفته ببواطن الأمور - ولو عن بعد - التكهن بمعرفة العوامل التي كانت ستدفعها بعد زمن قريب إلى تغيير سياستها والاشتراك في الموضوع اشتراكا فعليا. وإلى جانب هذا كانت توجد الفكرة القائلة بأن التغلب على الكفرة بعد التغلب على جماعة الهرطقة سوف يرفع اسم الفاتح في نظر العالم الإسلامي، بحيث يجعل الناس يتناسون ما أحدثته من الأثر السيئ محاولة تقليد المسيحيين في استعمال الشوكة والسكين عند تناول الطعام في المنازل أو اكتراع الشراب المسيحي أو حماية أرواح المسيحيين وأموالهم في داخل بلاده بيد حازمة قوية. وبالجملة، فإن كبح الأروام سوف يجعله زعيم العصر ويفسح أمامه الطريق - إذا أراد - لأن يتحدى أوامر السلطان ويؤهله - هكذا خيل إليه - لاحترام وصداقة إحدى الدول العظمى. وانقضت ستة أشهر في تجهيز الحملة، وفي أول يوليو غادرت ميناء الإسكندرية، وكان عددها لا يقل عن 16 ألف جندي ومائة نقالة و63 سفينة مسلحة،
5
وقد عهد بقيادتها إلى إبراهيم باشا. ولم تكن الحملة تامة كما كان يشتهي أبوه محمد علي، وقد عينه واليا على المورة وخوله السلطة التامة على الجنود وعلى بعض السفن
6
فقط؛ لأن السلطان كان قد عهد إلى قبطان باشا - ألا وهو خسرو باشا - بالقيادة البحرية العليا. وبذا تعددت القيادة، وهي عادة - وإن كانت جاءت بما يسوغ اتباعها - إلا أنها وضعت المبدأ الضار، ألا وهو تقسيم السلطة. ولقد لوحظ حتى في السفر أنه حدث دائما أنه عندما سلمت قيادة الجيش إلى شخص معين والأسطول إلى شخص آخر أن انشغل القائدان بالتنازع فيما بينهما عن السعي لإنزال الهزيمة بالعدو. وقد وصلنا إلى هذه النتيجة في الحالة التي نحن بصددها باختيار خسرو قبطان باشا، فلقد كان العداء بين خسرو ومحمد علي من الأيام التي طرد فيها خسرو بطريقة مهينة من ولاية محمد علي. وهكذا كان السلطان واثقا بأن قائدي الأسطول والجيش لن يتحدا على خلعه. كما أنه كان على يقين بأنهما لن يتقدما إليه بغنائم النصر المشترك الذي أحرزاه، وقد جاءت النتائج طبقا لما كان منتظرا، وكانت الخطة المرسومة أن يتقابل الأسطول التركي مع الحملة المصرية على مقربة من جزيرة رودس على أن يعقب ذلك الاستيلاء على منازل الملاحين المسلحين اليونانيين، ومن ثم تبدأ عملية فتح المورة من جديد. وكان محمد علي هو الذي وضع الخطة، وهي تدل أشد دلالة على عظم تقديره للسيادة البحرية، أما خسرو فقد بدأ بتنفيذ الخطة بإحكام؛ ففي اليوم الثالث من شهر يوليو استولى على جزيرة بسارا، وكانت بمثابة بؤرة القراصنة وتقع غرب ساقس.
أما جزيرة ساموس، فإن دورها كان بعد جزيرة بسارا، ولكن خسرو قضى نحو شهر في الاحتفال بما أحرزه من الانتصار؛ مما كانت نتيجته أن التقى غرب ساموس بعمارة من سفن اليونانيين، وقد أضاع خسرو في المعركة التي نشبت في 16 أغسطس بين الفريقين فرقاطتين وسفينة مسلحة. وإذ ذاك اضطرت العمارة التركية أن تولي الأدبار «بعد أن استولى عليها الرعب».
وقد وصل إبراهيم باشا إلى رودس في 13 أغسطس. وفي يوم 29 منه انضم إلى قبطان باشا بالقرب من بودرن عند الجهة القديمة المعروفة باسم «هاليكارناساس»، ثم وقعت عدة ملاحم في شهر سبتمبر مع اليونانيين، وكانوا هم البادئين بالهجوم على الدوام، وكان الحظ إلى جانبهم في كل مرة. هذا بينما لوحظ أن السفن التركية في الأسطول الإسلامي تسعى جهدها لاجتناب منازلة العدو. وفي نهاية الشهر استدعي خسرو إلى الآستانة مؤقتا، فلما انفرد إبراهيم بالأمر لم يسعه طبعا إلا أن يلتزم خطة الدفاع، ولكنه تمكن في نهاية العام من حشد سفنه ورجاله في خليج سودا في شمال كريت الشرقي بدون أن يعرض نفسه لخسارة تذكر.
ولا بد من الاعتراف هنا بأن هذه النتيجة السلبية كانت عملا باهرا جدا إذا ذكرنا العجلة التي اتبعت في إعداد عمارته، ولم تستسلم العمارة المصرية - وهي التي كانت تتجلى فيها عزيمة قائدها المقدام - للذعر الذي غمر خسرو عند التغلب عليه. ثم إن محمد علي في مصر كان آخر رجل في الوجود يستسلم للهزيمة؛ فقد قال في هذا الصدد: «أنا أعلم جيد العلم أنني لا أستطيع أن أنشئ أسطولا على رمال الأهرام وأنني لا محيص لي من تحمل الخسائر، ولكن سوف يكون لي أسطول قوي مهما طال الزمن، وهنالك أستطيع منازلة اليونانيين وقهرهم.»
7
وبمثل هذه المغامرة الباعثة على الإعجاب عكف الباشا على تعزيز أسطوله، وقد وصلت السفن الأربع التي كان سبق أن أوصى عليها في مصانع السفن الإيطالية.
ثم ابتاع الباشا له (بطريق غير مباشر) خمس سفن أخرى من الثوار اليونانيين، وكلف في الوقت نفسه أحد الضباط الفرنسيين بالعودة إلى فرنسا للحصول على إذن بإنشاء فرقاطتين وسفينة مسلحة في مصنع الملك تحت إشراف موظفين فرنسيين رسميين،
8
وقد صدرت الأوامر بناء على ذلك بإنشاء هذه السفن في مرسيليا.
9
ثم لوحظ أن بعض التجار الأروام كانوا منهمكين في إنشاء سفن لحساب محمد علي، بالرغم من أن آباءهم قد ذهبوا ضحية المذابح في ساقس، وبقطع النظر عن أن عملهم هذا قد جلب عليهم سخط الكنيسة،
10
وكانت هناك سفن أخرى يجري بناؤها في أحواض البندقية وليجهورن.
11
وأرغم الأسطول اليوناني في الوقت نفسه على التخلي عن مراقبة السفن المصرية بسبب إلحاف الملاحين اليونانيين في المطالبة بدفع مرتباتهم المتأخرة؛ ولهذا تمكن إبراهيم باشا في يناير سنة 1925م من أن يعبر بلا كبير مقاومة من خليج «سودا» إلى «مودون» وتقع في خليج المورة بغرب، وقد تجلى للناس أن اليونانيين ليسوا أكفاء له في حومة الوغى، فلم يكن عجيبا أن تدور الدائرة على جزء كبير من جيشهم في نافار، وأن تلقي هذه المدينة سلاحها في 18 مايو. وفي الشهر التالي استولى على تريبو لنزا في وسط شبه الجزيرة، وتلا ذلك نشوب حرب العصابات؛ حيث كان الحظ إلى جانب اليونانيين، على أن إبراهيم وضع حدا لهذا النوع من القتال بأن أحرق المدن المسئولة عن الحرب وأتلف محاصيلها واستولى على أغنامها ودوابها، فلم يمض إلا وقت قصير حتى كان اليونانيون قد ملوا القتال وبادروا إلى إلقاء السلاح.
ويظهر أن اليونانيين لم يفيدوا من تفوقهم في البحر. ولعل أهم ما عملوه في هذا السبيل أنهم حاولوا مرة الإغارة على ثغر الإسكندرية بقصد إشعال النار في السفن الراسية فيها؛ ففي عصر 10 أغسطس تقدمت سفينة تحمل الراية الروسية، وما كادت تقترب من إحدى السفن الراسية حتى اشتعلت فيها (أي في السفينة الروسية) النار، وإذ ذاك بادر الملاحون إلى النزول في أحد القوارب في مؤخرة السفينة ويمموا وجوههم شطر سفينة أخرى كانت بانتظارهم عند مدخل الميناء. وقد حبطت المحاولة حبوطا ذريعا؛ فإن السفينة التي اشتعلت فيها النار عمدا التهمت النيران قلوعها، وإذ ذاك ضلت الطريق ودفعتها الرياح إلى أن تجاوزت السفن الحربية. وتصادف أن كان محمد علي جالسا في قصر رأس التين يرقب الميناء وما فيها من الحركة، فبادر إلى امتطاء بغلته وقصد إلى أقرب بطارية مدافع على أن يدرك العدو قبل التمكن من الفرار والابتعاد عن مرمى المدافع، فلما لم يساعده الحظ في ذلك أمر بعض السفن بأن تتعقب السفن اليونانية فورا. وشاء سوء الحظ أن تكون إحدى السفن المصرية على قدم الاستعداد؛ فأمرها بالذهاب وحدها لتعقب الفارين.
وفي اليوم التالي ذهبت ثلاث سفن أخرى في أثرها، ثم جاءت الأنباء في يوم 12 أغسطس بأن السفن اليونانية أحرقت سفينة محملة خشبا (سطاليا) على مرأى من السفينة الحربية المصرية التي كانت قد أقلعت في 10 أغسطس لتعقب أثر اليونانيين؛ فاحتدم الباشا غيظا لسماع هذه الأنباء، وقد دفعه الغضب إلى أن يأخذ أول سفينة بقرب الشاطئ وانطلق بها إلى عرض البحر، حيث لبث أسبوعا كاملا يبحث بلا جدوى عن السفن اليونانية والسفن المصرية.
وليس من ريب في أنه لو التقى باليونانيين للقي حتفه حتما، ولكنه عرض نفسه لخطر أكبر آخر؛ ذلك أن الرعب استولى على الإسكندرية عندما أصبح الأهالي في اليوم التالي لسفر محمد علي ووقعت أنظارهم على أسطول مركب من 40 سفينة حسبوها لأول وهلة سفن اليونانيين، وأنهم عادوا لتجديد الهجوم على الثغر بكامل قوتهم، ولكن تبين فيما بعد أن هذه عمارة قبطان باشا ونقالاته، وقد أرغم بسبب نفاد المئونة والذخائر على التخلي عن الجنود التي كانت تحاصر ميسولونجي، والتي كانت مهمته أن يحمي ظهرها من ناحية البحر. وأغلب الظن أن وصوله إلى الإسكندرية لم يخفف القلق الذي استحوذ على قلوب الأهالي أو الوزراء، وقد بادر الأخيرون إلى عقد جلسة مستعجلة استشاروا في خلالها قنصلي بريطانيا وفرنسا العموميين في ما ينبغي اتخاذه من الإجراءات؛ فتقرر السماح بدخول الأسطول التركي إلى الميناء ومنع قبطان باشا من النزول إلى البر منعا باتا، وطارت الإشاعات حتى وصلت القاهرة بأن قبطان باشا فصل سبعا من سفنه وكلفها بسد مدخل فرعي النيل عند دمياط ورشيد، وأنه عقد النية على أسر محمد علي فيما لو مكنته الظروف من ذلك.
12
وقد استولت على القنصلين الإنجليزي والفرنسي الدهشة لمخاطرة محمد علي وتوغله في البحر على ظهر سفينة واحدة لا تحرسها سفن أخرى في وقت كانت فيه زبدة جنوده وخيرة قواده منهمكين في الحرب في شبه جزيرة المورة. وقد تنفس الناس الصعداء عندما علموا أنه قد عاد إلى الميناء ودخلها في جنح الظلام ليلة 20 أغسطس واتجه مباشرة إلى قصر رأس التين قبل أن يشعر به أحد.
ومهما تكن نيات خسرو باشا عندما جاء إلى الإسكندرية، وألفى عدوه القديم متغيبا عنها؛ فإنه سرعان ما غطى تلك النيات بما قدمه من التهاني الحارة لمحمد علي بمناسبة عودته. وأرفق هذه التهاني بأن طلب باسم الباب العالي بلهجة الأدب والاحتشام أن يقدم له الباشا ما في وسعه من المساعدة في المال والذخائر، لا بل إنه حرص على أن يكون هو البادئ بزيارة الباشا وتقديم التحية له، وقد استقبله محمد علي عند الرصيف وذهبا إلى القصر معا، وما كادا يصلان إلى قاعة الاستقبال حتى بادر كل منهما بدفع الآخر دفعا رقيقا لإجلاسه على كرسي الشرف، كما أن كلا منهما حاول اختطاف المذبة لطرد الذباب عن وجه الآخر. ثم صدرت الأوامر بتقديم المئونة إلى الأسطول وسلم محمد علي إلى خسرو نحو 80000 دولار لدفع مرتبات بحارته،
13
ولما كان موعد الرحيل في أكتوبر افترق الرجلان وكأنهما أخوان شقيقان، وقد صحبت خسرو سفن محمد علي الجديدة وعدد وافر من الجيش أي نحو 1500 جندي راكب و8000 من المشاة. وقد قصد محمد علي أن يعزز مركز ابنه إبراهيم في المورة، وأن يشترك في حصار ميسولونجي التي ظل الأتراك طيلة الشهور الستة الماضية يهاجمونها عبثا،
14
وقد كللت هذه الإجراءات بالنجاح، فإن إبراهيم عهد إلى الكولونيل سيف بالقيادة في المورة واتجه هو إلى ميسولونجي. وقد تمكن الأتراك بفضل معونة إبراهيم هذه من مهاجمة المدينة والاستيلاء عليها عنوة في مستهل عام 1826م، ثم تلا هذا الفوز فوز آخر بمحاصرة أثينا نفسها والاستيلاء عليها. وهكذا كانت قوة اليونان آخذه في الانهيار؛ فبعد أن تمكنت من هزيمة الأتراك أناخ عليها إبراهيم باشا وتمكن من سحقها بفضل الجنود النظاميين الذين دربهم أبوه، وبفضل السفن التي حشداها سويا.
وقد ثمل محمد علي بما أحرزه من النصر في كل من بلاد العرب وبلاد اليونان، حتى خيل إليه وقتئذ أنه ليس ثمة ما ينبغي أن يحول دون توسع سلطانه، ثم حدثته نفسه بإبلاغ جيشه المنظم إلى 100000.
وما كاد محمد علي يفرغ من قمع الفتنة في المورة حتى رأى نفسه مطالبا بأن يسلم هذه البلاد القاحلة إلى سيدها الشرعي، أي المولى الأكبر واسترجاع جنوده وسد ما حدث في الصفوف من الفراغ، كما رأى نفسه مطالبا بفتح اليمن والاستيلاء على شواطئ البحر الأحمر وتوطيد دعائم الأمن في الخليج الفارسي مع احتلال ولايتي عكا ودمشق.
ثم بعد أن استتب له الأمر في هذه البقاع التعيسة يمم وجهه بعزيمة مضاعفة شطر الدجلة والفرات، وهناك أخذ يفكر في أي الفتوحات أعود بالفائدة والكسب. وقد صرح مرة، فقال: «لقد أكسبني السيف بأسا، ووضع في يدي من السلطان ما أكون معه ناكرا للجميل إن لم أواصل استعماله في سبيل خدمة الإمبراطورية التركية وإنقاذها.» وهنا اعترض الضابط الفرنسي الذي قيلت أمامه هذه العبارات الخصوصية، فقال: «ولكن أتظن يا باشا أن الإنجليز يتركون لك الوقت الكافي لإتمام هذه المشاريع الهائلة؟!»
أما الحقيقة فهي أن الباشا ما كان في استطاعته أن يحقق شيئا من هذه المشروعات ما لم يتوصل قبل ذلك إلى اتفاق مع بريطانيا العظمى، وبذا يضمن معونتها. وأغلب الظن أنه كان يعلم كغيره هذه الحقيقة حق العلم، ولعل الوقت كان يقترب لإدراك هذه الغاية أكثر من أي زمن في تاريخ حياته، وكان لا بد لجعل المعاهدة مقبولة في أعين الإنجليز من توفر شرطين؛ أولا: أن تتوتر علاقاتنا مع السلطان أشد توتر - هذا إن لم تقطع بتاتا - وهو شرط لم يكن مناص منه قبل التفكير في الاعتراف لمصر بوجود سياسي مستقل. الشرط الثاني: أن يكون لدى الباشا مزايا يستطيع منحها أو منعها تتناسب مع ما تتضمنه المحالفة من الالتزامات. وقد بذلت فعلا محاولة في هذا الصدد بعقد معاهدة مع حكومة الشركة في الهند، ولكن تبين في سنة 1810م للسلطات الإنجليزية أن تنمية التجارة عن طريق السويس مشكوك فيها؛ ولذا لم تبرم المعاهدة المذكورة. أما الآن فلعل فتح إبراهيم لشبه جزيرة المورة يكون بمثابة ضمان أقوى له قيمته العظمى.
فلقد كان من شأن الثورة اليونانية أن تثير الاهتمام في كافة أنحاء أوروبا؛ ولهذا حياها الشعراء والأحرار شعرا ونثرا ووصفوها بأنها بمثابة مولد الحرية من جديد، بل إن الخاملين من المؤرخين أحسوا في حجراتهم المهجورة بروح الإعجاب تجيش في صدورهم؛ لما اعتبروه تكرارا لذكريات ماراتون وسلاميس، فلما تبين لأولئك المعجبين أن الثورة توشك أن تقمع في بحر من الدماء هاج هائجهم وراحوا يجأرون بصيحة الغيظ والحنق على محمد علي وولده إبراهيم. ومن ثم، اشتدت النعرة ضد مساوئ الحكم التركي وأخذوا يبالغون في وصف تلك المساوئ، لا بل إن أولئك المولهين في حب اليونان رفضوا في حدة وغضب قول القائلين بأنه يوجد بين اليونان الحديثة واليونان المعروفة في التاريخ بون شاسع. ثم سارت الركبان بالأراجيف بأن إبراهيم قد بيت نيته على استعباد الشعب اليوناني كله، وأنه يزمع إقصاءه عن بلاد المورة وإحلال الأتراك أو العرب مكانه. وحتى جورج كاننج الذي لم يكن يحفل بالأراجيف رأى أن الحالة تتطلب التدخل؛ فكتب إلى ابن عم له، وهو سفير بريطانيا في الآستانة، يقول: «إن بيع الناس في سوق الرقيق وتحويلهم عن عقائدهم الدينية بالعنف وإقصاء المسيحيين عن أوطانهم واستبدالهم بأناس من البلاد الإسلامية، وبالجملة فإن السعي لإنشاء سلطة بربرية جديدة كل هذه الحقائق ... جديدة في نفسها وجديدة فيما تنطوي عليه من المبادئ وجديدة وغريبة وغير مفهومة إلى الآن فيما قد تؤدي إليه من العواقب، أقول: إن هذه الحقائق يصح في رأيي أن تكون قاعدة جديدة للتخاطب إن لم تكن للعمل ...»
وليس من شك في أن اتجاه حرب المورة في سبيل قسمة الأراضي وتوزيعها، وما كان للجيوش الإسلامية من التقاليد المعمول بها قد أحدثا حالة شبيهة بالتي أسخطت كاننج وأثارت استهجانه. وقد جربنا نحن - كما قدر لنا أن نجرب مرة أخرى في أرلندا - فقد كان يستحيل علينا التمييز بين الفلاح وبين الجندي؛ لأن الشخصيتين قابلتان للتبديل والتغيير. ثم إنه كان من العادات المعمول بها أن الأسرى من الرجال قد يصبحون أو لا يصبحون ملكا للقائد، ولكن الأسرى من النساء والأطفال يصبحن ملكا خاصا لمن يأسرهن. وحدث أن الآستانة كانت غاصة بالرقيق المجري أثناء انهماك الأتراك في الحرب مع المجر، كذلك أصبحت سوق النخاسة بالقاهرة غاصة بالرقيق اليوناني أثناء حرب إبراهيم في المورة، وكان من شأن هذا أن تصطدم عواطف الجيل الذي قد ينشأ حديثا بفظائع النخاسة وما يمر على الإنسانية من الويلات والنكبات.
على أنه ليس من الإنصاف في شيء توجيه أي لوم شخصي إلى محمد علي أو ابنه إبراهيم. وبهذه المناسبة أشار قنصلنا الجنرال إلى الحقيقة المرة الكاملة، فقال: «ينبغي ألا يفوتنا أن هذه المسألة لا تعتبر صفة خاصة ملازمة للنزاع الحاضر، بل هي وسيلة ألفها الأتراك في كافة ما أثاروا من الحروب ... كما لا ينبغي أن نفترض أن الباشا كان في وسعه إلى الآن أن يحدث تعديلا مذكورا في هذا الصدد، وإنه إذا كان قد تمكن من تحقيق شيء فإنما كان ذلك لعدم خروجه عن المعتقدات الراسخة في نفوس رعاياه.»
ثم إن العدو كان أقل بمراحل من الآلات التي ابتدعها الخيال؛ فلقد كان مجموع الرقيق اليوناني الذين جيء بهم إلى القاهرة 3000، وقد جاء بهم فريق من محبي المضاربة، وقد ابتاعوهم من الجنود.
ثم إن أكثر من نصف هذا العدد قد أطلق سراحهم بتدخل هيئات مختلفة، فقد افتداهم بالمال بعض السكان الأوروبيين الموجودين في مصر، كما أن البعض الآخر قد أفرج عنهم الذين ابتاعوهم بمجرد شفاعة خدمهم اليونانيين.
ولقد شجع محمد علي نفسه على الإفراج عن هؤلاء الرقيق إما بإصدار الأوامر وإما بتقديم المال من جيبه الخاص.
15
ولقد كانت أساليب هذه الحرب بربرية بلا جدال، ثم إن الوقت كان قد حان للقضاء عليها ولكنها لم تكن شخصية ولا متعمدة، ثم إنها لم تكن بهذا المقياس الهائل الذي زعموه. وعلى كل فإن صحة الرواية ليست لها علاقة تذكر بما تتركه من الأثر في النفوس.
ولقد لعب الاعتقاد بأن الجنس اليوناني بأسره قد يباع في أسواق النخاسة دورا هائلا في دفع الدول الغربية العظمى إلى التدخل.
وإليك حقيقة راسخة أخرى تدلك على مبلغ استحقاق اليونانيين لكل هذا العطف المصطنع؛ فلقد نجح اليونانيون في الجزر في صد غارات خسرو القبطان باشا، ولكن حاجة هؤلاء إلى النقود سببت أكبر صعوبة في طريق الاحتفاظ بوحدات الأسطول اليوناني. ولم يكن الملاحون اليونانيون راغبين حتى في خدمة بلادهم مجانا، وما دام دفع مرتباتهم قد أصبح متعذرا؛ فقد سمح لهم بالقيام بأعمال السلب والنهب. فبحجة الحصار البحري بدءوا في أعمال القرصنة جملة والاستيلاء على أمتعة الناس.
وحدث أن سفينة فرنسية كانت قاصدة «كانديا» وعليها شحنة من الذهب لدفع ثمن ما تبتاعه من الزيوت، فاستولى عليها اليونانيون وأخذوا في تعذيب بحارتها لإفشاء مخبأ الذهب، وكان ثغر «هيدرا» وثغر «سبزيا» أروح الثغور لأعمال القرصنة؛ ففي هيدرا أرسل الأميرال الفرنسي «دي نرنجي» ضابطا إلى الشاطئ ليطلب إعادة ما أخذه اليونانيون من على ظهر إحدى البواخر الفرنسية، وإذ ذاك اجتمع الأهالي وهددوا بقتل كل من حدثته نفسه بإفشاء أي معلومات عن القراصنة المسئولين عن نهب الباخرة المذكورة. وكانت توجد في جبهة نابلي محكمة مخصوصة للبت في أمر الغنائم، فحضر إليها القراصنة شاهري مسدساتهم، وتوعدوا بإحراق بيوت القضاة إذا ترددوا في إصدار الحكم بإبقاء الغنائم في أيدي مقتنصيها.
وحدث مرة أن قائد العمارة النمساوية اضطر إلى وضع يده على بعض السفن اليونانية في هيدرا وسبزيا لتعويض ما لحق بعض الرعايا النمساويين من الخسارة، كذلك اضطر أحد القواد الإنجليز بعد يأسه من العدالة اليونانية إلى أن يدخل إلى ميناء هيدرا، وأن يقبض على من رآه فيها من القراصنة.
16
فأنت ترى أن الأسطول اليوناني بعد ما أظهره بادئ ذي بدء من المهارة والبسالة قد تحول تدريجيا إلى منسر لصوص وقراصنة، غايته سلب البواخر الأوروبية ونهبها أكثر من القضاء على الأتراك.
17
ومن ثم تبين للناس أن الفقر في داخل الإمبراطورية العثمانية أنه إذا مست حرية التجارة في عرض البحار؛ إذ كان الأتراك أنفسهم قد عجزوا عن تقليم أظافر القراصنة اليونانيين فإن الدول التي أصيبت تجارتها بالضرر لا مفر لها من التدخل في الأمر لوضع حد لهذا الكفاح.
على أن الباعث الحقيقي الذي دفع الدول إلى تقرير التدخل في النزاع لم يكن منشؤه أراجيف محبي الإنسانية ولا ما ارتكبه القراصنة اليونانيون من الجرائم والفظائع. كلا؛ بل كان مرده إلى ما لروسيا من مطامع سياسية تبتغي تحقيقها. فإن الإمبراطور إسكندر كان ينظر دائما إلى حمايته الطبيعية للكنيسة الأرثوذكسية باعتبارها خير وسيلة للتدخل في الشئون التركية على أنه لم يكن ميالا بين سنتي 1823م و1824م إلى الانفراد بعمل خاص يقوم به دون الدول الأخرى، ومن ثم وضع تدابير باسم المؤتمر الأوروبي من شأنها أن تؤدي إلى جعل كلمة روسيا هي العليا في اليونان. ولكن كاننج تمكن من التنصل من هذا المؤتمر، ولما توفي الإمبراطور إسكندر في نهاية عام 1825م وخلفه الإمبراطور نقولا على العرش رؤي ألا مفر من اتخاذ إجراءات أخرى للحيلولة دون نشوب الحرب بين روسيا وتركيا بسبب المشكلة اليونانية ، وفي هذه الحالة اقترح مبدأ تدخل روسيا وإنجلترا في النزاع وتم الاتفاق على ذلك، واقتنعت فرنسا بضرورة الانضمام إلى الدولتين المذكورتين، وكانت نتيجة كل هذه المباحثات عقد اتفاق 6 يوليو سنة 1827م الذي ارتبطت فيه الدول الثلاث آنفة الذكر ببذل مجهود مشترك لحمل فريقي الخلاف على أن تلجأ الدول المذكورة في حالة الرفض إلى استخدام ما تهيئه الظروف من الوسائل الفعالة لمنع أي اصطدام آخر بينهما، أما الطريقة العملية التي رؤي استخدامها لتنفيذ المشروع فتتلخص في ضرب الحصار على المورة بواسطة أساطيل الدول الثلاث لتدويخ إبراهيم جوعا.
وكان سفراء الدول الثلاث قد تقدموا إلى الباب العالي من قبل بالتماسات عديدة لوقف القتال، ولكن لم تقابل هذه المساعي في كل مرة إلا بالجواب الجاف؛ وهو أن الثورة اليونانية تعتبر مسألة داخلية بحتة ليس لها أهمية شرعية بالنسبة للدول الأوروبية. وفي يوم 16 أغسطس حمل تراجمة السفارات الثلاث إلى الرئيس أفندي - أي وزير الخارجية - مذكرة رفض استلامها، وفي اليوم التاسع والعشرين من الشهر نفسه كرروا الزيارة؛ فأكد لهم الرئيس أفندي أن السلطان لن يقبل أي اقتراح أو مسعى خاصا باليونان، وأنه لن يتزحزح عن موقفه هذا إلى يوم القيامة. وفي يوم 31 من الشهر المذكور، ذهب السفراء الثلاثة يحملون تصريحا جديدا، وقد رفض الرئيس أفندي استلامه أيضا بعد ادعائه بشكل أقرب إلى ادعاء الأطفال بأنه لم يفهم محتويات ذلك التصريح،
18
فلم يبق ثمة أمام الدول المذكورة إلا الالتجاء إلى القوة.
وليس من شك في أن السبب في هذا القرار الجنوني إلى الاعتقاد بأن أوروبا كانت منقسمة على نفسها بحيث لا تستطيع التدخل بصفة فعالة وأن روسيا لن توافق على أي عمل تقوم به العمارتان الفرنسية والإنجليزية، وقد كان هذا الاعتقاد يرتكن أولا إلى ما للمحالفات الأوروبية من التاريخ المملوء بالمصاعب وثانيا إلى سلوك السفير الروسي،
19
وأخيرا إلى ما اقترحته النمسا عن عمد، فقد كان ميترينج ينظر إلى الثوار اليونانيين نظرته إلى الثوار الإيطاليين سواء بسواء، وكان مقتنعا في الوقت نفسه بأن الدول الأخرى سوف تجني من الفائدة إذا تدخلت في الشئون التركية أكثر مما تجنيه النمسا، وعقد المترجم الأول للوسيط اجتماعات طويلة غامضة مع كبار الموظفين المحيطين بشخص السلطان،
20
ونحسب أننا بعد أن عرفنا ما فيه الكفاية عن مسلك الساسة النمساويين في البلدان الأخرى أصبحنا على يقين أن الغاية التي كان الوسيط يرمي إليها هي الإلحاح على السلطان بأن يعمل بالقضاء على الثائرين في أقرب وقت، ولا ريب في أن هذا الرأي كان يتفق مع ما رأى السلطان محمود نفسه.
ولقد كانت نتيجة أول تلميح لاحتمال التدخل المشترك أنه أرغى وأزبد وأخذ يقسم بأغلظ الأيمان والدمع يجري في مآقي عينيه ليمزقن كل ولاية وليخربن كل مدينة يمتلكها في أوروبا عن أن يرضخ لمثل هذا الإذلال الذي لا يمكن الصبر عليه،
21
ثم أصدر الأوامر لموظفيه أن يعلنوا على الملأ أن التدخل لن يؤدي إلى محق اليونانيين محقا تاما، ثم قال: «ولنقتلن كل يوناني في بلادنا حتى إذا ما بدأ الدم يسيل، ثم قال: ما أسوأ ما تكون العاقبة لو أن الأرمن - وهم أعداؤنا الآخرون - والفرنسيين اختاروا أن يمزجوا دماءهم بدم المدنيين.»
22
على أن السلطان محمود كان لا بد له أن يعلم عندما فاه بهذا الوعيد أنه ليس كسليمان القانوني.
وليس من شك في أن هذه الخزعبلات والأوهام لم يكن لها نصيب بين المشروعات التي كانت تجول في خاطر محمد علي؛ فلقد كانت الغاية الوحيدة التي يسعى طول الوقت لتحقيقها هي تعزيز مركزه في داخل الإمبراطورية العثمانية وخارجها مع تفضيل الفكرة الثانية، فيما لو مكنته الظروف من ذلك، وقد قلق أشد قلق عند سماعه بنبأ التحاق لورد كوشران - ذلك الأميرال المتقلب - بالأسطول اليوناني،
23
وأنه نظر إلى التوبيخات الإنجليزية بغير العين التي نظر بها الرئيس أفندي إليها، وقد قيل إنه عثر على المفتاح اللازم لتحريك العالم الأوروبي.
فقد عرض على إنجلترا قبل بداية الثورة اليونانية بزمن بعيد شروطا اختيارية، ومن أجل هذه الشروط كان صولت شديد الرغبة في زيارة لندن سنة 1820م لأسباب صحية - على ما قيل - ولكن في الواقع لأسباب تتعلق بشئون الدولة. وقد كتب صولت بهذه المناسبة: «إن رجلنا العظيم هنا قد ألح علي في تبليغ رسائل لا أستطيع إثباتها على الورق.»
24
وعلى أن شيئا لم يترتب على هذا العرض. وفي سنة 1826م حظرت لاسنداتفورد كاننج في الآستانة هذه الحقيقة البديهية؛ وهي أن أسهل طريقة لتليين قناة الحكومة العثمانية هي الحصول على تأييد باشا القاهرة.
ولهذا كتب إلى صولت يسأله «ألا يعتبر محمد علي أنه بدلا من محق اليونانيين مع ما في ذلك من المجهود أن الأصلح له أن يحصل على نصيب في الجزية التي كان يقترح وقتئذ أن تقدمها اليونان إلى الباب العالي يضاف إليها إعطاء ولاية سوريا لولده إبراهيم.»
25
وقد خطر لصولت في بداية الأمر أن من المستحيل أن يتوقع الإنسان النجاح في جرح الشعور الإسلامي إلى هذا الحد لحمله على تأييد القضية اليونانية،
26
ولكن لم يمر أسبوعان حتى بدأت سلسلة من المحادثات أخذ الباشا يبسط فيها آراءه - تدريجيا - على أنه بدأ بإغفال أي فكرة ترمي إلى تأييد وجهة النظر الإنجليزية في الآستانة؛ لأن الديوان كان كثير التذبذب، بينما كان السلطان شديد التعصب، ولكن كانت ثمة وسائل لتحبيذ سياستنا، وأنه يهمه معرفة ماذا عسى أن تعرضه الحكومة البريطانية عليه من الشروط المرعبة. ثم مر أسبوع آخر حيث ذكر صولت بأنه لما يضع إلى الآن على خاتمه سوى اسمه فقط، إلى أن قال: «فأنت ترى أن حظي من أمارات الباشوية قليل، اللهم إلا إذا استثنيت الجاويشية - العصا الفضية - وديواني.» ثم استطرد الباشا فقال: «إن مصر وإنجلترا يمكن من الوجهة الجغرافية والتجارية أن تفيد إحداهما الأخرى، وهذا غاية ما أتمناه.» ولما عرض صولت مسألة الجلاء عن المورة أجابه الباشا: «إن هذه ليست بالمسألة السهلة؛ لأنها في حاجة إلى معونة رجل سياسي قادر لتحقيقها، أما إذا وجد من يرغب في ذلك فلا ريب في أنهم يستطيعون حل الإشكال.» على أن الباشا كان أقرب إلى الصراحة في آخر سلسلة هذه المحادثات، وقد دارت في 26 سبتمبر، فقد قال: «إني أضع قدمي الآن في ركابين، وعليه فالأمور سوف تبقى معلقة في الميزان لحين حلول فصل الربيع، فإذا ما وجد وقتئذ أن لدى حكومتكم اقتراحات مرضية لي فإني على استعداد لقبولها، وإذن يمكن إيجاد أسباب للانسحاب نهائيا من اليونان. أما إذا جاء الأمر على عكس ذلك فلسوف أجمع كافة قواتي ثم أحصل بما لدي من النفوذ لدى الباب العالي على قيادة الأسطول العثماني بأكمله؛ لأن القبطان باشا سوف يكون قد ساءت سمعته؛ ومن ثم أضع نفسي على رأس الأسطول. وبذا أوجه كل اهتمامي إلى الفراغ من المهمة وحلها نهائيا.» وإذ ذاك سأله صولت عن الخدمات التي ينتظرها الباشا من إنجلترا في مقابل ذلك، فأجابه محمد علي: «إنه ينتظر المساعدة في صدد زيادة الأسطول ثم الجزية للتوسع في بلاد العرب.» ولكن صولت أضاف هنا: «إنني مقتنع بأنه يرمي في صميم فؤاده إلى الحصول من حكومتنا على تأكيد عام بالموافقة على استقلاله فيما لو دفعته الظروف إلى قطع علاقته مع الباب العالي.»
ولكن الباشا تحاشى الخوض في هذه النقطة.
27
وما هو أن انتهت هذه المباحثات حتى هبط إلى الإسكندرية أحد الساسة النمساويين موفدا بمهمة من ميترينج، وهذا السياسي هو بروكسن أوستمد الذي قام في تاريخ آخر بعد ذلك بزيارة أخرى غريبة للباشا.
وقد جاء إلى مصر في هذه المرة ليستحث الباشا ليترك التردد وليلح عليه في القيام بحملة ضد اليونانيين في الشتاء؛ ليضمن لنفسه الغلبة عليهم قبل أن تتمكن روسيا والدول الغربية الأخرى من التدخل في الأمر.
وقد أسهب في وصف ما في استقلال اليونان من الخطورة على التجارة المصرية، وأخذ يطنب في ميل الإنجليز إلى بقاء مصر في حالة ضعف، وزعم بأن بضائع بريطانيا مهما كانت تحمل في ظاهرها الخير إلا أنها ترمي في الواقع إلى مساعدة ممثل السلطان بل إلى شل حركته، على أن هذه النظرية لم تنفع في إقناع محمد علي بأن أي محالفة توازي في فائدتها صداقة بريطانيا العظمى أو أن أي فائدة يمكن أن تعوض عليه ما يخسره بسبب معاداة سيادة بريطانيا البحرية، وفي النهاية توجه بهذا السؤال الصريح إلى محادثه النمسوي، فقال: «إذا لم ترغب إنجلترا في أن تقوم بما تشير به علي فما حيلتي معها إذن؟!»
28
ولما مرت الأسابيع دون أن يصله رد على مقترحاته كان فكره قد اتجه بطبيعة الحال إلى المشروع الآخر، وهو الحصول على الإذن من الباب العالي يجعله المشرف الأعلى على الحرب اليونانية وبخاصة؛ لأن نجاحه في الآستانة لن يحول مطلقا دون الوصول إلى اتفاق مع الإنجليز، هذا فضلا عن أن ذلك النجاح من شأنه أن يدفع بعدوه الشخصي خسرو في سبيل الذل والعار. وكان محمد علي قد أرسل الشكاوى العديدة من سوء إدارة خسرو في قيادة الأسطول التركي.
29
ثم إنه أرسل في يوم 7 يناير سنة 1827م خطابين؛ أولهما إلى الصدر الأعظم، وثانيهما إلى معتمده في الآستانة،
30
وقد ذكر في أولهما أنه لم يدخر أموالا ولا رجالا في سبيل خدمة السلطان وأن موارده قد نفدت الآن، هذا فضلا عن ظهره فقد أصبح منحنيا تحت ثقل سنه المتقدمة، وإنه لهذه الأسباب يرجو أن يعفى من إجابة مطالب جديدة؛ لكي يقضي ما بقي له من عمر في سلام داعيا لمولاه بدوام الصحة والسعادة. على أن أهمية هذا التوسل المتواضع قد بينها ما ورد في الخطاب الثاني؛ إذ قال: «إن اشتراك خسرو باشا في شئون الحرب كان من شأنه أن يؤدي إلى الإهمال والتكاسل، فإذا ما ظل في منصبه فلسوف أكف عن التعاون معه وأطلب إقالتي من هذه الخدمة.»
31
وقد حدث أنه على أثر وصول هذين الخطابين إلى الآستانة أن تقدم ستراتفورد كاننج بسلسلة اقتراحات غير مقبولة لدى الباب العالي في صدد اليونانيين؛ فلم يكن من سبيل إلى التسويف في هذه الظروف حتى في الديوان التركي نفسه. وفي الحال صدر الأمر إلى أحد كبار الأغوات بالذهاب إلى مصر في مهمة سرية، وقد حاول أن يعبر البحر في بارجة إنجليزية خوفا من وقوعه في أيدي اليونانيين، ولكن ستراتفورد كاننج رفض لاقتناعه بأن المهمة لن تكون مرضية لنائب السلطان
32
ولكن لم تكن هناك حاجة لأن يقلق كاننج كل هذا القلق؛ لأن الأغا كان يحمل معه نبأ بإبعاد خسرو عن منصب القبطان باشا، وهذا عدا الفرمانات اللازمة بجعل محمد علي المسئول وحده عن إدارة دفة الحرب.
ولكن هذه الأنباء لم يكن من شأنها أن تتغلب على حكمة محمد علي أو تدفعه إلى سحب قدمه من أحد الركابين، بل شرع على مهل في إجراء استعدادات لاستئناف الحملة. وحتى في منتصف شهر يونيو التالي كانت سفنه ما تزال موجودة في مراسيها في الإسكندرية، كما أن إمداداته لإبراهيم لم تكن قد تمت بعد، ولكنه شرع في الإلحاح على قنصلنا العام بإرسال جواب على اقتراحاته المتقدمة؛ لأنه لا يستطيع تأخير الأسطول إلى أجل غير مسمى. يضاف إلى ذلك أن الديوان في الآستانة قد لاحظ أن التغيير في القيادة لم يغير شيئا من بطء سير القتال كما أن خسرو الماكر كان قد نال الحظوة التي كانت لمحمد علي، وأنعم عليه بالعطف والسيف، إشارة لجعله صاري عسكر وقائدا عاما لقوات السلطان. وفي 11 يونيو، أكد محمد علي لصولت رغبته في النزول على إرادة الحكومتين البريطانية والفرنسية، ثم قال: إذا كان في نية هاتين الدولتين فعلا أن تتدخلا فيحسن أن يظهر الأسطول الإنجليزي والفرنسي أمام الإسكندرية لعمل مظاهره لإرغام سموه على الامتناع عن الحرب، فإذا ما أظهر أن الامتناع لفائدته فإنه في هذه الحالة يبادر بسحب جنوده وولده من الموت. وقد أكد لي سموه أنه إنما يطلب طلبا مسوغا معقولا لاتخاذ هذه الخطوة الحاسمة،
33
ثم إنه برغم إلحاح الباب العالي، وبرغم تحريض القنصل النمساوي ما زال متمسكا بخطة التريث والانتظار مدة ثمانية أسابيع أخرى،
34
وأخيرا، أقلع الأسطول في يوم 16 أغسطس، وبعد ذلك بيومين وصل رسول إنجليزي بمهمة خاصة.
35
وكان هذا الرسول الميجر كرادوك الذي أرسله كاننج خصيصا لإبلاغ الباشا بقرار الحلفاء في لندن والتخلي عن المورة فورا بلا لف ولا دوران. وكان عليه أن يبين له أن الدول العظمى قد اتفقت كلمتها، مع أنه لا ينتظر أي تدخل من ناحية تركيا، وأن قوات كافية ترسل إلى شرق البحر المتوسط فإن شاء الأتراك أن يواصلوا المقاومة «فإن عواقب انضمام الباشا إلى الباب العالي في نضال غير متساو كهذا قد تكون ضارة لمشروعات التحسينات البحرية والتجارية التي ظل سموه حتى الآن يواصلها بقسط كبير من النجاح. وقد خطر لكاننج أن مثل هذه الاعتبارات لا بد أن تكون لها نتيجة فعالة مع رجل حذر فطين لا يعتبر من المسلمين المتعصبين كما أنه ليس من الخدام المخلصين للباب العالي.»
36
ومع أن كرادوك قد أمر بأن يجتنب استعمال التهديد فإن مهمته لم تكن بالمهمة السهلة؛ لأنها كانت كما عدها صولت بمثابة «طلب إلى محمد علي بالتزام الحياد الذي قد يضر أبلغ الضرر لعلاقاته مع الباب العالي بدون أي مقابل معين.»
37
ولقد انقضى نحو أسبوع في هذه المباحثات أظهر الباشا في خلاله كل ما كان في استطاعته من الميل وألح عليه صولت بأن ينتهز هذه الفرصة لإيضاح رغباته للحكومة البريطانية بعبارة جلية محدودة؛ لأنه إذا أضاع هذه الفرصة الطيبة للتحبب للدول العظمى «فلن ينتظر أن تسنح له فرصة مثلها في المستقبل»، وهنا أشار محمد علي بأن تطلب أميرالية الحلفاء من إبراهيم باشا بصفة رسمية بألا يهاجم «هيدرا» وهي الهدف الحربي الثاني في سلسلة الأعمال الحربية التي يقوم بها إبراهيم، وقد لمح محمد علي بأنه سوف يصدر من ناحيته أوامر بهذا المعنى إلى إبراهيم، ثم استطرد فقال: «لتقف إنجلترا بجانبي، وبذا أستعيض بما أخسره في ناحية أخرى، ولقد طالما رغبت من صميم فؤادي ... أن أعقد معها اتفاق صداقة وتجارة لا تبليها الأيام. ولعلها تشعر الآن - على ما أرجو - أنها ملزمة بمساعدتي» وقد رد صولت على هذا بما يعبر عن رأيه الشخصي، فقال: «متى حان الوقت المناسب، وإذا ما نفذ الباشا هذه الخطة بنجاح فإن إنجلترا لن تتخلى عنه.» ومن ثم اندفع الباشا يتكلم وقلبه مفعم بالآمال في المستقبل، فقال وقد لمعت عيناه وتهلل وجهه: «إن سوريا ودمشق وبلاد العرب كلها في متناول يدي ، فإذا ما ساعدتني حكومتكم كما أؤمل، وإذا ما اعترف بي كأمير مستقل متى سنحت الفرصة فلسوف أكون راضيا الرضا كله.»
38
وقبل أن يخرج كرادوك التفت إلى باغوص بك الخادم الأمين للباشا وقال: «إنه يعتقد شخصيا أن مصر إذا أعلنت استقلالها واستطاعت الاحتفاظ به فلسوف تعترف بها إنجلترا.»
39
وانتهت المحادثات دون أن يتقيد أحد الفريقين بأمر معين، وألمح ممثل السلطان إلى إبقاء جنوده في المورة بلا عمل. وإذ ذاك رد المندوبان الإنجليزيان بأنه يستطيع في هذه الحالة أن يعتمد على حسن نية الحكومة البريطانية على أن ما يؤسف له حقا أن كرادوك لم يتمكن من الوصول إلى الإسكندرية في الوقت المناسب ليحمل الباشا على تأجيل إرسال أسطوله إلى المورة.
ولذا كان موقف الباشا يبعث على الحيرة؛ فإن السلطان كان يأمره من ناحية بأن يبادر في الحال إلى سحق الأروام، بينما كانت فرنسا وإنجلترا تطالبه بالانسحاب فورا من المورة.
فإزاء هذا الموقف المحير لم يكن للباشا مفر من أن يغضب أحد الفريقين غضبا تاما، ولقد كان مقتنعا في قرارة نفسه بعبث الاسترسال في مقاومة رغبات الحلفاء، ولكنه في الوقت نفسه كان مرتبطا ببلاط يأبى عليه جهله الشديد وصلفه أن يسلم بأنه قد فات الوقت الذي كان غضب السلطان يكفي وحده إلى حبس سفراء الدول الغربية في قصر الأبراج السبعة، أو أن يستطيع الأتراك أن يصمدوا للقوات المسيحية المتحدة على قدم المساواة.
لقد بذل في يوم 5 أكتوبر مجهودا جديا ليفتح عيني الديوان إلى خطورة الموقف؛ فكلف معتمده أن يبلغ البلاط أن مطالب الحلفاء قد تكون مجرد بلف، ولكن ليس معنى ذلك أنها لا يمكن تنفيذها، وأن العقلاء من شأنهم الاستعداد لتقلبات الحظ بدلا من تعليل أنفسهم بالسعادة والهناء، وأن عمارات الحلفاء إن التجأت إلى استعمال القوة فإن العمارة التركية في رأيه الضعيف تتمزق شذر مذر ويهلك معها 30000-40000 نفس.
ثم استطرد، فقال: «من الخطر المحض أن يقصر همه في شئون الحرب على التوكل على الله، بل ينبغي في الوقت نفسه أن يغفل عن كل ما ينبغي عليه فعله. نعم؛ إن النصر من عند الله، وإنه هو وحده صاحب الحول والطول، ولكنه أمرنا في قرآنه الكريم بالسعي، ثم وعدنا بالمساعدة لنيل النصر.»
40
والخلاصة أن الإيمان وحده لا يمكن أن يعوض عن البارود المبلل أو عن السفن الرديئة.
وقد جاءت الحوادث لسوء الحظ محققة لما كان يتوقعه؛ فإن أميرالي الحلفاء وهما كودوربنجتون ورمني - لأن العمارة الروسية لم تتدخل إلى حلبة النزاع قبل يوم 13 أكتوبر، بدآ لفورهما باستعمال الضغط على فريقي المتحاربين، وقد بادر الأروام طبعا إلى إعلان موافقتهم على عقد الهدنة، ولكن نظرا لأن السلطان رفض الهدنة فقد اعتبر هؤلاء أنفسهم في حل من أي ارتباط؛ لذا أعدوا حملة لتوجيهها إلى ألبانيا حيث دمروا عمارة بحرية تركية صغيرة في جالاكسيدي. وبعدئذ اجتمع الأميرالان بإبراهيم شخصيا فوافق على وقف الأعمال الحربية مدة شهر إلى أن تصله تعليمات؛ إما من الباب العالي أو من أبيه، ولكنه عندما سمع بأن الأروام يواصلون أعمالهم الحربية اتخذ الاحتياطات اللازمة لإرسال المئونة إلى باتراس، وأن يطهر البلاد التي يحتلها جنوده ممن يحتمل أن ينقلبوا إلى أعداء، وحاول الأميرالان مراعاة العدل بين الفريقين، فإذا كان كودرنجتون مثلا قد أرغم الأسطول التركي من جهة على الالتجاء إلى نافارين بدون إرسال الإمدادات إلى باتراس؛ فإنه من الجهة الأخرى حظر على الأروام أن يسيروا حملتهم التي انتووا إرسالها إلى ألبانيا، ولكن كودرنجتون كان يميل هو وزملاؤه إلى منع استمرار أعمال التخريب في المورة. ولما لم تكن لديهم إلا قوة بحرية فقد حسبوا أن يدركوا غايتهم المذكورة بالقيام بمظاهرة مزدوجة ضد الأسطولين التركي والمصري.
41
ففي يوم 20 أكتوبر أقلعوا بسفنهم الحربية قاصدين إلى خليج نافارين، ولكن الأتراك كانوا دائما يرتابون في نوايا كودرنجتون وأصحابه؛ ولذلك أطلقت البنادق الرصاص على بحارة إحدى السفن الإنجليزية؛ فأجابت هذه على ذلك بإطلاق قنابلها على الأسطولين التركي والمصري، وإذ ذاك نشبت معركة حامية استمرت من منتصف الساعة الثالثة إلى الغسق، وقد أسفرت عن تدمير الأسطول الإسلامي على بكرة أبيه.
وقد هلل كافة أنصار القضية اليونانية لهذا الحادث الذي قابلته حكومات الحلفاء بالدهشة والاستغراب؛ ذلك أن الحكومات المذكورة كانت قد حاولت أن تستخدم القوة البحرية في أكثر ما يمكن أن يتحقق بواسطتها إذ ليس يخفى أن تأثير الأعمال البحرية في الأعمال البرية بطيء ومحدود وتدريجي، في حين أن ما كان يتمناه الحلفاء هو وقف الأعمال العسكرية في الحال، فهم والحالة هكذا قد كلفوا أميراليهم بمهمة شاقة تكاد تنوء بها كواهلهما، ثم إن تعليماتهم كانت خاطئة وناقصة. وهذا بلا ريب نتيجة الموقف الذي وقفوه مما يتعارض مع المنطق؛ لأنهم في الوقت الذي تظاهروا فيه بالتدخل بين السلطان ورعاياه المتمردين كان تدخلهم في الواقع لإنقاذ اليونانيين، فبينما قد تجاوز هذا العمل البحري المدى الذي كانت تنوي الدول الغربية الذهاب إليه فإنه في الوقت نفسه قد ساعد كل المساعدة على تحقيق الغاية المنشودة. هذه المعركة كانت بمثابة خدمة مزدوجة لمحمد علي، فإنه كان على استعداد لفتح باب المفاوضات مع الحلفاء.
وأكبر الظن أن كرادوك، ولو كان عجل بالوصول إلى مصر بيومين اثنين فقط لما أقلع الأسطول المصري قاصدا إلى المياه اليونانية بتاتا على نحو ما قاله كاننج، ولما اشتبكت الأساطيل في معركة بافارين، وكان من رأي إبراهيم وديوان الآستانة بادئ ذي بدء الانسحاب من المورة شمالا أي إلى خارج مرمى مدافع أساطيل الحلفاء، ولكن محمد علي لم ير معنى لمواصلة هذا الكفاح العقيم. وفي اليوم التالي الذي وصلت إليه أنباء معركة نافارين أبلغ القنصل الإنجليزي بأن الحرب لو اشتعلت بين تركيا وبريطانيا العظمى فلا خوف مطلقا على الرعايا الإنجليز في مصر، ثم قال: «أعلم كيف أقدر أن أحتفظ بما لي من سمعة حسنة على السهر على العدالة والسخاء.»
42
ثم كتب في اليوم نفسه إلى ولده إبراهيم يخبره أن حمق الديوان هو سبب هذه النكبة، وأنه يأمره بألا يبرح معسكره وألا يقوم بأي محاولة ضد الأروام،
43
ولما سمع بالاقتراح المقصود به سحب جيش إبراهيم إلى الشمال رفع عقيرته بالاحتجاج الشديد الذي كان له مفعوله،
44
ومن ثم ظل إبراهيم باقيا في المورة إلى أن تحرج مركزه بسبب القوة الفرنسية التي نزلت إلى البر، حتى إن الباب العالي لم يسعه إلا التسليم بألا مناص من الإذعان. وفي اليوم السادس من شهر أغسطس سنة 1828م ذهب كودرنجتون إلى الإسكندرية لزيارتها وتوقيع الاتفاق مع محمد علي، وبمقتضى هذا تم الجلاء عن المورة نهائيا،
45
مع أن السلطان ظل مصرا على رأيه، فاضطرت روسيا إلى أن تلجأ إلى استخدام القوة. وفي العام التالي أرغمت الباب العالي على توقيع معاهدة أدرنة التي سلم فيها بنفس الآراء التي أبداها والي مصر من قبل ذلك بعامين.
ولا ريب في أن تورط محمد علي في شئون أوروبا السياسية على نحو ما بسطناه هنا قد أنهك موارده إلى أقصى حد؛ فإن ما أنفقه من الأموال الطائلة على بناء سفنه وفي شراء المؤن والذخائر التي تدفقت على المورة، ثم إن ما جمعه من الرجال ودربه من الجنود وبعث به إلى ميادين القتال كل هذا قد ذهب أدراج الرياح بين عشية وضحاها، وقد عاد جيش إبراهيم من المورة وهو في حالة جوع وعجز وبؤس شديد، بل إن الكثير من الجنود قد غلبتهم الفاقة حتى عجزوا عن مواصلة السير.
46
وهكذا نجح الباب العالي في تسخير الثورة اليونانية لخدمة غاياته وأغراضه، فإن باشا مصر القوي لم يعد الآن صاحب القوة التي كان عليها عندما سمى نفسه حامي الإسلام. على أنه لم يتورط في عداء الدول الغربية إلى الحد الذي كان يرغب فيه الباب العالي برغم من إحراق أسطوله وتجويع جيشه، بل كان لديه لسوء الحظ من أصالة الرأي وبعد النظر ما يجعله يلقي تبعة هذه النكبات على عاتق «السلطان العنيد» ووزرائه المأفونين الذين لم يحفلوا بما بذله لهم من الآراء السديدة. وقد انسحب محمد علي من حومة الوغى وظل يشهد سير الأمور من مكانه الحريز، بينما كان أهالي الآستانة يتوقعون وصول الروس الفاتحين إليها يوما بعد يوم، وقد امتلأت جوانح محمد علي بالازدراء لعجز الباب العالي وحقده، وصار الآن أشد تصميما منه في أي زمن مضى على تحرير نفسه تحريرا نهائيا من نفوذه السيئ، ثم إنه أصبح الآن أشد إيمانا بأهمية السيادة البحرية وبخاصة سيادة بريطانيا البحرية، وقد تبين له الآن أن امتلاك المورة لا يصح أن يعتبر الضمان الذي يمكنه تقديمه في مقابل الحصول على محالفة إنجليزية؛ لأن السيادة البحرية قد انتزعت من قبضة يده في عصر يوم واحد ذلك الضمان الذي حسبه ضمانا قويا، ولكنه قد يوفق إلى الحصول على الضمان المطلوب يوما ما، فهلا يمكن أن يكون هذا الضمان هو الاستيلاء على طريقي الهند، بل ألا يمكن أن يكون هذا الضمان هو التهديد بعقد محالفة مع مزاحمة إنجلترا في البحر الأبيض؟
الفصل الرابع
مسألة الجزائر وفتح سوريا
تمتد بلاد البربر على طول الشاطئ الأفريقي من موغادور إلى بنغازي، هي إمارات مكونة من القراصنة، ومنها كانت تتركب بعض أجزاء الخلافة في الأيام الخالية، وقد احتفظت باستقلالها بعد انهيار الإمبراطورية الإسلامية، ولم يكن من شأن قيام الإمبراطورية العثمانية أن تتدخل في شئون تلك الإمارات التي ظلت حرة في أعمالها لا ترتبط بتلك الإمبراطورية إلا بروابط الاحترام لتلك الدولة المتوحشة التي وطدت سلطانها في مدينة الآستانة وسلخت بلاد البربر طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر في حروب متواصلة ضد الملاحين الأوروبيين كافة.
على أن تأسيس أساطيل الدول الغربية في إبان القرن الثامن عشر، وإن كان قد قلل من نشاط تلك الولايات وضيق الخناق على ما كانت تقوم به من أعمال اللصوصية، إلا أنه لم يغير شيئا من ميولها ونزعاتها، وإذا كانت الولايات البربرية المذكورة قد خشيت العبث بالسفن الإنجليزية أو الفرنسية فإنها لم تفتأ تشن الغارة على كل ما كان يقع في أيديها من سفن إسبانيا أو جنوا أو نابلي.
وقد بلغ عدد ما استولت عليه بلاد البربر من السفن بين سنتي 1805م و1815م نحو 90 سفينة، وإذا كانت الإمارات المذكورة قد قللت شيئا من أعمال القرصنة بعد أن أطلق لورد اسكموث قنابل أسطوله على مدينة الجزائر في سنة 1816م فإنها قد تمكنت على الرغم من ذلك من الاستيلاء على 26 سفينة أخرى في خلال السنوات العشر التالية، ومن ثم ذهب الأسطول الإنجليزي في سنة 1824م إلى مدينة الجزائر مرة أخرى؛ لأنه لم يبق مناص من تصفية الحساب نهائيا مع هؤلاء الأقوام الذين كانوا يدينون بمبادئ أهالي القرون الوسطى.
وكان أهالي بلاد البربر - كغيرهم من المسلمين الطيبين - قد غضبوا أشد الغضب لتدخل المسيحيين في شئون اليونان، وكذا بادروا بإرسال كل ما لديهم من السفن لمساعدة الخليفة وهم محنقون لزوال حرية البحار التي تمتعوا بمزاياها دهرا طويلا وغير حاسبين حسابا لكارثة نافارين التي كانت تنتظرهم، وقد كانوا يميلون في حالتهم العقلية المحنقة هذه إلى تحدي الغرب وما لديه من الأساطيل؛ ففي أبريل سنة 1827م دارت مناقشة عنيفة بين حسين باي الجزائر وقنصل فرنسا العام المسيو ديفال، ولم يتحرج الباي من لطم القنصل الفرنسي بالمذبة على وجهه، فطلبت فرنسا تعويضا عن تلك الإهانة، ولكن الباي أبى تقديم أي تعويض، ومن ثم سحبت قنصلها المذكور وكلفت إحدى عماراتها بمحاصرة الجزائر؛ ونظرا لأن الباي ظل مصرا على رأيه، وأبى الاستغفار عما فرط منه، ولأن الحالة العامة - وخاصة بعد نشوب الحرب الروسية التركية في سنة 1828م - لم تكن لتشجع على القيام بعمل حازم، فلقد حاول قنصل سردينيا ثم أحد ضباط فرنسا البحريين أن يقنع الباي بقبول شروط أخف من الشروط التي كانت معروضة عليه أولا، على أن هذه المحاولات لم تكن إلا لتزيد الباي اقتناعا بأن فرنسا بدأت تضعف أمامه؛ مما زاده صلابة على صلابة. وفي أواسط سنة 1829م تقرر إرسال السفينة «بروفانس» وهي رافعة العلم الأبيض باقتراحات جديدة ومعها تهديد بإرسال حملة عسكرية في حالة رفض تلك الاقتراحات، ولكن الباي حسين ظل مصرا على الرفض، وكان جوابه عندما هدده ربان السفينة بالقتال تلك العبارة الخالدة؛ وهي: «لدي البارود ولدي المدافع، وبما أننا لا يمكن أن نتفق فالأولى أن ترحل من هنا.»
فلم يسع السفينة «بروفانس» إلا أن تقلع مراسيها وتعود إلى بلادها في 3 أغسطس، بينما كان العلم الأبيض لا يزال يرفرف على ساريتها، على أن الريح قد غلبتها ودفعتها إلى أقرب بطاريات المدينة، وقد عد الأهالي عملها هذا بمثابة إهانة متعمدة، فأطلقوا عليها القنابل وظلوا يطلقونها طالما بقيت السفينة في داخل مرمى المدافع حتى تمكنوا بعد إطلاق ثمانين قنبلة من إصابتها ثلاث مرات.
فلما أن وصلت هذه الأنباء إلى باريس ازداد الرأي العام سخطا على سخطه وأصبح قلقه بسبب التباطؤ في إخضاع الباي ينذر بالخطر، ولكن الوقت لم يكن ملائما بالمرة لاستعمال العنف بل كان داعيا للحيرة؛ ذلك أن الروس كانوا وقتئذ قد احتلوا أدرنة وأصبح انهيار الإمبراطورية العثمانية وتمزيق شملها قاب قوسين أو أدنى، فهل كان بوسع أي وزير بعيد النظر أن يقوم في مثل هذه اللحظة الخطيرة بتوريط قوات فرنسا البرية أو البحرية في الحرب في شمال أفريقيا؟ ثم إن المسيو بولنياك - الذي عين في أغسطس وزيرا للخارجية - كان قد فرغ وقتئذ من وضع مشروع لو أمكن تنفيذه لضمن التفاف الشعب حول عرش شارل العاشر الذي كان مهددا بالانهيار ولأحبط اتفاق الحلفاء على خلع نابليون،
1
وقد توهم أن روسيا والنمسا سوف تقتسمان فيما بينهما معظم ما لتركيا من الأراضي في أوروبا؛ وبذا تسنح لفرنسا الفرصة للمطالبة بتعويض عما ينشأ من الإخلال بالتوازن الدولي، أما مشروعه فكان يتلخص في أن تستولي فرنسا على المقاطعات البلجيكية لغاية نهري الموز والرين، ويمكن حمل بروسيا على الموافقة على هذا الترتيب بالسماح لها بضم ساكسونيا والمقاطعات الهولندية الشمالية. أما ملك هولندا فيمكن تعويضه عن تقسيم مملكته بتنصيبه ملكا على الآستانة وغيرها مما لم تزدرده روسيا والنمسا من الأراضي التركية في أوروبا، هذا بينما يمكن تعويض إنجلترا بإعطائها المستعمرات الهولندية التي تصبح وقتئذ غير خاضعة لأحد. وكانت النية منصرفة إلى تنفيذ هذه الفكرة بمعاهدة تعقد بين فرنسا وروسيا، حتى إذا ما تم توقيعها تدعى بروسيا للاشتراك فيها، وبعدئذ يصبح لا مناص للنمسا من الانضمام إلى هذا المشروع، وإذن تصبح إنجلترا مخيرة بين قبول جزيرتي جاوا ومولاكاس أو رفضهما. وبمجرد ما يتم توقيع المعاهدة تحشد الدول المتعاقدة جيوشها ومواجهة أوروبا بقوة لا يسع أي دولة من الدول الباقية أن تحلم بمقاومتها، وكان بوليناك يرى أن تحشد فرنسا 200000 جندي؛ ولذا كان يعتقد أن تنفيذ المشروع يحتم عدم إرسال حملة بحال من الأحوال لتأديب باي الجزائر المشاغب.
ففي ظروف كهذه استقر رأي وزير خارجية فرنسا على اتباع الفكرة التي طالما أوصى بها دورفيشي الذي شغل منصب قنصل عام لفرنسا في مصر والذي كان قد عاد في سنة 1829م في الإجازة. أما هذه الفكرة فهي معاقبة الباي لا بيد فرنسا، ولكن بيد محمد علي الذي كان ميالا إلى إعداد حملة كبيرة لفتح ولايات البربر الثلاث؛ وهي: طرابلس، وتونس، والجزائر. وضمها، وكان من رأي دورفيشي أن إرسال حملة فرنسية خليق بأن يثير حسد إنجلترا ومعارضتها، وبالعكس فإن امتداد سلطة الباشا على طوال الشاطئ الأفريقي لن يفتح باب الاحتجاج السياسي هذا عدا - وهو ما كان يجول في خاطر بوليناك - أن التفكير المزمع في تغيير الخريطة الأوروبية من شأنه أن يشغل بال الوزارة البريطانية، بحيث لا تفكر في مصير تونس والجزائر، بينما أن دول أوروبا الأخرى سوف ترحب بلا جدال بوجود حكم صالح في تلك المناطق. نعم؛ حكم قائم على النظام والأمن كالمشاهد في القاهرة والإسكندرية.
2
ويظهر أن هذا المشروع كان من بنات أفكار دورفيشي نفسه، فلقد لفت نظر محمد علي إلى مزايا الاتفاق مع فرنسا في الجزائر بدلا من إثارة هواجس أوروبا بأسرها بما عسى أن يقوم به من المغامرات في سوريا،
3
وقد توهم دورفيشي أن مزايا هذا الاقتراح لن تغيب عن أفكار الساسة الإنجليز كما أنها لم تغب عنه شخصيا.
وفي سنة 1829م كان المشروع قد ملك على دروفيشي حواسه حتى أصبح العضو الوحيد الذي يتحدث عنه حتى مع باركر القنصل الإنجليزي العام الذي حكم على المشروع بأنه خيالي محض، ولكن المصاعب كانت تتلاشى تدريجا من أمام عينيه كلما أصغى إلى أقوال دورفيشي وحماسته في تحبيذ المشروع، هذا إلى أن مساعدة فرنسا في السفن والرجال كان من شأنها أن تكفل النجاح وتجعله مضمونا.
4
أما خطة محمد علي فأغلب الظن أنها لم تكن كما حمل دورفيشي على اعتقادها، فإنه في الواقع لم يكن مهتما ببلاد البربر، بل لعله كان يدرك أن امتداد سلطانه في تلك الجهات سوف يكون مصدر ضعف لا مصدر قوة، وقد كان يدرك ما للمنطقة التي تضم إقليمي سوريا وبغداد من الأهمية العسكرية، ثم إنه كان يعلم جيد العلم أنه لو أتيح له يوما ما أن يبلغ المنزلة والقوة التي يطمح إليها فإن سوريا وبغداد تكون لهما قيمة لا تدانيها قيمة امتلاك الشاطئ الأفريقي، ولكن في الوقت نفسه لم يكن ممن يقعدون عن انتهاز الفرص؛ فالاقتراحات الفرنسية - مهما كان من شأنها - فلسوف تؤدي إلى تحقيق أمرين:
أولا:
أنها تتيح له الفرصة لإعادة إنشاء أسطوله المتلاشي.
ثانيا:
احتمال عقد محالفة مع فرنسا نفسها.
وإذا كان في هذا ما يقلق بال الإنجليز فلتكن المعاهدة مع إنجلترا، أو بعبارة أخرى أنه كان على استعداد لفتح الجزائر إذا كان ثمة مغنم له من وراء ذلك، أو أن يطرح المشروع جانبا إذا رأى أن في ذلك فائدة أكبر.
ويلوح أن دورفيشي قد أغرم بمشروعه إلى حد أعماه عن معرفة حقيقة نيات الباشا، هذا بينما كان بوليناك متعطشا لاتباع أي خطة ترمي فورا إلى تهدئة ثورة الرأي العام الفرنسي؛ وذلك بإنزال العقاب بالجزائر مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالقوات الفرنسية لتنفيذ المشروع الأوروبي الخطير الذي كان ما يزال يجول في خاطره؛ ولهذا بادر بعرض الأمر على الملك وحصل منه على الموافقة، ثم راح بدوره يستشير زملاءه على ما يظهر، فأرسل تعليمات إلى جيبو مينو سفيره في الآستانة وميمو قنصله العام في الإسكندرية، وقد كلف الأول بأن يطلب إلى السلطان إصدار الفرمانات اللازمة إلى محمد علي لأن يقوم بإخضاع ولايات البربر، وأن يعزز هذا الطلب بهاتين الحجتين:
أولا:
أن فرنسا إذا ما أرسلت حملة تأديبية من عندها، فأغلب الظن أنها لن تغادر تلك الجهات التي ستفلت من قبضة الباب العالي نهائيا.
ثانيا:
بأن محمد علي سوف يدفع إتاوة بعكس الباي.
5
أما تعليماته إلى الثاني فكانت تتلخص في وجوب إبلاغ الباشا بأن فرنسا موافقة على آرائه وتؤيد خططه ضد ولايات البربر، وأن الأسطول الفرنسي - إذا طلب الباشا ذلك - سيكون على استعداد للتعاون مع قواته، وأنه سيتسلم في الحال عشرة ملايين فرنك إذا ما أرسل الحملة المذكورة فورا.
6
على أن مباحثات الآستانة والإسكندرية لم تجر بالسهولة التي كان يتوهمها بوليناك بسبب عجلته، فإن محمد علي استهجن أشد الاستهجان مفاتحة الآستانة في الموضوع قائلا إن الآستانة لن تسمح من تلقاء نفسها بامتداد سلطة باشا مصر، وأنها قد تسعى للحصول على مساعدة الأسطول الإنجليزي لإحباط أعماله العسكرية في ولايات البربر أو لم يؤخذ رأيها مقدما في الموضوع فإن الأرجح أن ترضخ للأمر الواقع،
7
وقد بينت الحوادث أن هذه الاعتراضات كانت في محلها، فعبثا حاول السفير جيبو مينو الانتفاع إلى أقصى حد بالمشروع الفرنسي، فإن الباب العالي - كما تنبأ محمد علي بذلك - كان يعارض أشد معارضة - دون أن يصرح بذلك - بازدياد نفوذ أو هيبة تابعه الكثير المطامع.
فعرض بدلا من ذلك اقتراحا مضادا للاقتراح الفرنسي المذكور، وقد صرح الرئيس أفندي أن كل ما هو مطلوب لحسم الخلاف بين الباي وبين الفرنسيين هو أن يتوسط جلالة السلطان بما له من السلطة السامية. ولهذه الغاية عرض أن يرسل مندوبا من طرفه - ألا وهو طاهر باشا أحد أعداء فرنسا الألداء لحمل الباي على الرضوخ لحكم العقل بدون التجاء إلى القوة.
8
وبينما كان البحث يدور حول هذا الاقتراح المراد به عرقلة الأمور إذا بوزير خارجية تركيا يشعر سفير بريطانيا السير روبرت غوردون بحقيقة ما هو جار خلف الستار، وقد أصاب في تقديره بأن هذه هي أخطر طريق لإحباط أي مشروع بغيض للديوان العالي.
9
وأعلن محمد علي في الإسكندرية بأنه على استعداد لإرسال نحو 20000 جندي نظامي ومثلهم من رجال البدو بقيادة ابنه إبراهيم، ولكنه يطالب على الأقل بضعف المبلغ الذي سمح للقنصل العام ميمو للمفاوضة على أساسه. وفوق ذلك كله فقد طلب كشرط أساسي في المساومة أن تعطيه فرنسا - بمقتضى عقد بيع صوري - أربع بوارج حربية تحمل كل منها 80 مدفعا، وقد صرح بأن هذه السفن لا محيص من الحصول عليها لضمان نجاح الحملة بسرعة وللحيلولة دون أي تدخل أجنبي، وقد ذهب عبثا كل ما بذله ميمو وهيدرا، وقد أرسل خصيصا لمساعدة ميمو - من المساعي لحمل محمد علي على العدول عن طلب البوارج الأربع التي قال إنها كانت جزءا لا يتجزأ من المباحثات التي دارت بينه وبين دوروفيش.
10
ومن ثم قفل هيدرا راجعا إلى باريس ليبسط هذه المطالب على بوليناك الذي أطلع عليها في 26 ديسمبر.
ومع أن معاهدة الصلح التي عقدت في أدرنة قد أخرجت وقتئذ مسألة تعديل الحدود الأوروبية من دائرة الاحتمال العملية فإن بوليناك كان ما يزال يعلل نفسه بالحصول على تأييد روسيا لضم الولايات البلجيكية إلى فرنسا.
ولهذا صحت عزيمته على قبول اقتراحات محمد علي وعرضها على زملائه في الوزارة، ولكنهم تشددوا في معارضة الاقتراحات وأعلن أغلبهم أن الموافقة على نقل بوارج تحمل العلم الفرنسي إلى دولة أجنبية يعتبر عملا غامضا، بل يكون متنافيا مع مقتضيات الشرف.
ثم إن وزير البحرية عارض أشد معارضة في إضعاف الأسطول إلى هذا الحد، وأعلن أنه لا يتأخر عن تقديم استقالته فيما لو قبل الاقتراح المذكور، أما وزير الحربية بورمون فقد مر بخاطره طيف المجد الشخصي فيما لو ذهب إلى الجزائر على رأس حملة؛ ولذا رفض بتاتا أن يحل محله إبراهيم باشا في قيادة الحملة. وبعد محاولات عديدة لم يستطع بوليناك أن يقنع زملاءه بأكثر من الموافقة على اعتماد بمبلغ 38 مليون فرنك يسلم منه 20 مليون فرنك لمحمد علي كطلبه ويخصص الثمانية الملايين الباقية لإنشاء أربع بوارج له في الحال، ولكن لا بد إلى جانب هذا من إبقاء عمارة فرنسية على قدم الاستعداد لتقديم مساعدتها لإبراهيم فيما لو اقتضى الأمر ذلك. ثم عاد هيدرا إلى الإسكندرية حاملا هذه الشروط المعدلة، وصدرت في الوقت نفسه التعليمات إلى قائد العمارة الفرنسية في شرقي البحر المتوسط بالحيلولة دون تهديد الأسطول التركي للإسكندرية أو مهاجمة النقالات المصرية المتجهة نحو ولايات البربر، ولما آن وقت العمل على المكشوف وأصبح قاب قوسين أو أدنى رأى بوليناك أن لا حرج عليه من مفاتحة الدول الأوروبية في الموضوع.
وعلى الرغم مما أبدته دوائر باريس السياسية من التكتم فإن الوزارة البريطانية لم تكن تجهل المشروعات التي استقر عليها الرأي، فلقد أبلغها باركر فحوى محادثاته مع دوروفيش في سنة 1829م، ثم إن السفير غوردون أرسل من الآستانة الأنباء المهمة التي أبلغها له الرئيس أفندي. يضاف إلى ذلك أن مستر نينج أوقف الرسائل الفرنسية التي بعث بها جيبومينو من الآستانة إلى باريس وبادر بتقديم نسخ منها إلى سفيرنا لورد كولي، وكانت الحكومة الفرنسية في الوقت نفسه تجيب على كل سؤال توجهه إليها الحكومة البريطانية بالنفي البات، ولم يكن من شأن هذا التصرف أن يحمل أبردين أو ولنجتون على الاقتناع بما أبدى لهما من البيانات في النهاية أو أن يوافقا على السياسة الصورية التي أعلنت أمامها. وفي 23 يناير ذهب الدوق دي لافال - سفير فرنسا في لندن - لزيارة لورد ولنجتون، وتلا عليه رسالة صورية تلقاها من بوليناك. وقد استقبل السفير بشيء من الجفاء وقيل له إن محمد علي لا يمكن قانونيا أن يمتشق الحسام ضد ولايات البربر إلا باسم مولاه السلطان ونزولا على أمره الهمايوني. وأبديت للسفير الرغبة في أن تعدل الوزارة الفرنسية عن العمل المشترك مع والي مصر،
11
وكتب لورد أبردين من فوره إلى ممثلي بريطانيا في القاهرة والآستانة، فكتب إلى ثانيهما يقول: «إذا كان السلطان قد وافق أو لم يوافق على هذا؛ فإن إنجلترا لا يسعها أن تقف وقفة المتفرج إزاء ما يراد إدخاله من التغييرات على ملكية الأراضي المهمة الأفريقية بواسطة وسائل فرنسية وتحت النفوذ الفرنسي وعلى الأرجح خدمة لمصالح فرنسا.»
12
وكتب إلى الأول مشيرا إلى معارضة إنجلترا في قيام الباشا بأمثال هذه المشروعات بتعضيد الفرنسيين، ثم استطرد فقال إنه يرجو ألا يشك محمد علي في إخلاص البواعث التي دفعت بريطانيا إلى إسدائه النصح بأن يزن جيدا في هذه المناسبة ما سوف يترتب من العواقب الوخيمة على المشروع الذي يلوح أنه ميال للتورط فيه.
13
على أن هذه المعارضة للمشروع الفرنسي لم يكن ينتظر أن تثير الدهشة في نفس أحد، وليس يخفى أن توطيد دعائم النفوذ الفرنسي في الجزائر - سواء أكان مباشرة أو عن طريق فريق ثالث يعمل لحساب الفرنسيين - كان يؤدي حتما إلى تغيير الموقف في حوض البحر المتوسط؛ وبذا تنشأ مسألة حماية المصالح البريطانية فيه، أضف إلى هذا أن المشروع كان يتضمن احتمالات عظيمة أخرى؛ فشبح المسألة الشرقية بأثرها كان يطل من وراء المسألة الجزائرية، وأن محمد علي لو تمكن من فتح الجزائر لحساب فرنسا لما كان لهذا الفتح أي معنى سوى أن يصبح فورا تحت الحماية الفرنسية؛ فإن مركزه حيال مولاه السلطان سوف يتأثر بذلك الفتح الذي يتغير بمقتضاه مركز مصر ضمنا، فيكون معنى هذا أن تصاب أسوار الإمبراطورية العثمانية وهي تترنح بتأثير الشيخوخة بصدمة أخرى تهز كيانها وتعجل بانهيارها؛ وبذا يصبح العثمانيون وهم أقل قدرة على كبح شهوات جيرانهم الروس، وهذه الحوادث قد ترحب بها الحكومة الفرنسية الآن كما كانت تفعل في الماضي - باعتبارها فرصة سانحة لتوسيع سلطان فرنسا في أنحاء المعمورة - ولهذا كان بوليناك قد بدأ يستغلها لفائدة الملكية.
ولكن كان الأمر على عكس ذلك في نظر الإنجليز؛ لأنهم كانوا يعتبرون الحوادث المذكورة حافلة بالمخاطر التي تنطوي على الشر المستطير مما كانت تقتضيه مصالحنا الحيوية إلا أن نصبر على توطيد إحدى الدول الأوروبية أقدامها على الطرق المؤدية إلى الهند.
ومن هنا ترى أن الاحتفاظ بالإمبراطورية العثمانية كان يعتبر في نظر الفرنسيين بمثابة البديل الوحيد لتطورات لا سبيل لأحد أن يتكهن بمداها، وهي تطورات لا يسع العاقل على كل حال إلا أن يبذل كل ما في استطاعته لتأجيل حدوثها إلى أبعد حد ممكن. إذن؛ فالحالة في سنة 1830م كانت تمهيدا يشير إلى تناقض السياسة الإنجليزية والسياسة الفرنسية الذي ظهر بصفة جلية بعد ذلك بعشر سنوات.
وقد شاءت الصدف أن يجيء إعلان الإنجليز الحازم رفضهم لذلك المشروع في نفس الوقت الذي أخفقت فيه تدابير بوليناك لاستعادة حدود الرين وحبطت حبوطا ذريعا، فإن مباحثاته السرية الغامضة مع سان بطرسبرج وهي المباحثات التي وضعت لها شفرة خاصة ثم ألغيت فيما بعد لم تسفر عن نتيجة تذكر، فإن بروسيا أجابت صراحة أن أحدا لن يستطيع أن يحملها على السماح لفرنسا الزحف إلى ضفة الرين اليسرى.
وهكذا أصبحت القوات التي كانت حتى الآن واقفة عاطلة على حساب مساعدة المشروع الأوروبي فيما لو دعت الحاجة، أصبحت هذه القوات طليقة في نفس الوقت الذي تبين فيه صراحة أن إنجلترا ستضع نفوذها بأكمله في كفة الميزان ضد محاولة محمد علي احتلال ولايات البربر. وإذ ذاك قرر بوليناك مرة أخرى أن يغير خطته، وأن يقصر عمل محمد علي على احتلال طرابلس وتونس وأن يرسل حملة فرنسية إلى الجزائر.
وخيل إليه أن والي مصر سوف يبقى على كل حال حليفا إيجابيا لفرنسا يمكن الاعتراف به في الوقت المناسب «كما كتب بوليناك نفسه» بأنه من مساعدي ملك فرنسا.
14
ولكن بوليناك لم يحسب حساب حليفه المزمع في تقديراته هذه؛ فإن محمد علي كان من بداية الأمر مصمما على أن لا يخطو خطوة إلا إذا نال من المزايا البحرية والسياسية ما يرجح كفة الفائدة من السير في هذا المشروع، ثم إنه لا يعقل أن يكون قد قابل بالارتياح تردد السياسة الفرنسية وقتئذ وتذبذبها؛ لأنه - وهو الرجل المعروف بمضاء العزيمة - كان يشعر بكثير من الاحتقار نحو أولئك الرجال الذين يغيرون آراءهم وينقضون ما أبرموه بين عشية وضحاها. وأغلب الظن أن اضطراب الخطط الفرنسية وتناقضها قد دفعه إلى الارتياب في فوائد المحالفة التي يعقدها مع فرنسا، وهي محالفة - مهما كانت فوائدها ومزاياها - لا بد أن يصحبها عداء الإنجليز على طول الزمن؛ ولهذا كله استقر رأيه على رفض الاقتراحات الفرنسية قبل أن تبلغ له مذكرة لورد أبردين.
وبعد أيام قلائل استقبل القنصل البريطاني العام الذي حضر إلى القاهرة من الإسكندرية خصيصا ليبلغه نصائح أبردين، فاعترض نائب السلطان بأن تحذير الإنجليز لا لزوم له، ثم راح مرة أخرى - كما فعل مرة من قبل مع صولت - يشرح ميوله ويعلن رغبته في الوصول إلى تفاهم ودي مع بريطانيا العظمى، وقد سأل القنصل السؤال الآتي: «ألست ترى أن من المستحيل الاحتفاظ بالباب العالي؟ قد تستطيعون الترقيع هنا أو الترقيع هناك، ولكن تعرفون أن كل هذا مجهود ضائع عبثا؛ إذ ما عساكم تصنعون بحكومة فقدت ثقة الشعب في قلب العاصمة والأقاليم؟! ...» ولهذا كان من العبث الاعتماد على الأتراك في مقاومة الاعتداء الروسي في المستقبل مقاومة فعالة، وبالرغم من ذلك كله فإن الاحتفاظ بالباب العالي من الأمور التي تمس مصالح بريطانيا العظمى في الصميم. ثم استرسل الباشا، فقال: «فالطريقة الوحيدة لتقوية السلطان تنحصر في تقويتي وشد أزري؛ لأنكم لو شددتم أزري لأصبح تحت تصرف السلطان في الحال جيش منظم يبلغ عدده 125000 جندي على استعداد تام للوقوف كالسد المنيع في وجه روسيا لا في الآستانة وحدها بل في فارس أيضا؛ إذ لا محيص للإنجليز من الاصطدام بروسيا في فارس؛ إذ ما هي فائدة اختلاس النظرات من خلال أصابعك مع الادعاء في الوقت نفسه بأنك لا تبصر شيئا؟! ولقد زال الباب العالي فينبغي إذن على إنجلترا أن تعد في آسيا قوة لصد الروس؛ فأين يا ترى يسعها إيجاد هذه القوة إلا معي ومع ابني من بعدي؟! ...»
ثم أخذ يسهب في سهولة انضمام العثمانيين إليه والتفافهم تحت رايته، قال: «لو استقر رأي الإنجليز على تأييدي ...» واسترسل في وصف موارده التي قال بحق: «إن الوزارة البريطانية قد بخستها قدرها.» وأخيرا صرح قائلا: «إن الإنجليز لو اتخذوني صديقا لهم لأصبح في وسعي أن أفعل ما أريد، أما بدون صداقتهم فليس يسعني أن أفعل شيئا ... ولقد أدركت منذ أمد بعيد أن ليس في استطاعتي الإقدام على عظائم الأمور بدون إذن إنجلترا؛ لأنني أينما التفت بوجهي أراها واقفة لي بالمرصاد ومستعدة لإحباط تدابيري.»
ويندر أن يكشف الساسة مكنونات صدورهم لسامعيهم إلا بالقدر الملائم لا أكثر ولا أقل، ولم يكن محمد علي بالطفل الغر الذي يزل لسانه إلا بالشيء الذي يرومه.
ولكن ليس من ريب في أنه كان مخلصا فيما قاله عن موقفه إزاء بريطانيا؛ لأنها كانت تحيط به من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم، ولم يكن في استطاعة دولة أخرى عدا إنجلترا أن تقدم له مساعدة فعالة كمساعدتها، ثم إنه لم يعد الحقيقة فيما ذكره عن موقفه وعن الفرص التي تنتظره، ولقد كان وقتئذ القوة الوحيدة الحية القادرة على النمو والترقي في العالم الإسلامي بأسره، وبهذه الصفة كان في وسعه بالاشتراك مع إنجلترا ومساعدتها له أن يؤسس في ظل الخلافة العثمانية دولة عظيمة كالتي أنشأتها شركتنا الهندية الشرقية في ظل إمبراطورية دلهي.
ولكن لا بد لنا أن نسأل مرة أخرى: ما هي المزايا التي كان يسعه تقديمها لحمل الساسة الإنجليز على ترك سياستهم التي أعلنوها واستبدالها بسياسة لإنشاء دولة جديدة في الشرق الأدنى؟ فلو رسخت أقدامه يوما ما على حدود فارس وامتد سلطانه من القاهرة إلى بغداد ألا يمكن أن يتقدم إليه الروس بما يغريه على ترك أصدقائه الإنجليز وقلب ظهر المجن لهم، وإذن يصبح مركزنا في خطر محقق، إلا أن تأييدنا لسياسة مصر في الفتح لا يمكن أن يسوغه إلا باعث قهري، ومثل هذا الباعث لا يحتمل على الأرجح أن يتهيأ إلا إذا حدثت أزمة أوروبية عظيمة ليس غير. وعلى كل، فإن مجرى السياسة الإنجليزية بوجه عام لم يكن على التحقيق معارضة عظيمة لمصر كما توهم بعض الكتاب، بل لتظل مصر في أنحاء خارجة عن حدود البلاد الطبيعية.
ومن جهة أخرى، فإن محمد علي كثيرا ما رمى بعينيه إلى امتلاك أقضية سوريا الأربعة، وقد كان يعتقد أن امتلاكها يؤمن أراضيه المصرية ضد غارات الأتراك ويضع في قبضة يده مدينة القدس إحدى مدن الإسلام المقدسة؛ وبذا يرفع مكانته ويضاعف هيبته في نظر العالم الإسلامي ويزيد من موارده في المال والرجال كما حسب ذلك وجاءت الحوادث تكذب حسابه. أجل؛ إن امتلاك هذه الأقضية يعطيه دمشق إحدى المراكز المهمة للثقافة الإسلامية، ثم إنه بذلك يستولي على مناطق غنية بأخشابها فيوفر على نفسه ابتياع الأخشاب من تريستا بأثمان باهظة، هذا إلى أن ذلك يقيم الدليل أمام الملأ على صحة النظرية التي يتشبث بها؛ وهي زوال سلطة الباشا الوالي وانقراضها وقدرته وحده على تنظيم سلطة تركيا من جديد وردها إلى الشباب بعدما دبت فيها الشيخوخة ونخر عظامها الهرم.
وكانت الأقضية الأربعة المذكورة في حالة رثة، فقد تغلغلت فيها القلاقل، بحيث لا يضمن سعاة البريد أن يجتازوها بسلام.
15
فلقد حكمها الباشوات منذ أجيال عديدة ولم يقد ميلهم إلى السلب والنهب إلا إلى تحديد سلطتهم.
وعليه، لم يكن باستطاعة أحد من السكان أن يتظاهر بشيء من اليسار والبذخ، بل كان كل إنسان في حالة بؤس أو أنه كان يتظاهر بأنه كذلك.
ثم إن الأهالي مع ما كان بينهم من اختلاف الشيع والأديان كانت الأحقاد والمشاكل المتغلغلة في نفوسهم تمزقهم كل ممزق؛ فهذه البلاد التي سادت فيها الفوضى كانت مطمع أنظار نائب السلطان منذ زمن بعيد، فلقد تكلم إلى القنصل الإنجليزي سنة 1812م عن ميله إلى غزو فلسطين متى سنحت الظروف الملائمة.
16
ولكنه أقعده عن تنفيذ ذلك العزم وقتئذ ما كان قائما في سبيله من المصاعب التي لا حصر لها، ولعل أول هذه المصاعب حاجته إلى إنشاء جيش منظم يمكن أن يتخذه عدة صالحة لتنفيذ غاياته.
ثم لا تنس إلى جانب تلك العقبة نفوذ السلطان الروحي، وقد كان ينبغي على محمد علي أن يحسب له حسابه وبخاصة في السنوات التي كانت الضرورة تقضي بإيقاظ روح التعصب الديني أثناء الثورة اليونانية.
ولقد قال مرة لصولت في السنة التي وقعت فيها معركة نافارين ما ملخصه: «هذا هو مبلغ تعصب الأهالي الديني، غير أنهم ليهجرون الباشا متى كان مغضوبا عليه من رئيس الكنيسة.» ثم استطرد فقال: «فلمقاومة السلطان مقاومة فعالة يجب أن يكون لدى الباشا من القوة ما يضمن له التفاف الرأي العام حوله وليس هذا بالأمر الهين.»
وقد عزز هذا الرأي بالمثل الذي أورده عن أحد باشوات كردستان وقد شق عصا الطاعة فانفضت من حوله الجنود كما تسقط الرمال من قدم الحاج.
17
ولكن عام 1830م رأى لمصر جيشا كبيرا منظما أحسن تنظيم، كما أن ابنه إبراهيم أقام الدليل على أنه قائد محنك ماضي العزيمة، هذا في حين أن نظام القرعة العسكرية كان يبشر بأن يلتحق بالجيش العدد المطلوب من الرجال، ومن جهة أخرى فإن ما نزل بالأتراك من الكوارث على أيدي الكفرة سواء في البحر في موقعة نافارين أو في البر أثناء الحرب الروسية كل ذلك قد نبه حتى البلداء من الأتراك إلى أن السلطان محمود لا يصلح بحال ما أن يكون دليلهم إلى مواطن النصر والفوز. وفي الواقع فإن الإمبراطورية كانت بحيث تكفي رجة عنيفة واحده لأن تلاشيها تماما وتمزق شملها .
وفي الوقت الذي تلاشت فيه المقتضيات السلبية التي كانت في الماضي تصد محمد علي عن التفكير في التقدم إلى الأمام ظهر سبب إيجابي جديد؛ ذلك أن الطعم الذي أغرق به الباب العالي محمد علي للاشتراك في الحرب اليونانية كان وعده إياه بإعطائه أقضية سوريا الأربعة متى انتهت الحرب المذكورة ووضعت أوزارها، ولكن هذا الوعد وضع الآن في الثلاجة بعد أن استعاد خسرو نفوذه في الباب العالي، وكان نائب السلطان لغاية سنة 1827م ما يزال يطالب عبثا بالفرمانات الخاصة بتوليته شئون الأقضية المذكورة،
18
ثم أدرك محمد علي أنه أضاع أسطوله وعرض جيشه وابنه للخطر والهلاك في غير مقابل، فاستقر رأيه على أن يحتل سوريا قبل أن يسبقه أحد إلى احتلالها.
ولم تكن تعوزه الحجج اللازمة لتنفيذ ما استقر رأيه عليه؛ فلقد كان الباب العالي طلب إلى محمد علي أن يقدم المساعدة لقضم ظهر الفتنة التي كان مصطفى باشا الأشقودة يرلي قد رفع رايتها في بلاد الرومللي، فأخذ محمد علي تحت ستار تنفيذ هذا الطلب يعد معداته العسكرية دون أن يثير الشكوك في نياته، ولكن لما أبلغها الباب العالي أن مساعدته قد استغنى عنها اقترح أن يستخدم قواته المتجمعة في محاربة عبد الله باشا والي عكا لابتزاز أموال التجار المصريين،
19
ثم إن هناك سببا آخر انتحله محمد علي ألا وهو الاستقبال الرديء الذي استقبل به عبد الله باشا الفلاحين المصريين الذين فروا من القرعة العسكرية وذهبوا إلى عكا، وقد قيل إن عدد الفلاحين الذين فروا هكذا في خلال سنة 1831م قد بلغ نحو 6000، وقد أبى عبد الله باشا إعادتهم إلى مصر؛ فأجابه محمد علي بأنه سوف يأتي بنفسه لأخذهم،
20
وفي أكتوبر سنة 1831م أصدر الأمر إلى جنوده بالزحف على عكا.
ولعل أبلغ مثل نقدمه على عجز الباب العالي وقتئذ ووهن نفوذه إذ ذاك هو كيفية استلامه اقتراح محمد علي بمحاربة عبد الله باشا، فإن الصدر الأعظم مع علمه بأن استعدادات محمد علي إنما يراد بها احتلال الولايات العربية في داخل الإمبراطورية العثمانية - وتحسين إدارتها وتنظيم شئونها ثم إعلان استقلاله - لم ير وسيلة إزاء ذلك الخطر خيرا من أن يلفت نظر عبد الله باشا بأن يستعمل الكياسة ويتجنب كل ما عساه أن يؤدي إلى الاشتباك في الحرب، ثم إنه كتب في الوقت نفسه إلى محمد علي كتابا رقيقا قال فيه: «إن شكوى بعض التجار لا يمكن أن تسوغ تحكيم الحسام وإشعال نار الحرب، وإن ما ينشب من النزاع بين الباشوات المتجاورين لا يمكن أن يسوى بإشهار السيف بل بتدخل الباب العالي.»
21
ولكن تركيا لم تعمل من ناحيتها استعدادات مطلقا لدفع الخطر المنتظر.
وحوصرت عكا برا وبحرا طبقا للخطة التي وضعتها القيادة المصرية، ولكن المصريين فوجئوا بمقاومة لم يكونوا يتوقعونها، أما عبد الله باشا فإن صح القول بأنه لم يكن نزيها ولا حكيما فإنه كان شجاعا، وهذا بالرغم من أن الحصار في مرحلته الأولى لم تدبر شئونه بالمهارة اللازمة، ثم بذلت محاولة في اليوم التاسع من شهر ديسمبر للتغلب على المدينة بإطلاق القنابل من البوارج الحربية ومن البطاريات البرية، ولكن السفن أصيبت بعطب كبير، بينما كان ما تركته البطاريات البرية من الأثر تافها زهيدا. وبعد مجهودات عدة في خلال الأشهر الثلاثة التالية بذلت محاولة جديدة للاستيلاء على أسوار المدينة عنوة وكادت المحاولة تكلل بالنجاح فإن لفيفا من المهاجمين قد توغلوا حتى وصلوا سوق المدينة، ولما لم يجدوا المدد خلفهم اضطروا إلى العودة من حيث أتوا، ومن ثم بدأ مركز إبراهيم يتحرج،
22
وخاصة بعد ما أخذت شراذم من الجنود تتجمع لتخفيف الضغط عن المدينة، وبعدما تشجع الباب العالي بما رآه من طول دفاع عكا فقرر شطب اسم محمد علي وإبراهيم من قائمة أسماء باشوات الإمبراطورية التي تنشر سنويا في عيد الأضحى، والتي حان موعد نشرها في سنة 1832م في ذلك الوقت، ومن ثم بدأ ينتشر شعور القلق لا في القاهرة وحدها، بل وفي الإسكندرية أيضا، وبدأ الناس يتهامسون ضد حكومة نائب السلطان وفي 14 مارس، وكذلك في 21 و23 منه عثر الناس بالقرب من باب زويلة بالقاهرة على جثث ثلاثة أتراك عارية ، وقد أطيحت رءوسهم حديثا وكان اثنان منهما من رجال الجندية والثالث من العلماء، وقد تدلت من صدورهم رقعة كتب عليها: «هذا هو المصير الذي ينتظر كل من يعجز عن ضبط لسانه.»
23
وفي يوم 27 عثروا على جثتين عاريتين مع هذا التحذير «هذا العقاب ينتظر أولئك الذين يتكلمون ضد الحكومة.»
ويلوح أن جماعة المتذمرين لم يحسبوا حساب جواسيس محمد علي ولا حساب قواد القوات التركية البعيدين عن المهارة، وبعد حبوط الهجوم الذي قام به إبراهيم على عكا في 9 مارس قرر أن يترك 5000 جندي لمواصلة الحصار وزحف ببقية الجيش لتفريق شمل ما جمعه خصومه من القوات؛ فبعد أن شتت الجيش التركي المركب من 12000 جندي بالقرب من حمص عاد إبراهيم لتجديد الهجوم على عكا. وفي فجر يوم 27 مايو تولى قيادة الهجوم على المدينة بنفسه، وإذ ذاك نشبت معركة حامية قيل بشأنها إن إبراهيم قتل بسيفه بعضا من الضباط الذين حاولوا التخلف عن إخوانهم المهاجمين، وما كاد يخيم الظلام حتى كان إبراهيم قد نجح في الاستيلاء على المكان بعد جهود الجبابرة، وهنالك عمت الفوضى ودار السلب والنهب طبقا لقواعد الحرب كما كانت معروفة إذ ذاك في بلاد العرب،
24
وقد أعلن عبد الله باشا في كثير من المباهاة: «إنني عندما شرعت في الدفاع عن عكا كانت لدي أسوار ورجال وأموال، فلما استولى عليها إبراهيم كانت الأسوار قد دكت دكا، أما جنودي الذين كان عددهم 6000 فقد طاح منهم 5600 ولم يبق في خزانتي إلا بعض جواهر لا تسمن ولا تغني من جوع.» وقد ألقى بحق تبعة هزيمته على الباب العالي بشيء من مرارة النفس، فقال: «إن شرفه لأشبه شيء بشرف الراقصات!»
25
وبعد سقوط عكا شرع إبراهيم في الزحف شمالا مرة أخرى، فدخل دمشق بلا مقاومة في 13 يونيو، وفي يوم 8 يوليو رأى نفسه يهاجم القوات التركية بالقرب من حمص بدون أن يتوقع ذلك، وبعد معركة قصيرة فرقها شذر مذر واستولى على بطارياتها ومخازن الذخيرة والمنقولات، وفي 15 يوليو استولى على حلب وفي 29 منه هزم قوة تركية أخرى عند ممر بيلان ، وهنا أوقف الأعمال الحربية مؤقتا.
وهنا رأى نائب السلطان نفسه أمام طريقين؛ فإما أن يعلن استقلاله ويوالي الزحف ضد الأتراك الذين اضمحلت قوتهم المعنوية، وبذا يرغم السلطان على الاعتراف بمركزه، وإما أن يتوقف عن الزحف أملا في أن يحصل بواسطة تدخل الدولة الغربية على التسوية التي يبتغيها، وكانت لكل من هاتين الخطتين أخطارها العظيمة، فالزحف على الآستانة كما كان يقترح إبراهيم قد يحتمل مع الأسف أن يدفع الدول إلى التدخل في مصلحة السلطان. ومن هنا رفض محمد علي ما اقترحه إبراهيم من سك العملة باسمه، وأن يكون الدعاء باسمه أيضا في خطبة الجمعة، وقد صرح محمد علي بأنه لم يصل إلى منصة الحكم إلا بانتهاج خطة الاعتدال؛ ولذا فهو لا يرضى بتاتا أن تضاف إلى اسمه ألقاب شرف جديدة،
26
وبينما كان إبراهيم يتوهم بما داخله من الزهو بسبب انتصاراته أن كل ما يطلبه هو وأبوه خليق بأن يتحقق بهزيمة الأتراك، كان أبوه يرى بثاقب نظره أن هناك دولا أخرى أشد بأسا من تركيا ينبغي أن يحسب حسابها إذا ما أريد تثبيت ما أحرزه من النجاح، ولا ريب في أن زحف إبراهيم على الآستانة سوف يكون الإشارة الأكيدة لتدخل الدول الأخرى التي سبق أن تدخلت في اليونان، ومن جهة أخرى فإن وقف الزحف معناه إمهال الأتراك للتغلب على ما نزل من الذعر بهم وجمع شتاتهم من جديد لحراسة الطريق المؤدية إلى الآستانة، ولكن الأتراك قد غلبوا مرة على أمرهم، ومن السهل هزيمتهم مرة أخرى. وخلاصة القول أن محمد علي كان يعتبر الجنود التركية كما مهملا وعدوا لا تقاس خطورته بخطورة فرنسا أو إنجلترا؛ ولذا آثر وقف الزحف وأن يفتح باب المفاوضات.
وفي الواقع كان موقف الدولتين المذكورتين بالنسبة له موقفا وديا، فإن ملكيته لولايته كانت شديدة الرغبة في رؤية شوكة محمد علي تتضاعف طالما أن ذلك لا يؤدي إلى حدوث رد فعل عنيف في الآستانة يكون من ورائه فتح باب تجزئة تركيا قبل الأوان. وعليه، كان نفوذ فرنسا منذ منتصف عام 1832م فصاعدا يتجه نحو حمل محمد علي بألا يستخذي فيما استولى عليه من البلاد وأن يحصر مطامعه في النقطة التي صرح بوجوب تسويتها وتحقيقها وأن يؤثر الاتفاق مع الباب العالي رأسا عن مواصلة القتال.
27
ولم تكن خطة الوزارة الإنجليزية مباينة لخطة فرنسا، فإن القنصل العام باركر بسبب وقوعه تحت تأثير آراء القناصل في سوريا، حيث سبقت له الخدمة فيها وحيث كان يفهم حق الفهم مزايا نظام الرشوة والفساد كما كانت في عهد الأتراك، أعلن استهجانه لانتصارات إبراهيم وأبى أن يذهب لزيارة محمد علي وتهنئته بمناسبة سقوط عكا،
28
وكان يطيب له أن يسمى محمد علي بعد صدور فرمان الباب العالي بعزله «بنائب السلطان سابقا»، أو «بالنائب الثائر»، ولكن موقف باركر لم يكن يترجم بحال ما عن موقف وزارة الخارجية بلندن، فإن بالمرستون الذي ارتقى إلى منصب وزير الخارجية وتسلم أختامها في نهاية 1830م لم يكتف بتوبيخ باركر أشد توبيخ لاجترائه على تعجل خطة حكومة جلالة الملك نحو محمد علي
29
والاندفاع من تلقاء نفسه في سياسة لم يقرها رؤساؤه، بل استبدله بعد قليل بالكولونيل باتريان كامبل،
30
وهو بلا ريب أقدر مندوبي إنجلترا في مصر في عهد محمد علي وأكثرهم فهما لحقائق الأمور.
ولكيما يستر فتوحاته بستار يجعلها بعيدة عن إثارة الشكوك والانزعاج في نفوس الدول الغربية؛ فإن نائب السلطان الذي ما برح يسمي نفسه بهذا الاسم مهما تبرأ منه مولاه راح يضم أساس مشروع متناقض كان قد سبق أن عرضه على بريطانيا العظمى، هذا المشروع هو أنه ما زال في أعماق قلبه خادما أمينا للإمبراطورية العثمانية إن لم يكن للسلطان العثماني نفسه، وأنه إنما قام بما قام به لخير الباب العالي ولرفعة مجده، وأنه لا يطمع بحال ما في الاستقلال أو الانفصال عن الإمبراطورية، وأنه إذا كان قد فتح سوريا فليس إلا لتوطيد دعائم الحكم التركي،
31
ولكن وقد أثبتت التجارب أن السلطان محمود قد أصبح عاجزا عن قيادة الشعب التركي إلا في طريق الهزيمة والخسران، ونظرا لأن الديوان قد تملكت من نفسه البغضاء ومن الرجل الوحيد - ألا وهو محمد علي نفسه - الذي في وسعه إنقاذ الإمبراطورية من الخراب، إذن فقد أصبح واجبا محتما عليه بصفته تركيا مخلصا أن يخلع محمودا من على العرش وأن يجلس مكانه نجله الأصغر عبد المجيد، على أن يكون له ديوان يكفل تسيير شئونه في طريق الحكمة والرشاد،
32
وفي شهري أغسطس وسبتمبر قام محمد علي بتجربة لإلغاء شارة البيادة الوحيدة للسلطان محمود على مصر، فبحجة أن العملة التركية قد أصابها التدهور منذ سنوات عديدة، وأنها آخذة في الاضمحلال المستمر، بحيث تسير من سيئ إلى أسوأ فقد أمر محمد علي بأن يقف التعامل بها في كافة أنحاء مصر؛ وذلك لمنع حلولها محل العملة الأوروبية والمصرية المتداولة في البلاد. ولم تكن لهذه التجربة أي صلة بالقانون المشهور الذي وضعه جريشام، وفي الحق كانت محاولة محمد علي هذه محاولة تدل على منتهى الذكاء؛ فقد تمكن تحت ستار الإصلاح الاقتصادي من أن يعلن للشعب المصري أنهم لم يعودوا يحكمون باسم السلطان محمود.
كانت المباحثات في الوقت نفسه متواصلة بين الإسكندرية والآستانة؛ فإن السلطان قد بعث مندوبين في نهاية عام 1831م إلى القطر المصري حيث استقبلوا بكافة مظاهر الحفاوة والتبجيل، ولكن المباحثات نفسها استمرت طيلة الشهرين التاليين ، ولم تسفر عن شيء ثابت سوى الدخان المتصاعد من الجبلين اللذين ظل الرجلان يتسليان بتدخينه يوما بعد يوم في قصر نائب السلطان، ثم دارت المفاوضات بطريقة غير مباشرة بواسطة قبطان باشا التركي. وفي شهر سبتمبر أبلغ محمد علي المستر باركر أنه لم يتسلم ردا شافيا، وأنه لم يبق أمامه إلا مواصلة الزحف على الآستانة، وأنه قد وصلته أنباء سرية بأنه «لا يوجد الآن ما يعوقني أن أفعل هذا.»
33
على أنه كان برغم ذلك على استعداد لأن يفتح باب المفاوضة في شهر نوفمبر مع أي رسول يروق للسلطان أن يرسله إلى الإسكندرية.
34
وأرسل يوصي ابنه إبراهيم بألا يعلن انتهاء حكم السلطان في سوريا ما لم يحصل أولا على فتوى من رجال الشرع المحليين بأن السلطان محمود قد خلع لعدم لياقته للحكم.
35
على أن السلطان كان تحت ستار هذه المحاولات يعد العدة لبذل مجهود نهائي لطرد قوات الوالي الثائر من سوريا. وفي الواقع لم تكن مفاوضاته إلا ذرا للرماد في عيني العدو لتخدير أعصابه وليلهينه عن مواصلة الزحف على الآستانة أو مضاعفة قواته ريثما تتم الاستعدادات التركية.
أما إبراهيم فكان قد وصل بجيشه شمالا إلى قونية، حيث اضطر لوقف الزحف بسبب تخوف أبيه من أن تؤدي مواصلة الزحف إلى تدخل الدول الغربية، وفي نهاية سنة 1832م تولى رشيد محمود باشا الصدر الأعظم بنفسه القيادة ضد إبراهيم.
وكان الجيش التركي كثير العدد تسنده وحدات قوية من البوسنة وألبانيا، وفي 21 ديسمبر التحم الجيشان بالقرب من قونية فلم تلبث الخيالة التركية أن غادرت المعمعة، بينما المشاة قد سمح لهم بالهجوم إلى أن تبينوا فجأة أنهم بين نارين وقد هزموا شر هزيمة، ووقع الصدر الأعظم نفسه في الأسر، ومن ثم صارت الطريق إلى الآستانة مفتوحة ولا مدافع عنها، فاستقر رأي إبراهيم على مواصلة الزحف فورا على أمل مواجهة أوروبا بالأمر الواقع وهو خلع السلطان، ولكنه تلقى في قوتاهية كتابا من أبيه يأمره بالتوقف أينما كان.
وقد كان هذا القرار بناء على التدخل الأوروبي الذي كان يخشاه محمد علي منذ زمن، فإن الإشاعات راجت في 12 يناير سنة 1833م ووصلت إلى إسكندرية بأن الأتراك قد قبلوا المحالفة التي عرضتها روسيا عليهم،
36
وكانت هذه الإشاعات سابقة في الواقع لأوانها؛ ذلك لأن قيصر الروسيا وإن كان قد عرض فعلا على السلطان أن يعضده ببعض قواته العسكرية المسلحة ضد محمد علي إلا أن العرض لم يكن قبل فعلا، ولكن لم تمر سوى أيام قلائل حتى وصل إلى الآستانة أحد الضباط الروس ألا وهو اللبوتونانت جنرال مورافييف يحمل تعليمات بأن يذهب رأسا إلى الإسكندرية ليطلب إلى نائب السلطان أن يكف عن زحفه ضد تركيا، فوصل إلى الإسكندرية في يوم 13 يناير، وفي صباح اليوم التالي حظي بمقابلة نائب السلطان مقابلة قصيرة، ولم يقدم الجنرال إلى محمد علي مستندات رسمية من أي نوع، ومن ثم أذيع أنه جاء كوسيط في الصلح، ولكن كان السائد على الأفهام أن مهمته تنحصر في مطالبة محمد علي بالانسحاب من كرامانيا وسوريا، وأن يسلم أسطوله إلى السلطان وأن يخفض جيشه إلى 20000، وبعد يومين، وكذلك في يوم 18 يناير حظي بمقابلة نائب السلطان وحادثه مليا وكان حديثهما سريا، وقد أذعن محمد علي ووعد بأن يقدم خضوعه للسلطان، وأن يقف القتال كدليل على حسن نيته.
37
وكان الديوان التركي يتطلع بطبيعة الحال في تلك الساعات العصيبة إلى معونة إنجلترا بصفتها حليفته التقليدية لا إلى روسيا عدوته اللدودة القديمة، ولهذه الغاية أرسل إلى لندن رسولا خاصا للحصول على مساعدة بعض البوارج البريطانية، ولكن بالمرستون لم يكن على استعداد للتورط في عمل معين من هذا القبيل، فرفض وترتب على هذا الرفض أن السلطان محمود قرر برغم إرادته أن يتفق رأسا مع نائبه الثائر، ومن ثم وصل إلى الإسكندرية في 21 يناير خليل قبطان باشا يحمل اقتراحات لعقد الصلح.
وكانت مقابلة نائب السلطان للقبطان باشا محاطة بكافة مظاهر التبجيل والأبهة؛ فلقد تقدم ضابطان من كبار ضباط محمد علي من القبطان باشا وتأبطا ذراعيه لمساعدته على ارتقاء درج قصر رأس التين، أما محمد علي نفسه فقد نزل إلى نصف الدرج لاستقبال زائره ولم يسمح له بتقبيل يده، بل عانقه وقبل وجنتيه. ومن هناك قصدا إلى حجرة الاستقبال، ويد كل منهما في يد الآخر، بينما طوق خليل باشا بذراعه الطليق وسط الباشا الهائل، ولما استقر بهما المقام جلس خليل باشا راكعا على ركبتيه مبالغة في الاحترام، وكانت هذه الرسميات بمثابة تمهيد طبيعي لما سيعقبها من محادثات طويلة مملة وبعيدة عن الإخلاص.
ونتساءل هنا: ماذا عسى كان محمد علي يطمح إلى نيله من شروط الصلح، لقد كتب إليه إبراهيم من معسكره في كوتاهية يقترح عليه سلسلة مطالب، وقد ذكر في رأسها الاستقلال باعتباره «مسألة جوهرية بالنسبة لنا تفوق في أهميتها كافة المسائل الأخرى.» ثم طلب ضم الأناضول وكليكية؛ نظرا لما فيهما من الخشب اللازم لمصر والذي لا بد لها من ابتياعه من الخارج إذا أصرت على الاحتفاظ بأسطولها، وطلب في النهاية جزيرة قبرص كقاعدة صالحة للأسطول، أما بغداد فقد كانت في نظره قليلة الأهمية، ثم إنها بعيدة وفقيرة.
38
وقد كانت هذه الطلبات مرغوبا فيها من وجهة النظر المصرية، ولكن كان بديهيا أن هذه لا يمكن أن يطالب بها إلا الفريق الغالب أو بعبارة أخرى لا يمكن تحقيقها إلا بتوفير القوة المتفوقة، ولم يكن ثمة من سبب يحمل أوروبا على الموافقة على مطالب كهذه؛ إذ تبين لها أنها غير مرغوب فيها من الناحية السياسية.
وللمقارنة النافعة بوجهة نظر إبراهيم هذه نذكر تلك التعليمات التي بعث بها بالمرستون في الوقت نفسه إلى الكولونيل كامبل؛ فقد كتب يقول: «إن حكومة جلالة الملك تعلق أكبر أهمية على صيانة أملاك الإمبراطورية العثمانية؛ لأنها تعتبر أن سلامة تلك الدولة عنصر أساسي في التوازن الدولي في أوروبا. فمن رأيها أن كل انتقاص خطير من الأملاك الآسيوية التابعة للسلطان، وما يترتب على ذلك من الموارد التي لا غنى عنها لجلالته؛ مما يكفل الدفاع عن أملاكه في أوروبا، من رأيها أن ذلك كله لا بد أن يؤثر بالنسبة عينها في موقفه إزاء الدول المجاورة لها، وهو ما لا بد أن تكون له عواقب ضارة خطيرة على مصالح أوروبا العامة؛ ولذا ترى حكومة جلالة الملك أن ليس من المهم أن تحول دون تمزيق أوصال الإمبراطورية العثمانية فقط، بل أن تعارض حتى في فصل بعض ممتلكاتها، وكان من المستحيل بداهة إعادة الحال إلى ما كانت عليه؛ ولذا كان خير حل للإشكال أن تعطي سوريا لمحمد علي في مقابل شروط خاصة بالحربية والتجنيد مما يترك موارد الباب العالي كاملة غير منقوصة.»
39
أما الحقيقة التي لا مراء فيها؛ فهي أن عجلة إبراهيم واعتماده على الحسام برغم تجاربه القاسية في المورة كانا سببا في انقلاب الأمور عليه وترجيح كفة الميزان ضد ما كان يجيش في صدره وصدر أبيه من المطامع الكبيرة؛ لأن الآستانة عندما سمعت باعتزامه الزحف عليها على أثر إرسال خليل باشا إلى الإسكندرية وقعت في حيرة وأدركها الهلع الحقيقي الذي لا يرى فيه الإنسان أي مبالغة، فلم يكن هناك جيش تركي منظم يصد إبراهيم عن الزحف، بل كل ما كان هناك هو الوحدات المهشمة التي بقيت بعد اندحار جيش رشيد باشا للصدر الأعظم؛ لذلك خيف طبعا أن يؤدي زحف إبراهيم إلى إيقاظ الفتنة النائمة، ومن ثم يساعد أعوان محمد علي على توسيع الخرق إلى أن تعم الفتنة العمياء، فتحرق الأخضر واليابس، فيتمزق شمل الإمبراطورية ويتزلزل العرش وتسقط الوزارة، وقد يكون نصيب الوزراء في ذلك الانقلاب أن يعجل إبراهيم منيتهم؛ لهذا ولى الوزراء في هلعهم وجوههم شطر الروسيا التي كانت عرضت قبلا مساعدتها العسكرية؛ فتوسلوا إليها أن ترسل على الأقل 20000 جندي لإنقاذ الآستانة فلبت روسيا الرجاء، وهي أشد ما تكون فرحا واغتباطا، وحتى بعد أن عاد موزاييف من الإسكندرية وهو يحمل البشرى بأن زحف إبراهيم قد وقف، وحتى بعد أن أكد مندوبا إنجلترا وفرنسا للباب العالي بأن المعونة العسكرية لم يعد لها معنى أو حاجة؛ فإن الباب العالي ما زال رافضا سحب توسله إلى روسيا، وكانت النتيجة أن جيش روسيا بدأ يعسكر على ضفة البسفور الآسيوية.
وفي الواقع أن إبراهيم ارتكب شططا كبيرا بعمله هذا؛ فإنه لم يقتصر على إثارة روسيا وحدها، بل أثار الدول الغربية على بكرة أبيها، فبعد أن كانت طيلة المراحل الأولية في الحرب السورية واقفة موقف المتفرج ترقب مجرى الحوادث دون أن تحاول التأثير فيها رأت نفسها الآن مضطرة إلى التدخل بعد أن لم يعد منه مناص، وقد رأت الدول المذكورة أن لا مفر من موضع نهاية لهذه الحرب السورية لتبديد مخاوف الآستانة أولا، وللتخلص من الروس بأسرع ما يمكن ثانيا، ولوقاية الأتراك إذا سمح القدر من مغبة العواقب الناشئة عن سوء تصرفاتهم ثالثا. وذلك خوفا من أن يؤدي تمزيق إمبراطوريتهم إلى إشعال النار في أوروبا.
وعبثا حاول محمد علي أن يصلح زلة ابنه بإحياء مشروعه القديم؛ وهو تجنيد الإمبراطورية وبعثها من موتها عن طريق الثورة، ولم يخطر له أن ينادي باستقلاله، لا بل أكد لكامبل أن إنجلترا وفرنسا بتقديمهما المساعدة له إنما يؤيدان السلطان في الواقع بأحسن وسيلة فعالة مستطاعة.
40
وقد جاء في المذكرة التي دفع بها إلى كامبل «أن التأمل الهائل والنظر الثاقب يدلان على أن الحكم التركي قد نخره السوس من كل جانب، وأن قواعده قد أصبحت عرضة للانهيار، وأن موارده المادية والأدبية قد نفذت، وأن الأمة قد أشاحت بوجهها عنه وأصبحت تزدريه.»
41
لا بل إن سمعته انحطت في نظر أهالي الآستانة أنفسهم، وأصبحوا يشكون فيه ويرتابون؛ لأنه لم يعد يستطيع حماية نفسه ولا حماية الأمة، وبالجملة فإنه قد ترك نفسه ألعوبة في يد الأقدار وأصبح فريسة جاهزة في براثن روسيا،
42
ولكن مزاعم الباشا - وإن كانت في الواقع لم تعد الحقيقة كما كانت تعرفها أوروبا المعاصرة - إلا أن الساسة في الغرب لم يكونوا ميالين إلى التسليم بأن محمد علي هو الشخص الوحيد الذي يستطيع بعث الإمبراطورية العثمانية من موتها - بل إن الأمم الأوروبية قد تبادر بتقديم المعونة اللازمة للسلطان؛ لأن الاحتفاظ به دون أن يلحق به كبير ضرر قد خيل إليها أنه أعود بالفائدة وأكفل بتحقيق المراد من حيث إقصاء الروس وإبعادهم عن ذلك الموقف الغريب الذي لا نظير له في الماضي، وهو تظاهرهم بشد أزر الأتراك؛ هذا أكفل لتحقيق المرغوب من كافة ما لدى إبراهيم من القوات والعتاد.
ونظرية أخرى حاول الباشا التشبث بها، وهي بمبدأ تقرير المصير «كما ينبغي أن نسميه اليوم»، وهذا لعمرك من الأمثلة اللطيفة على السهولة الكاذبة التي يستطاع بواسطتها تسخير المبادئ السياسية المعروفة في الغرب في شهر أعمال تختلف كل الاختلاف من حيث الجوهر؛ فلقد زعم محمد علي أنه إنما فعل ما فعل باسم أئمة «الإسلام» ولتبرير هذه الدعوى لفت نظر ابنه إبراهيم إلى ضرورة الحصول على فتاوى من علماء سوريا بأن السلطان محمود عزل أو ينبغي عزله؛ لأنه غير أهل للحكم.
وقد أجاب إبراهيم على ذلك بأن بين له أن من خطل الرأي أن يتوقع موافقة علماء دمشق على رفض سيادة السلطان قبل أن تصبح هذه السيادة لشخص آخر يحل محله ويدعم حقه فيها بالقوة. ومن ثم نشأت صعوبة أخرى عن وجود قناصل للدول الأجنبية في كافة أنحاء سوريا، وألا سبيل للحصول على الفتاوى المذكورة دون أن تردد الألسنة ذكر الوسائل التي لا يمكن الحصول على الفتاوى المذكورة بدونها، على أن ما لم يمكن الحصول عليه في سوريا بدون فضيحة وما بذل في سبيله من استعمال الرشوة والضغط يمكن طبعا أن يقال عن الجهات النائية التي لم يكن للدول قناصل فيها، وقد ظهر تصريح منسوب إلى جماعة من الأكراد الضاربين على شواطئ البحر الأسود، وقد نقضوا ولاءهم للسلطان ونادوا بدخولهم تحت حكم باشا مصر، وكان من المدهش حقا كما لاحظ ذلك قنصل فرنسا الجنرال أن يصدر مثل ذلك التصريح من ولاية لا يستطيع محمد علي أن يحميها ضد أعوان السلطان في الوقت الحاضر على كل حال، وأن يتمكن واضعو التصريح من السفر عن طريق أنقرة دون أن يلحقهم أذى أو ضرر.
43
على أن أمثال هذه النظريات لم يكن لها تأثير قائم أمام الأوروبيين؛ فلقد كان في وسع الباشا أن يزعم بأنه موضع العطف العام بقدر ما كانت أوروبا تعطف على البلجيك أو اليونان، ولكن عباراته الساحرة ولسانه الجذاب لم يكن ليخفي عن الناس هذه الحقيقة، وهي أن الباشا كان يعمل في الواقع لحساب نفسه؛ وذلك لأنه لم يكن يمثل أمة معينة تكافح من أجل حريتها، ثم إن تفوقه على تركيا من الوجهة العسكرية لا يجعله محلا لأي عطف خاص، فإذا كانت له دعوى - إذا صح أن نسميها بهذا الاسم - فمرجعها إلى تفوق النظام وضمانة العدالة واطراد الأحوال في بلاده، وهي أمور ربما استطاع إدخالها في فتوحاته الجديدة كما أدخلها في مصر من قبل، وحتى لو تمكن من ذلك ألم يكن في استطاعة الساسة الغربيين - ما دامت إدارته سوف تكون شرقية حتما - أن يجدوا دائما فرصا عديدة للتجريح والتشكيك ... إذن فالضرورة السياسية كانت الوجهة الوحيدة التي يمكن من ناحيتها بحث الموضوع في كل من باريس ولندن.
واتحدت على الأقل وجهتا النظر الفرنسية والإنجليزية اتحادا تاما، لا على ضرورة إقصاء ذلك النفوذ الروسي الذي ظهر فجأة على ضفاف البوسفور، بل وعلى ضرورة وقف زحف إبراهيم الذي ولد في قلب الباب العالي ذعرا خارجا عن حد المألوف، ومن ثم طلبتا إلى محمد علي الانسحاب من آسيا الصغرى، بل وذهبتا إلى أبعد من ذلك بأن هددتاه في حالة عدم الإذعان بضرب الحصار على الإسكندرية.
44
على أنه بينما كان بالمرستون معارضا كل المعارضة في أي تغيير في مركز الباشا من حيث تبعيته الصورية لتركيا؛ فإن الفرنسيين كانوا على العكس ميالين لمداعبة فكرة الاعتراف به حاكما مستقلا يوما ما على شاكلة الباي في ولايات البربر على أمل التوصل إلى حمله يوما ما على قبول شروط غير مقبولة لديه بدون إبداء كثير من الغضاضة، بل لقد أرسلت مندوبا إلى الإسكندرية وهو خطأ جعل ممثل النمسا يتساءل عن مركز ذلك المندوب وفي أي بلاط يمثل الدولة التي أرسلته، وإذ ذاك اضطر قنصل فرنسا الجنرال إلى التصريح بأنه لا يختلف مركزه عن مركز مندوب موفد بمهمة خاصة.
45
وهكذا بينما كانت الدول الغربية تسعى إلى التحايل على نائب السلطان أو تهديده لحمله على سحب جنوده إذا بالباب العالي يسلم فجأة بمطالب محمد علي إلى حد أنه منحه جزيرة كريت والأربعة ألوية السورية محتفظا فقط بإقليم أطنة. وقد وردت الأنباء بهذا في يوم 16 أبريل، واستقبل رسول السلطان في مصر قنصلي إنجلترا وفرنسا الجنرالين، وما كاد ينتهي رسول السلطان من تبليغ ما يحمله من التعليمات الخاصة بتنازل الباب العالي عن الألوية المذكورة حتى «نهض الباشا وعيناه مغرورقتان بدموع الفرح، ثم خرج عن كل ما له علاقة بالوقار التركي وضحك ضحكة هستيرية.»
46
ولا ريب في أنه اعتقد أن هذا التسليم علامة على أن الباب العالي قد تولاه الضعف، وأنه لا بد من أن يسلم بأطنة أيضا بعد قليل من الزمن، ولكن فرنسا وإنجلترا والنمسا ما فتئت تلح على محمد علي بضرورة التسليم والإذعان ، وأخيرا أعلن على رءوس الأشهاد «أنه على أتم استعداد للعدول عن المطالبة بحكم أطنة، وأن يقطع فوق ذلك عهدا لكافة الدول العظمى بأن يظل إلى الأبد الخادم المطيع للباب العالي، وألا يعكر مزاج مولاه بحال ما بشرط أن يعلن الباب العالي من ناحيته أمام مندوبي الدول بألا يحاول مطلقا أن يسحب الحقوق التي سبق منحها له أي لمحمد علي.»
47
وبعد أيام قلائل صرح محمد علي أمام «المندوب الخاص» الفرنسي بنفس الروح السابقة، فقال: «أنا رجل مسالم لا يرمي إلى غرض آخر سوى أن يكرس بقية أيامه في سبيل سعادة البلاد التي حكمها الآن، إنهم يطلبون برهانا على أن هذه نياتي، وإني أقدم لهم البرهان بأن أتوسل إلى أوروبا أن تحمي تركيا من أي اعتداء يأتي من ناحيتي، وأن تحميني في الوقت نفسه من أي اعتداء يأتي من ناحية تركيا.»
48
وقد دارت هذه المفاوضات بكثير من الفتور، ولكنها كانت بمثابة فرصة ثمينة سنحت للباشا لإظهار نياته والتصريح بآرائه؛ لأن الباب العالي قرر في يوم 3 مايو التنازل عن أطنة أيضا. وهكذا سويت كافة المسائل المختلف عليها اللهم إلا مقدار الجزية التي يدفعها الباشا عن الولايات التي تنازلت له تركيا عنها، ولكن الاتفاق قد تم في سبتمبر التالي على هذه المسألة أيضا، وهو يتلخص في أن يدفع الباشا 30000 كيس سنويا عن مصر وأطنة وسوريا وطورسوس.
49
وهكذا وضعت الحرب السورية أوزارها دون أن تعود على أحد بفائدة؛ فالسلطان قد خرج منها بعار الهزيمة على أيدي أحد باشواته الثائرين، بينما لم يحقق محمد علي أحلامه لا من حيث الاستقلال ولا من حيث المركز الممتاز في البلاط العثماني. وبينما كانت الدول الغربية حانقة على انتصارات إبراهيم التي فتحت ثغرة نفذ منها الجنود الروس كانت روسيا نفسها متألمة؛ لأنها لم توطد أقدامها كما ينبغي على ضفاف البسفور، على أن روسيا على كل حال لم تنسحب إلا بعد أن نالت بمقتضى بند سري وارد في معاهدة «أونهكيار يوكليس» المعقودة في 8 يوليو الحق في إقفال بوغاز الدردنيل في وجه البوارج الأجنبية، ولعل هذا على الأرجح هو السر في ذلك التشكك الغريب الذي كان بالمرستون ينظر به إلى سياسة محمد علي. وحتى قبل توقيع المعاهدة المذكورة كان بلمرستون غير ميال لمشروعات محمد علي، وإن لم يكن شديد المعارضة فيها. وفي هذا الصدد كتب بالمرستون يقول: «إن غاية محمد علي الحقيقية ترمي إلى إنشاء مملكة عربية تضم كافة البلاد التي تتكلم العربية، وقد لا يكون هناك وجه للخطر من تحقيق هذا المشروع في حد ذاته، ولكن لما كان تحقيقه يتضمن تمزيق شمل تركيا ولم يبق لنا مناص من معارضته، ومن جهة أخرى لا فرق بين أن تضع تركيا يدها على طريق الهند وبين أن تكون تلك الطريق في يد ملك عربي قوي.»
50
وهذه الخطة طبيعية حيال الأحلام التي كانت تجيش في صدر رجل كانت مطامعه سببا في إثارة مسألة من أعقد المسائل الأوروبية في شكلها الحاد. وهكذا أصبح من غير المحتمل أن يتم ذلك التعاون في المستقبل بين إنجلترا ومصر - وهو ما كان يطمح إليه الباشا - بسبب ضعف تركيا أو بسبب ما بين الدول الأوروبية من التنافس. وليس من ريب أن التمسك بأي مبدأ سياسي كالمطالبة بالاستقلال الوطني أو بإحلال الحرية السياسية محل الظلم والاستبداد - نقول: لا ريب في أن شيئا من هذا القبيل يصلح لأن يتخذه قاعدة لإثارة القلاقل السياسية، ويمكن على الأقل أن يستخدم في اكتساب العطف العام من الشعوب الأخرى - ولكن مجرد المطالبة بإحلال حكم أوتوقراطي صالح محل آخر فاسد لم يكف لإثارة أي عاطفة في صدر حزب الأحرار - ومما يدعو إلى الأسف حقا أن عملية الإصلاح التي بدأها محمد علي وما ترتب من النتائج الحسنة على الحكم الفردي الجاف المنظم وقدرته على أن يدخل في شعب كالشعب المصري مركب من عناصر غير متجانسة، وذلك الشعور المشترك الذي لا سبيل للوطنية بدونه، لا بل إن عوامل التمدين التي كانت تتجلى تدريجيا في إدارته نقول إن مما يدعو إلى الأسف أن ذلك كله قد تنوسي فيما كانت تردده الألسن عن قسوة نظام الجندية الإجباري والشدة التي كانت تتجلى في عقوباته والإرهاق الذي ظهر أثره في امتيازاته، ولا ينبغي ألا نتنحى باللائمة الشديدة على بالمرستون؛ إذ لم يكن قد فهم حق الفهم أهمية حكم محمد علي الذي لم يكن في رأيه سوى الرجل الذي كادت مطامعه البعيدة أن تثبت تقدم الروس في مركز خطير على ضفاف البوسفور.
الفصل الخامس
فكرة إنشاء إمبراطورية والطرق البرية
كان بالمرستون - على نحو ما مر بك - هو الذي عزا إلى محمد علي فكرة إنشاء «إمبراطورية عربية» تضم شمل كافة الأصقاع التي تنطق بالعربية. ومثل هذه الرغبة كان بديهيا أن تجيش في صدر نائب السلطان؛ فإن فتح سوريا بعد أن دانت له الأمور في مصر والحجاز والسودان لم يترك أمامه ما يستحق الذكر من العقبات في سبيل تحقيق تلك الرغبة؛ إذ لم يبق لإتمام ذلك التوسع الإقليمي إلا أن يحتل الطرق والخليج الفارسي وجنوبي بلاد العرب. وبديهي أن قطرا من تلك الأقطار لم يكن مغريا من الناحية الاقتصادية، اللهم إلا إذا استثنينا مصايد اللؤلؤ في جزيرة البحرين في أنها من الناحية العسكرية آهلة بقبائل رحالة أو شبه رحالة لن ترضى بسهولة عن إنشاء حكومة نظامية ، وخاصة إذا كانت مصحوبة بفرض ضرائب مقررة وسن قانون للخدمة العسكرية الإجبارية. ولكن هذه الأصقاع إذا لم تكن قيمتها كبيرة إلا أن احتلالها كان له من الناحية الأخرى مزايا معينة؛ لأن احتلال الطرق يجعل أملاك نائب السلطان متاخمة لإيران، ثم إنه بواسطة إيران يصبح قريبا من أواسط آسيا، أما احتلال جنوبي بلاد العرب فإنه يكفل له السيادة على البحر الأحمر من ناحية والخليج الفارسي من الناحية الأخرى، ولهما ما لهما من المزايا العسكرية في جميع الأزمان والعصور بحيث إنه قد يستطيع أن يحظر على العمارات البحرية الإنجليزية الموجودة في الشرق المرور فيهما.
وبالجملة فإن ذلك التوسع وإن لم يؤد إلى زيادة موارد محمد علي المادية زيادة تذكر، قد يضاعف كثيرا من نفوذه السياسي ويزيد هيبته، وكان يعتقد - وبحق - أن جنوبي بلاد العرب لن يمكن أن تثبت طويلا أمام قوة منظمة، وأن بغداد على الأكثر لن تبدي مقاومة ما؛ لأن الحالة العامة في الأقاليم كانت حالة تعاسة وبؤس لا نظير لهما. وقد كتب الكولونيل تيلور وكيل شركة الهند الشرقية بهذه المناسبة يقول: «إن الأهالي من فرط بؤسهم يتطلعون إلى إبراهيم.»
1
أما تجار بغداد فإنهم لا يرون حدا لأطماع الحكومة التركية وميلها إلى السلب والنهب إلا تخوفها من وصول الجنود من الهند، وقد استهجنوا قرار بالمرستون بمنع ضم إقليمهم إلى ما أصبحوا فعلا يسمونه «بالخلافة المصرية».
2
وفي الواقع لو استطاع محمد علي أن ينادي باستقلاله لإحياء الخلافة المصرية من جديد؛ فإنه كان يشرف على إدارة الحجاز، وهو المكلف بحمايته ضد المطامع الخارجية. ومهما كان شأن ما حاكه رجال الدين من ضروب الخبث والدهاء حول مركز الخليفة الديني؛ فإن الجمهور كان يعتقد أن خلافة السلطان لن يمكن أن تظل طويلا بعد أن أفلتت منه سلطته الاسمية على مكة والمدينة؛ فالسلطان - كما كتب إبراهيم إلى أبيه - لا يمكن أن يذكر اسمه بعد اليوم في خطبة الجمعة أو يشار إليه باعتباره خادم الحرمين،
3
وحتى قبل نشوب الحرب السورية رددت الألسن في مصر أن شريف مكة على وشك أن يذيع منشورا بأن «من يملك الكعبة ويذود عنها هو الذي يصح أن يسمى بحق حامي حمى الملة المحمدية.»
4
ثم إلى جانب الاستيلاء على الحجاز قد كانت لمحمد علي السيطرة على مركز خطير آخر من مراكز النفوذ في العالم الإسلامي وهو القاهرة؛ لأن مكة وإن كانت تعتبر مهد الدين الإسلامي من الناحية الروحية إلا أنها لم تكن مركزا للثقافة أو العلم الإسلامي؛ فلم يكن فيها مدارس تذكر ولا مكاتب كبيرة يلجأ إليها طالب العلم، بل لم يكن فيها مكان واحد لبيع الكتب أو تجليدها. نعم؛ لقد كانت المحاضرات تلقى في المسجد الأعظم، ولكن لم يكن يلقيها أحد من علماء الإسلام الأعلام ... هذا فضلا عن أن القليلين الذين حضروا لاستماعها لم يخرجوا عن كونهم شرذمة من جهلاء الهنود والمالاي والعبيد .
5
ولكن القاهرة ودمشق كانتا وقتئذ قاعدتي الثقافة الإسلامية، وقد كانت المدينتان في قبضة محمد علي، وهذا ما جعل له أهميته خاصة في العالم الإسلامي، فلو أنه استطاع ترقية هاتين المدينتين وجعلهما مركزا للثقافة العربية لا للثقافة الإسلامية فحسب، ولو أنه جعل نفسه محاميا للقضية العربية ضد القضية التركية؛ نقول: لو أنه فعل ذلك لتوصل إلى إيجاد روابط للاتحاد بين البلاد التي يحكمها أقوى بكثير من روابط الخضوع لسيد مشترك.
ولقد وجه بعضهم إلى محمد علي قوارص اللوم على تهاونه في تحقيق هذه الفكرة، ولكن صاحب ذلك الانتقاد تناسى بعض العوامل الرئيسية في الحالة العامة كما كانت وقتذاك؛ فإن الإسلام كدين من الأديان لم يشجع مطلقا على ظهور القومية أو العنصرية؛ فإن صفته العامة قد أضعفت بدلا من أن تتقوى ما بين الأجناس من اختلاف في الثقافة مما كان يمكن أن يتحول يوما ما إلى خلال وطنية. ومما يلفت النظر حقا أن الحكام الوطنيين - حتى بعد مرور قرن بأكمله لعبت فيه الآراء والأفكار الغربية دورها - كانوا يشعرون بما تقيمه أمامهم تعاليم الدين الإسلامي من العقبات بسبب غاياته العامة التي لا حصر لها. وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فلم تكن بين الأمم العربية إذ ذاك روابط مشتركة عدا رابطة اللغة ورابطة الخضوع لسيد واحد؛ فالسوري والمصري والعربي المتنقل والفلاح والعلماء والكافة، كل أولئك كانوا منقسمين فيما بينهم بسبب العادة والتقاليد أو الآراء المحلية إلى حد أنهم لم يكونوا ميالين إلى التسليم برابطة أخرى غير رابطة الدين، وهذا ما جعل محمد علي يظهر بمظهر المدافع عن الأمة الإسلامية بدلا من الأمة العربية التي لم يمكنه حتى التفكير فيها، وهذه حقيقة اقتنع بها إبراهيم؛ فقد تبين له أن الخلافات بين السوريين والمصريين أكبر وأشد من أن تجمع الفريقين في صعيد واحد أو تجعلهم أمة واحدة.
أما محمد علي فكان يرى أن أهمية البلاد التي تتكلم العربية تنحصر في مزاياها العسكرية لا فيما يمكن أن تؤدي إليه من احتمالات لم يكن يمكن التفكير فيها أو تصورها في عهده.
ففكرة الوطنية العربية لم تتولد وتظهر على المسرح السياسي إلا في أيامنا، ويرجع الفضل في ظهورها إلى ازدياد النفوذ الغربي وانتشار التعليم ووجود الصحافة الشعبية، وفوق هذا كله إلى سهولة طرق المواصلات.
فلم تكن فكرته متجهة إذن إلى إنشاء وحدة عربية داخل دائرة الإسلام، بل أن يصبح زعيم الإسلام الأشهر المشار إليه بالبنان، وأن ينادي به الناس كإمام لهم. ولكن تحقيق هذه الفكرة كان يقتضي إما خلع السلطان وتمزيق أملاكه أو قلب الديوان في الآستانة رأسا على عقب وإحلال نفوذ محمد علي محل نفوذ خسرو باشا. أما موقفه فإنه كان دائما غامضا، وقد أصبح الآن أشد غموضا، وخاصة بعد انتهاء الحرب السورية التي أسفرت عن انتصار إبراهيم الباهر. وقد كتب كامبل يصف الموقف على حقيقته، فقال: «إنه تابع للسلطان من الوجهة القانونية ولكنه مستقل عنه في الواقع، ومع أنه لا يفتأ يعلن أنه تابع وخاضع للسلطان إلا أن توكيداته هذه أقنعتني أنه لا يرغب أن يعتقد غير ذلك عنه.»
6
ولقد طالما عززت الصحف الفرنسية والتصريحات الرسمية الفرنسية الأمل في نفسه بأنه لو أعلن الاستقلال لقوبل ذلك الإعلان بكثير من العطف والتأييد. وكان يدفعه إلى السير في ذلك الطريق نفسه ما كان يظهره السلطان ووزراؤه حياله من سوء النية الظاهرة - وهو أمر كان طبيعيا - وبهذه المناسبة كتب كامبل بعد ذلك بأسبوع، فقال: «إن ما بدا من ناحية الباب العالي أخيرا من التهديدات المصحوبة بالمظاهرات سوف يقوي عزيمة محمد علي في رغبته الحصول على الاستقلال وتحقيق الغاية التي لا شك في أنه يعمل لها، ألا وهي إنشاء خلافة عربية ... وهو شديد الحنين إلى نيل السلطة والمجد طبعا، ويختلف عن بقية المسلمين بأنه مدفوع برغبة شديدة في تخليد اسمه في صفحات التاريخ، ولا مناص من الاعتراف بأن النجاح كان على الدوام حليفه.»
7
وساعد مسلك السلطان في التجائه إلى الروسيا على اشتداد احتقار محمد علي واشمئزازه من الطريقة التي تدار بها الأمور في الآستانة؛ لأنها أدخلت في دائرة النزاع عاملا لم يكن يحسب أحد حسابه، ولقد كانت بمثابة طعنة فجائية لم تفتق له الحيلة وسيلة لدرئها، بل كان ذلك المسلك أحد الأساليب القوية التي تجعله يشن الغارة على رجال الآستانة علنا، وألا يتورع عن تقديم وتوجيه أشد عبارات النقد إليهم، وحسبك أن دعوة روسيا إلى مساعدة الباب العالي رجت عواطف المسلمين رجة عنيفة وكادت تشق وحدتهم، وفي الحق أنها نفرت الناس جميعا، بحيث إن الغازي الذي وصل أخيرا إلى القاهرة - والذي كان تعيينه في منصبه من الآثار البارزة الدالة على سيادة تركيا على مصر - صرح بأن مهمته تقضي بإصلاح الأمور مع الباشا لإعادة المياه إلى مجاريها، وأنه واثق من أن كثيرين من أصحاب الرأي في الآستانة ينظرون إلى محمد علي باعتباره أكبر دعامة للإمبراطورية العثمانية فيما لو نشبت الحرب بينها وبين روسيا يوما ما،
8
فلو أمكن معادلة التحالف المعقود بين تركيا وروسيا بتفاهم بين مصر وإنجلترا لكان في الاستطاعة تحقيق الأحلام التي كانت تجيش في صدر نائب السلطان منذ سنوات عديدة.
ومن ثم قدمت مذكرة ممتعة وعلى جانب عظيم من الأهمية إلى قنصل إنجلترا العام لإبلاغها إلى لندن، جاء فيها أن أول غاية يرمي نائب السلطان إلى تحقيقها هي اقتلاع نفوذ روسيا من تركيا، وأن ينظم جيشا لا تنحصر مهمته في حمل روسيا على احترام استقلال تركيا وحدها، بل واستقلال إيران أيضا، «أما الغاية التي كان يرمي إليها نائب السلطان من امتلاك سوريا فقد كان باعثها النية السابقة؛ ولذلك كان يعلل نفسه بعد معركة قونية أن يحدث انقلابا في نظام الحكم في الآستانة، بحيث يتمكن بمساعدة فرنسا وإنجلترا من التعجيل بإحباط مآرب روسيا، ثم استطردت المذكرة بأن الباشا سوف يكون لديه قريبا جيش قوي يبلغ 150000 كامل العدد والعدد، وعلى قدم الاستعداد للتعاون مع إنجلترا في المهمة المجيدة؛ مهمة تخليص تركيا وإيران من النير الروسي، ثم انتهى الباشا بتوجيه خطابه إلى ما عرف عن الإنجليز من شيم العدالة وحب الإنصاف؛ إذ كان يصح له في الوقت نفسه أن ينادي باستقلال مصر ، وهو ما عول على فعله فيما لو استمرت عداوة الباب العالي له.»
9
وكان معتمدو إنجلترا في الشرق ميالين في ذلك الوقت للموافقة على تلك الاقتراحات، وإليك ما كتبه بونسيني إلى كامبل في سنة 1833م؛ إذ قال: «إذا كانت روسيا مدفوعة بعوامل الأثرة والأنانية؛ فالمرجو أن تكون قوة محمد علي في الجهة التي تقضي مصلحته باستخدامها فيها، أي من يطرد من آسيا ومن كافة الأراضي التركية تلك الدولة التي إذا سمح لهما بغرس جذورها لتمكنت قبل مرور وقت طويل من شل مجهودات شعبه المصري والعربي الجديد.»
10
بل إن كامبل كتب في العام التالي يقول: إن من رأيه «فيما يتعلق بصد روسيا ووقف اعتدائها من ناحية آسيا أن إنشاء خلافة عربية برعاية محمد على قد يكون أقوى سد يمكن إقامته لصد روسيا، بل لعل ذلك يكون أضمن من أي مقاومة يمكن أن يبديها الباب العالي، بل إن محمد علي فيما لو اقتضت الظروف ذلك قد يقدم مساعدة عظيمة لإيران (إذا افترضت أنه استولى على بغداد) فيما لو اشتبكت في حرب مع روسيا.»
11
ومن المحتمل أن هذه الآراء اتفقت إلى كراهية بالمرستون لسياسة روسيا والغايات التي ترمي إليها؛ فلقد كان ينظر إليها باعتبارها الدولة الوحيدة التي يرجح نشوب الحرب بيننا وبينها، ولطالما أبدى تذمره مما كانت تبديه من روح العداء في مختلف الأنحاء، وهي الروح المستمدة من خلق القيصر شخصيا ومن هيأة الحكم الدائم فيها، وفضلا عن ذلك فقد كان يتلقى في الوقت نفسه معلومات من أشخاص ليسوا تحت سلطة محمد علي ولا تحت تأثير سحره بأن روسيا تعمل بنشاط على ترسيخ أقدامها في منطقة الطرق الخطيرة، وبهذه المناسبة كتب معتمدنا هناك يقول: «إن روسيا إذا ما وطدت أقدامها في بغداد؛ فإن وجود العراق في مركز وسط وما يجري فيه من الأنهار الصالحة للملاحة وما لديه من الموارد الطبيعية كل هذا يكون بمثابة أحسن فرصة للزحف على الهند في المستقبل ... أو على الأقل لترسيخ أقدام الدسائس ومواصلتها وهي أشد خطر من الحرب نفسها.»
12
أفليس في الاستطاعة أن يؤدي الخوف إلى دسائس الروس وزحفهم عن طريق إيران إلى الهند إلى تحقيق ما كان يرجوه نائب السلطان من اعتراف الإنجليز ومساعدتهم إياه بعد أن خاب في تحقيقها «أولا» الجلاء عن المورة، و«ثانيا» التلويح بعقد معاهدة مع فرنسا ... ألم تسع الحكومة الإنجليزية في الهند إلى عقد محالفة بين السيخ والأفغان وإيران عندما خيف من زحف نابليون على الهند بالطرق البرية.
بيد أن هذه الاعتبارات أغفلت إغفالا تاما مركز بريطانيا العظمى وشخصية وزير خارجيتها، وخلاف ذلك أنها كانت إلى ذلك الحين عالمة أو على الأصح معتبرة بأسها ومسئوليتها؛ لأنها لم تخسر في خلال الأجيال الخمسة الماضية إلا حربا واحدة، وحتى في هذه المرة الواحدة لم يضعف من بأسها ويفت في عضدها إلا علمها أنها إنما تقاتل شطرا من أسرتها، أما الحرب الأخيرة التي اشتبكت فلم تكن فقط أشد الحروب هولا، بل إنها خرجت منها وهي أشد تيها بانتصارها فيها في أي حرب سابقة.
فهل كان يحتمل إذن أن تغير القاعدة التي قامت عليها سياستها في أوروبا منذ أجيال عديدة لتبتاع بدلا منها محالفة ضد عدو محتمل لم يعرف في تاريخه، إنه انتصر في حرب ما إلا ضد الأتراك أو الإيرانيين ... ثم إن بالمرستون لم يكن بالرجل الذي يحاول سد النقص بعقد محالفة أجنبية ليستغني بها عن تنمية قوة بلاده واستثمار مواردها؛ فإذا كان ثمة ما يستحق عليه المؤاخذة فهو عدم سعة احتياله وليس خور العزيمة أو قلة الشجاعة. ولذا فقد اعتزم الوقوف في طريق تقدم روسيا بغير الوسائل التي كان يقترحها محمد علي؛ ولذلك أرسل ردا قاطعا من شأنه أن يقفل الباب في وجه كل رجاء، فلقد كلف كامبل بأن يبلغ محمد علي أسفه ودهشته لتلك الاقتراحات التي تتعارض مع توكيداته السابقة، فضلا عن كونها تتنافى مع شرف الحكومة البريطانية وتعهداتها، فمحمد علي في الواقع يرغب في أن تقره بريطانيا العظمى على اعتدائه على السلطان، أو أن توافق على محاولته التخلص من ولائه لجلالته والمناداة بنفسه حاكما مستقلا على البلاد التي يديرها الآن باسم مولاه السلطان، فكيف لنا أن نسمح بحدوث مثل هذه الفتنة، وهذا الاعتداء المباشر على حقوق ملك متوج تربطه محالفة بمليكنا.
13
وليس من شك في أن هذه اللهجة كانت تنم عن عنصر السخف، بل والبهتان؛ فإن بالمرستون كان يكتب عن موقف محمد علي إزاء السلطان كما لو كانت علاقة ذلك السلطان المجرد من السلطة بوزرائه شبيهة بالعلاقات المألوفة في الغرب.
وقد عالج وزير الخارجية الموضوع كما كان يتوقع أن تنظر الولايات المتحدة إلى ما يقدمه حاكم كندا العام من اقتراحات من هذا القبيل، أو كما كانت تقابل فرنسا اقتراحات كهذه من حاكم الهند العام.
إذ لا ريب أن مجرد قبولها، بل وحتى تشجيعها لا يمكن تسويغه إلا بوجود حالة ينتظر معها نشوب الحرب فعلا، هذا في حين أن الوزير الذي تسمح له نفسه بطلب المعونة الأجنبية ضد مليكه لا يمكن أن يكون إلا متلبسا بأسوأ أنواع الخيانة العظمى.
على أن هذه الآراء كانت على ما يظهر تعتبر كقضية مسلمة لا وجود لها بالمرة؛ ذلك لأن حاكم كندا العام يستطيع أن ينام قرير العين، وهو يعلم أن نجاح إدارته لا يمكن أن يعرضه إلى حقد مليكه أو إلى الرغبة في الانتقام منه، كما أن حاكم الهند العام يستطيع أن يطمئن إلى أن رئيس الوزراء لن يعمل على تلويث سمعته وإرساله إلى المشنقة، والنتيجة أن الآراء السارية في الغرب كانت تطبق بلا حساب على الشرق، مع أنها لم تكن مفهومة على وجهها الصحيح، بل ومجهولة تماما.
على أن التسليم بهذا لا ينتقص من موقف بالمرستون؛ لأن تركيا قد أصبحت جزءا من نظام الدول في أوروبا؛ فللمحالفة التي تعقد معها نفس الالتزامات التي للمعاهدات التي تعقد بين الدول الأخرى، وهي التزامات لا يمكن - والحق يقال - الاضطلاع بها بسبب الفوضى السائدة في شئونها الداخلية، كل هذا لم يكن ليجاري فيه أحد، وفي هذه الحالة ألقى الاسترشاد بالمبدأ السياسي ما يعززه من الاعتبارات السياسية، وليس من ريب في أنه لم يكن ثمة ما يحول دون إلغاء ما بيننا وبين السلطان من التحالف القديم، وأن نؤيد بعد ذلك محمد علي في مشروعاته ضد الإمبراطورية العثمانية والخلافة التركية، ولكن فن السياسة الخارجية يتضمن بين ما يتضمنه خدمة المصالح الوطنية في داخل الحدود التي يفرضها مراعاة المبدأ السياسي، ولا سبيل إلى إنكار أن هذا الأخير كان يصبح في خبر كان بإقرارنا والي مصر في مشروعاته - ولو سرا - كما أن الأول كان يصبح في خطر باتفاقنا علنا مع محمد علي؛ إذ لا ريب في أن سحب مؤازرتنا للسلطان كان يترتب عليها مبادرة الدول إلى اقتسام إمبراطوريته، وهو احتمال لم يكن يسعنا أن ننظر إليه بعين الارتياح؛ لأننا لم نكن لنستفيد من تحول الأدرياتيك إلى بحيرة نمساوية أو الآستانة إلى ميناء روسية؛ فماذا عسى أن تكون الفائدة التي يقدمها محمد علي، والتي يمكن أن تعوضنا عن قلب القارة الأوروبية رأسا على عقب؟ إذ ما الذي يحملنا على التبرع بمساعدة حاكم مصر بأن يبسط سلطانه عن طريق الفتح العسكري إلى بقاع جديدة لا يستطيع أن يزعم أن لديه شبه حق في الاستيلاء عليها؟ ... فلهذه الاعتبارات جميعا نشأت سياسة ترمي إلى الاحتفاظ بسلطة محمد علي في البقاع الواقعة فعلا تحت سلطانه مع إقامة للعراقيل في سبيل توسيع ذلك السلطان؛ ولذلك آثر بالمرستون وبحق أن يقوي مركزنا حول الطرق البرية الجديدة المؤدية إلى الهند على إنشاء دولة جديدة قد تنضم إلينا في يوم ما في حرب محتملة مع روسيا.
ولكن الطريقين البريتين الممكنتين إلى الهند هما طريق الفرات وطريق السويس، لم تخرج إحداهما بعمل من أعمالنا من تحت سيطرة إحدى السلطات السياسية؛ فظهور محمد علي على المسرح السياسي في مصر قد مكنه من وضع يده على طريق السويس، بينما كان وادي الفرات ما يزال تحت سيطرة السلطان، ولو أنها سيطرة اسمية، وأحسب أنه كان يكون منتهى الحمق لو أننا عملنا بلا باعث سياسي أو أدبي على وضع هاتين الطريقين تحت سلطة محمد علي في الوقت الذي بدأ يظهر فيه ما لهما من أهمية سياسية كبيرة.
14
ومن أهم العوامل التي زادت في أهميتها استعمال البخار في الملاحة، فطالما كانت طريق البحر الأحمر معطلة لمدة أشهر من كل سنة بسبب الرياح الموسمية، وطالما كانت طريق الفرات متعذرة لا يمكن اجتيازها إلا بسحب السفن وهي عملية مضنية؛ فإن هاتين الطريقين إلى الشرق - برغم ما لهما من الأهمية العسكرية - لم يكن يمكن أن تضارعا الطريق البحرية الطويلة حول رأس الرجاء الصالح، على أنه قبل أن تضع الحرب مع نابليون أوزارها بدأ استعمال «اللنشات» البخارية في الأنهر والترع الإنجليزية، وبعد سنوات قليلة بدأ استخدامها في عبور خليج المانش. ولم يحل عام 1820م حتى كان الناس يتوقعون استخدام البواخر في طرق المحيطات الكبرى، ولكن التقدم كان بطيئا هنا؛ ذلك لأن الآلات البخارية التي زودت بها أول باخرة لعبور الأوقيانوس كانت ضعيفة ومتلفة، بمعنى أنها استهلكت مقدارا هائلا من وقود الفحم، وهذا ما جعلها لا تجرؤ على الابتعاد عن السواحل لتأخذ حاجتها من الوقود. أما «طنبوشة الطارة» الكريهة المنظر، فقد كانت عرضة لأن تقتلعها الأمواج في عرض البحر من أساسها، هذا إلى أن الآلات نفسها كانت توقف أكثر من مرة لتنظيفها وإصلاحها ؛ فلهذه الأسباب كان استعمال السفن في بدء الأمر قاصرا على الجهات التي توجد بها سلسلة من المواني؛ كالمانش والبحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج الفارسي.
وسرعان ما أدركت الهند أهمية هذه الاحتمالات؛ ومن ثم اجتمع تجار كلكتا في أوائل سنة 1823م وشكلوا لجنة لبحث الموضوع، فأدى نشاطهم إلى الرحلة التي قامت بها السفينة «انتربريز» حول رأس الرجاء الصالح، وسلخت المسافة بين كلكتا ولندن في 113 يوما نصفها في السفر بالبخار ونصفها في السفر بالشراع، وكان من أثر هذا الإخفاق النسبي أن أدرك الناس مضار السفر الطويل بهذه السفن على حالتها الفطرية، واتجهت الأنظار إلى الطريق الملائم المختصر طريق السويس والبحر الأحمر.
وكان في طليعة محبذي هذه الفكرة مونتستيوارت الفنستون، وقد صادف ذلك الوقت الذي شرعت فيه لجنة كلكتا في القيام بحملتها، ولما خلفه السير جون مالكولم في منصب حاكم بمباي راح يتحمس في تحبيذ الفكرة حتى إنه حاول في سنة 1829م أن يرسل السفينة «انتربريز» من بمباي إلى السويس، ثم أمر بإنشاء سفينة جديدة اسمها «هيولندس»، وقد استطاعت في سنة 1830م أن تقوم بأول رحلة بخارية في حوض البحر الأحمر.
ومع أن شركة الهند الشرقية لم يمكن وقتئذ حملها على إتمام المشروع بتخصيص سفن بخارية إلى الإسكندرية وبالعكس لمقابلة البريد والمسافرين عند وصولهم إلى السويس؛ فقد جربت السفن في رحلات مختلفة وأخذت السفن التابعة لوزارة البحرية تسافر من مالطة إلى الإسكندرية، وتشكلت لجنة من الخبراء لوضع تقرير عن مسألة المواصلات البخارية مع الهند بحذافيرها، وأخذ التجار يستخدمون طريق السويس بكثرة في شئون البريد حتى قبل إنشاء خط منظم،
15
ثم إن توماس وجهورن الذي كان حجر الزاوية في الترويج والدعاية اتخذ له مكتبا في الإسكندرية وشرع يعمل كوكيل لنقل الرسائل البريدية، وهذا بالرغم من إصرار شركة الهند الشرقية على عدم الانتفاع بالطريق. وقد وصف لنا أوكلند حاكم الهند العام الحالة في سنة 1836م وصفا حيا، فقال في كتاب لهيهوس: «يتسلم التاجر في «أنديا هوس» تحاويله على خزانتنا لدفع مقدار معين بعد الاطلاع، وذلك بمقتضى مدة السفر التي قررتها المحكمة (أي حول رأس الرجاء الصالح)، ينبغي أن يكون بعد التاريخ بأربعة أو خمسة أشهر، ثم إنه يرسل هذه التحاويل إلى الإسكندرية، وهناك يستأجر النشيط واجهورن قاربا شراعيا ومعه حقائب البريد، ويقصد إلى «مخا»، ويضع هذه الحقائب على ظهر إحدى السفن التجارية فتصل إلى كلكتا فيما لا يزيد عن شهرين منذ خروجها من إنجلترا. وهنا يتسلم النجار الخطابات الواردة إليهم وأيضا تحاويلهم؛ لأن خزانتنا قد أودع فيها نحو 20 لكحا من الروبيات لمكسب التجار ولخسارتنا نحن، وهكذا ترى حركة الرسائل الخصوصية في ازدياد مستمر وسيل الصحف يقوى على ممر الأيام. أما أنا فبصفتي حاكما عاما فإني أؤثر المواصلات عن طريق رأس الرجاء الصالح من طريق البحر الأحمر، بل إني أفضل طريق رأس هورن (في جنوب أمريكا) عن الطريقين المذكورين، ولكن إذا فتحت الطريق المختصرة فلسوف يكون من دواعي العجب، بل ومن أسباب النقض، أن يستخدمها كل فريق ما عدا الفريق الذي له في الهند مصلحة هائلة.»
16
ولكن كانت هذه الأحوال آخذة في التلاشي وبسرعة؛ ذلك لأن الفرنسيين أنشئوا في سنة 1835م خطا للسفر بالبواخر فيما بين مرسيليا والإسكندرية، وهكذا اضطرت شركة الهند الشرقية تحت ضغط لجنة المراقبة أن توصي بصنع سفينتين بخاريتين جديدتين للسفر فيما بين بمباي والسويس وبالعكس، ومن ثم أصبح تحسين الطريق طبقا لتوصيات لجنة الجزاء مضمونا.
ولم تكن هذه هي الطريق الوحيدة الممكنة؛ فقديما كانت البصرة منافسة جديدة لميناء السويس، ولما كانت قد ظهرت فائدة البواخر في المياه الداخلية فقد جعل الناس يتساءلون طبعا: أليس من الأصوب أن تتصل مياه أورنتس بمياه الفرات في هذا العصر الذي أصبحت فيه إنجلترا مغطاة بشبكة من الترع، وبخاصة وأن مثل ذلك المشروع يكون أقل كلفة من شق قناة في برزخ السويس؟
وفي نهاية سنة 1830م وأوائل سنة 1831م شرع بمسح هذه الطريق في وقت واحد «بشيسني» من ناحية سوريا وفريق من ضباط الشركة من الهند، على أن الضباط قد حدث ما يعرقل أعمالهم بفعل الأعراب الضاربين على ضفاف الفرات، وقد اغتالوا بعضهم فعلا. أما شيسني فقد تمكن من إتمام المساحة الابتدائية برغم ما قام في سبيله من عقبات جبارة، ثم أرسل مرة أخرى في سنة 1834م على رأس بعثة اصطحبت معها سفينتين بخاريتين من سفن الأنهر ذوات القاع المسطح لاستخدامها في نقل أعضاء البعثة من مياه الفرات الأعلى إلى الخليج الفارسي، وقد استصدر فرمان سلطاني بالسماح بالملاحة في الفرات، وبعد أن ذلل شيسني مصاعب جمة تمكن من جمع سفينتيه على النهر المذكور، ولكن سرعان ما أغرقت الريح إحداها ووفقت الثانية في الوصول إلى البصرة، وبالرغم من أن كبير البعثة كان شديد التفاؤل بما يمكن أن يصل من الاحتمالات بهذه الطريق التي تمكن من مسحها بعد جهود جبارة؛ فإن الناس جميعا كانوا مقتنعين بأنه مهما كانت أهمية هذه الطريق من الناحية السياسية؛ فإن طريق الفرات قد تستطيع منافسة طريق السويس والبحر الأحمر إلى الهند.
17
على أن البعثة كانت مدفوعة إلى أعمالها بغاية سياسية معينة؛ ذلك أن تلك المنطقة التي يشغلها الفرات أصبحت لها أهمية هائلة بعد التقدم الذي تقدمته روسيا، وبعد أن تطورت مشروعات محمد علي وتبينت الغايات التي يرمي إليها؛ لذلك أصبح في طليعة المسائل السياسية المهمة أن تعرف وسائل النقل في تلك المنطقة، وهل هي سهلة وإلى أي حد تعتبر هكذا. ويلوح أن روسيا كانت شديدة المعارضة لمحمد علي في إرسال البعثة المذكورة، وقد علم بونسيني في الآستانة أن روسيا أبلغت الباب العالي بأن والي مصر على أتم استعداد لوضع كل ما يمكن من العراقيل في سبيل تلك البعثة إذا رغب السلطان ذلك،
18
ثم إن كامبل كان مقتنعا وهو في الإسكندرية بأن قنصل روسيا العام حاول جهده لاستثارة الباشا ضد المشروع،
19
وقامت المصاعب الشديدة بسبب العمال والمئونة. وكانت هذه الاعترافات معقولة؛ لأن الروس لم يكن يروق في نظرهم ترسيخ قدم إنجلترا على ضفاف الفرات، في حين أن محمد علي كان يخشى أن تكون نيتنا من وراء هذه الأعمال إنشاء قلاع هناك ترمي إلى احتلال النهر .
20
كما أنه كان شديد الحرص - من الناحية الاقتصادية - على تحسين طريق البحر الأحمر أولى من طريق الخليج الفارسي. ولعله كان يؤمل أن تؤدي معارضته في مشروع يعلم أنه يهم الإنجليز إلى تساهلهم معه في مسألة الاستقلال.
لهذا بينما كان يعمل إبراهيم خفية في سوريا كل ما يمكنه عمله لعرقلة تقدم شيسني؛ فإن محمد علي ظل يرفض بدوره إرسال أوامر معينة إلى ابنه إلا بطلب صريح من السلطان.
21
وهذا ما أثار حفيظة بالمرستون ودفعه إلى تحرير خطابين بنغمة جافة، قال في ثانيهما إن حكومة جلالة الملك مصممة على ألا يفشل المشروع ... بسبب عراقيل تقيمها سوء النية أمامه في جبهة من الجبهات.
22
وهكذا بينما كان محمد علي يعمل على عرقلة مساعي بريطانيا لاختبار مبلغ صلاحية أنهار العراق للملاحة، كانت وزارة الخارجية البريطانية تنظر بعين يقظى إلى أملاك السلطان الباقية حتى لا يعتدي أحد عليها؛ فلقد أراد محمد علي مثلا أن يضم منطقة أورفة إلى أملاكه في سوريا مستندا في طلبه هذا إلى أن المنطقة المذكورة لم يكن يحتلها الأتراك، وأنها في حالة فوضى وتحت سلطة قطاع الطريق وأن سكانها كثيرا ما يغيرون على الجهات الواقعة حول حلب وأنه لا يتردد في دفع الإتاوة عنها، وأنها كانت من قديم الزمن جزءا لا يتجزأ من ولاية حلب
23
على أن ذلك لم يفده شيئا، بل اضطر إلى الانسحاب من المنطقة المذكورة. وفي سنة 1835م احتل جهة «الدير» الواقعة على الفرات، وكان يرمي بذلك بلا ريب إلى مراقبة بعثة شيسني مراقبة فعلية، وكانت حجته في ذلك الاحتلال أن القبائل الرحالة في تلك الجهات ألفت الغارة على أراضيه،
24
وقد صدر إليه تحذير حازم بألا يحاول الاقتراب من ولاية بغداد.
ومهما كانت نيات الباشا فإن مدينتي بغداد والبصرة كانتا تعتبران في نظر الإنجليز بأن لهما أهمية خاصة، وقد صادف احتلال الدير نشاط الأعمال العسكرية في جنوبي بلاد العرب واحتمال امتدادها إلى الخليج الفارسي؛ ولهذا بادر بالمرستون إلى الكتابة لكامبل بأن «بريطانيا العظمى سوف تعتبر أن لمصالحها مساسا مباشرا بحيلولتها دون زعزعة هيبة السلطان في بغداد أو العبث بها.» ثم استطرد فكتب فيما يختص بأي حركة عسكرية موجهة إلى بغداد، فقال: «قل للباشا صراحة إن بريطانيا العظمى لا يسعها الوقوف مكتوفة اليدين إزاء تنفيذ مثال هذه المآرب.»
25
وليس من شك في أن هذه العبارات لم تكن مجرد بيان وجهة نظر بريطانيا. كلا؛ إذ مهما يكن نتيجة بعثة شيسني في نهر الفرات، ومهما تكن النتيجة التي تترتب على تحسين طريق السويس، فليس من شك في أن البحر الأحمر والخليج الفارسي كانا بمثابة طريقين مباشرين إلى الهند؛ ولذا صممت بريطانيا العظمى على السهر على حمايتهما بالقوات البريطانية.
أما الحوادث التي أدت إلى احتكاك المصالح بين بريطانيا ومصر وتوسيع الهوة بين الفريقين؛ فقد نشأت عن الفتنة التي وقعت بين جنود محمد علي المرابطة في بلاد العرب؛ فإن الحرب السورية كانت قد أنهكت مالية محمد علي واستنفدت موارده، وتأخر على ذلك دفع مرتبات الجنود في بلاد العرب؛ مما دفع ضابطين من الضباط الألبانيين إلى إعلان تذمرهما.
وكان الباشا قد كتب في سنة 1822م إلى حاكم الحجاز يبلغه أنه أرسل إليه 5000 كيس لتهدئة ثائرة الجنود، ولكن لا بد له من حمل الضابطين المذكورين على العودة إلى مصر أو القبض عليهما وإرسالهما إلى القاهرة مكبلين بالحديد،
26
ولكن لا أكياس الذهب ولا القبض على الضابطين أديا إلى النتيجة المرجوة، بل سرعان ما رفع الجنود راية العصيان وأخذ زعماؤهم يتحدون حاكم الحجاز، ومن ثم أرسل إليهم محمد علي أحد أصدقائهم الأقدمين لإعادة النظام، ولكنه اضطر إلى الفرار إلى القاهرة متسربلا بثياب الخزي والعار. أما النقود التي أرسلت لابتياع البن لحساب الباشا فقد استولى عليها القواد وتقاسموها بينهم،
27
وفي جدة وضع الثوار أيديهم على الممتلكات العامة كما استولوا على سفن الأفراد وسفن الباشا،
28
وفي أواخر سنة 1832م كان الثوار قد رسخت أقدامهم في بلاد اليمن،
29
واتخذوا «مخا» قاعدة لأعمالهم، وهنالك جعلوا يعبثون أشد عبث بتجارة سورات،
30
ولم يكن يمكن القيام بعمل منتج في تلك الظروف، ولكن محمد علي أخطر كامبل في منتصف عام 1833م بأن في نيته إرسال تجريدة لإخضاع «مخا»،
31
وهو مشروع كانت شركة الهند الشرقية تحبذه من صميم قلبها.
32
وفي نهاية العام تحركت التجريدة وهي مزودة بالأموال لرشوة القبائل العربية المحالفة للثوار،
33
وأخيرا كللت هذه المحاولات بالنجاح؛ فإن مشايخ القبائل سرعان ما انتقلوا من معسكرات الثوار إلى المعسكر المصري بما عرف عنهم من الاستعداد للانتقال من جانب إلى آخر بمجرد التلويح لهم بالمال، ومن ثم لم يسع الضابط المتمرد الباقي على قيد الحياة إلا الفرار لإحدى البوارج التابعة لشركة الهند الشرقية، بينما وقع 16 من كبار معاونيه في الأسر وصدرت الأوامر بإطاحة رءوسهم.
34
أما رؤساء العشائر، فإن كانوا قد أبدوا ميلا إلى أخذ مال المصريين مقابل الانقلاب ضد الجنود الثائرين، إلا أنهم كانوا غير راغبين في ترك الحبل لمحمد علي على الغارب لينعم بإدارة البلاد الواقعة فيما وراء مينائي الحديدة ومخا الواقعين في جنوب البحر الأحمر؛ ولذا نشبت حرب طويلة الأمد بين ضباط محمد علي وشيوخ القبائل في العسير واليمن، على أن الضباط لم يربحوا من هذه الحرب فائدة ثابتة تذكر، في حين أن الحرب شلت حركة التجارة، وحتى لغاية سنة 1838م كان كامبل ما يزال يلح على نائب السلطان، ويبين له خطل السعي لكبح جماح قبائل العسير وإخضاعهم بدلا من الاكتفاء باحتلال الموانئ وتشجيع شتى القبائل في الداخل على إحضار حاصلاتهم لبيعها في المواني المذكورة.
35
على أن هذه الأعمال العسكرية إنما كانت أهميتها بالنسبة لبريطانيا العظمى؛ لأنها قربت الجنود المصريين من عدن، وفي الواقع لم يكن يظن بعد إخفاقهم في إحراز أي نجاح يذكر لغاية سنة 1838م أن هناك أملا في أن يبسطوا سيطرتهم على شواطئ البحر الأحمر الجنوبية ... ولكن محمد علي ما لبث أن أحرز فجأة في خلال العام المذكور انتصارين باهرين. وفي اليوم الخامس من شهر أبريل حاول أحمد باشا أن يطيح رءوس 500 من رجال قبائل عسير، وأن يأسر 1000 رجل منهم
36
ووصل في الشهر التالي إلى جهة عنيزة القائد خورشيد باشا الذي كان قد قصد بلاد الوهابيين، وتقع عنيزة في منتصف خط مستقيم يمتد من مكة إلى البصرة، وكانت عنيزة عامرة بالتجار ويقصدها التجار من بغداد ودمشق؛ ولذا كان يحتمل اتخاذها قاعدة صالحة لمواصلة زحف الجيش في المستقبل، وبعد قليل من التردد قصد شيخ القبيلة ومعه وجهاء قومه إلى معسكر خورشيد وقدموا طاعتهم، ولكن وقع حادث دفع الفريقين إلى تحكيم الحسام فورا؛ ذلك أن أحد الجند الأتراك أفرغ مسدسه في صدر أحد الأعراب في خلاف شخصي نشب بينهما وفي الشجار الذي نشب بسبب ذلك الحادث مزق الجمهور الساخط ذلك الجندي إربا، وقد مات من الفريقين نحو اثني عشرة شخصا، هذا عدا أن الجنود قد طردوا إلى خارج المدينة وأغلقت الأبواب في وجوههم، وهنا لم يجد خورشيد مناصا من إطلاق قنابله على المدينة مدة ثمان وأربعين ساعة قبل أن يتمكن من إخضاعها،
37
وتلا هذا مواصلة الزحف في العام التالي حتى وصل إلى شواطئ الخليج الفارسي. وفي أوائل سنة 1839م أشار معتمدو بريطانيا في الخليج إلى خضوع جبهة الحصى والقطيف، وكذا الأراضي الواقعة على طول الشاطئ الغربي، وتوقعوا أن يصر الحاكم الذي عينه محمد علي في نجد على تحصيل الإتاوة «التي اعتادت جزيرة البحرين أن تدفعها.»
38
أما خورشيد فقد كتب إلى المقيم الإنجليزي في الخليج يبلغه اعتزامه احتلال جزيرة البحرين ولو اقتضى الأمر استعمال القوة،
39
ولم يتورع الضابط الذي كان يقود الجنود المصريين عند دنوه من القطيف عن استعمال لهجة جافة في مخاطبته للأميرال البريطاني الذي كان يزور الخليج وقوله له إنه ذاهب لإخضاع البصرة وبغداد، هذا بينما قد عزى إلى خورشيد نفسه أنه قال إنه ينتظر وصول المدد من المدينة ليزحف بكامل جيشه.
40
على أن هذا النشاط فضلا عن منافاته للحكمة؛ فقد جاء في غير الوقت الملائم، وحسبك أنه انطوى على التعمق في غير حاجة في منطقة لبريطانيا فيها نفوذ عظيم، فلقد كان شيخ البحرين أحد زعماء العرب المسالمين في الخليج الفارسي (على حد التعبير الغريب الذي كان يستعمله قلم الشئون الهندية في السياسة)، وأنه قد وقع المعاهدة العامة في سنة 1820م؛ ولذا رأت حكومة الهند وبحق أن تصد ذلك الاعتداء الموجه إلى موقعنا؛ وذلك بإصدار الأوامر باستعمال لهجة خشنة حازمة ردا على خورشيد وقومه على أن تشفع تلك اللهجة بإرسال الإمدادات، وأن تطلب إلى مشايخ القبائل أن يقدموا معونتهم الودية لصد مطالب مصر.
41
ولقد حاول محمد علي أن يسوغ نشاطه هذا بأنه لم يرد من ورائه إلا صد الوهابيين وحماية الحرمين والحصول على الإبل،
42
وأن الإشاعات التي تروج ضده في الآستانة وبغداد تتعمد أن تعزو إليه نيات عدائية
43 ... إلخ، ولكن هذه المحاولات تجردت حتى من صفة مشابهة للحقيقة.
وأما نشاط محمد علي، فقد جاء في غير الوقت الملائم، فلأنه وقع في وقت وقوع حوادث أخرى يؤسف لها، وكان من نتيجتها جميعا أنها أظهرت - إن خطأ أو صوابا - أن المسألة «مرتبة ومطبوخة»؛ ففي سنة 1835م كان في نية شاه العجم إرسال مندوب إلى القاهرة، وفي سنة 1838م ذهب أحد أعضاء البعثة الإيرانية في الآستانة لزيارة محمد علي،
44
ثم أشيع في اليوم التالي أن الشاه ينوي إرسال 50 شابا إيرانيا إلى القاهرة للالتحاق بمدارسها،
45
وفي أوائل سنة 1840م وصل مندوب خاص من العجم يحمل معه بعض الهدايا الثمينة.
46
ومن يدري أن هذه الروحات والجيئات تكون قد جاءت عفوا بدون قصد معين، ولكنها وقعت في وقت كان لروسيا نفوذ كبير في البلاط الإيراني، وفي الوقت الذي ذهبت فيه سدى كافة محاولات المندوب الإنجليزي وانتقاداته للشاه لحمله على العدول عن محاصرة مدينة «هيرات» في الوقت الذي قامت فيه حملة من بمباي سنة 1838م لاحتلال جزيرة «كرك» التي تملكها إيران في الخليج الفارسي.
وحفلت إذ ذاك سوق الإشاعات بما راج فيها من الخرافات الغريبة، وتصادف أن هبط الإسكندرية فيما بين سنتي 1835م و1836م رجلان من الآستانة يدعى أحدهما محمودا والآخر حسينا، لم يكن ثمة ما يدعو إلى الارتياب لا في وصفيهما ولا في نواياهما، وقد قيل إنهما من جماعة المخاطرين، ولكنهما شخصا قبل ذلك إلى زيارة روسيا في ثوب مندوبين من قبل بلاط دلهي. وقد وقعت أعين الناس على محمود في القاهرة وفي الإسكندرية ثم اختفى فجأة. أما حسين فقد وصل إلى مصر بعد زميله بعدة أشهر وكان مصابا بالطاعون؛ ولذلك طلب إلى وكيل القنصل الإنجليزي الذي استعاد ميله الشديد لمقارعة بنت الجان بسبب إلمامه باللغتين التركية والعربية، طلب إليه أن يعنى بأمتعة حسين؛ لأنه يحمل بين طياتها 50 كيسا من النقود، وما كاد وكيل القنصل يسمع اللهجة الهندية في كلام حسين حتى ذكر أنه قابل زميله محمودا عند اجتيازه الأراضي المصرية واعترف حسين بأن ذلك هو الواقع، ولكنه كان مريضا بحيث لا يستطيع مواصلة الحديث.
وفي اليوم التالي أصابته حمى جعلته يهذي إلى أن أدركته منيته، ومن ثم أخذت الأوراق الخاصة به من المستشفى؛ فإذا بها مجموعة خطابات باللغة الفرنسية من الصدر الأعظم إلى بعض الزعماء الهنود ومعها خطابات باللغة التركية يقدمه فيها الصدر الأعظم إلى محمد علي.
47
فلم يكن ثمة مناص من أن يحيط هذا الجو السياسي المكفهر بزحف محمد علي في اتجاه الخليج الفارسي بجو من الشكوك؛ ولذا صدرت التعليمات إلى الأميرال المرابط في المحطة التابعة لشركة الهند الشرقية بأن يذهب إلى زيارة الخليج، وهناك يبذل كل ما في وسعه للحيلولة دون وقوع أي اعتداء على جزيرة البحرين، وإن كان أوكلند قد عارض في أن يحرك أصبعا في الموضوع ما لم تصله تعليمات صريحة في اتباع خطة حازمة.
وكانت لندن قد عقدت نيتها على اتباع خطة الحزم؛ فلقد صدرت إلى بونسني في الآستانة التعليمات بأن يستفهم هل تمت فتوحات محمد علي بإرادة الباب العالي،
48
وصدرت الأوامر في الوقت نفسه إلى كامبل في الإسكندرية بأن يبلغ نائب السلطان بأن التعليمات أرسلت إلى الأميرال ميتلند بأن يحول دون احتلال البحرين ولو اقتضى الأمر استعمال القوة،
49
وكان كامبل قبل أن تصله هذه التعليمات قد أصر، بناء على تعليمات سابقة وعلى الأنباء الواردة من الهند، على إرسال أوامر صريحة إلى خورشيد بأن يدع جزيرة البحرين وشأنها.
50
واتفق أن نشاط محمد علي في جهة اليمن أدى إلى ما يشبه هذه الحالة عند مدخل البحر الأحمر؛ فإن انتصاره على قبائل عسير في سنة 1838م جعله صاحب الأمر والنهي مؤقتا في جهات بلاد العرب التي كانت تسمى من قبيل التهكم «بلاد الرخاء»، وكان محمد علي ميالا إلى اعتبار حاكم عدن مجرد تابع خاضع لإمام صنعاء الذي أرغم حين قبل الدخول في طاعة السلطان،
51
كما أنه ادعى من ناحية أخرى أنه يضع يده عليها؛ لأنها كانت من قبل جزءا من الإمبراطورية العثمانية.
52
وبالطبع لم يكن من المستطاع النظر إلى هذه الدعاوى وأمثالها بعين جدية. نعم؛ لقد حاول إمام صنعاء بلا ريب من آن لآخر أن يبسط نفوذه على عدن، ولكن لم يكن له في الواقع نفوذ يصح وصفه بأنه نفوذ حقيقي وثابت، فاعتراف الإنجليز بأنه كان يتمتع بحقوق السيادة كان يكون إذن ضربا من ضروب الحمق والسخف، كذلك قل عن دعوى الأتراك فإنها كانت وهمية. نعم؛ لقد احتل الأتراك عدن أيام عظمة إمبراطوريتهم إبان القرن السادس عشر والسابع عشر، فلما لم تسعد حالتها تحت حكمهم تخلوا عنها في سنة 1630م باعتبار أنها عديمة الفائدة. وشاءت الظروف في مناسبات عديدة في السنين القريبة أن يتصل الإنجليز اتصالا وديا بسلطان عدن. مثال ذلك أنهم عندما صحت عزيمتهم على سد طريق البحر الأحمر خوفا من زحف نابليون على الهند اجتلوا إلى أن تصير جزيرة «بريم» وهي التي كانت توصف بأنها «الصخرة القائمة في وسط البحر لا يملكها غير الله العلي القهار والتي لا تدفع إتاوة ولا ينتظر أخذ إتاوة منها.» فلما تبين لهم ألا سبيل إلى البقاء في تلك الصخرة الجرداء التي هي أشبه بالجحيم، وخاصة بعد أن ذهبت سدى كافة مساعيهم في نقر الصخرة جريا وراء الأمل الكاذب - وهو العثور على الماء - قر رأيهم على الانتقال إلى عدن مؤقتا، وهناك كانوا أحسن حالا فلقد خيل إليهم في الواقع أنهم أصبحوا في فردوس بالنسبة لذلك الجحيم الذي كانوا فيه من قبل. ومما زاد في اغتباطهم أن سلطان عدن رحب بمقدمهم وعرض أن يقدم لهم دائما عددا من رجاله للخدمة العسكرية في صفوف الشركة الهندية،
53
وفي سنة 1802م عقد السير هوم بوبهام فعلا معاهدة مع السلطان، وفي سنة 1808م أشار إليها فالنشيا بحماس شديد في تقرير له قدمه أثناء رحلاته في حوض البحر الأحمر إلى كاننج؛ فبعد أن أسهب فيما أظهره سلطان عدن من ضروب الصداقة نحو الإنجليز استطرد يقول: «إنها تعتبر جبل طارق الشرق، ويمكن في مقابل مبلغ زهيد من المال تحصينها تحصينا منيعا.»
54
وعندما ذهب مندوبنا في مخا لزيارة عدن إذا بها توشك أن تقع في قبضة محمد علي، فلقد وافق السلطان على إبقاء حامية مصرية وسمح بإنشاء حلقة صغيرة على الخليج الشرقي، بشرط أن يؤذن له بامتلاك أبواب المدينة، وأن يباشر داخلها سلطته العسكرية والمدنية،
55
ولسنا ندري ما السر الذي جعل محمد علي يحجم عن انتهاز تلك الفرصة، وخاصة وقنصلنا العام صولت كان يتوقع انتهازها
56
لا ريب في أن محمد علي قد أضاع وقتئذ تلك الفرصة الذهبية التي كانت تكفل له السيطرة التامة على البحر الأحمر، كما أنه أضاع فيما بعد - أي في الحرب اليونانية - الفرصة النادرة التي عرضت له طيلة حياته للحصول على اعتراف الدول باستقلاله التام.
ثم استمرت الحال على ذلك المنوال إلى أن بدأ يتحقق مشروع سكة السويس، وظهرت الحاجة إلى إيجاد محطات للفحم. وتدل الشواهد على أن الاختيار وقع في بدء الأمر على «سقوطرة»؛ ولذا أرسلت حملة لاحتلالها من بمباي في سنتي 1834م و1835م، ولكن دل الاختبار على أنها غير صالحة لهذه الغاية، فإن شدة اندفاع المياه نحو الشاطئ جعل النزول إلى البر متعذرا، ثم إن الجزيرة كانت موبوءة بحمى الملاريا؛ ولذا تقرر العدول عنها،
57
وكانت الفكرة في سنة 1828م قد اتجهت إلى عدن واتخاذها مستودعا للفحم، وذلك بمناسبة أول تجربة لتسيير السفن التجارية من بمباي إلى السويس، ولكن الباخرة «هيولندس» تعذر عليها أكثر من 30 طنا من الفحم يوميا لقلة الأيدي العاملة، وهو سبب يبدو غريبا في عين السائح العصري.
58
وفي أوائل عام 1897م ارتطمت بالشاطئ بالقرب من عدن الباخرة «درايا دولة»، وهي من البواخر التابعة لمدارس، فكانت الراية الإنجليزية تخفق على ساريتها، وقد كانت الباخرة تحمل عددا من الحجاج عدا الهبة العظيمة التي اعتاد «نواب أرقوط» إرسالها إلى مكة سنويا لغرض مقدس.
فالحجاج الذين نجوا من الغرق وقعوا غنيمة باردة في أيدي الأعراب الذين سلبوهم أمتعتهم، كما أن أعوان السلطان أنقذوا كل ما يمكن إنقاذه من الباخرة تحت إشراف ابن السلطان نفسه.
وتولى نائب السلطان الرئيس بيع هذه السلع في الأسواق.
59
ولما بعث السير روبرت جرافت - حاكم بمباي - تقريره المفصل عن هذه الحوادث، لاح له أن يتخذ التدابير المستعجلة، فقد كتب يقترح إنشاء مواصلة بحرية كل شهر مع البحر الأحمر بواسطة البخار لا بتكوين عمارة من البواخر المسلحة يتحتم معها أن تكون لنا محطة خاصة على شاطئ بلاد العرب كالمحطة التي لنا في الخليج الفارسي.
أما الإهانة التي لحقت الراية البريطانية بسبب سلوك سلطان عدن، فقد حملتني على القيام بتحقيق كانت نتيجته أنه لم يعد يخامرني أي ريب في وجوب وضع يدنا على ميناء عدن.
60
والأرجح أنه كتب ما كتب تحت تأثير توسع الفتوحات المصرية في اليمن على أن أوكلند لم يشأ أن يستعجل الحوادث، بل أشار بطلب تعويض؛ فإن أداه سلطان عدن أمكن وقتئذ عقد اتفاق ودي خاص بمستودع الفحم. أما إذا لم يدفع التعويض المطلوب أمكن بعدئذ النظر فيما يجب اتخاذه من الإجراءات.
61
وإذ ذاك تقرر إرسال الكابتن هينز من رجال الأسطول الهندي لمباحثة سلطان عدن في الموضوع، وسارت المباحثات بادئ الأمر بشكل يبعث على الرضا.
وبعد مباحثات طويلة سلخ فيها السلطان الليل كله مع مستشاريه وراء أبواب مغلقة، وكان يخشى أن تسقط «لحج» عاصمة بلاده من زمن قديم في قبضة محمد علي؛ قرر أن يتخلى لشركة الهند الشرقية عن ميناء عدن الآخذة في الانحطاط في مقابل مبلغ معين من الدولارات، لا بل وضع خاتمه على وثيقة التنازل عن عدن للإنجليز.
وهنا نشأت بعض المصاعب؛ فقد كان ابنه الأكبر معارضا في هذا التنازل، ولم يكن هينز في مركز يسمح له بإنزال جنوده لإتمام الصفقة.
62
فلما أذيعت الأنباء شرع جرافت يضرب على نغمة الضرورة الملحة من جديد «لأن تحصل الحكومة البريطانية في الفرصة الوحيدة؛ حتى تجعل تحقيق هذه الفكرة ممكنة لمدة قرون عديدة على جهة مهمة وضعتها الظروف غير المنتظرة في متناول يدها.»
63
ولكن حكومة الهند تراءى لها أن المسألة ينبغي أن يبت فيها ولاة الأمور في لندن.
64
وهكذا أرجئ العمل إلى أن وصلت في شهر أغسطس رسائل معينة من اللجنة السرية،
65
وبمقتضاها سمح أوكلند لحكومة بمباي في الشروع في العمل،
66
فأرسل هينز من فوره إلى عدن، وهو يحمل في جيبه مشروع معاهدة وبصحبته حرس مركب من ثلاثين من سكان بمباي الأجانب؛ وذلك خشية من أن يكر محمد علي على عدن ويستولي عليها، بينما كانت الأوامر قد صدرت بإعداد قوة عسكرية أكثر عددا وأوفر عددا.
67
ووصل هينز إلى عدن في 24 أكتوبر، وهنا لا بد أن يلاحظ كل من له أقل إلمام بشئون الشرق أن قلة عدد رجاله شجعت ابن السلطان على أن يلح على أبيه بألا يرضخ للاقتراحات الإنجليزية. وقد نجحت مساعيه في هذا الصدد، وبعد أن كانت الأوامر صدرت بالتخلي عن البضائع المسروقة من الباخرة «درايا دوله» واختزانها، تقرر عدم السماح بنقلها، ثم مرت أيام دفع الغرور العرب فيها إلى إطلاق النار على السفن الإنجليزية؛ فانسحب هينز إلى إحدى الجزر الصغيرة في انتظار وصول الإمدادات، وقد وصلت هذه في 16 يناير، ولم ينقض يومان حتى استولى على المدينة عنوة.
وأما السير تشارلس ملكولم، فبعد أن كان قد اقترح بصفته مفتشا عاما لقوة بمباي البحرية الحصول على امتيازات من السلطان ... بدلا من أخذ تصريح بإنشاء مستودع للفحم يظل تحت إدارة أحد شيوخ العشائر الطامعين المذبذبين؛ فإنه أصبح الآن مغتبطا بسير الحوادث، حتى إنه كتب يقول: «إن ميناء عدن وخليجها الذي يطل على الجهة الجنوبية فقط يفوقان كل تصوراتي، وأحسب أنه كان يستحيل الوصول إلى شيء أحسن من هذا يفي بكافة مطالبنا ...»
68
وليس من شك في أن هذا الاحتلال الإنجليزي لثغر عدن جاء مخيبا لآمال محمد علي، بل لعله كان أكثر إيلاما له من إصرارنا على انسحابه من الخليج الفارسي، فلقد قلب ظهرا لبطن كافة مشروعاته التجارية والسياسية؛ فلقد كان المأمول - وإن كان ذلك الأمل لم يتحقق - أن تتحول تجارة البن كلها من مخا إلى عدن،
69
وبذا يفقد نائب السلطان امتيازا له قيمته الكبيرة، وقد شكا القائد المصري من نقص الرسوم الجمركية في مخا،
70
وبديهي أن الدول الأجنبية، وخاصة فرنسا وروسيا، لم تكن مرتاحة إلى هذا الانقلاب الذي طرأ على عدن؛ لأنه لم يكن ينتظر أن يؤدي إلا إلى ترسيخ مركز الإنجليز في الشرق وتوطيده.
ولما كتب كامبل يقول: «إنني على يقين بأن فرنسا وروسيا قد أفهمتا محمد علي، ولن تفتآ تفهمانه بآراء خاطئة عن وجهة نظرنا في امتلاك عدن.»
71
على أن محمد علي مهما كان شعوره الداخلي حيال تقدم النفوذ الإنجليزي؛ فإنه اجتنب الاحتجاج وقصر نفسه على التكلم برغباته وآماله؛ فعندما نمى إليه أن حكومات ولايات الهند قررت إرجاء العمل إلى أن تصلها تعليمات صريحة من ولاة الأمور في لندن، لاحظ محمد علي «بأنه يؤمل أن تقتنع الحكومة الهندية بأن عدن جزء لا يتجزأ من اليمن ... وأنه يرجو أن لا تتشكك حكومة الهند في مبلغ ارتياحه إلى إنشاء مستودع للفحم في عدن وحدها، بل في كافة ممتلكاته الأخرى.»
72
ولعل أقرب عبارة للهجة الاحتجاج الرسمي قوله: «إنه مما يتنافى مع المعقول أن نوافقه على إرسال تجريدة إلى اليمن، ثم نأتي بعد ذلك فنستولي على إحدى موانيها.»
73
ولكن مثل هذه الأقوال لم يكن من شأنها تهدئة ثائرة بالمرستون، فأمسك القلم غاضبا ووضع خطا غليظا تحت الضمير في إشارة محمد علي إلى أملاكه، كما لو كان الضمير في نفسه بمثابة خيانة ضد ميول محمد علي صديق بريطانيا الصدوق. أما فيما يختص بموافقتنا على إرسال تجريدة إلى اليمن، فقد أجاب بالمرستون صراحة بأننا لم نبد معارضة في إرسال محمد علي تجريدة لكبح جماح جنوده الثائرين، ولكن التجريدة كانت أرسلت قبل وصول موافقتنا على إرسالها بزمن طويل،
74
ولما استصوب نائب السلطان استعادة الجنود من اليمن تفاديا من وقوع حوادث على الحدود رد عليه وزير الخارجية بأنه لا يرغب في استمرار احتلال الجيش المصري لليمن، بل ما أشد ما يكون اغتباطه على العكس إذا حدث ما يدل صراحة على أن الباشا مهتم بتحسين إدارة الولايات المعهودة إلى حكمه بدلا من تسخير جهود ذهنه وموارد القطر الذي يحكمه في إرسال تجريدات عسكرية مهمتها شن الغارة على البلدان المجاورة ومناصبتها العدوان،
75
وحتى قبل أن يحتل الإنجليز عدن فعلا أنذر بالمرستون محمد علي «بأن كل محاولة عدائية ضد عدن سوف تعتبر بمثابة اعتداء على أملاك إنجليزية، وإذ ذاك تعالج على أن لها تلك الصفة.»
ومن ذلك الحين فصاعدا، وخاصة بعد أن أخذت العلائق تزداد توترا بسبب حوادث سوريا، ظلت عدن مصدرا للجفاء بين الفريقين، وقد أنذر محمد علي بألا يتعرض لرؤساء العشائر المتاخمين للمستعمرة الإنجليزية الجديدة،
76
وقد دار على الألسن فيما بعد أن نائب السلطان يحسن صنعا لو أنه عمل باقتراحه فأصدر أمره بالجلاء عن اليمن كلية،
77
ثم راجت الإشاعات بأن الجنود المصريين قد حفزوا رؤساء العشائر لمهاجمة عدن، ولسوء الحظ أن قنصلنا العام السخيف المجرد من اللياقة، وهو الذي خلف كامبل صدق تلك الإشاعات وآمن بها كما لو كانت حقيقة لا ريب فيها،
78
وحتى بعد أن انسحب محمد علي نهائيا من اليمن لم يكف ذلك القنصل العام عن تجريحه ولومه.
79
فأنت ترى فيما سقناه أمامك من الحوادث التي وقعت فيما بين الحرب السورية الأولى والثانية مبلغ وهن سياسة محمد علي وقوتها وعدم ثباتها في كثير من النواحي؛ فلقد رأى بحصافة رأيه وبعد نظره أهمية الصداقة البريطانية بالنسبة إليه. ويظهر أنه كان يرغب دائما في نيل هذه الصداقة؛ فكان لا يفتر عن السعي لابتكار الوسائل التي تزيد في قيمة تعاونه في أعين الإنجليز، ولكن يلوح هنا أن الباشا أساء فهم مركزه كما أساء فهم مركز بريطانيا العظمى.
نعم؛ لقد كانت مصالح إنجلترا ومصر متشابكة، ثم إن استخدام طريق السويس إلى الهند جعل من الأهمية بمكان بالنسبة إلينا أن تظل مصر بعيدة عن الوقوع تحت أي سيطرة أجنبية، اللهم إلا إذا كانت تحت سيطرة بريطانيا، وأن نساعد على توطيد مركز حكومتها وزيادة رخاء سكانها هذا، بينما كانت سيطرة بريطانيا البحرية سببا في جعل إنجلترا خير حليف يمكن أن يحالفه قطر لا سبيل إلى مهاجمته إلا من ناحية البحر؛ لهذا كان عقد محالفة بين مصر وإنجلترا رأيا صائبا، ولكن من وجهة نظرنا كان يوجد فارق كبير بين محمد علي باشا مصر الساعي لتوطيد دعائم النظام وإقامة سنن العدل ونشر العلوم والمعارف في وادي النيل وبين محمد علي الذي يسخر شعبه في فتح بلاد العرب وتدويخ سوريا ونشر سلطانه وبسط نفوذه شرقا لغاية البصرة وجنوبا لغاية عدن، مهددا بهذا أعصاب أوروبا بقلب الإمبراطورية العثمانية ظهرا لبطن.
ولم يكن هناك ما يمكن أن يقنع بالمرستون - وفي هذا كان وزير خارجية بريطانيا على حق - بأن مصالح بريطانيا في حاجة إلى تأييد دولة عسكرية قوية في الشرق الأدنى كالتي كان محمد علي وبخاصة ابنه إبراهيم يحلم بإنشائها، بل لم تكن مصالح بريطانيا في حاجة إلى حماية أخرى عدا حماية الأسلحة البريطانية، فلم يكن ثمة مناص من أن يؤدي بسط نفوذ الباشا شرقا إلى اصطدام المصالح وتعارض السياسات.
وكذلك لم يكن هناك شبه ظل لما زعم بعض الكتاب المصريين العصريين لوجود عداء من ناحية بريطانيا العظمى لمصر؛ فلقد كان المجال فسيحا أن يبلغ محمد علي شأو العظمة كما شاء في داخل حدود مصر الجغرافية الطبيعية، ولكن لم يكن من شأنه أن يعرض مصالح أوروبا للخطر، أو أن يضطلع بالنيابة عن إنجلترا بأعباء تحس هي أن في وسعها الاضطلاع بها على أحسن وجه.
وقد كان بالمرستون حكيما ومصيبا عندما آثر أن يدعم سلطة إنجلترا في الخليج الفارسي وعند مدخل البحر الأحمر، بدلا من أن يسمح للغير - مهما كانت توكيدات صداقته - باحتلال مناطق كان القدر قد أعدها لأن تلعب دورا خطيرا في تاريخ الإنسانية.
الفصل السادس
الحرب السورية الثانية وحبوط تدابير محمد علي
كانت النتائج التي تولدت من مشكلتي البحر الأحمر والخليج الفارسي كثيرة الشبه لسوء الحظ في اتجاهها وآثارها بالنتائج التي أسفر عنها تطور الحوادث في سوريا وما جاورها من البلاد؛ فإن التسوية التي وصل إليها الفريقان في صلح قوتاهية لم تكن تسوية بالمعنى المفهوم من هذه اللفظة؛ لأنها تركت كلا منهما مغيظا غير راض يتربص الفرص لإحداث تغييرات جديدة، وكان هذا هو المعروف بين الشخصين البارزين في هذا النضال العنيف.
ففي الآستانة كان السلطان محمود وصاري عسكر خسرو مصممين: الأول على استعادة سوريا، والثاني على إذلال منافسه القديم.
وفي الناحية الأخرى كان محمد علي الذي بسط نفوذه على كثير من البلاد، ولكن كان احتفاظه بها في مقابل شروط مجحفة. كيف لا وقد كان يؤدي الإتاوة التي تتجدد كل عام ويستولي عليها السلطان سنويا؟!
وكان الباشا يعرف أنه أصبح هرما، وأنه لا يرجو أن يفسح له الأجل طويلا، فجعل يسائل نفسه عما يكون مصير ممتلكاته ومصير أسرته بعد انتقاله إلى الدار الباقية، ولم يكن يخالجه أي شك في أن انتقاله من على المسرح السياسي سوف يكون بمثابة إشارة لخصومه لتجديد محالفاتهم القديمة لا لإعادة سوريا وحدها إلى قبضة السلطان ووضعها تحت نفوذه المباشر، بل واستعادة القطر المصري أيضا، وإذ ذاك يطاردون أسرته انتقاما من مسلك كبيرها ومؤسسها حيال السلطان. كما أن الولايات التي بذل فيها من الجنود ما بذل لتحسين الإدارة ونشر المعارف والعلوم سوف تقتسم بين باشوات من الطراز القديم، فلا يكون لهم هم إلا أن يمتصوا دماء الأهالي ويستلبوا ما عندهم من حطام ونشب قبل افتضاح الأمر وإحالتهم إلى الاستيداع. وفي الحق لقد تكهن محمد علي بأن أسرته وإصلاحاته لن يطول أجلهما بعد وفاته، وأن الأمس سوف يصبح منسيا، كما أن العمل الذي وقف حياته وجهوده عليه سوف يتلاشى كأن لم يكن، وكلما تقدمت به السنون كلما ازداد يقينا بأن عمله ما زال غير ثابت، وأنه يخشى عليه من تقلبات الأزمان وتصرفات الحدثان.
ولقد دلت العلاقات بين السلطان وبين الباشا بعد انتهاء الحرب مباشرة إلى أي حد كان صلح قوتاهية صلحا أجوف لا قيمة له؛ فقد كانت هناك مسألة الإتاوة، فحتى بعد أن تحدد مقدارها وانتهى البحث فيها ظل السلطان متمسكا بدفع المؤخرات التي رفض محمد علي دفعها رفضا باتا. وحدث أنه في أثناء البحث في مسألة الزيادة أن انتهز محمد علي فرصة زواج إحدى أميرات البيت السلطاني، فأرسل إلى الآستانة مندوبا خاصا متظاهرا برفع تهاني الباشا، بينما كانت مهمته الحقيقية ترمي إلى أكثر من ذلك. وذهب المندوب تصحبه حاشية عددها اثنا عشر شخصا، وقد زوده محمد علي بالتعليمات بأن يتظاهر في الآستانة «بكافة مظاهر الأبهة التي تليق بإحدى الوزراء» فيوزع ما قيمته مليون قرش بشكل هدايا،
1
وكلف المندوب في الوقت نفسه بأن يبين للسلطان محمود بأنه طالما بقي خسرو في الديوان فإنه لن ينفك عن تسوئة سلوك الباشا، وأن السلطان لو أصدر أمره الكريم بإبعاد الصاري عسكر عن ديوانه السامي؛ فإن الباشا لن يكتفي بالمواظبة على أداء الإتاوة في مواعيدها ... بل يدفع شطرا كبيرا من المؤخرات التي يطالب السلطان بها، وقد كان المظنون أن يجتمع في الآستانة لهذه المناسبة عدد كبير من كبار خصوم خسرو، وبذلك تكون الفرصة سانحة،
2
وعلى كل، فلم تفشل البعثة فقط في تحقيق غايتها، بل لقد كان وجودها في الآستانة بمثابة فرصة لتوجيه الإهانات والعبارات الجارحة إلى مرسلها محمد علي، مثال ذلك أنه لم يسمح لرئيسها حبيب أفندي أن يضع علما على قاربه، ولا أن تكون له «تندة» ليتقي بها حرارة الشمس، كذلك لم يسمح للعمال الذين تولوا عملية التجديف في القارب بأن يؤدوا مهمتهم بالشكل المألوف عندما ينقلون شخصا له مركز هام. وقد كانت نتيجة ذلك كله أن كثيرين من ذوي الحيثيات في الآستانة خشوا الذهاب إلى مقره لزيارته علنا ولم يستقبلوه في منازلهم إلا خفية، بل إن السلطان نفسه تذمر عندما علم بأن بحارة القارب الذي أقله إلى الآستانة صعدوا الأسكلة ورددوا قولهم: «على الطراز الأوروبي» اعترافا بكرمه عندما وزع بينهم هبات تقدر بخمسين ألف قرش.
3
وأخيرا تم الاتفاق في خلال سنة 1834م على مسألة الإتاوة، وذلك بأن يؤدى المبلغ السنوي وتهمل المؤخرات بتاتا، على أن ذلك الترتيب لم يشف عن أي تحسين حقيقي فيما بين السلطان محمود ومحمد علي من العلاقات المضطربة الغامضة؛ فإن الأول مثلا لم يدع فرصة تمر إلا وانتهزها لإثارة الاضطرابات والقلاقل في سوريا، ولقد سبق أن أدخل إبراهيم في هذه الولاية نظام الخدمة العسكرية الإجبارية مع بعض إجراءات لحماية السكان المسيحيين، وبذا أثار عوامل السخط بين طبقات الشعب، ثم تجمعت العاصفة وانفجر مرجل الثورة في المنطقة الواقعة حول القدس، وتحرجت الحالة وأصبحت من الخطورة، بحيث رأى الباشا بأن يذهب لزيارة سوريا بشخصه. ولم يكن هناك أقل ريب في أن الثورة إنما كانت بإيعاز أشخاص معينين كانوا يعملون لحساب الآستانة، ويمكن من الحادث الآتي الذي وقع في نابلس استنتاج الغاية التي كانوا يبشرون لها؛ فلقد صعد أحد الأتراك إلى مأذنة أحد المساجد وجعل يصيح بأعلى صوته: «ألم يعد ثمة وجود للديانة الإسلامية؟! هل تلاشت وعفا أثرها؟! ... ألسنا عثمانيين؟! فليهرع كل من يحب النبي محمدا
صلى الله عليه وسلم
إلى السلاح، وليصمد لذلك الرجل الذي يسمى إبراهيم باشا، والذي لا إيمان له. ذلك المدمن الذي يعاقر الخمر ويأكل لحم الخنزير وكل ما يخرجه البحر من القاذورات (يشير بذلك إلى أكل إبراهيم باشا الترسة وغيرها من أسماك البحر التي يحرمها الدين الإسلامي) تشبها بالمسيحيين، والذي يسكن الأديرة مع القسيسين ويصلي معهم مع أنه لا يذهب إلى المسجد مطلقا.»
4
وعلى كل فقد اتخذت الإجراءات القاسية لقمع الثورة، وقد جيء إلى محمد علي بثلاثة من زعماء الثوار فأمر بإطاحة رءوسهم في الحال،
5
وتم نزع سلاح المناطق الثائرة، ونفذ نظام الخدمة العسكرية الإجبارية. وبالجملة، فقد قمعت الثورة دون أن تزعزع شيئا من شوكة الباشا.
ولكن الحالة العامة كانت تنذر بالخطر؛ فإن كل فريق كان يرتاب في نيات الآخر ولا يطمئن إليه ؛ ولذا أخذ كل منهما يعد العدة للنضال الحاسم المقبل، وبهذه المناسبة كتب القنصل البريطاني في حلب: «إن كل شيء في سوريا أصبحت عليه الآن مسحة عسكرية، وقد اتخذت كافة الإجراءات لتقوية الجيش وزيادة عدده وعدده، وقد حصنت حزون جبال طوروس وأصبحت جنود الباشا متجمعة خلف حدوده الشمالية، وليس من شك في أن الحالة في الجانب الآخر من الحدود مشابهة للحالة هنا، فلقد حشد الأتراك في قونية ما لا يقل عن 9000 جندي.»
6
أما الشيء الذي استلفت النظر بصفة خاصة في إنجلترا، بل وأدى إلى الامتعاض والتذمر، فهو نظام الخدمة الإجبارية الذي تمكن الباشا بمقتضاه من الاحتفاظ بقواته العسكرية كاملة غير منقوصة بعد أن ازدادت وحداتها. ولم يكن هذا النظام سوى بدعة غير مرغوب فيها في سوريا؛ فإن الباشوات الأقدمين لم يدر بخلدهم شيء من هذا القبيل، بل كانت عاداتهم استخدام بعض الجنود الألبانيين أو غيرهم من الجنود الأجنبية المأجورة؛ لأنهم كانوا يستصغرون شأن صفات السوريين العسكريين.
7
ولكن محمد علي عقد النية على استخدام السوريين في الأعمال الحربية، وإن لم يكن هناك إحصاء بعدد السكان يمكن أن يعتمد عليه الإنسان، كما أنه كان يستحيل عمل مثل هذا الإحصاء، فلم يكن ثمة ندحة عن الالتجاء إلى النظام الروماني لتنفيذ هذا المشروع الذي كان يعتبر في كل جهة بأنه منحوس في حد ذاته ولا مفر من أن يؤدي إلى زيادة عبء الضرائب. ويلوح أن السوريين كانوا لا يزالون يعللون به أنفسهم من الاعتقادات في عهد أوجبسترس؛ فلقد كانوا يعتقدون أن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها تنفيذ نظام الخدمة الإجبارية، وهو دعوة عدد معين من الأشخاص في منطقة معينة إلى الخدمة العسكرية وإلقاء القبض عليهم عنوة، ولكن السوريين الذين كانوا يؤثرون ما يلحقهم من إهانات الجنود المأجورين غير النظاميين على التحاقهم أنفسهم بالجيش لم يتركوا حيلة إلا ولجئوا إليها لاجتناب القبض عليهم؛ ففي حلب مثلا اختفى الأشخاص الذين بلغوا السن القانوني عن الأعين عندما صدرت الأوامر في سنة 1833م بدعوة 10000 رجل للالتحاق بالجيش، ففر بعضهم إلى دور القنصليات ليحتموا بحرمها، وجيء بآبائهم لجلدهم بالقرب من النوافذ على أمل إخراج الفارين من مخابئهم، وأخيرا كلف مشايخ أقسام المدينة بذكر عدد الرجال الذين يستطيعون جلبهم للالتحاق بالجيش.
8
وفي سنة 1835م تكررت هذه الإجراءات وأشباهها، وكانت مصحوبة بنفس المقاومة السلبية، ففي بيروت أحاطت السلطات بالمساجد وألقت القبض على الذكور اللائقين للخدمة العسكرية، وفي حلب أغلقت المساجد والدكاكين ووقف دولاب التجارة حتى تعذر الحصول على الخبز واللحم وغيرها من أنواع التغذية مدة يومين كاملين، وإذ ذاك أخذ كثير من الناس يفرون إلى القرى الواقعة في سفح جبال طوروس، بينما لجأ آخرون إلى التزيي بزي النساء، وتمكنوا بهذه الطريقة من اجتياز الحدود إلى أراضي السلطان، ولشد ما كانت خيبة آمالهم عندما أبصروا أن السلطان محمودا كان يحتذي حذو محمد علي في جمع الأنفار، وأنه كان ينفذ الخدمة الإجبارية بمنتهى الصرامة والقسوة.
ولقد بولغ في رواية هذه الحوادث أشد مبالغة أدت إلى أن تعلق عليها الصحف والدوائر السياسية تعليقات ملؤها السخط والاشمئزاز، وقد أصدرت إلى كامبل تعليمات بأن يبلغ محمد علي بصفة خصوصية غير رسمية بأنه إن كان يرغب في التجنيد الإجباري حقيقة، فلا أقل من أن توضع أسماء الأشخاص اللائقين في جداول منظمة، وأن ينفذ المشروع بطريقة نظامية لا أن يخطف الناس من الطريق خطفا بالقوة العسكرية وبدون تمييز بين اللائق منهم للخدمة وغير اللائق، كما يحدث عندما يراد اقتناص عدد من الحيوانات البرية أو قطيع من المواشي في الصحراء.
9
على أن هذا الشعور الإنساني ما لبث أن خفف لتأييده في نواح معينة بعض الصوالح الخاصة.
وكان يوجد أحيانا ما يسوغ ذلك العطف والتأييد، مثال ذلك ما حدث في سنة 1835م عندما قبض الجنود في بيروت على بعض أشخاص في خدمة القنصليات؛ ففي هذه المناسبة أوفد محمد علي الكولونيل سيف «سليمان باشا» بعمل تحقيق خاص في الموضوع، وطلب إلى قناصل الدول العموميين في الإسكندرية أن يختاروا مندوبا لمرافقة سليمان باشا،
10
وأحيانا كنت ترى بالمرستون يقوم ويقعد ويرغي ويزبد عند سماعه أنباء غير حقيقية تفتقر إلى إثبات، مثال ذلك أنه علم في سنة 1835م بأن المسيحيين جندوا كأنفار، فكتب من فوره إلى كامبل يقول: «إن لأوروبا الحق في أن ترجو معافاة المسيحيين التابعين للباب العالي، والذين يسكنون الأقطار التي عهد بها السلطان في الوقت الحاضر إلى حكم محمد علي من ذلك التجنيد الجديد الذي يخيل إلى الباشا أنه يستطيع أن يرهق به السكان المسلمين الذين عهد إليه بالمحافظة على صوالحهم والسهر على رخائهم ويسرهم.»
11
ولكن كامبل تغافل عن هذا التهكم اللاذع، وراح يؤكد لرئيسه أن مسيحيا واحدا لم يطبق عليه نظام الخدمة الإجبارية؛ فلقد قام أخيرا برحلة طاف فيها أنحاء سوريا، فلقي كثيرين من الحجاج وقد وشموا الصلبان على سواعدهم، فلما سألهم عن السر في ذلك أخبروه أن الوشم عادة شائعة لا تنحصر مزيتها في تمييز المسيحيين من المسلمين، بل إنها تحميهم من التجنيد الإجباري.
12
على أنه لو كان للمبادئ الإنسانية والعواطف المسيحية دخل في تذمر الدول العظمى، وبخاصة بريطانيا، من عملية التجنيد الإجباري في سوريا فإن الاعتبارات السياسية جعلت للمسألة خطورة مزعجة؛ ذلك لأن نشوب الحرب بين السلطان والباشا كان نذيرا بظهور الروس من جديد على المسرح السياسي وتعزيز نفوذهم في الآستانة طبقا لنصوص معاهدة انكيار سكيليسي، وإذ ذاك لا يكون أمام بريطانيا إلا أحد أمرين؛ فإما السكوت على أن يكون لروسيا التفوق في بوغازي البوسفور والدردنيل أو تلجأ إلى الحسام لتهدم ذلك التفوق والقضاء عليه. وبديهي أنه لم يكن من السهل التفضيل بين أحد هذين الأمرين؛ إذن فلا بد من منع محمد علي من مهاجمة الباب العالي، أو إذا لم يكن منع نشوب الحرب؛ فإن بريطانيا تنضم إلى روسيا في تأييد السلطان وشد أزره؛ ولهذا وجهت إلى محمد علي عبارات اللوم والتقريع في مرات عديدة.
وفي نهاية سنة 1837م اضطر كامبل أن يبين له أن الدول العظمى لن تسمح له بالاحتفاظ بكل هذه التسليحات التي لن تكون لها نتيجة أخرى عدا وقوعه في أشكال مع السلطان، وبذا يتعذر نشر ألوية السلام في ربوع الشرق.
13
أما بالمرستون فقد رفع عقيرته وردد عبارات التحذير عالية، وطلب إلى كامبل بأن يلفت نظر الباشا إلى العواقب السيئة التي سوف تكون حتما من نصيبه إذا ما عاد إلى الاعتداء على أي قطر من الأقطار التابعة للسلطان، ثم عليك أن تبلغ الباشا بأن نظامه الخاص بالتجنيد الإجباري وتنفيذه إلى مدى واسع مضافا إليه تأهباته العسكرية الإيجابية وحشده الجنود في سوريا؛ كل هذا خليق بأن يثير الارتياب في نياته حيال الباب العالي،
14
ولكن محمد علي لم يكن له إلا رد واحد على هذه الاعتراضات، وكان هذا الرد مفحما يصعب ألا يرضخ له الإنسان؛ ذلك أن السلطان محمودا كان منهمكا في إعادة تنظيم جيشه، ثم إن الضباط الألمان بما فيهم الجنرال فون ملتكه الشهير قد استأجرهم السلطان لتمرين الجيش وتنظيمه.
ولما كان الباب العالي وقتذاك غير مشغول بحرب خارجية ولا مهدد بثورة داخلية يستعد لقمعها، فما معنى هذه الاستعدادات إن لم تكن موجهة ضد مصر؛ فإذا كان الباشا يستعد من ناحيته فاستعداده ذلك إنما هو ما تمليه عليه رغبته الصادقة في الاحتفاظ بالسلام، وهي الترجمة الشرقية للعبارة اللاتينية: «إن أردت السلام فعليك بالاستعداد للحرب.»
ولم يرق هذا الرد طبعا في نظر بريطانيا وفرنسا، بل اغتاظتا له أشد الغيظ فأصدرتا لقنصليهما العموميين التعليمات اللازمة بالتكلم مع الباشا في الموضوع بلهجة حازمة شديدة، بل إن بالمرستون كتب في هذا الموضوع مرتين متواليتين في شهر مارس سنة 1838م؛ فقد طلب أول مرة بيانات صريحة عن نيات محمد علي،
15
أما في المرة الثانية فقد حذره من عواقب الحرب الخطيرة؛ فقد استطرد في هذه الرسالة الثانية يقول لكامبل: «ولا يفوتك أن تبين للباشا أنه ينبغي عليه أن يفهم أن مواهبه وجهوده - على عظمتها في أعين العالم جميعا - سوف تجد مجالا واسعا للبروز في إيجاد نظام محمود للإدارة في الأقطار الخاضعة لحكمه.»
16
ولكن بالمرستون برغم هذه الألفاظ المعسولة، وبرغم هذا السخط الأدبي لم يكن ينظر - ولعله لم يكن يستطيع في مكانه ذلك أن ينظر - إلى الموقف نظرة عادلة مجردة عن الهوى؛ فإنه كان يطالب الباشا بالتنازل عما لا يمكن التنازل عنه إلا خضوعا للقوة، وقد اقترح كامبل اتخاذ خطة أدنى إلى العدل عندما كتب إلى رئيسه في نهاية سنة 1837م، يقول: «ليس يسعني إلا أن أشعر أن محمد علي استطاع أن يكون آمنا على نفسه ضد أي اعتداء من جانب السلطان، ثم إنه إذا اضطر وقتئذ إلى تخفيض جيشه وأسطوله إلى حد معين، ولو حظر عليه الالتجاء إلى الخدمة الإجبارية في أي قطر من الأقطار التابعة له؛ فليس من شك في أن هذا التعبير الصالح سوف يظهر أثره الحسن عاجلا في كافة أنحاء البلاد.»
17
وهذا لعمرك هو الحق الذي لا ريب فيه، فإن الباشا لم يكن يمكن أن يزيل مخاوفه ويبدد شكوكه ويغنيه عن الحاجة إلى التسليح إلا ضمان من هذا القبيل، اللهم إلا إذا كان المقصود أن يستعد الباشا لتسليم السلطان أي قطر من الأقطار التابعة له يقع عليه اختيار عاهل الآستانة. ولقد كان من بواعث الأسف أن موقف روسيا جعل تقديم مثل هذا الضمان ضربا من المستحيلات؛ ولذا لم يسع بالمرستون إلا أن يردد النظرية الرسمية؛ وهي أن محمد علي لم يخرج عن كونه مجرد خادم السلطان ووزيره، وأن لهذا الحق كل الحق في أن تتطلع نفسه لاستعادة أملاكه في أي وقت شاء، وأن ما يقوم به الباشا من الاستعدادات الحربية هو في الواقع عمل غير قانوني ومناف لقواعد الولاء وينطوي على الخيانة.
وغير خاف أن هذه الصفات نفسها كانت هي نفس النظرية التي ترددها الإمبراطورية العثمانية، ولكن كانت هناك نقطة تنتهي عندها هذه الخرافات القديمة وتصبح لا مفعول لها.
فلقد حدث في الهند أن حكومة شركة الهند الشرقية قررت أنها في حل مما عليها حيال إمبراطورية المغول من الواجبات بمجرد ما تخلى عن حمايتها، وانضم إلى قبائل الماهراتا وهم أعداء الشركة المحتملون. ولقد أجمع العقلاء على تسويغ عمل الشركة، وإنما سقنا هذا المثال لنبين أن محمد علي لم يكن يختلف موقفه عن موقف شركة الهند الشرقية الشريفة، ولعل الخلاف - إن وجد - يرجع إلى ملابسات السياسة أكثر مما يرجع إلى المبادئ السياسية؛ لأن خروج «دارين هيستنجز» على سلطة عاهل المغول «شاه علام» لم يكن من شأنه أن يعرض سلام أوروبا للخطر كما كان يعرضها خروج محمد علي على السلطان محمود عاهل الآستانة، وكانت النتيجة أن الباشا العظيم مع أنه كان أهلا للعطف بسبب ما كان يبذله من المساعي والجهود لتوطيد دعائم ما بذله من الإصلاحات التي أدخلها وأن ينقذها من عبث الإدارة التركية؛ فقد بقيت بعض أسباب قوية تسوغ سياسة بالمرستون برغم الكثير من النظريات غير المقنعة التي استند إليها في قضيته ضد محمد علي، أو بعبارة أخرى أن بالمرستون كان يحسب حساب الصوالح العالمية الكبرى ويرى مراعاتها أهم بمراحل من تعزيز نفوذ محمد علي أو الاحتفاظ بإصلاحاته، ولا يمكن أن تعدل مزايا هذه الإصلاحات الأخطار التي تنشأ حتما من نشوب حرب أوروبية. ولقد صرح بالمرستون في سنة 1833م - وكان على حق فيما قاله في ذلك الحين - أن العناية الكبرى التي جعلتها الحكومة البريطانية نصب عينيها هي المحافظة على السلام ... إننا لا نميل إلى إحداث تغييرات كبيرة في توزيع السلطة السياسية توزيعا نسبيا؛ لأن حدوث هذه التغييرات لا يكون إلا بالحرب، أو إذا اقتضت حدوثه جدلا فلا بد حتما أن يؤدي عند إتمام التغيير إلى نشوب الحرب.
18
ونحسب أن من حق محمد علي علينا أن نرجئ الخوض في طبيعة إدارته وكفايتها إلى فصل آخر، ولكن لا يفوتنا أن نذكر هنا أنه مهما كانت قيمة تلك الإدارة فقد كان عنصرا رئيسيا في سياسة بالمرستون أنه كان ينظر إلى إدارة محمد علي بعين الشك والارتياب؛ فقد كان من رأي ذلك السياسي الحر (التابع لحزب الأحرار) أن الغايات الصالحة الإنسانية المتنورة التي قال الناس إن محمد علي وضعها نصب أعينه تتنافى بتاتا مع قبضه على الناس بالقوة للخدمة في جيوشه، ولم يكن في استطاعة لورد بالمرستون بصفته من كبار الأعيان أن يوفق بين الحكومة العادلة وبين تجريدها للناس من أملاكهم، هذا إلى أن رجال الاقتصاد في الغرب أجمعوا على استهجان الاحتكارات التجارية التي أوجدها الباشا في مصر وفي غيرها من البلاد التابعة له.
فهذه الأسباب العامة وغيرها هي التي جعلته لا يميل إلى النظر بعين العطف إلى مطالب محمد علي وآرائه؛ فكان كلما أشار كامبل إلى حماية الباشا لممتلكات الأشخاص يرد عليه بالمرستون بقوله: «ما عدا ممتلكات الشعب الذي يحكمه محمد علي.» وكلما أشار القنصل العام إلى حب الباشا للخير يجيبه وزير الخارجية: «وليس حب الخير هذا هو ميله للحرب وفتح البلاد واستلاب الناس وسن نظام الخدمة الإجبارية وإيجاد الاحتكارات التجارية.»
19
فهذه الآراء وإن كانت بلا قيمة في تقدير ما قام به محمد علي من جلائل الأعمال تساعد بلا شك على تفسير سياسة بالمرستون في الأزمة التي كانت ستهب ريحها في القريب العاجل.
ولم تكن هذه الآراء مجرد نتيجة أفكار عامة أو منشأها المضايقة مما كان يبديه الباشا من نشاط لا يدعو إلى الارتياح، وكان سير الإدارة في سوريا كما سأبين بعد أقل توفيقا وأبعد عن النجاح مما كان في مصر، ولم تتورع الصوالح المغرضة عن المبالغة في مساوئ الإدارة السورية بلهجة لبقة خداعة، وليس من شك في أن تدهور الإدارة التركية وإهمال الباشوات يضاف إليهما استمرار انحطاط قوة تركيا العسكرية، ثم ما ترتب على ذلك من إحجام الديوان وتخوفه من معالجة المسائل الخاصة بالشئون الخارجية؛ كل هذا قد شجع بعض العناصر في التمادي والإغراق في إساءة استعمال الامتيازات التركية. من ذلك أن القناصل زعموا أن لهم الحق في معافاتهم من كافة الضرائب والرسوم، اللهم إلا شيئا تافها محددا، وأن لهم الحق في تطبيق هذه المعافاة على كل من يستخدمونه وعلى أي شخص يقولون إنه من رعاياهم.
وقد أثبت «لبارد» أن معظم القناصل في سلانيك كانوا يعيشون على الإيرادات المتحصلة من بيع جوازات السفن أو الحماية للمسيحيين الوطنيين،
20
وقد كانت هذه الفضائح ترتكب في سوريا بلا رادع. وبهذه المناسبة كتب كامبل «إن القناصل والأعوان اعتادوا أن يحموا عددا لا حصر له من رعايا الترك المسيحيين، وكذلك للتجار بتوصية بعض السماسرة للتراجمة ... إلخ، وكانت هذه الحمايات تباع للرعايا المسيحيين، وكان بعض هؤلاء من الثروة الضخمة ما يجعله يدفع الأموال الطائلة للقنصل في سبيل التظلل بحماية تخرجه من طائلة القانون التركي.»
21
بل إن ليدي «هيستر ستانهوب» لغير ما سبب سوى مزاجها الأوتوقراطي أعطت 77 حماية بعضها لأشخاص ذوي ثروة ضخمة، وقد أعطيت كافة هذه الحماية لأشخاص لم يكونوا في خدمتها يوما، بل ولم تكن تدفع لهم مرتبات مطلقا.
ثم إن القناصل اعتادوا أن يصدروا شهادات بأن البضائع الموجودة في الجمارك التركية تابعة لهم، «فهي إذن معفاة من الرسوم ولا يمكن تفتيشها»، مع أن الناس كانوا يعرفون جميعا بأن القناصل إنما يتسترون على بضائع تابعة لبعض التجار الوطنيين.
22
ولقد كان من نتائج قيام حكم محمد علي في سوريا مع ما تضمنه قيام هذا الحكم من إدخال نظام الخدمة الإجبارية أن زاد ثمن الحماية التي يحصل الإنسان عليها من القناصل، ولقد عاد الكولونيل سيف الذي أرسله محمد علي إلى سوريا للتحقيق في حوادث الاعتداء على دور القنصليات
23
بتقرير شنيع وقاس، وقد أيده فيه مندوب القناصل العموميين الذي ذهب لمرافقته في مهمته، وفي التقرير أن معظم التراجمة الملتحقين بالقنصليات هم جماعة من أغنياء التجار ليس في استطاعة أحدهم أن يؤدي للقنصل وظيفة الترجمة؛ لأنهم لا يعرفون لغة أخرى غير اللغة العربية، ثم إن الجنود الانكشارية كانت لهم ركالين، وانخرطوا في سلك التجارة. هذا إلى أن الكتاب العموميين صاروا تجارا وبعضهم كانت له ثروة ضخمة، وكان الكثيرون من هؤلاء الموظفين «بالاسم فقط» لا يضطلعون بواجباتهم؛ إما لأن مرتبهم أسمى من أن يسمح لهم بذلك وإما لأنهم كانوا عاجزين فعلا عن أداء هذه الواجبات، ولكنهم كانوا مع ذلك يدفعون مبلغا طائلا في مقابل الوظائف التي يشغلونها، وبخاصة لأن الحماية المعطاة لهم من القناصل لم تكن قاصرة على أولئك الموظفين وحدهم، بل كان مفعولها نافذا على أسرات هؤلاء الموظفين وخدمهم أيضا.
24
وقد قدم كامبل نفسه أدلة معينة وصلت إلى علمه تثبت سوء استعمال الامتيازات؛ فلقد رأى في بيروت في سنة 1836م أن القنصل البريطاني كان يحمي شحنة من القمح تبين فيما بعد أن أحد اليونانيين أرسلها إلى آخر؛ فلما أشار القناصل العموميون في الإسكندرية بناء على شكاوى محمد علي المشروعة بتحديد
25
هذه الحمايات الرباحة في نفس الوقت الذي كان يبشر بأن تدر من الربح أضعاف أضعاف ما كانت تدره في الماضي، تألم القناصل غاية الألم لسخر القدر هذا؛ فلقد كان من رأيهم أن أيام سوء الإدارة التركية منذ كان في استطاعة أي شخص من رعايا تركيا المسيحيين أن يحصل (لأي اعتبار من الاعتبارات) على الجنسية الروسية أو الفرنسية أو البريطانية أعود بالربح وأضمن للمكسب من نظام الإصلاحات البعيد عن المكسب الذي جلبه لهم محمد علي من مصر، فلم يكن عجيبا أن نرى في تقاريرهم صورة لإحساساتهم المحزنة وأيديهم الخالية من الذهب.
وكثيرا ما رأى كامبل نفسه مضطرا إلى الإشارة إلى ولع بعض أولئك القناصل ورغبتهم الشديدة في انتهاز كل تافه من الأمور، يحتمل أن تغضب حكومة جلالة الملك على نائب السلطان، كما أنهم كانوا يتحادثون من آن لآخر عن امتيازات لم يكن لها وجود في يوم من الأيام؛
26
فلقد طلبوا أن التراجمة الإنجليز ومعظمهم من سكان شرقي البحر المتوسط، مما لم يكن لهم سوى حظ بسيط من التعليم - فضلا عن صفة النسب - يستقبلون بنفس مظاهر الإكرام كما يستقبل التراجمة الفرنسيون، وقد كانوا من الأوروبيين المثقفين الذين يعملون في وظائفهم باسم مليك بلادهم وهم مرشحون مع الزمن للترقية في السلك القنصلي،
27
لا بل إن أحدهم ذهب إلى حد تقديم عريضة مزورة وبأسماء مصطنعة ضد ولاة الأمور المصريين دافع فيها عن مساوئ لا سبيل للدفاع عنها.
28
وإلى جانب ذلك كله لم تمر على القناصل الوسائط الملائمة التي يتصلون عن طريقها بالسفارة البريطانية في الآستانة؛ فقد كان الترجمان الثاني بشارد وود صهر المستر مور القنصل البريطاني في بيروت، ويمكن الحكم على مزاجه بالحادث الآتي: «فبينما كان كامبل يجوب أنحاء سوريا في سنة 1836م التقى بهذا الرجل وسمعه يقص عليه حكاية تشمئز منها النفوس عن فظائع إبراهيم في قمع ثورة كانت قد نشبت حديثا، وبخاصة إحراقه ما لا يقل عن ثلاثين قرية لم يبق لها أثر.» فسأله كامبل عن أسماء تلك القرى فأرتج الأمر على مور ولم يحر جوابا، فهل رأى القنصل هذه القرى المحروقة؟ ... كلا؛ بل سمع بها فحسب. وقد أصاب كامبل عندما طلب إلى القنصل مور أن يتثبت من صحة الرواية، ومع أن مور لم يستطع التثبت منها؛ فإن صهره وود أبلغها إلى السفير بونسيني في الآستانة باعتبارها حقيقة لا ريب فيها.
29
وليس من شك في أن هذه التقارير الواردة من القناصل كانت على اتفاق مع حالة بالمرستون العقلية، وهي التي أصبحت مشتتة من جراء ما وصفناه لك في الفصل السابق عن تضارب السياسة، ثم انقلبت إلى ثورة غضب بما كان يهدد سلام أوروبا من الخطر الكائن فيما بين السلطان ومحمد علي من علاقات متوترة؛ لهذا كان نظره إلى الموقف الأوروبي وارتيابه في حقيقة إصلاحات محمد علي يدفعانه إلى تأييد السلطان ضد الباشا.
أما خطة فرنسا فكانت تختلف كل الاختلاف عن موقف إنجلترا؛ ذلك لأن فرنسا لم تكن تنظر إلى الإمبراطورية العثمانية باعتبارها كعبة مقدسة لا يصح قص شيء من أطرافها، بل لم تتردد في قطع الجزائر منها.
وفي حين من الأحيان لم تحجم فرنسا عن إرسال وزير مفوض إلى الإسكندرية رأسا، كما أن لويس فيليب أشار في محادثة خاصة إلى استقلال محمد علي بأنه أمر لا بد من تحقيقه مع الزمن.
30
ولقد سبق لفرنسا أن قدمت إلى محمد علي ما يحتاجه من الضباط لجيشه ولأسطوله كما قدمت ما طلبه من الخبراء لمصانع البوارج والترسانات المصرية.
ثم لا ننسى الممولين الفرنسيين الذين زودوه بالقروض.
31
وكانت علاقة قنصل فرنسا العام بالباشا علاقة ودية وثيقة. وإذا كانت فرنسا بحثت كإنجلترا في الاحتفاظ بسلام أوروبا؛ فإنها كانت تختلف عنها إلى تحقيق ذلك السلام بمنع السلطان من مهاجمة محمد علي بدلا من منع محمد علي من تقوية نفسه ضد مولاه التركي؛ ولهذا كانت الخطوة الأولى في برنامجها أن تصلح السلطان مع الباشا، وبهذه المناسبة كتب المسيو ميمو قنصل فرنسا العام يقول: «إن من واجب فرنسا أن تؤلف بين شقي الإمبراطورية.» وفي خلال سنة 1836م أرسلت إلى السفير الفرنسي في الآستانة تعليمات يعرض فيها وساطته لمصلحة الفريقين، والظاهر أن الفرنسيين كانوا على استعداد لضمان مركز محمد علي طول حياته في مقابل تخفيض جيشه وأسطوله بمقدار النصف، وهذا يساعد الباب العالي بدوره على احتذاء حذو الباشا.
32
وفي اليوم الذي سافر السفير في مسائه إلى باريس لمباحثة الميوتير ودارت فيه المباحثة بين قنصل فرنسا الجنرال ومحمد علي، أعلن السفير للرئيس أفندي بأن على الباب العالي أن يعدل عن خطته العدائية نحو باشا مصر،
33
وكانت نتيجة هذه الاقتراحات وما دار من المباحثات الغامضة بين السلطات الفرنسية والباب العالي ومندوبي محمد علي
34
أن تم الاتفاق على إرسال صارم أفندي على رأس بعثة خاصة إلى مصر. ولم يكن هذا العمل إلا مثالا آخر على سوء نية الباب العالي المعلومة، ففي الوقت الذي كان يتظاهر فيه بتنفيذ رغبات فرنسا شرع (وربما بالإخلاص نفسه) في أن يكتب لوزيره في لندن بأنه يعمل على ترضية السفير الفرنسي بدون كشف نوايانا، وأن بريطانيا هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن تعتمد تركيا عليها.
35
وعندما وصل صارم إلى الإسكندرية تبين لمحمد علي أنه إنما جاء لتملقه ومعرفة طوايا نفسه. وبعد يومين من خروجه من الكورنتينا التي فرضها الخوف من انتشار الطاعون على كل وارد من الآستانة استقبل محمد علي المستر كامبل، وانتقل بهما الحديث إلى ما تتناقله الألسن عن نوبات الجنون التي تصيب القيصر نقولا، ثم استرسل الباشا فقال: «لست أعتقد أنه هو الملك الوحيد الذي يصاب بهذه النوبات؛ فإن مليكي لا يلوح عليه أنه سليم في عقله.» فقد أرسل مندوبا للاتفاق على التعاون بين القاهرة والآستانة دون أن يزوده بالسلطة الكافية لعرض شروط معينة،
36
وفي المناقشات التي دارت بعد ذلك التاريخ اقترح صارم استبقاء مصر وعكا، ولكن الباشا أصر على أن يكون العرض شاملا لكافة الممتلكات التي تحت يده،
37
ولذلك باءت البعثة بالفشل التام كما أراد ديوان الآستانة ذلك، ولكن العقبات التي تحول دون الوصول إلى تفاهم شامل قد أصبحت الآن أشد وضوحا،
38
وهكذا بقي سوء نية الآستانة على حالة لم يغيره شيء.
ولم يخف على أحد الدور الذي لعبته فرنسا في هذه المحاولة العقيمة؛ فلقد كان السائد في الأفهام أنه لولا تشجيعها لمحمد علي وتأييدها إياه لكان اهتمامه باقتراحات بالمرستون أشد وأكثر. وفي الحق أن فرنسا كانت شديدة الحرص على تحذير محمد علي مما كانت تعتقد أنها سياسة عدائية مطردة من ناحية بريطانيا،
39
ولعل سياسة ميترننج كانت ترمي إلى إثارة شكوك بريطانيا في خطط فرنسا؛ لذلك كان مندوبوه يضعون تحت تصرف زملائهم البريطانيين كل ما كانوا يستطيعون اكتشافه أو سرقته أو اختلاقه في هذا الصدد. فمثلا لم يكتف دي لوران قنصل النمسا الجنرال بأن يبلغ كامبل فحوى رسائله إلى وزارة الخارجية، بل أبلغه كذلك الوقائع التي «حملها» من القنصلية الفرنسية، وقد أطلع كامبل مثلا على خطاب بعث به الكولونيل سيف إلى ميمو وعليه توقيع ميمو وملاحظاته على الهامش، وقد كتبت بخطه
40
على أن سياسة فرنسا لم يكن يعرقلها خداع الأتراك وحده أو مشاغبة الأجانب ممن ألفوا الصيد في الماء العكر. كلا؛ بل إن عدم خضوع مندوبيها للنظام المركزي - كما أظهر ذلك مندوبوها في الشرق في أكثر من مرة - جعل أمثال سفيرها «روسان» في الآستانة أو «سبستياني» سفيرها في لندن يتمسكان بآراء تتنافى كلية مع آراء حكومة باريس.
41
وأخيرا لما تبين لمحمد علي في سنة 1838م أنه لم يفد شيئا من نوايا فرنسا المنبعثة عن الإخلاص، عول على أن يدفع الأمور حتى تؤدي إلى النقطة الحاسمة، وقد خيل للسفارة البريطانية في الآستانة أن قرار محمد علي هذا كان بإيعاز روسيا. ولقد رسخت هذه العقيدة في نفس السفارة المذكورة واستقرت عدة سنوات، وهناك ما يحمل على الظن بأن الذي أوجد هذه الفكرة وساعد على رسوخها هم جماعة القنصل
42
الذين من أصل «ليفانتي» ممن أغاظهم حكم محمد علي. أما كامبل فلم يصدق تلك الفكرة، بل هزأ بها وبين أن صحة هذه الحكاية مشكوك فيها، ولا يمكن التوفيق بينها وبين استدعاء قنصل روسيا الجنرال قبل إتمام سلسلة دسائسه ولا بين قلة الزيارات التي يقوم بها خلف ذلك القنصل لمحمد علي،
43
وكانت معلومات كامبل في هذه المسألة كما في غيرها من المسائل الخاصة بمصر أصدق واستنتاجاته أدق من معلومات واستنتاجات سفيرنا الهوائي المتصرف.
44
أما الذي ساق الباشا في الظاهر إلى أن يخطو الخطوة الثابتة، فلم يكن إيعاز السياسة الروسية الخداعة ولا تأثير من رجال السياسة في سان بطرسبرج، كلا بل الذي حفزه إليها ما كان يبديه نحوه التجار البريطانيون والفرنسيون من الميول الطيبة الصادرة من نفوس مخلصة. ولقد سبق أن بينت للقارئ مبلغ أسفهم لأن محمد علي لم يسمح له بأن يضيف بغداد إلى أملاكه. ولقد كان يمكن تعليل هذه الميول بأنها رغبات تنم عن الجهل من رجال يتاجرون في ظل نظام قائم على الرشوة وعدم الكفاية، ولكن رغباتهم هذه لم يكن يشاركهم فيها تجار بغداد الأوروبيون وحدهم، بل شاركهم إياها تجار القاهرة والإسكندرية، بل كانت هذه رغبة شركائهم ومراسليهم في لندن وباريس ومرسيليا. نعم؛ كان الباشا مولعا باتباع نظام الاحتكارات، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن العدالة المطلقة والنظام لم يستتبا في جهة من جهات شرق البحر المتوسط كاستتبابهما في الجهات التي كان يحكمها محمد علي. وبالجملة، فإن حكومته كانت الحكومة الوحيدة التي كان يمكن المساومة معها بشيء من الاطمئنان. ولقد كان التجار الفرنسيون والبريطانيون - بقطع النظر عن الاختلاف بين حكومتهم - على اتفاق في تمنيهم بأن يظل حكم محمد علي قائما إلى ما شاء الله، فمثلا «واجهورن» مندوب القفل بالترانسيت عن طريق السويس قد أكد للباشا على ما يظهر بأن بريطانيا سوق تعترف باستقلاله
45
كذلك فأمر التجار الإنجليز أن يغادروا القاهرة والإسكندرية عند انسحاب قنصل بريطانيا الجنرال، وعندما شرعت الجنود البريطانية في مهاجمة إبراهيم باشا في سوريا، ولما خمدت القلاقل في سنة 1842م تشكلت في لندن لجنة مخصوصة للتوصية على صنع مدالية ذهبية كتذكار للحماية التي «قدمها الباشا بنبل» إلى الإنجليز المقيمين في مصر،
46
هذا في حين أن قنصلنا الجنرال كان يشعر بكثير من الحيرة عندما طلب إليه أن يقدم إلى الباشا خطابا موجها إليه من الغرفة التجارية في بنغال يتضمن عبارات الاغتباط بالمثل الحسن الذي ضربه للأمم المسيحية، وكان له خير وقع في النفوس.
47
فينبغي في نظري - التماس العذر لمحمد علي إذا اعتقد خطأ أن اتجاه الرأي العام في مسألة من المسائل لا يمكن إلا أن يترك أثره في موقف الحكومة الشعبية.
من أجل هذا رأى محمد علي أن يطالع قنصل بريطانيا العام وزميله الفرنسي في 25 مايو سنة 1838م، ثم من بعدهما قنصلي النمسا وروسيا بتصريح رسمي أبلغهم فيه أن رأيه استقر على أن يعلن نفسه مستقلا عن السلطان، وقد ذكر سببين لتسويغ خطته هذه؛ السبب الأول: مراعاة مصالح أسرته، والسبب الثاني: صيانة الإصلاحات التي أدخلها. ولقد روى كامبل عن محمد علي أنه قال: «إنه لا يسعه أن يوافق على أن تضيع تلك الغاية السامية التي وضعها نصب عينيه، أو أن تعود إلى الباب العالي بعد انتقاله إلى الدار الأخرى كافة ما أنشأه من التأسيسات النافعة ذات الأكلاف الضخمة كالترسانة والأسطول والسفن التجارية ومصانعه المزودة بالماكينات الأوروبية والعمال، سواء الأوروبيين أو المصريين الذين أنفق عليهم ما أنفق في سبيل تعليمهم في أوروبا.» ثم إن المدارس العديدة النافعة والمعاهد الأدبية التي أسسها على النظام الأوروبي البحت، وما فتحه في سوريا من مناجم الفحم والحديد، ولا ما أنشأه من الطرق والترع في مصر، وأنه سوف يتألم عندما يحس أن كافة ما قام به من ضروب الإصلاح كان كله لحساب الباب العالي الذي سوف يترك تلك الإصلاحات تلعب بها يد الخراب والتلف، هذا بينما أن أسرته وأولاده وأحفاده قد يكونون عرضة للحاجة والعوز وبل وقد يتخطفهم النطع واحد بعد واحد.
على أن اقتراح محمد علي هذا كان نصيبه الاعتراض الشديد من جانب فرنسا وبريطانيا، ولقد صدرت التعليمات إلى القنصل كوسيليه أن يبلغ الباشا «بأن دولتي إنجلترا وفرنسا اعتزمتا الالتجاء إلى القوة إذا ما اقتضى الحال ذلك لحمل الباشا على البقاء داخل حدوده كتابع لسيده السلطان.» أما كامبل الذي قدم كثيرا من النصائح الأدبية، فقد طلب إليه أن يعرف الباشا بقلق الوزارة البريطانية، وهو قلق مصحوب بالرجاء بأن يعمل الباشا على الوصول إلى قرار أحكم من القرار الذي صمم عليه، ولكن كان لا يزال هناك أمل بأن تنفض الأزمة دون أن تؤدي إلى انفجار، وقد خشي وقتئذ أن يظهر الأسطول التركي أمام الشواطئ المصرية؛ لأن محمد علي أعلن للملأ أن الأسطول المذكور لو جاء فعلا إلى المياه المصرية لما تردد الباشا في الكر عليه وإبادته بنفسه، وإذ ذاك بادر بالمرستون إلى اقتراح أن يطوف الأسطول التركي تصحبه العمارة البحرية الإنجليزية المرابطة في البحر المتوسط بجهات البحر المذكور، وأن يذهبا حيثما شاءا.
وقد رمى بهذا الرأي إلى تهدئة خاطر فرنسا والباشا من ناحية، وأن يبين لهما أن الأسطول التركي لم يترك موانئه إلا للتمرين والتعليم فقط، بينما كان غرضه الحقيقي أن يظهر للملأ ما بين تركيا وبريطانيا من صلات ودية وثيقة العرى.
48
وتسلم الباشا في الوقت نفسه الردود الباعثة على اليأس والقنوط، مع كثير من رباطة الجأش وضبط النفس، ولم يزد على قوله إنه لا يستطيع الرجوع فيما اعتزمه، بل يؤمل أن تقف منه الدول العظمى موقف أقرب إلى العدالة والإنصاف،
49
ويغلب على الظن أن آماله وقتئذ تزلزلت في إمكان وصوله إلى تفاهم مع الباب العالي يسد عليه طريق الأسباب الفنية التي من أجلها تقاوم الدول اقتراحاته، ولم يكن هناك أي شيء في أن للمال في الآستانة قوة وسلطانا على النفوس أكثر مما له في أي عاصمة أوروبية أخرى، وكان الباشا قد أراد جس النبض أولا فسأل «ميديم» قنصل روسيا الجنرال كما سأل كامبل عن موقف حكومتيهما فيما لو تمكن من إقناع الباب العالي بالاعتراف به كحاكم مستقل، أو أن يكون وراثيا في أسرته.
ولكن جواب القنصلين لم يكن باعثا على الأمل،
50
أما الفرنسيون فكان ردهم أشد عطفا من زملائهم؛ فلقد كانوا في مستهل العام التالي ما يزالون منهمكين في محاولة حمل الباشا على الكف عن الأعمال العدائية، وذلك بتعليله بالوصول إلى اتفاق مع السلطان يضمن مركز سلالته في المستقبل،
51
ولكن هذا الاقتراح لم يكن بالمرستون ميالا إلى قبوله ما لم يوافق الباشا على التنازل عن الجزء الأكبر من سوريا.
52
فلما اطمأن السلطان محمود إلى موقف الدول العظمى حياله وقوي أمله في حمايتها له فيما لو دارت عليه الدوائر استقر رأيه على إشعال نار الحرب التي كان يعد عدتها من زمن طويل. ويغلب على الظن أن مندوبي روسيا لعبوا الدور الأكبر في أعمال التحريض على أمل أن تدور دائرة الحرب على الأتراك فيلجأوا إلى طلب المساعدة من روسيا وإرسال نجدة من جيوشها إلى الآستانة،
53
وفي شهر فبراير نمى إلى علم بونسيني أن السلطان محمودا قد اعتزم إعلان الحرب في الربيع؛
54
فلقد رددت الألسن أنه أرسل أمرا إلى مجلس وزرائه، قال فيه: إن الصار عسكر حافظ باشا قد صرح بأن جيشه في حالة تضمن له التغلب على جيش محمد علي، وأن قبطان باشا أعلن بأن الأسطول التركي في وسعه سحق الأسطول المصري، وأنه ينتظر بناء على ذلك أن يبدي مجلس الوزراء ما يلزم من الشجاعة والحزم في أداء الواجب،
55
ولقد ظل حافظ باشا يلح ومعه ضباطه الألمان ليبدأ الزحف ضد جيش إبراهيم باشا في سوريا،
56
وفي شهر أبريل عبر الأتراك نهر الفرات أمام «بير»، وانقضى شهران دون أن يحدث ما يستحق الذكر، وهنا طلبت روسيا من فورها أن ينسحب جيش إبراهيم إلى دمشق ووعدت عند موافقة إبراهيم أن تحمل السلطان على الانسحاب من الحدود السورية،
57
فأجاب الباشا بأن إبراهيم سوف ينسحب بمجرد عودة الأتراك إلى ما وراء الفرات، وأنه إذا ضمنت أربع من الدول العظمى ألا يهاجمه الباب العالي، وأن تؤيد رغبته في أن يكون الحكم وراثيا في أسرته؛ فإنه يسحب بعض جنوده من سوريا نهائيا،
58
وهنا أرسلت فرنسا إلى السلطان محمود رسالة طلبت فيها منه اجتناب الأعمال العدائية، وأعلنت أنه إن لم يرتد حافظ باشا إلى ما وراء الفرات؛ فإنه يعتبر الفريق المعتدي،
59
وطلبت من محمد علي في الوقت نفسه أن ينسحب أيضا،
60
ولم ينتصف شهر يونيو بعد أن يئس الباشا من طول الانتظار للحصول على حل مرض، بينما كان القائد التركي يحاول إثارة الفتن فيما وراء جيش إبراهيم حتى أعلن أنه لم يعد يسعه الصبر على إطلاق الحرية لولده.
61
وفي باكورة صباح 24 يونيو، أي بعد الفجر بساعتين، بدأ إبراهيم بمهاجمة معسكر حافظ باشا في نصيبين.
ولقد أسهب الضباط الألمان في ذكر الأسباب التي كان ينبغي بمقتضاها أن يكسب الأتراك هذه الملحمة التي كانت أشبه باندحار تام منه بمعركة؛
62
لأن إبراهيم استولى على كافة مدافع خصمه وخيامه وأوراقه، أي إن الجيش التركي ذاب ذوبان الجليد تحت أشعة الشمس.
على أن الفوز الباهر قد اكتمل بنبأين آخرين يبعثان على السرور؛ ففي أول يوليو وردت الأنباء بانتقال السلطان محمود إلى الدار الأخرى.
63
فلقد زادت همومه مما أصابه من خيبة أمل مقرونة بالقلق، وكان رئيس قسم الملابس قد لاحظ قبل ذلك بأشهر تهدل ثياب مولاه، فأوعز إلى الترزي بأن يضيقها قليلا حتى لا تلوح فضفاضة على هيكل سيده الذابل،
64
وقد ظل السلطان يرقب ما يجري من التأهبات لمهاجمة محمد علي بكثير من اللهفة المتواصلة، حتى لقد قيل إنه كان يخفف من قلقه بتناول المشروبات الروحية المحرمة؛ فلقد حولته كراهيته العنيدة إلى عدو خطير. لذلك كله كان من حق باشا مصر أن يغتبط بوفاة خصمه، ولقد خلفه على أريكة السلطنة ابنه الأكبر عبد المجيد، وهو فتى في السادسة عشر من عمره وقد نشأ في الحريم وكان له أصدقاء أخصاء ثلاثة، وهم خصيان أسودان وقزم،
65
وبديهي أن عناء محمود، وإن لم يلطف من حدته إلا بعض طفرات من الذكاء إلا أن مجلس شورى الإمبراطورية لا بد أن يصيبه الوهن والضعف ما لم يجد إرشادا من الخارج.
وبينما كان الناس لا حديث لهم إلا فوز إبراهيم الباهر ووفاة السلطان محمود، إذا بالأسطول التركي قد ظهر في مياه الإسكندرية لا ليطلق قنابله عليها، بل ليعلن انضمامه إلى محمد علي. ولقد تبادر إلى أذهان الكثيرين من الناس أن هذا الانضمام كان نتيجة رشوة، ولكن هناك أسبابا تكفي بنفسها لتعليل سلوك القومندان قبطان باشا؛ فلقد صدرت الأوامر إلى أحمد مشير قومندان الأسطول بالذهاب إلى شاطئ سوريا لمعاونة حافظ باشا في مساعيه لإيقاد نار الفتن ضد محمد علي، وقد زود لتحقيق هذه الغاية بنحو 6000 من البحارة.
66
ولكنه ما كاد يعبر الدردنيل حتى تلقى أوامر جديدة بالذهاب إلى رودس، فأثار هذا العمل هواجسه، وإنه علم من الكابتن الذي جاءه بالأوامر المذكورة أن النية باتت معقودة على تجريده من القيادة عند وصوله إلى رودس واستدعاء الأسطول إلى الآستانة، فجمع ضباطه وأعلن فيهم أنه مقتنع تمام الاقتناع أن خسرو باشا يعتزم تسليم الأسطول التركي لروسيا، وأنه في هذه الحالة يؤثر الانضمام إلى محمد علي، فأقروا هذا الرأي بالإجماع،
67
وكان قبطان باشا من ألد أعداء خسرو، ولما لم يكن هناك ريب في أن وفاة السلطان محمود ستعزز مركز خسرو وتضاعف نفوذه، فقد كان طبيعيا أن يذهب أحمد مشير إلى الإسكندرية، ويقترح على ضباطه الانضمام إلى محمد علي عسى أن يؤدي تعاونهم جميعا إلى القضاء على خسرو عدوهم المشترك؛ فالشيء الذي كان يحتمل أن يعتبر في أي دولة أوروبية بمثابة عمل ينطوي على الخيانة كان في السياسة التركية يعتبر دليل الفطنة المقرونة بأصالة الرأي وبعد النظر.
وبهذه المناسبة كتب كامبل يقول: «ولا أعرف شخصا تركيا ... ولم يصدر في كافة أعماله من غير مصلحته الشخصية، أو كان مدفوعا بغاية أخرى عدا شهوة الحكم ورغبته في القضاء على خصمه الشخصي.»
68
ولقد كان من نتائج تسليم الأسطول أن أصبحت لمحمد علي الكلمة العليا وأن يفعل كما يشاء، وكيف لا ولم يكن ثمة ما يحول دون زحف إبراهيم على البوسفور بطريق البر، بينما احتشد الأسطول التركي والمصري أمام الآستانة؟! ولم يخامر بونسيني أي شك في أن قلاع الدردنيل سوف لا تصمد لمقاومة الأسطولين بالهمة المطلوبة، وأن الأمر سيؤدي إلى تشكيل حكومة جديدة في العاصمة التركية يكون لأصدقاء محمد علي الرأي الأعلى في كيفية إدارتها.
69
ولكن الباشا مع ما فطر عليه من حب الاعتدال لم يشأ الذهاب إلى هذا الحد البعيد، فما كاد يسمع بوفاة السلطان محمود حتى أصدر أوامر إلى ابنه إبراهيم بوقف رحى القتال. وفي اليوم التالي لوصول أحمد مشير إلى الإسكندرية أرسل خسرو مندوبا خاصا إلى محمد علي يحمل خطابا رسميا بارتقاء السلطان عبد المجيد الأريكة السلطانية، وكانت لهجة الخطاب ودية. وصفح السلطان الجديد عن سلوك الباشا نحو أبيه الراحل ووعد بأن يغدق عليه النعم وأن يوليه ملك مصر وملحقاتها على أن يكون ذلك ميراثا بين أفراد أسرته، وأخيرا ناشد الباشا أن يساعد على ترقية الإمبراطورية وزيادة رخائها ويسرها.
70
على أن هذه الشروط الإجمالية لم يكن يحتمل أن يقنع بها محمد علي أو تجعله راضيا عنها، ولكنه كان واثقا بأن في استطاعته الآن تحقيق ما كان يطمح إليه؛ وهو جعل حكم البلاد الخاضعة له وراثيا في ذريته؛ ومن ثم أخذ يصرح أمام الملأ بعزمه على الذهاب إلى الآستانة لإعلان ولائه الشخصي للسلطان الفتى.
ولكن الوزراء العثمانيين، كما كتب بونسيني «رجال أخساء حقراء»؛ فإن خسرو الذي يجري النفاق في عروقه ولا يعرف معنى الشرف والأمانة أرسل إلى مصر سلسلة خطابات أخرى عدا الخطاب الودي الذي أرسله إلى الباشا؛ فقد كتب إلى أربعة من كبار ضباط الأسطول يأمرهم بالقبض على قبطان باشا وإحضاره إلى الآستانة.
وإذ ذاك تقبل محمد علي هذا التحدي من فوره وكتب إلى خسرو يأمره باعتزال منصبه بعد أن أصبح من المستحيل الوثوق به من كبار رجال الدولة ولا من الأمة بصفة عامة،
71
وزاد على ذلك أن أرسل منشورا إلى كافة باشوات الإمبراطورية ناشدهم فيه المساعدة للتخلص من هذا الصدر الأعظم الخسيس الذي لم ينتفع بسلوكه لا العرش ولا الأمة، بل كان سبب كل ما نزل بالدولة من الرزايا والمصائب مدة سنوات طويلة.
72
واستولى الهلع على قلوب الناس في الآستانة وتولاهم الجزع، ورأى خسرو أن المخرج الوحيد لنجاته من الخطر المنتظر هو النزول على إرادة الباشا وتلبية مطالبه بجعل حكم البلاد التي في قبضته وراثيا في ذريته.
وما كاد أن يتم وضع هذا القرار حتى كان وزير النمسا المفوض قد تلقى من ميترنج تعليمات من شأنها أن تغير الموقف ظهرا لقلب، فلقد كان الموقف في نظر وزير النمسا - كما كان في نظر صولت في باريس أو بالمرستون في لندن - ينذر باحتمال تدخل الروسيا بمقتضى معاهدة أونكيار سيكيليس؛ ولذا صدرت التعليمات لممثل النمسا بأن يخاطب ممثل فرنسا وبروسيا وروسيا وبريطانيا العظمى للاشتراك معه في تقديم مذكرة إلى الباب العالي يصارحونه فيها بأن الاتفاق بين الدول الخمس العظمى أضحى مضمونا، وأن الباب العالي يحسن صنعا إذا لم يبت في أمر من الأمور بدون استشارة الدول العظمى، وقد أمضيت المذكرة في نفس اليوم الذي وصلت فيه التعليمات وسلمت إلى خسرو في باكورة اليوم التالي،
73
وكان من شأن هذه المذكرة أن تشجع خسرو على نقض القرار الذي كان قد استقر عليه رأيه. وفي يوم 6 أغسطس أرسلت إلى محمد علي مذكرة السفراء بناء على طلبهم فوجم لقراءتها وكانت ملامحه يبدو عليها القلق الناشئ على هذا التغير الجديد الفجائي. وكان بونسيني شديد الاغتباط بهذا التطور؛ فلقد كان مصابا بنوع من حمى كراهة روسيا؛ ولذلك كنت تراه يشتم رائحة الدسائس الروسية في كل ما يجد من الأمور، فلقد كان شديد الاعتقاد بأن مصر لا تخدم إلا مصالح روسيا. وقد انتقلت منه هذه العدوى إلى بالمرستون، وقد حدث في أوائل سنة 1836م أن محمد علي ارتأى تخفيض الرسوم التجارية المستحقة على البضائع الروسية، ولكنه لم يكن ميالا إلى معاملة البضائع الإنجليزية بالمثل، وقد اعتبر عمله هذا مؤيدا لما كانت تتناقله الألسن بأن هناك تفاهما وثيقا بين الباشا وبين الحكومة الروسية، وأنه يتضمن من الأمور أكثر مما اعترف به أحد الفريقين إلى الوقت الحاضر، وقد أصبح ما يفعله الباشا من الآن فصاعدا يعتبر خطأ بأنه بإيعاز روسيا، ولقد قيل إن هناك معاهدة بينه وبين روسيا وفارس.
وإن روسيا كانت تؤيد وجهة نظره وإن حزبا جديدا قد تألف لإسقاط خسرو بمساعدة روسيا، وعبثا حاول كامبل أن يبين سخف هذا الزعم مستعينا بكل ما كان يخطر له من الخواطر والنظريات.
ومن المدهش أن سفيرنا الحاد الشم لم يحس شيئا يدعو إلى الاستغراب في مبادرة السفير الروسي إلى توقيع المذكرة المشتركة ما دامت الغاية المزعومة التي يرمي إليها هي المحافظة على الحالة الخطيرة القديمة ليتمكن من تحقيق المآرب الروسية.
كان أول ما استقر عليه الرأي هو غل يد الباشا عن العمل، بينما كانت أوروبا منهمكة في بحث الحالة من جميع نواحيها. وقد اتفق رأي فرنسا وإنجلترا في هذه المسألة، حتى إن القنصل الفرنسي حذر محمد علي بأن العمارتين الفرنسية والإنجليزية قد تستخدمان سويا في تنفيذ إجراءات الضغط. ولقد كتب بالمرستون إلى كامبل يقول: «وينبغي أن يفهم الباشا جيد الفهم بأنه ليس في مركز - لا من الوجهة الجغرافية ولا من السياسية، بل ولا من حيث الاعتبارات الحربية أو البحرية - يمكن أن يستطيع معه أن يتحدى بلا حساب أو عقاب حكومات أوروبا عامة والدول البحرية خاصة.»
ولقد كان مما استرعى الأنظار حقا أن قررت وزارة الخارجية استدعاء الكولونيل كامبل في تلك الظروف، وكان قد ظل في منصبه في مصر منذ سنة 1833م فأتيح له في خلال وجوده في القاهرة أن يشهد سياسة الباشا عن كثب وتطوراتها في الداخل والخارج، هذا إلى أنه زار كافة أنحاء القطر المصري كما زار سوريا وكريت. وفي الحق أن كامبل لم يكن أحد المعجبين بالباشا إعجابا أعمى، بل بالعكس لقد انتقد سياسته في مناسبات مختلفة وانتقدها بشدة، ولكن أخلاقه المرضية تضاف إليها لهجته الجذابة في المخاطبة وما يتبعه وجوده من الهيبة، هذا إلى أصالة رأيه وحكمه على الأمور حكما صحيحا؛ كل هذه المزايا والصفات أكسبته حظوة ونفوذا كبيرا لدى محمد علي الذي أنزله منزلة الصديق الحميم، ولكن كامبل قد غفل عن مصلحته؛ لأنه حاول صد التيار السياسي في الوقت الذي كان يشتد فيه ضد الباشا. خذ مثلا على ذلك أنه سعى لتخليص بونسيني من الأوهام والخزعبلات التي كانت تشغل فكره عن علاقة روسيا بمحمد علي، كما أنه عمل على أن يبين لولاة الأمور بصراحة سابقة لأوانها أن اليهود والمسيحيين سوف يصيبهم المكروه فيما لو أعيدوا إلى حكم السلطان مباشرة،
74
ولم ينس له رؤساؤه اجتراءه على القول بأن الإمبراطورية العثمانية يمكن أن يعود إليها سابق تقدمها ويسرها فيما لو أبعد خسرو عن منصبه، ودعي محمد علي إلى التعاون في عملية الإصلاح.
75
وكان مما لا يمكن أن تطيقه النفس في عين الرؤساء الرسميين أن يلح كامبل بصفته الرجل الذي خبر شعب مصر وشعب سوريا وشهد بعينه مبلغ ما عمل من الأعمال النافعة الصالحة باختلاف رأيه عن الرأي الرسمي السائد وقتذاك بأن إصلاحات محمد علي لم تكن إلا إصلاحات جوفاء عارية، وكم كان استغراب أولئك الرؤساء؛ لأن كامبل لم تستول عليه الدهشة عند سماعه بطلب محمد علي أيضا على إبعاد خسرو عن كرسي الحكم وهي دهشة تشبه ما كان يصيبه لو أن لورد أو كانت طلب في ساعة غضب إبعاد لورد بالمرستون من وزارة الخارجية،
76
وفي شهر سبتمبر أبلغ بإيجاز أن بالمرستون ينوي أن يشير باستدعائه،
77
وهو أمر كان موضع تفكير الوزير منذ عام،
78
وكأنما أراد القدر الساخر أن لا ينقل إلى مالطة أثناء احتلال الجنرال كين لمدينة كابول إلا بالباخرة التي وضعها الباشا تحت إشارة الكولونيل كامبل.
79
وفي شهر ديسمبر سنة 1839م هبط القاهرة الكولونيل هودجز الذي عين خلفا للكولونيل كامبل،
80
وقد دلت الحوادث على أنه رجل حاد المزاج محب للشغب والنزاع، وكانت باكورة أعماله في منصبه الجديد المشاجرة مع مندوب مصلحة الطرود في الإسكندرية؛ لأنه فرض عليه رسوما بريدية طبقا للتعليمات الصادرة من مدير مصلحة البريد،
81
ثم راح يضع ثقته في شخص وكيل قنصل معين كان من شأن الروايات التي يذيعها أن تثير ثائرة القنصل الجنرال ووزير الخارجية أيضا.
وكانت أخلاقه كفيلة بأن تجعله موضع سخط القناصل جميعا، وقد رأى رؤساؤه قبيل إعادة فتح القضية العامة من جديد في سنة 1841م أن الحكمة تقضي بإرساله إلى حيث يمكن تلطيف مزاجه الحاد في جو هادئ كجو همبرج،
82
وحسبك دليلا على الاعتراف بما قدمه من الخدمات في أزمة 1840م أنه سمح له بقبول وسام قائد فرقة تركية.
83
ولنذكر هنا - لا على سبيل الحصر، بل على سبيل المثال - حادثين تافهين لهما أهميتهما؛ إذ يدلان كيف كانت الأمور بعمله غير مأمونة العواقب ومصحوبة بكثير من التهور وعدم الاعتدال. فلقد ذكر هودجز أن قنصل السويد العام حبذ عمل محمد علي في اعتقال الأسطول التركي، وفي الحال بدون انتظار وصول تفاصيل أخرى طلب بالمرستون إلى الحكومة السويدية استدعاءه، ولكن هذه الحكومة أصرت على معرفة الأسباب، وهنالك كتب بالمرستون إلى هودجز يطلب بعض تفاصيل ومناسبات تخدش سمعة القنصل وتحرجه في نظر حكومته، ولكن هودجز عجز عن تلبية رغبة رئيسه.
84
وفي الحادث الثاني سنة 1840م ذلك أنه وصلت إلى هودجز في 5 مايو رسالة خاصة بمحاكمة بعض اليهود في دمشق، وقد طلب إليه في الرسالة المذكورة أن يهول بما تركته «هذه الفظائع الوحشية» من آثار العار حول اسم حاكم يفاخر بأنه ممن يعملون على خدمة قضية المدنية،
85
وقد جاء في رسالة تالية وصف «لشعور السخط العام» الذي عم البلاد الإنجليزية من أقصاها،
86
وحسبك هذا دليلا على مبلغ الاستعداد وعدم التردد في تصديق أسوأ الإشاعات والأقاويل. أما الحادث المشار إليه فيتلخص في اتهام اليهود بذبح أحد المسيحيين لخلط دمه بالخبز غير المخمر. وقد كان الاعتقاد بوجود هذه الإجراءات سائدا في شرق شاطئ البحر المتوسط كما كان سائدا في أوروبا في العصور الوسطى، وقد قبض على المتهمين وحوكموا أمام المحاكم العادية وصدر الحكم عليهم، ولكن تبين لسوء الحظ هناك ما يدعو إلى الظن بأن شريف باشا، وهو الحاكم الذي عينه محمد علي في دمشق قد توخى الاعتدال في تصرفاته؛ ذلك أنه نزل على نصيحة مندوب القنصل الفرنسي.
وأدعى إلى الأسف من هذا أن القنصل البريطاني المستر «دري» لم يخطر له فقط أن البينة قد قامت على المتهمين بما اتبع من الإجراءات أثناء محاكمتهم، وراح يؤكد أن ما اتخذه شريف باشا من الإجراءات العاجلة قد أنقذ اليهود من مذبحة عامة يذهبون فيها ضحية السلب والنهب.
ولقد كان ما أبداه بالمرستون من القلق العصبي في هذين الحادثين نتيجة ما قام أمامه من المصاعب في سبيل الوصول بالمسألة العامة التي هي مثار النزاع إلى نتيجة مرضية؛ لأن الأمور قد جرت على خلاف ما كان يهواه، فإن الصعوبة الرئيسية المنتظرة كانت تدور حول حمل روسيا على التعاون مع الدول الأخرى ومنعها من توطيد مركزها بالانفراد بالعمل، ولكن تبين أن هذه الصعوبة بولغ فيها؛ لأن القيصر نقولا لم يكن شديد الميل إلى العمل بنصوص معاهدة أونكيار سكيليس، علما منه بأن عودة الروس إلى الآستانة ربما أدى إلى الاشتباك في الحرب مع إنجلترا، وربما مع فرنسا أيضا، هذا إلى أنه قد يؤدي إلى توطيد مركز محمد علي في الشرق الأدنى، وهي غاية بعيدة كل البعد عن تفكير القيصر، وفضلا عن ذلك قد بدأ دبيب الخلاف في الرأي يظهر بين بالمرستون و«صول» وزير خارجية فرنسا؛ فإن الأول أعرب عن رغبته في رد سوريا إلى حظيرة السلطان، بينما ارتأى الثاني إبقاءها في حيازة الباشا، فإذا ما عمد القيصر إذن إلى تأييد سياسة بالمرستون بدلا من الانفراد بالعمل، فإنه يكون بعمله هذا أدنى إلى تحطيم التعاون بين بريطانيا وفرنسا منه إلى توثيق عراه،
87
وهكذا استقر رأيه على إرسال البارون «برينون» في مهمة خاصة إلى لندن في سنة 1839م.
ولكن ما كادت هذه الصعوبة تتلاشى حتى قامت مكانها صعوبة أخرى؛ لأن بالمرستون كان شديد الميل إلى اجتذاب فرنسا إلى رأيه كما اجتذب روسيا إن أمكن، ولكن السياسة الفرنسية وقتئذ كما كانت قبل ذلك بعشر سنوات تتخللها المصاعب الجمة؛ فإن النظام الملكي الذي كان موجودا في شهر يوليو كان كالنظام الملكي السابق أضعف من ألا يكترث بتيارات الرأي العام المختلفة، وقد كان شعور الفرنسيين بصفة عامة إلى جانب محمد علي. ولا يفوتنا أن السياسة كانت وقتئذ كما كان شأنها في كل حين عرضة للتحول والتقلب بسبب المصالح القارية والاستعمارية المتشابكة؛ فالخوف من ألسنة الصحف جعل من الصعب على «صول» أن ينسحب من الموقف الذي كان فيه، وقد اعتزلت الوزارة التي كان عضوا فيها في نهاية فبراير سنة 1840م بسبب مسألة داخلية بحتة، وخلفه في منصبه البارون تير.
ونهج وزير الخارجية الجديدة منهج سلفه، ولكنه كان شديد العداء نحو بريطانيا، وكانت باكورة أعماله استئناف المفاوضات المنفردة مع الباب العالي وبين الباشا بواسطة المسيو بونترا سفير فرنسا في الآستانة؛ أملا منه في أن يواجه بريطانيا العظمى وروسيا بتسوية لا يسعهما أن يجدا سببا معقولا لنقضها أو تبديلها،
88
ويرجح أن يكون إبعاد خسرو عن وظيفته نتيجة هذه المساعي، وإذ ذاك قرر محمد علي من فوره إرسال سكرتيره الخاص سامي بك إلى الآستانة في مهمة خاصة، وكانت حجته الظاهرة في هذا التصرف رغبته في رفع التهاني بمناسبة ميلاد كريمة السلطان وتقديم هدية تذكر بهذه المناسبة، وهي إعادة الأسطول التركي،
89
وكان رد إنجلترا على هذا العمل أنها عقدت مع روسيا والنمسا وبروسيا معاهدة نص فيها على أن تكون مصر ملكا لمحمد علي وذريته من بعده، وأن يظل حكمه في جيبولي قائما مدة حياته فقط، بشرط أن يقبل هذا العرض في خلال عشرة أيام من وصول المذكرة إليه، أما إذا أظهر ترددا بطول أمده إلى 20 يوما فإن مصر وحدها تكون ملكا له ولذريته، وإذا ما رفض نهائيا فإن الدول الأربع تبادر إلى محاصرة الشواطئ المصرية، فإذا ما حاول الزحف على الآستانة فإن الدول المذكورة تتعاون في الدفاع عنها بناء على طلب السلطان؛ ومن ثم يستأنف العمل بالمادة الرابعة من النظام القديم للإمبراطورية العثمانية، وهي القاضية بإغلاق الدردنيل في وجه كافة السفن الحربية في أثناء وجود الإمبراطورية في حالة السلم، وقد أمضيت هذه المعاهدة في 15 يوليو سنة 1840م؛ وبذا نجح بالمرستون فيما كان يسعى إليه من إرباح معاهدة أونكيار سكيليس في اتفاق أعم ولكنه أخفق في الحصول على تعاون فرنسا.
وأثارت هذه الأنباء عاصفة من التذمر والاستياء في العاصمة الفرنسية، وأخذت الصحف الباريسية والوزراء بل وملك فرنسا نفسه يتكلمون كما لو كانت الحرب أصبح وقوعها لا مفر منه، ولكنهم كانوا يعلمون كما كان بالمرستون يعلم أن الحرب غير واقعة. وبهذه المناسبة كتب بالمرستون إلى هودجز يقول: «إن فرنسا لن تستطيع.» أي الباشا؛ أن تقدم له أي مساعدة ... ثم إن تعوزها الوسائل لتنفيذ عزيمتها فيما لو أرادت مساعدته.
نعم؛ إن لها 15 سفينة في البحر المتوسط، ولكن هذا هو كل أسطولها، ثم إن لها جيشا يبلغ عدده 60 ألفا يرابط في الجزاير، وهو في حاجة إلى عدد كبير من جنود الاحتياطي لسد النقص الذي «يسببه المدافعون الجزائريون والحمى»؛ فكيف يسع فرنسا في هذه الحالة أن تشتبك في الحرب مع أقوى الدول العسكرية في القارة الأوروبية.
90
وكان ثاني ما علل به المسيو تير نفسه من الآمال أن يستمر الحوار، وتظل المسائل معلقة بحيث لا يبت النزاع نهائيا ريثما يأتي الشتاء فتتفرق من الأساطيل المحاصرة وتقف حركات الجنود، وإذ ذاك يتمكن من تحطيم ذلك الاتفاق الذي عقدته الدول ويثبت نفوذ فرنسا من جديد، وإذا جعل هذه الغاية نصب عينيه فقد نصح للباشا بتقوية مركزه والتزام خطة الدفاع وعدم التزحزح قيد شعرة عن موقفه،
91
ولقد كانت نصيحته هذه أسوأ نصيحة يمكن تقديمها؛ إذ لا ريب في أن مواصلة الزحف بغتة على الآستانة ربما كان يؤدي إلى حدوث تطور أساسي يتمكن معه الباشا من الحصول على شروط مرضية وأدنى إلى تحقيق مآربه، أما أن يرفض شروط الحلفاء ثم يكتفي بمجرد المقاومة السلبية فقد كان معناه الهزيمة بعينها، وهذا هو أيضا نفس ما حسب بالمرستون حسابه؛ إذ قال: «إن فرنسا سوف تنتظر وتتحين الفرصة، حتى إذا ما استطاع محمد علي مقاومة الحلفاء أمدا طويلا عرضت فرنسا أن تتدخل في الأمر كوسيط، ولكن مهمة الدول الأربع تنحصر في تضييق الخناق على محمد علي بحيث لا تدع لفرنسا فرصة كالتي تعلل بها نفسها.»
92
ولقد ظل باشا مصر رافعا رأسه عاليا إزاء ذلك الاتفاق الدولي الخطير الذي كانت عراه تتوثق تدريجيا ضده، ولعل الأرجح أنه اعتقد أن من المستحيل أن تتفق فعلا كلمة الدول على خطة معينة للعمل في مسألة كانت على الدوام سببا في اختلاف تلك الدول وانقسامها بعضها على بعض أشد انقسام، وكان يعتمد على روسيا وفرنسا أن تلغيا عمل إنجلترا فيما لو قررت هذه أن تقوم بعمل ما، وعندما صدرت إلى هودجز التعليمات بأن يستحث ضباط الأسطول العثماني على أداء واجبهم بالالتفاف حول راية السلطان والخليفة
93
نهض الباشا واقفا من مقعده وأقسم بأغلظ الأيمان ليطلقن الرصاص على أول من تحدثه نفسه بالفرار؛ ومن ثم قرر هودجر أن الأصوب ألا ينفذ التعليمات الواردة له،
94
وإذ ذاك جندت أورطة جديدة، واستدعي الجيش من بلاد العرب وأنشئ معسكر قرابة 36 ألف جندي في دمنهور، وهو اختيار حكيم نظرا لتوسط مركز المدينة المذكورة، وقد تم هذا كله بنظام وترتيب لم يكن يعلم به هودجز.
95
ولكن هودجز نفسه بدأ يتأثر بطريقة معيشة ذلك الباشا المسن، كما بدأ يدرك مبلغ نشاطه وفرط ذكائه ، ولقد خشي إن هو تشدد معه أن يدفعه اليأس إلى إحداث انفجار عام «قد تنشأ عنه اتفاقات دولية جديدة أو تظهر فيه صوالح جديدة أو تسنح منه فرص يمكن أن تستخدم لمصلحته.»
96 «ولكن العام لم ينتصف حتى كان القلق الذي لا نهاية له قد بدأ يفعل فعله في صحة الباشا فلقد أثرت فيه نوبات الحمى والقلق.»
97
حتى إن القنصل العام الروسي عندما دخل عليه في أحد أيام شهر أغسطس ألفاه مستلقيا على الديوان في حالة نوم عميق، فأخبره محمد علي بأنه لم يذق طعم النوم لعدة ليال سويا. وبهذه المناسبة كتب القنصل المذكور: «إن حالة سموه الصحية تضاف إليها الآلام والعذاب التي كان على ما يظهر فريسة لها، هذا فضلا عما كان يبذله من الجهود للتغلب على روح السخط والتذمر التي نشأت عن موقفه الحاضر، ثم إلى جانب هذا الشعور المتناقض الذي يشعر به الرجل الذي بلغ الحلقة الثانية من العمر، ذلك الشعور الذي يعمل على هد القوى التي امتاز بها الباشا، إن هذه العوامل مجتمعة قد جعلت محادثاتنا مؤلمة إلى أقصى حد.»
98
ولكن الباشا برغم هذه العوامل كلها لم تفلت منه قدرته على القبض على ناصية الحال، كما لم تخنه مهارته في وزن الفرص وتقديرها، فلقد كان مثله كمثل المسيو تير؛ إذ أدرك بثاقب فكره أن الحلفاء لم يتوخوا السرعة في أعمالهم، وأن الحصار البحري متى أعلنوه لن يسفر عن نتيجة حاسمة مباشرة، وقد ارتأى له أنه يستطيع أن يعتمد لا على تأييد فرنسا المادي، بل على مساعدتها الأدبية. ثم إنه كان يعتقد اعتقادا جازما بأن شعور الجمهور الإنجليزي هو في صفة أكثر مما هو في صف الباب العالي؛ ولذا خيل إليه أنه إذا لم تأت طبق ما يشتهي فإنه يمكنه أن يضمن على الأقل أن يكون ملك مصر وراثيا في ذريته، أما لو تصدع التحالف من الناحية الأخرى لسبب من الأسباب فإنه قد يحصل على سوريا أيضا،
99
من أجل هذا أبى محمد علي عندما حضر مندوب الآستانة ورفع القناصل العموميون إلى الباشا مطالب الحلفاء أن يصغي إلى طنطنة
100
الكولونيل هودجز وبلاغة عباراته، وأصر على المطالبة ببيان كتابي.
101
ثم مرت الأيام العشرة الأولى بدون رد رسمي من جانب محمد علي، ولما أوشكت مدة العشرين يوما أن تنقضي عرض محمد علي قبول الحل الثاني، ولكنه أبى أن يؤكد موافقته على الحل المذكور بإطلاق سراح الأسطول التركي،
102
ثم انقضى الأجل المضروب، ولكن القناصل العموميين ما يزالوا يتباطئون في الإسكندرية، بالرغم من وصول الأنباء في يوم 7 سبتمبر بأن السلطان قد خلع محمد علي من كافة المناصب، وبالرغم من أن الأوامر قد صدرت من سحب القناصل العموميين،
103
وفي الواقع لم يبرح القناصل المذكورون الإسكندرية قبل يوم 23 سبتمبر.
104
ويرجح أن يكون بين الأسباب التي أخرت سفر القناصل رغبتهم في أن يرقبوا عن كثب سلوك قنصل فرنسا الجنرال ، وسبب آخر أنهم كانوا قليلي الثقة بعضهم ببعض، مثال ذلك أن إحدى البواخر وصلت من بيروت في يوم 7 سبتمبر، وما كادت تلقي مراسيها في ثغر الإسكندرية حتى أرسلت ما قيمته 5 آلاف جنيه من النقود التركية في قارب ترفرف عليه الراية البريطانية لوضعه على ظهر إحدى البواخر الإنجليزية التي كانت مرابطة في الثغر الإسكندري، ولكن قومندان الميناء وضع يده على القارب وعلى النقود؛ لأن القانون التركي يحظر تصدير الذهب، وهنا استولى الغضب على هودجز وتهدد من إنزال الراية من على داره وأدرك ممثلا الروسيا والنمسا أن هذا التصرف يحتمل أن يثير نزاعا بين الباشا وبريطانيا العظمى؛ مما تجد معه الثانية الفرصة سانحة للانفراد بالعمل دون الانتظار لتدخل حلفائها؛ ولهذا تدخلا في النزاع بقصد تسويته.
105
ومع أن هذا الحادث كان من أعمال التحريض فإنه لم يبلغ حدود الامتهان والإذلال الذي تحمله هودجز آخر أيامه في الإسكندرية؛ فقد كانت هناك مسألة البريد الهندي أيضا. فقد وصلت إلى هودجز قبل ذلك بأشهر عديدة تعليمات بأن يستفسر من الباشا عما ينوي اتخاذه حيال البريد المذكور فيما لو استعمل الضغط ضده،
106
وفي يوم 19 سبتمبر وصل البريد الهندي، وهنا وقع هودجز في حيرة شديدة وقام من فوره قاصدا الديوان راجيا ألا يعتدي أحد على البريد، فما كان من الباشا إلا أن هز رأسه علامة الإيجاب، ولكن القنصل العام طلب توكيدا على ذلك فرد عليه الباشا بأنه لا يجيبه إلى طلبه.
وهنا أبدى هودجز استغرابه ودهشته فلم يسع محمد علي إلا أن يرد عليه بحدة قائلا: «إن الدول التي تزعم أنها متمدينة قد شرعت في اتخاذ إجراءات قد ترغمني على أن أحتذي حذوها فيها.»
فلما طلب إليه هودجز أن يوضح ما يريده من هذه العبارة استطرد الباشا، فقال: «إن تصريحات تلك الدول لا يمكن الارتكان إليها والثقة بها.»
وهنا قال هودجز إنه لا يسعه احتمال تلك الملاحظة إذا كان المقصود بها إنجلترا، فابتسم الباشا ابتسامة التهكم وقال: «فلتؤخذ هذه الملاحظة بأنها تعني إنجلترا أو لا تعنيها، ولكن ملاحظتي هذه ليست إلا صدى ما تتناقله الأفواه في كل مكان.»
وأخيرا، أخبره محمد علي أنه يسمح بمرور البريد هذه المرة فقط، ولما عاد هودجز إلى دار القنصلية والغضب مستول على حواسه أبرق إلى لورد بالمرستون وإلى حكومة بمباي بأن البريد لن يسمح بمروره في المستقبل.
وفي مساء اليوم نفسه بينما كان الحديث دائرا بين هودجز ومدير بريد حكومة جلالة الملك، أخبر الثاني الأول «بأن إنسانا ضعيفا قد أثار الفزع والرعب الكاذب بلا مسوغ» حول مسألة البريد.
107
وفي اليوم التالي علم هودجز من قنصل روسيا العام أن محمد علي قد أكد لوكيل شركة الهند أنه طالما يبقى على عرش مصر فإن البريد سوف يكون في أمن تام.
108
وهنا ثارت ثائرة القنصل العام وتغلب الغضب على حواسه، فأرسل إلى رؤسائه شكوى مرة من مدير البريد ووكيل الشركة قال فيها: «أصبحت المسألة منحصرة فيما إذا كان يحق لمحمد علي أن يجعل أحد الموظفين الساخطين يمشي مشية الجواد البطيء ليسخر من معتمد جلالة الملكة، وأن يقلل من اعتباره ليوجد في مكانه سلطة إنجليزية مجهولة.» وبالاختصار: هل يحق لمحمد علي أن يحول معتمد جلالتها إلى كمية سياسية مهملة؟ ثم استطرد فقال: «إنه لم يتوقع إلا العداء والخذلان من كافة الأفراد الإنجليز هنا، ولكنه كان يؤمل على الأقل أن يلقى شيئا من العطف من جانب الأشخاص الذين يشغلون مناصب عمومية على الأقل.»
109
وفي الحق أبدى بالمرستون عطفه عليه إلى حد أنه شكا إلى رئيس لجنة المراقبة ضد وكيل الشركة، ولكن الرئيس أخبره بصراحة «أن الشكوى إذا بعثت إلى رئيس الشركة فلسوف يعلم بها البلاط، ومن ثم ينكشف أمرها وتصبح معلومة عند الجمهور.»
110
أما من ناحية محمد علي فإنه قد أوفى بعهده، فعلى الرغم من سحب القنصل الجنرال وبالرغم مما وقع في سوريا من أعمال العدوان، وما كان ينتظر أن يحدث من القلاقل في مصر؛ فإنه لم يكتف بالسماح بمرور البريد، بل وضع إجراءات خاصة لحماية المسافرين عن طريق السويس،
111
وكثيرا ما كان يقول إن الحرب ليست بينه وبين الشعب الإنجليزي، بل بينه وبين بالمرستون.
ومع أن محمد علي هو الذي ضحك على ذقون خصومه إلا أنه قد خرج مخذولا من الميدان؛ لأن القوات التي تجمعت ضده كانت أكثر مما كان يستطيع مكافحته، ثم إن القيادة التي كان لها الإشراف على تلك القوات لم يكن يعوزها الحزم والعزم، كما أنها لم تكن تعرف التواني أو التقاعد، ففي يوم 11 سبتمبر نزلت إلى البر السوري بقرب بيروت قوة مركبة من البحارة الإنجليز والجنود التركية، وقد حدث هذا بعد أن قضى الأعوان الأتراك الأشهر الطويلة في حض السوريين على رفع راية العصيان، وكان جيش إبراهيم وقتذاك متفرقا في أنحاء البلاد وفي حالة ضعف شديد، فضلا عن حاجته إلى الذخائر والمؤن، ولم يحل شهر أكتوبر حتى رفع الدروز راية العصيان. وفي 10 أكتوبر التقى الكولونيل نابيير في جهة بيت ماني بإبراهيم على رأس شرذمة من الجند، فأنزل به الهزيمة واستولى على رايته، ثم سقطت بيروت. وفي اليوم الرابع من شهر نوفمبر سلمت عكا بعد ضربها بالقنابل يوما واحدا، وهي التي قاومت إبراهيم من قبل مدة ستة أشهر كاملة، وبسقوط عكا انهار حكم مصر في سوريا، أما في باريس فإن وزارة تيير التي أوشكت أن تجر فرنسا إلى حافة الحرب؛ فقد سقطت قبل ذلك بأيام أي في يوم 29 أكتوبر، وفي يوم 15 نوفمبر ظهر الكولونيل نابيير في مياه الإسكندرية على رأس عمارة بحرية قوية. وفي اليوم السابع والعشرين من الشهر المذكور عقد مع الباشا اتفاقا بدون أن يكون له سلطة لعقد مثل ذلك الاتفاق، وقد وافق الباشا على الجلاء عن سوريا وإعادة الأسطول العثماني في مقابل أن يعترف به حاكما على مصر هو وذريته من بعده. وفي يوم 29 نوفمبر أرسلت التعليمات لاستدعاء إبراهيم من سوريا.
وما كادت تذاع هذه الأنباء حتى دهش لها رجال السياسة في الآستانة أيما دهشة، وقد كتب هودجز بهذه المناسبة بلهجة لم يراع فيها منزلته القنصلية، فقال: «إن ما فعله نابيير قد أثار ضجة شديدة بين رجال السلك السياسي هنا .» ولقد كان في مسلكه بعض ما عرف به الملاحون من الخروج على العرف؛ فقد أبلغ الباشا القرار الذي وضعه بالمرستون والوزارة الإنجليزية في أكتوبر مراعاة لشعور فرنسا. ويقضي القرار المذكور بالتوصية على أن يكون عرش مصر وراثيا في أسرة محمد علي في مقابل مبادرته بسحب جنوده من الأراضي التركية الأخرى وتسليم الأسطول العثماني.
ولما وصلت صورة الاتفاق الذي وضعه نابيير إلى لندن أقرتها الوزارة البريطانية في الحال على أن هواجس بونسيني وظنونه ما زالت تضع العراقيل في سبيل التسوية التامة؛ فلقد حمل الباب العالي على أن يصدر فرمانا بتاريخ 13 فبراير سنة 1841م يشتمل على عدة تحفظات غير مرغوب فيها،
112
ولكن محمد علي بناء على نصيحة نابيير رفض العمل بهذا الفرمان، وألحف بالمرستون وميترننج في طلب تعديل المنحة وقد تم لهما ما أرادا، وصدر فرمان جديد بتاريخ أول يونيو متضمن جعل العرش وراثيا للأرشد فالأرشد
113
من الذكور من أعقاب محمد علي مباشرة. وقد حدد هذا الفرمان الجزية، فجعلها 80 ألف كيس دراهم، وجعل عدد الجيش 18 ألف جندي إلا في حالة الحرب، أو إذا صدر تصريح خاص بزيادته، وقد حظر الفرمان على مصر إنشاء سفن جديدة، وهكذا أصبح حاكم مصر وليس في قدرته أن يهدد سلام أوروبا مرة أخرى، ولئن قيل إن محمد علي قد أخفق في تحقيق غايته الرئيسية وهي إنشاء إمبراطورية؛ فإنه توصل بلا شك إلى تحقيق أشياء هامة؛ فإن مصر قد أصبحت بفضله مستقلة عن الباب العالي فيما عدا الاسم، ثم إن إدارتها أصبحت إدارة منفصلة، وقد أصبح هذا الامتياز مضمونا باتفاق كلمة الدول، مع أن الباشا لم يوفق إلى تحقيق مشروعه الأكبر إلا أنه تمكن من وضع أسس دولة جديدة.
الفصل السابع
حكم محمد علي في مصر
سبق أن بينا أن من بين الأسباب التي حملت بالمرستون على المعارضة في امتداد نفوذ محمد علي عدم فهمه لحقيقة الأداة الإدارية التي وضعها الباشا. وقد كانت الأداة المذكورة على التحقيق هي هدف المعاصرين يكيلون لها المديح بلا حساب أو يسلقونها بألسنة حداد لا تعرف معنى الاعتدال، فكنت إذا سمعت أناسا متحمسين من أمثال واجهورن فلا تسمع عن الأداة الإدارية المذكورة إلا أنها أداة صالحة أسفرت عما فيه خير البلاد والعباد.
وأمثال هذا الكاتب لا يعترفون طبعا بأن كثيرا من إصلاحات الباشا كانت إصلاحات عرضية لا جوهرية، وبالعكس كنت ترى غيرهم من أمثال هولرويد مراسل بالمرستون لا ينظرون إلى المسائل إلا بالعين البريطانية البحتة التي ترثي لحالة الفلاحين؛ لأنهم لا يعيشون في مساكن مبنية بالطوب الأحمر ولا يأكلون اللحم البقري،
1
ولكن لا بد للحكم بنزاهة على إصلاحات الباشا وما يلحق بها من الآراء الإدارية أن يلقي الإنسان باله دائما إلى عدة نقط بحيث لا يتناساها مطلقا، فأولا كان الباشا يعمل في بلد شرقي، ومعنى هذا أن وظيفة الحكومة ومهمتها كانت صورة مشوهة عن مهمتها في بلاد الغرب. وقد كان من المتعذر حقا على قوم ألفوا مبدأ «معلهش» أن يقدروا قيمة نظام يضطلع بإرشاد كل فرد من أفراد الرعية في كل ناحية من نواحي الحياة، وبديهي أن تشبيه حالة مصر بحالة حكومة الهند لم يكن له محل مطلقا؛ لأنه فيما عدا القليلين في إنجلترا من رجال «أنديا هاوس» أو «النادي الشرقي » لم يكن يعرف أحد ما يصنعه مواطنوه في الهند؛ لهذا لم يكن مدهشا أن الناس لم يفهموا محمد علي حق الفهم وأساءوا تأويل أعماله ونواياه، وفي الواقع لم يكن يسمع أحد بين حين وآخر عبارات الانتقاد المعقولة المنطوي على العطف إلا من أمثال صولت أو كامبل ممن كان لهم إلمام بحالة البلاد، أو من الموظفين الأنجلو أنديان الذين قامت أمامهم في الهند مشاكل كالتي قامت في وجه محمد علي وحوله رعية شرقية تنظر شزرا إلى أعماله.
ثم لا ننسى من الناحية الأخرى أن الباشا ورث تركة مثقلة وحكومة عاطلة من كل شيء، ويتعذر على الإنسان حقا أن يبالغ في وصف ما كانت عليه الولايات التركية في بداية القرن التاسع عشر من حالة البؤس والشقاء.
ولقد حدثنا بوركنهاردت - وكان في حديثه صادقا - أن واليا نزيها لا يمكن أن يعلل نفسه بالبقاء طويلا في منصبه؛ لأن الباب العالي لا ينفك عن المطالبة بتقديم الهبات ولا شيء غير الهبات والإعانات، وإذ ذاك يرى الباشا ترضية لجشع الباب العالي نفسه مسوقا إلى مضايقة رعاياه وإرهاقهم، وليس الوالي الذي يسهر على مصالح رعاياه ولا تحدثه نفسه بتقديم شيء عدا الجزية المعتادة، أو الذي يدع العدالة تجري مجراها من أن يبوء بسخط مولاه السلطان ليس لعدله، ولكن لأن عدله يحول بينه وبين انتهاب الشعب وتقديم بعض الأسلاب هدية إلى ديوان الآستانة، وإذا باء بسخط مولاه ولا يرى له مخرجا لإنقاذ حياته إلا أحد طريقين؛ إما تسليم رعاياه البائسين في هدوء وسكينة إلى سياط وإلى مستبد يحل محله، وإما أن يعلن مولاه بالثورة ويظل ينازع مزاحمة السلطان إلى أن يقتنع الباب العالي باستحالة عزله فيظل صابرا على جمر الغضا إلى أن تسنح له الفرصة للتخلص من ذلك الوالي العادل،
2
ومع أن هذه الأقوال قيلت في سنة 1810م، فكأنما تكهن قائلها بأنها ستنطبق تماما على حالة محمد علي، وكان عدم إدراك هذه الحقيقة سببا في حمل بالمرستون على إساءة الظن بأعمال محمد علي والارتياب في غاياتها.
وإذا ما استثنينا العراق، فإن مصر كانت أسوأ حالا من كافة الولايات العثمانية؛ فإن المماليك كانت سياستهم قائمة على إرهاق البلاد واستلابها ولم يفكروا مطلقا في حماية الفلاح لا من أسلحة البدو الذين كانوا يهاجمونه ويقضون مضجعه، ولا من عسف محصلي الضرائب وسياطهم، بل لقد سولت لهم أنفسهم أن يتركوا أراضيه بلقعا بعد أن أصبحت الترع مسدودة بسبب ما تجمع فيها من الوحل والطمي، حتى إن الدلتا وهي أخصب أراضي العالم قد قل خصبها بنحو الثلث تقريبا. ثم إن غارات البدو في إقليم الفيوم كانت نتيجتها فرار السكان وترك الأراضي خرابا، ولم يكن أحد يعرف مبلغ ما ينتزع من الفلاح ولا مقدار ما اختلس من الإيراد العام في أثناء طريقه إلى خزينة الدولة. أما أعيان الفلاحين - وكانوا يسمون روزنامجية - فقد كانوا معروفين بصلفهم وثرواتهم الطائلة،
3
أما العدالة فقد كانت مسألة رشوة لا أكثر ولا أقل، وأما الغنى واكتناز الثروة فقد كان عماده المحسوبية. أما الحياة نفسها فكانت عبارة عن مجرد حظ أعمى.
ذلك كان شأن الحكومة التي ورثها محمد علي وألفها ونشأ في ظلالها في ولاية ألبانيا، وليس من شك في أن استتباب الأمر له في مصر قد صيره حاكما أوتوقراطيا، ونحسب أن أحدا لا يدهش لقبوله لتلك التركة، أو أنه سلك في بعض الأحيان نفس المسلك الذي كان لا ينتظر أن يحيد عن أسلافه، ولقد قيل إن الجبرتي - صاحب التاريخ المعروف - لقي حتفه خنقا وهو عائد من قصر شبرا إلى القاهرة في إحدى ليالي شهر يونيو سنة 1822م، وقد ربطت جثته إلى أقدام أتانه، وتهامس الناس بأن الباشا قد ضاق ذرعا بانتقادات الجبرتي اللاذعة،
4
كما قيل إن الذي كان يعهد إليه بنقل خطاب سري كان يجازى بإلقائه في نهر النيل كضمان على عدم إفشاء السر إذا كان قد عرفه.
5
ولقد ظل الباشا إلى أواخر أيامه والنزعة الأوتوقراطية متمكنة من نفسه، ولم يكن لأعيان الإسكندرية ميل لإرسال أولادهم إلى باريس للتعليم، فاستعاضوا عن الأولاد الذين طلبهم محمد علي منهم بأبناء البوابين وما شاكلهم من أبناء الطبقات الدنيا. ولما سمع الباشا بما فعله الأعيان قال في شيء من الغضب الممزوج بالاستغراب: «إذا كان هؤلاء الأشخاص يجهلون مزايا التعليم والتجارة فليسوا أهلا إلا لحمل الأثقال على ظهورهم كالشيالين والحمير.» ومن ثم أصدر أمرا عاليا بأن يعمل كل إنسان بنفسه كائنا من كانت طبقته في إزالة تلال الأوساخ والقمامة المحيطة بالمدينة؛ ومن ثم كنت ترى أصحاب الحوانيت والتجار والكتبة العموميين ورجال الدين يحملون على ظهورهم في أيام معينة سلالا مملوءة طينا وهم غارقون في لجنة لم يألفوها من العرق.
6
ولم يكن الباشا الحاكم الشرقي الأوتوقراطي بحكم الميراث فقط بل كان كذلك بحكم البيئة أيضا، فإذا استثنينا العنصر الأوروبي الضئيل العديم الحيثية، ويدخل فيه القناصل العموميون وبعض التجار الإنجليز والفرنسيون وشراذمة الموظفين الفرنسيين الذين كانوا يعملون في الإدارة المصرية نقول إذا استثنينا هؤلاء لألفينا الباشا إنما يعيش في وسط شعب لم يكن يتوقع ولا يرغب في شيء عدا الإدارة الأوتوقراطية، وأنت تعلم أن الحاكم الأوتوقراطي هو دائما بمعزل عن شعبه.
على أن محمد علي لم يكن تفصله عن شعبه سلطته غير المحدودة فحسب، بل كانت تضاف إليها سياسته ونواياه؛ ولهذا قال مرة للدكتور بورنج الذي هبط مصر لوضع تقرير عن سير الحركة التجارية في سوريا ومصر ما معناه: «أرجو ألا تحكموا على أعمالي بمقاييس المعارف عندكم، بل ينبغي أن بيني وبين ما يخيم حولي من الجهل المطبق ... فبينما توجد لديكم طائفة من الأذكياء النابهي الذكر لا أكاد أجد حولي من يفهمني ويعمل على تنفيذ أوامري، وكثيرا ما يخدعني الناس وأنا أعلم أنهم يخدعونني، ولست أعدو الحقيقة إذا صرحت أنني كنت وحيدا طيلة حياتي أو على الأقل الشطر الأكبر منها.»
7
وكان ما يظهر في خلال حكم محمد علي من أعمال صالحة من صنع الباشا نفسه دائما، وبالعكس كانت الأعمال السيئة في الأغلب من عمل أشخاص اضطر إلى استخدامهم لعدم وجود من يفوقونهم علما وذكاء، وقد كانوا من الموظفين الذين لا يتعففون عن ارتكاب الموبقات لإشباع شهواتهم في الحصول على المال،
8
وإلى هذه الحقيقة أشار الباشا مرة في حديث له إذ قال: «عندما هبطت أرض مصر كانت البلاد بربرية وهمجية لأقصى حد، وهي لا تزال كذلك ليومنا هذا، على أنني برغم ذلك ما زلت أرجو أن تكون أعمالي قد حولتها إلى أحسن مما كانت عليه، فلا ينبغي أن تجزع إذا لم تجد في هذه الأقطار شيئا من المدينة المعروفة في الأقطار الأوروبية.»
9
وليس من ريب في أن ثلاثين سنة من حكمه قد أحدثت في البلاد انقلابا سياسيا معدوم النظير، ولكن لا يفوتنا أن جيلا واحدا ليس يكفي لترك آثار دائمة ونتائج ثابتة؛ فإن مجرد عدم توفيق الباشا إلى العثور على العدد الكافي من الأشخاص الذين يعتنقون آراءه ومراميه بالحماسة المنبعثة عن الإخلاص، يضاف إلى ذلك شعوره بالهوة السحيقة التي تفصل بين سياسته وسياسة غيره من الرجال، إن هذا كله قد ادعى بطبيعة الحال إلى إيجاد عناصر الضعف وعدم الثبات في أعماله، وقد أدرك بحق أن كل تحسين يتوقف تنفيذه على سعيه وحده، وإن ما لا يتمه هو شخصيا من الأعمال قد يظل كذلك دون أن يفكر أحد في إتمامه، ومن ثم كان هناك في بداية الأمر بعض نقص في التقدير لأعماله ممزوج بجزء غير قليل من الاستعجال لرؤية نتيجة هذه الأعمال في الحال. وبينما كنت تراه منهمكا في وضع الأسس الراسخة إذا به يتحول منها إلى التعجيل بإقامة أسوار قصر أحلام وهو يقول: «أنا أعلم أنني رجل طاعن في السن؛ فإذا كان هناك ما أرغب في إنجازه فلا بد من إنجازه فورا.»
ولقد تضافرت مؤثرات على تقويض إصلاحاته وتجريدها من القوة الدافعة الدائمة أو لتوجيه نشاطه في غير وجهته المرغوبة، وبالرغم من هذا كله يتعذر على إنسان ما أن يجد حاكما شرقيا نجح نجاح محمد علي في عمل هذه الإصلاحات العظيمة، مع أنه لم يكن مسوقا إليها بضغط أجنبي، بل عمل ما عمله مدفوعا بحب النظام والعدالة والخير. وعلى الرغم من عناد كل من التفوا حوله إن لم نقل مقاومتهم السلبية.
ولم يحدث الباشا تغييرا يذكر في شكل الحكومة التي ظلت تسير طبقا للقواعد التي أظهر الزمن صلاحيتها وملاءمتها لحاجيات البلاد، والتي لم نجرؤ نحن على البدء في تغييرها في المهد إلا من الجيل الماضي؛ فإن وحدة النظام الإداري كانت القرية وكبيرها شيخ البلد الذي يمثل حاكم البلاد في كل صفة، ومن القرى تركبت الأخطاط، ولكل منها حاكم الخط، ومن هذه الأخطاط يتركب المركز تحت حكم المأمور، وقد جعل عدد المراكز 61 مركزا، ومن هذه المراكز تركبت المديريات السبع، ويشرف على كل منها مدير أو حاكم، وتشمل دائرة اختصاص المديرين الأربع والعشرين مديرية التي كانت مصر تتركب منها في عهد المماليك. ولم يكن ثم مندوحة عن وجود هيئة متشعبة الأطراف في المدن الكبرى، وقد كان هناك القضاة ورجال الشرطة المخصوصون للمحافظة على السكينة العامة والحيلولة دون وقوع الجرائم ومعاقبة فاعليها. وقسم الأهالي أيضا حسب مهنهم أو حرفهم إلى طوائف ونقابات ويشرف على كل منها رئيس النقابة؛ ففي القاهرة مثلا كان هناك ما لا يقل عن 64 نقابة من هذا القبيل، وكان كل رئيس مسئولا عن سلوك أعضاء نقابته،
10
وكانت هذه هي القاعدة التقليدية المألوفة في الشرق بأسره في تنظيم أرباب الحرف والصناعات.
ولضمان سير هذه النقابات سيرا يتمشى مع الأمانة والعدالة، لم يكن ندحة عن إبقائها تحت الرقابة الدائمة اليقظة، وبخاصة وأن اعتقاد الجمهور في عدم أمانة الهيئات الرسمية كان متأصلا في نفوسهم، وكانت الغاية المقصودة من هذا النظام الاحتفاظ برئيس مستعد للحيلولة دون ظهور مستبدين عديدين. ولم يترك مشايخ القرى الفرصة السانحة لإرهاق إخوانهم الفلاحين،
11
وحذا المديرون ومأمورو المراكز حذو مشايخ القرى في إرهاق كل من وقعت أيديهم عليه، وليت عدم الأمانة كان النقص الوحيد في أخلاقهم، كلا بل كان عدم الأمانة مقرونا بالجهل المطبق، وقد يحدث أن يكون المتعلم فيها واسع الاطلاع في كتب الفلسفة الإسلامية ملما بدواوين شعراء العرب والفرس، ولكن المدارس وقتئذ كانت تخرج علماء لا رجال أعمال، وكان المدير لا يسترشد في أعماله إلا بما تواضعت عليه التجربة، وهذه التجربة لم تكشف في أغلب الأحايين إلا عن خير الوسائل للسرقة مع استعمال اللباقة والحذر،
12
ثم إن الحاجة التي تقضي الاتفاقات القائمة على عدم الأمانة بين الموظفين بعضهم وبعض، كثيرا ما نجم عنها تغيير هؤلاء الموظفين بغيرهم، ومن ثم كنت تجد المصالح يشغلها رؤساء لا يعرفون من أعمالها وشئونها لا كثيرا ولا قليلا. وبهذه المناسبة كتب المستر بورنج في تقريره يقول: «لم يكن هناك اهتمام ما بكفاءة الفرد واستعداده للقيام بمهام العمل الذي عهد إليه بإنجازه.»
13
ولم تكن لسوء الحظ ندحة من ذلك. وقد شهد بهذه المسألة كامبل، وهو كما تعلم لم يكن شاهدا متعنتا؛ إذ قال: «إن ما يصادفه تجارنا من المسائل المثيرة للغضب مرجعه عدم وجود نظام معين يضاف إليه جهل صغار الموظفين المحليين لسير الأمور أكثر مما يرجع إلى خطأ من جانب محمد علي أو إبراهيم باشا، وعلة هذا كله عدم وجود أشخاص بالكلية قادرين على السير بمختلف الشئون في كافة المصالح المختلفة، وبخاصة في الأماكن والفروع التي تمتد فيها التجارة الأوروبية، يضاف إلى كل هذا أن هناك نقصا طبيعيا ينطوي على الرشوة في كل شيء تركي؛ بحيث لا بد أن يترك للزمن وحده أن يقضي على المساوئ الموجودة في الوقت الحاضر التي لا مفر من وجودها، والتي نعتقد أنها آخذة في التناقض يوما فيوما.»
14
وفي الواقع لم يكن يمكن إدخال أي إصلاح ثابت ما لم ينشأ جيل جديد أكثر تعليما وأدعى إلى الثقة من أبناء الجيل الحاضر.
وسدا لما أوجده المران والتعليم والأخلاق من النقص، لجأ الباشا إلى وسائل الضغط والعقاب والتفتيش، وإنك إذ تقرأ كتبه الدورية، وقد كانت تتضمن وسائل الضغط المذكورة؛ تجد أنها كتب ممتعة لذيذة ومفيدة، وإن كانت تثير الضحك تارة والأسى تارة أخرى؛ لأنها قد تتضمن أحيانا وعيدا مخيفا؛ فمثلا هناك كتاب صادر في سنة 1826م يتضمن شكاية الباشا من أن الموظفين لا يعنون العناية الكافية بتحسين الزراعة، وقد جاء في هذا الكتاب أن الباشا يوشك أن يقوم بنفسه بزيارة الأقاليم وتفتيش أراضيها الزراعية، وقد أنذر كل موظف يرى أثرا للإهمال في منطقته بدفنه حيا في حفرة خاصة.
15
ولكن أمثال هذا الوعيد لم يكن يمكن أن ينظر إليه الإنسان نظرة جدية؛ ذلك لأنه هدد بعد عام من ذلك التاريخ بمعاقبة المهملين في الشئون الزراعية بالعصا أو بالسيف،
16
وفي بعض الكتب الأخرى التي دفع الحقد باركر القنصل العام إلى رئيسه بالمرستون بقصد تسليته، ترى الباشا وقد صب جام غضبه على الموظفين. وإنك لترى أثرا لذلك لمناسبة الإهمال في دفع الضرائب؛ إذ يقول للموظف المختص: «من ذلك يتبين أنك غبي مهمل، وإنه لدليل جديد على أنك كالحمار في غباوته.» فإن لم تدفع الأموال فورا «فكن على يقين بأنني سأقطعك إربا إربا.»
17
وكتب مرة إلى أحد الموظفين بمناسبة التباطؤ في تقديم العدد اللازم من الأنفار للقرعة العسكرية: «وأنت أيها الحمار ماذا عساك صانع؟! ... إنني لم أضعك في هذا المركز إلا لعدم وجود من هو أقدر منك على أن يشغله، وقد جعلتك مديرا، فهل يكون ذلك أن تهمل في أداء واجبك هذا الإهمال وكل هذا الوقت؟! ... فبمجرد استلامك لأمري هذا ضع عقلك في رأسك وأرسل بقية الأنفار ... وإن تباطأت في تنفيذه جعلتك مثلا بين بقية مديري الأقاليم.»
18
وأما حاكم السودان فقد كتب إليه بلهجة مخففة عندما أرسل إليه غرارة مملوءة بآذان العصاة كدليل على نشاطه في كبحهم، قال الباشا: «على من يعتلون كراسي الحكم وأصحاب السلطة أن يدركوا أن فتح البلاد لا يكون إلا باقتناع الأهالي بالوسائل السلمية، وبتوخي العدل في تسيير الأمور بقصد اكتساب ثقة الأهالي، وعلى الحاكم أن يقتدي بالقدوة الصالحة التي ضربها الفرنسيون في مصر وأن يقلد المسلك الذي سلكه الإنجليز بعدهم.»
19
ولكن القارئ يجد في الكتاب الدوري الصادر في سنة 1843م أقرب مثال للأوامر الإدارية، قال الباشا الهرم - وقد أصبح كذلك بعد أن أثقلت عاتقه السنون - يناشد موظفيه بتقديم المساعدة له؛ لأن متاعبه أصبحت فادحة، بحيث ينوء بها عاتق شخص واحد، وقد ذكرهم بمركز مصر وخصبة تربتها، فقال: «إن من حسن الطالع أن ننعم بأرض كأرضنا لا مثيل لها بين أراضي العالم، وعندي أن التقاعد عن بذل كل ما يمكن بذله من الجهود في سبيل مضاعفة يسرها ورخائها لدليل العقوق الذي لا يمكن أن يرضاه قلبي ويستحيل أن أقره، فلا محيص لي من أن أناشدكم في كل حين بأن تسهروا على أداء واجباتكم لكي نصل إلى الغاية التي جعلناها نصب أعيننا، وحذار من التكاسل والإهمال ... إن الرجل العاقل لا يباهي بأخلاقه الحميدة، بل بما أصابه من النجاح في إدارة ما عهد إليه من الأمور، فلا يفوتنكم أنني سأواصل السهر على سعادة هذه البلاد ورخائها، ولو ضحيت في هذا السبيل بحياتي وحياة أقاربي. إن كل من حولي يعرفون جيد المعرفة أنني لا يطيب لي إيذاء شخص ما، وقد سلخت أربعين ربيعا لم تمتد فيها يدي بمعاقبة أحد عقابا شديدا، فإذا ما أرغمت يوما على الخروج عن هذه القاعدة فلن يكون الذنب ذنبي، بل ذنب غيري ... ولم يكن يدور بخلدي فيما مضى أن نصل إلى الحالة التي وصلناها الآن، والآن وقد سمت مطامعي واتجهت إلي اتجاها أرقى من اتجاهها الماضي، فلأقدمن التضحية مهما جلت وعظمت في سبيل رخاء بلادي، وهي أقصى أماني حتى ولو جلس على عرشها أحد أقاربي وأصبح ملكا لسكانها البالغ عددهم ثلاثة ملايين.»
20
ولم تنقض ثلاثة شهور على ذلك الكتاب حتى عمل كبار موظفيه على أن يقسموا أمامه على أن يخدموه بأمانة وأن يرفعوا اليد عن كل ما يقع تحت أنظارهم من الحيف أو إساءة استعمال السلطة، فليس من شك في أن هذا الكتاب الدوري يشف تماما عن مكنونات قلب الباشا الحقيقية؛ فلقد وجهه إلى الموظفين خاصة ولم يذع محتوياته بين القناصل العموميين، ولم يرم به إلى التأثير في الرأي العام الأوروبي، وإلى جانب هذا كله كان متلائما تماما مع اللهجة التي كان يستعملها محمد علي في محادثاته الخصوصية مع أصدقائه الأوروبيين، ولكنه يعلم جيد العلم أن الإكراه كالعقوبة لا مناص منهما. نعم؛ لم يكن بطبيعته ميالا إلى إيصال الأذى أو الشر إلى أحد، وفي الحق أنه امتنع على العموم عن أعمال التأديب، ولكن هذا كان بمثابة ميل عام لم تكن له حيلة في الانحراف عنه بين آن وآخر. مثال ذلك: أن محصل الضرائب في مديرية الجيزة ذكر كذبا في سنة 1822م أنه لم يستطع لا تحصيل العوايد العشورية ولا ضريبة المنازل، وقد كان الباشا على حق أن يعتبر هذه المسألة في منتهى الخطورة، وقد ترجح عنده (ويستحيل البت هنا هل كان الترجيح عادلا أم غير عادل) أن المحصل كان كاذبا في دعواه، وأنه مسوق إلى ذلك بطمعه في الحصول على رشوة؛ فأصدر أمره إلى إبراهيم باشا - وكان وقتئذ مدير الجيزة - بأن يتفاهم مع الرجل وأن يقنعه - إذا استطاع - بخطأه، فإن وفق إلى إقناعه فبها ونعمت وإلا أطاح رأسه حتى لا تتعرض مصالح الدولة للضياع بسبب مسلكه السيئ. ويظهر أن إبراهيم باشا نفذ الحكم بيده، وقد جاء بعد ذلك في كتاب إلى إبراهيم باشا أن الرجل قد لقي حتفه بسبب عناده لا بفعل الباشا وابنه، وأن مركزه لا بد أن يشغله رجل فرنسي أو شقيق القتيل.
21
وكلما مرت الأيام وتحسنت الأخلاق العامة قلت عقوبة الإعدام تدريجيا، حتى إن المخالفات الكبيرة كان يعاقب فاعلها بالأشغال في الأعمال العمومية التي تمت في عهد الباشا. وقد صدر في سنة 1830م أمر بحبس 25 موظفا من موظفي مصر الوسطى مع الأشغال الشاقة لمدة ستة أشهر،
22
وفي سنة 1833م أنذر الباشا مأموري المراكز بالعقاب إذا أرغموا موظفي الحكومة بحرث الأرض الواقعة في دوائر اختصاصاتهم،
23
وفي العام التالي، نظرا لأن إرهاق الدماء كان عملا مذموما في نفسه حظر على المديرين ومأموري المراكز إصدار حكم بالإعدام إلا بعد الحصول على إذن خاص من الباشا.
24
وقد صدر الأمر في سنة 1836م بإعدام أحد شيوخ القرى؛ إذ قامت البينة على أنه ضرب بلا مسوغ شخصا ضربا مبرحا أفضى إلى موته.
25
ولكن الضمان على عدم خروج الموظفين عن حدود وظائفهم لم يكن إلا بإسداء النصح ولا بإنزال العقاب الصارم، بل زيارة الأقاليم بين آن وآخر وتقصي أحوالها بدقة وعناية؛ ولذا لم يقصر الباشا في زيارتها زيارة منتظمة، وكثيرا ما كان يزورها ويتجول في أنحائها باحثا منقبا، وبخاصة عن حالة الحسابات ومسير الإدارة بوجه عام، بل كان كثيرا ما يتجول بمفرده بدون حراس؛ حتى يتمكن أحقر الناس من الدنو منه ورفع شكواه إليه رأسا، وقد كان من نتائج زيارة قام بها إلى السودان سنة 1839م أن أصدر أمره بعزل طائفة من الموظفين الجهلاء الخربي الذمة.
26
أما الموظفون الأجانب في الإدارة العامة فيلوح أن عددهم كان ضئيلا جدا؛ فمع أنه كان يوجد في أنحاء البلاد عدد من خوارج الفرنسيين والإنجليز وغيرهم، فإنهم كانوا في الترسانات والجيش،
27
بينما العدد القليل جدا عمل في الإدارة العامة، ولم أعثر على أثر لاستخدامه في الإدارة المدنية إلا في الخطاب الذي أشرت إليه سالفا، والذي أرسله الباشا إلى إبراهيم باشا بتعيين محصل فرنسي في مديرية الجيزة بدلا من المحصل القبطي الذي أعدم.
كما أن المناصب الكبيرة لم يكن يشغلها أحد من أهالي البلاد؛ لأن الإدارة العليا كانت في أيدي الأتراك لا في أيدي المصريين، وبهذه المناسبة كتب بورنج يقول: «إن أحقر شخص له قليل من الدراية باللغة التركية يعد نفسه فعلا من طبقة أرقى من طبقة الوطنيين أبناء البلاد!»
28
بل إن أحد الخدم المصريين لم يكن يمكن تكليفه بحمل رسالة إلى موظف ذي منصب كبير.
وفي الحق كان الرجل التركي في مصر في عهد محمد علي يتمتع بشيء من المنزلة السامية التي كان يتمتع بها موظف شركة الهند الشرقية في الهند، وقد لاحظ الأجانب بشيء من الاستغراب ما كان سائدا بين طبقات الأهالي من الشعور بالإصغار والإذلال؛ فلقد كنت تسمعهم يقولون: «لسنا إلا مجرد فلاحين ...» ولم يدر بخلدهم مرة واحدة أن يتشككوا في حق الأجنبي في بسط حكمه عليهم، وكانوا عزلا من السلاح كلية، وكان خضوعهم واستسلامهم تاما لا يطلبون أكثر من أن يسمح لهم بصب مياه النيل بسلام فوق أراضيهم الخصبة.
29
ولكن الباشا لم تسول له نفسه أن تظل هذه الحال أمدا طويلا ؛ لأن ثقته بالأتراك كانت إلى حد ما، وقد كان يحس أنهم يعطفون على الآستانة، وأن نفوسهم تتوق إلى وسائل الحكم القديمة القائمة على الفساد والرشوة، وهي الوسائل التي كان الباشا قد عقد نيته على استئصال شأفتها.
لذلك عمل كلما مكنته الفرصة على أن يستبدل بأولئك الموظفين الأتراك غيرهم من المصريين، وكان دورفيني القنصل الفرنسي أول من اقترح عليه هذه الفكرة التي تعتبر وقتئذ جريئة.
وكان الباشا قد أرسل إلى المدارس الفرنسية في سنة 1826م ما لا يقل عن 45 شابا من أبناء مشايخ القرى وغيرهم للتعليم على نفقة الحكومة المصرية على أمل أن يصبحوا صالحين فيما بعد للوظائف العمومية.
30
وتصادف أن الباشا في أثناء زيارته لأقاليم الدلتا في سنة 1833م أن عرج وبصحبته «الفلقة » على صغار الموظفين الأتراك الذين يعملون في تحصيل الضرائب، فراعه عدم حدبهم على الأهالي الفلاحين وتشددهم معهم في أخذ الأموال لشئونهم الخاصة، وهنا أعلن الباشا أن مشايخ القرى الفلاحين ينبغي من الآن فصاعدا أن يرفعوا شكاياتهم إليه رأسا،
31
وكانت إحدى نتائج هذا القرار اجتماع رهط من المشايخ في الإسكندرية بعد ذلك ببضعة أشهر، ويؤخذ من بيانات سكرتير الباشا للقناصل العموميين أن الباشا أراد انتهاز هذه الفرصة ليلفت أنظار المشايخ إلى ضرورة القيام بواجباتهم على الوجه الأكمل.
وقد ذكر كامبل في تقرير له نص محادثة ودية دارت مع المشايخ المذكورين، وقد أقسموا ليبذلن كل جهد في سبيل تنفيذ أوامر الباشا حرفيا،
32
على أن ما نشر من البيانات لا يدل على شيء.
ويظهر أن محمد علي قد أدرك أنه لا يستطيع الاسترسال طويلا في سياسة استبدال الموظفين المصريين بالموظفين الأتراك؛ ذلك لأن الموظفين الأتراك كما لاحظ أحد الأجانب متمرنون أكثر من الموظفين المصريين على السرقة بلباقة، يضاف إلى ذلك أن الدساسين ومحبي الصيد في الماء العكر، وهم الذين يكثر عددهم عادة في ظل الحكم الفردي مهما كان ذلك الحكم نافعا وصالحا، كانوا يعملون على استغلال ميول الباشا الصالحة في قضاء لباناتهم، فإن مشايخ القرى - كما علم الباشا بعد ذلك - كانوا يحرضون إخوانهم على التلكؤ في تحصيل الضرائب أملا في أن يقع اللوم على عاتق الموظفين الأتراك، فيطردهم محمد علي ويعين مكانهم المشايخ، فصمم الباشا على وضع حد لهذه الحالة فورا، وكان من رأيه عدم إضاعة الوقت في القيام بتحقيقات مملة وغير منتجة لن تؤدي إلا إلى جملة أكاذيب؛ ولذا قرر معاقبة كل شيخ متهم بمثل ذلك المسلك الخطير بدون إضاعة الوقت سدى،
33
ويستبعد على ما يظهر أن تكون هذه المسألة قد تنوسيت في أثناء اجتماع المشايخ في الإسكندرية، وهو الاجتماع الذي أسلفت الإشارة إليه، ولو أن البيان الذي أعطاه سكرتير الباشا إلى الكولونيل كامبل لم يذكر شيئا من هذا، فلم يكن ثمة مفر من أن تنتظر سياسة التوسع في توظيف المصريين لتطورات مشروعات الباشا التعليمية.
أما الأعمال في مركز الحكومة في حاضر القطر؛ فكانت موزعة بين سبع مصالح: الحربية والأسطول، والزراعة، والمالية، والتجارة، و«العلاقات الخارجية»، والتعليم، والبوليس. ومع أن الوزراء الذين كانوا يشغلون هذه المناصب كانوا يعتبرون من طبقة أرفع من طبقة مديري الأقاليم، لم تكن لهم أي سلطة على هؤلاء المديرين؛ لأن الباشا كان يحرص على أن تكون بيده كافة أعنة الحكم، كما أنه لم يسمح لهذه المصالح المركزية أن تجري في مجراها الطبيعي وتتسع دائرة أعمالها؛ حتى تصبح وزارات كبيرة تكون أول ما تضعه نصب عينيها أن تبرر وجودها بتعقيد الإجراءات العامة. وقد ألغى 200 وظيفة من وظائف الخزانة العامة، وكأنه لم يكتف بها بل راح يذكر المراقب بأنه في وسع كبار التجار الإسكندريين بأربعة من الكتبة فقط أن يراقبوا حركتهم التجارية التي لا يقل إيرادها عن ثلث إيراد الخزانة، وهل تناسى جنون الباشصراف في ملء الوظائف العمومية بالأقباط؟! ... فإن لم يستطع المراقب إدارة شئون الخزانة بطريقة أحسن من ذلك فلسوف تسند مهمة مراقبة الخزانة لشخص آخر.
ولعل أهم ناحية في حكم محمد علي هي - بلا جدال - حرصه على تنمية وتوسيع دائرة بحث المسائل العامة في عمل ما، فلقد أنشأ في سنة 1819م مجلسا أو ديوانا قوامه سبعة أشخاص لإدارة وبحث ما يعقد من الصفقات بين الخزينة وبين التجار الأوروبيين،
34
وطبق نظام التمحيص الرسمي هذا على كافة المصالح التابعة للحكومة المركزية، وأصبح من المحتم أن تقتل كل مسألة بحثا قبل عرضها على الباشا. ثم حدث التوسع في تطبيق هذا المبدأ في سنة 1829م؛ فلقد اختير إبراهيم باشا رئيسا لاجتماع خاص مركب من 400 شخص منهم كبار الموظفين المدنيين والضباط العسكريين والمديرون وبعض مشايخ البلاد، وتناول بحثهم خير الوسائل لإصلاح الفساد ولتحسين حالة الفلاحين. واستمر هذا المجلس يعقد جلساته في كل مساء وأقسم أعضاؤه أن يتكتموا كل ما يدور فيه من المباحثات. وفي سنة 1832م جرب الباشا مشروعا من هذا القبيل في سوريا، فقد أنشئ مجلس من الأعيان،
35
وعددهم 22 للنظر في شئون الرعية،
36
وفي سنة 1834م طالب فضيلة شيخ الجامع الأزهر ورئيس نقابة التجار بترشيح عدد لائق من العلماء والتجار للاشتراك في أعمال المجلس الأعلى، وكلف المديرين في الوقت نفسه بأن يشكلوا في كل مديرية جمعية من الزراع ومشايخ البلاد وغيرهم لانتخاب شيخين من مشايخ القرى لتمثيل مزارعي المديرية المذكورة في المجلس الأعلى. أما السائحون وكانت معلوماتهم عنوان الرأي العام الأوروبي فقد أساءوا فهم هذه الأمور وأساءوا تصويرها لمواطنيهم؛ فقد كان هناك من ناحية الشاب دزرائيلي الذي صور الباشا للناس كأنه يقول إنه يود أن تكون له برلمانات عديدة كما كان للغليوم الرابع مع حرصه على أن ينتخب هذه البرلمانات بنفسه، وكان يوجد من الناحية الأخرى بعض فلاسفة الراديكاليين ومن إليهم من أنصار سانت سيمونز، وكانوا يمثلون الباشا كأنه شخص اعتنق المبادئ الديمقراطية الغربية؛ فكان الفريق الأول لا يرى فيما يقوم به الباشا من التجارب إلا أنها مجرد حيل يراد بها التغرير بالرأي العام الأوروبي، وأما الفريق الثاني فكان يرى أن المقصود بها إنشاء حكومة نيابية.
37
وليس من شك في أن أعمال محمد علي لم تكن هذا ولا ذاك؛ فإن الأعمال العامة البادية العادية في الشرق يبت فيها رهط من الموظفين يقال لهم الديوان أو الديربار، وعلى رأسهم الباشا نفسه أو من عداه من كبار الموظفين، وأمام هذا الرهط المجتمع بصفة علنية يجتمع أرباب الشكاوى والمتفرجون. وقد ذكر بارتل فرير بهذه المناسبة أن معرفة ميول الرأي العام في أي قطر من الأقطار الغربية مهما كان لها من الأهمية، فإن أهميتها تزداد كثيرا في الأقطار الشرقية؛ وذلك لأن الحكم الشرقي يحرص كل الحرص على معرفة ما يردده الناس في الأسواق وفي مناحي القوافل. نعم؛ إنه يستطيع الاعتماد على تقارير جواسيسه - والجاسوسية في الحكومات الآسيوية من أثبت العوامل والأدوات الحكومية - ولكن إلى جانب الجاسوسية كان يمكن الوقوف على جانب آخر من آراء الناس بالاجتماعات التي كان يعقدها محمد علي من آن إلى آخر. ولقد كان الباشا أحصف من أن يفكر في نقل التقاليد الغربية بلا تمحيص أو يقلدها تقليدا أعمى، ولكنه كان في الوقت نفسه من الحصافة بحيث يرى أن لا ضرر من نقل الصالح من التقاليد المذكورة وتحريرها حتى تتلاءم مع العادات المرعية في البلاد بحيث تعود بالخير والفلاح على حكومته. ولعله كان مدفوعا بعامل آخر؛ فإن رجلا له من القوة وتقدير أهمية التعليم كما كان لمحمد علي لا يمكن أن يقال إنه كان يجهل أن الجمعيات التمرينية التي كان يعقدها لم تكن مجرد وسيلة من وسائل الحكم فقط، بل كان كذلك إحدى وسائل التعليم السياسي. ولو كانت مصر ورثت من ورث مواهب محمد علي العظيمة كما ورث ممتلكاته لقدمت أمم الغرب من ضروب الإصلاح السياسي ما يقل في أهميته عما قدمته اليابان، ولكن عمر فرد واحد وانقضى معظمه في تأسيس ملك سياسي لا يمكن بمفرده أن يفعل أكثر من وضع الحجر الأساسي العام لمعاهد الإصلاح والترقي تاركا لمن يخلفه تكملة البناء.
وقد كان النجاح المضطرد حليف إدارته المالية، ومن ثم خيب ظنون الذين كانوا يرقبون أعماله ويتوقعون خرابه المالي قائلين إن حروبه المتعددة يضاف إليها مشروعاته الداخلية سوف تؤدي إلى إفلاسه وإفلاس خزينة البلاد العامة؛ ففي سنة 1827م مثلا بينما كان عاتقه مثقلا بنفقات الحرب في المورة وكانت موارده المالية متعبة بسبب هبوط منسوب فيضان النيل عامين متتاليين، وكان محمد علي برغم ذلك منهمكا في تأسيس المصانع وإنشاء رصيف للبحر وترسانة في الإسكندرية،
38
ولم يمض على ذلك سوى سنوات أربع فقط حتى كان يضع أساس مشروعات تزيد في نفقاتها وضخامتها نحو عشرة أضعاف عن نفقات المشروعات السابقة،
39
وقد نجح في الابتعاد عن إشراك الدائنين الأوروبيين،
40
وقد خيل لبعض الناس في سنة 1837م أن هبوط أسعار القطن - وكان محمد علي يحتكره - سوف يؤثر أشد تأثير في ميزانيته، ومع ذلك فقد تمكن الباشا من دفع ما لجنوده من المرتبات المتأخرة،
41
وفي الواقع كانت إدارته المالية مقرونة بالنجاح، حتى إن باركر نفسه كان يعتقد أن الباشا قد عثر على مصباح علاء الدين المذكور في الأقاصيص .
ولم يكن هناك أثر للسحر فيما كان يعمله محمد علي الذي جعل رائده الحكمة واليقظة، ولقد كانت الحسابات العمومية عندما تسلم محمد علي أعنة الحكم بأيدي الكتبة الأقباط الذين جعلوا منها أنموذجا للتعقيد، وكانت غايتهم من ذلك التعقيد مزدوجة؛ ذلك بأن يجعلوا خدماتهم ما لا يمكن الاستغناء عنها، وثانيا لأن التعقيد يستر أغلاطهم بحيث يتعذر العثور عليها. ولم تكن الحسابات العمومية مركزة في مصلحة معينة، بل كانت الضرائب المختلفة توزع بين المصالح المتشعبة طبقا للطريقة التركية المتبعة
42
فلم تكن ثمة ميزانية، ولا أمل في وضع ميزانية، ولقد أظهر الباشا - والحق يقال - ميلا لأن يدرس وينقل عن الغربيين في هذه المسألة كغيرها من المسائل فكلف باغوص بلك الأرمني وأشد الموظفين إخلاصا بأن يحصل على مشروع لضبط الحسابات كالمعمول بها في المصالح العمومية في أوروبا.
43
وأسندت إلى المسيو جرمار الفرنسي مهمة وضع نظام جديد، ولكن ذلك لم يبطل العادة السيئة التي كانت متبعة، وهي تخصيص إيراد مناطق معينة لوزراء معينين لسد نفقاتهم بدلا من إرسال الإيراد جميعه إلى خزانة مشتركة، ولا ريب في أن سير الأمور في الأحوال الحاضرة يؤدي إلى الفساد وسوء استعمال السلطة؛ لأن لكل وزير خزانته الخاصة؛ أي إن هناك سبعة أبواب مفتوحة (وهي أبواب الوزارات السبع) للغش والتدليس، مع أن فتح باب واحد للفساد في بلاد كهذه هو أكثر من اللازم.
44
وعندما زار بورنج القطر المصري في سنة 1838م استطلع الباشا رأيه في مسألة الحسابات وجيء إليه بمختلف الحسابات العامة لإلقاء نظرة عليها، فأشار بعدة توصيات لإصلاح الحسابات. وكان في طليعة هذه التوصيات وضع ميزانية في ابتداء كل سنة لبيان الإيرادات والمصروفات، ثم إرسال كافة الإيرادات إلى الخزانة الرئيسية، ثم الفصل بين السلطة التي تستلم الإيرادات عن السلطة التي تتصرف في الأموال العامة وتخويل وزير المالية السلطة الكافية لإقرار ما يقترح عليه من المصروفات أو رفضها، وأخيرا وضع قاعدة لدفع الحسابات العامة فورا وموازنتها وفحصها.
45
وليس فيما بين أيدينا من الأدلة المقتضبة ما يكفي لإعطائنا صورة صحيحة أو صورة كاملة عن تاريخ الباشا من الناحية المالية، ولكن يلوح أنه استطاع في كل حين أن يخفض مصروفاته عن إيراداته. خذ مثلا على ذلك سنة 1820م المتداخلة في سنة 1821م، (والمعلوم أن السنة القبطية المستعملة في الحسابات المصرية تنتهي عادة في 28 سبتمبر)؛
46
فقد بلغت الإيرادات في تلك السنة 240 ألف كيس، وبلغت المصروفات 190 ألف كيس، وفي سنة 1832م المتداخلة في سنة 1833م زادت الإيرادات قليلا عن 500 ألف كيس، على حين أن المصروفات لم تبلغ 415 ألف كيس، أما في سنة 1846-1847م؛ فقد كانت الإيرادات أكثر من 600 ألف كيس والمصروفات أقل من 460 ألف كيس، وليس من شك في أن الباشا كانت تصادفه سنون تكثر فيها المصروفات، وإذ ذاك يلجأ إلى الرصيد المتراكم فيغترف منه، ولكن كانت الوفورات أكثر غالبا من العجز.
وقد كانت إيرادات الأطيان أو الميري كما يسمونها أهم باب من أبواب الإيراد، ولكنها قلما وصلت إلى 50٪ من مجموع الإيرادات، بينما كانت نفقات الجيش والأسطول هي أكبر باب من أبواب المصروفات؛ فلقد كانت تبلغ نحو 50٪ من مجموع الإيرادات.
وكانت ملكية الأطيان في مصر في بداية القرن التاسع عشر هي نفس الحالة المضطربة التي كانت سائدة في الهند عندما بدأت شركة الهند الشرقية في إدارة أراضيها في الهند؛ فلقد كانت مصر في نظر المذاهب الإسلامية الأربعة بمثابة بلاد فتحت بحد السيف وخاضعة لسلطة الخليفة . وتوكيدا لهذا كان كل إمام مسجد في أي ناحية من نواحي القطر المصري يرتقي المنبر في يوم الجمعة حاملا سيفا خشبيا أو سيفا حقيقيا، وهو بذلك يمثل خليفة المسلمين.
ولكن الحاكم كان يتخلى عن أراضي الحكومة «الجفالك» كما كان يحدث في كافة أنحاء العالم وقتئذ بما يتنازل عنه من الهبات التي يمكن استردادها عند الطلب أو يقال أحيانا إنها غير قابلة للاسترداد، على أن الخلاف لم يكن كثيرا على الشكل ولكن رجال القانون الإسلامي تمسكوا بهذا المبدأ البسيط؛ وهو أن الهبة مهما كانت ملزمة يمكن استردادها متى اقتضت ذلك مصلحة الدولة، وهي مسألة لا يمكن لأحد غير الحاكم أن يبت فيها.
ولقد كان من جراء ما نشأ من تلك الفوضى في خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، أن وجدت طائفة من الملاك وفي طليعتهم زعماء المماليك والمزارعين الذين يؤدون الضرائب، وكانوا وقتئذ يسمونهم الملتزمين، وبديهي أن الحكومة لم تحصل على إيرادات مطلقا عما كان بأيدي الفريق الأول من الأراضي، في حين أن ما كان بأيدي الفريق الثاني اشتمل على مناطق أخذت تزداد اتساعا مع مضي الزمن دون أن تدفع عنها ضرائب، وكانت تسمى أراضي الوسية، وكان من باكورة أعمال الباشا - كما سلفت الإشارة إلى ذلك - أن استولى على أملاك أعيان المماليك، وقام بالتحري عن الشروط التي تمت بها ملكية الأراضي الأخرى. وقد تمكن محمد علي فيما بين سنتي 1804م-1814م من الاستيلاء على كافة الأراضي، وكافأ الملتزمين بمعاشات عوضا عما كان لديهم من الأراضي،
47
ولا يلوح أن الباشا تجاوز في هذه الإجراءات الحدود الاسمية لحقوقه القانونية، ولو أنه لا ينبغي أن يبرح الأذهان «الحقوق القانونية» هنا كانت تعني شيئا آخر عدا ما تعنيه في أوروبا. وليس من شك في أن تصرف محمد علي ذلك كان ينطوي على شيء من الشطط الذي ربما كان في وسعه أن يبرره نظرا لحاجته القصوى وقتئذ إلى المال؛ إذ لا ريب أنه لم يسعه أن يؤسس حكومة ويقيمها على دعائم وطيدة إلا إذا استعاد تلك الأراضي التي تبلغ مساحتها ثلاثة أرباع أراضي القطر، ولم يستول عليها الأفراد إلا بسبب خرق أسلافه وإهمالهم. وبديهي أن الحاجة يمكن أن يلجأ إليها الإنسان لتسويغ كل شيء، على أن تصرفات محمد علي الآنفة الذكر لم تؤثر مطلقا في الفلاحين ولا أحس بضيرها إلا عدد قليل من الملكيين، وقد كان خليقا بمن وجهوا إلى الباشا عبارات النقد من الإنجليز أن يعودوا إلى أنفسهم فيذكروا أن اللورد كوبونواليس لم يكتف بنزع أراضي عدد قليل من الأعيان، بل جاوزهم إلى الكثيرين من فلاحي إقليم البنغال. نعم؛ ليس يمكن الدفاع عن الظالم، ولكن جريمة ظلم الأقلية هي أخف بكثير من ظلم الأكثرية . ذلك الظلم في الحالة الأولى لا يؤدي إلا إلى نوع مخفف من الشقاء يسهل تفاديه. وليس يخامرنا شك في أن لورد كورونواليس والباشا كانا يعتقدان أن سياستهما هي لصالح البلاد عامة.
وتلا استعادة الأراضي مسحها مسحا دقيقا أولاه الباشا عنايته، وتشتمل سجلات المديريات توقيعاته كدليل على اهتمامه بتلك العملية،
48
ولكن عمله هنا لم يأت كاملا لسوء الحظ بسبب رداءة موظفيه؛ فإن الذين تولوا مسح الأرض كانت تنقصهم الخبرة والدربة، بينما كان رؤساؤهم تعوزهم الأمانة،
49
وفي الواقع لم يكن لمحمد علي محيص من مواجهته، كما قام أمام شركة الهند الشرقية من المصاعب في سبيل القيام بمساحة الأراضي التي تأتي بالإيراد في الأقاليم البنغالية، ولم يكن لها في الأقاليم الهندية الأخرى من نتيجة سوى إحداث سيل جارف من الأغلاط الأولية.
ولنتقدم لك بمثال مما قام في وجه محمد علي من المصاعب؛ فقد اكتشف أن كبار الأعيان وأصحاب الأملاك الواسعة يرشون موظفي المساحة ليشهدوا على أن أراضيهم قاحلة جرداء تعوزها مياه الري، هذا بينما أولئك المساحون يسدون العجز الناشئ عن هذا التخفيض بفرض ضرائب فادحة على الأراضي التي يقوم بحرثها صغار الفلاحين،
50
على أن عملية المساحة هذه مهما كانت مختلة في الأمور التفصيلية، وبرغم أنها كانت في حاجة إلى مراجعة من آن لآخر كلما ظهر النقص باديا للعيان، نقول برغم هذا كله فإنها قد كشفت عن مساحات زراعية كبرى كانت الآن غير معروفة للحكومة نتيجة لأعمال الغش والتدليس المتعمد.
ومسألة أخرى كان لها أكبر نصيب من اهتمام الباشا، ألا وهي مسألة الري، فلقد أدخل ما لا يقل عن 38 ألف ساقية أو ما يزيد عن نصف ما كان يستعمل من السواقي في سنة 1844م،
51
وقد اهتم الباشا بتطهير ترع الري القديمة وأمر بحفر ترع جديدة بجانبها، ثم إنه حرص على إدخال مساحات كبيرة من الأراضي في الصعيد ضمن الأراضي القابلة للزراعة. ولم يفت كامبل بهذه المناسبة أن يشير إلى حفر ترع جديدة أريد بها أن تروي ما لا يقل عن المليون من الأفدنة،
52
وقد شهد بورنج من ناحيته بأن 100 ألف من الأفدنة البور قد أصبحت فعلا داخل منطقة الأراضي القابلة للزراعة،
53
وكان ساعد الباشا الأيمن في هذه المهمة المهندس الفرنسي المسيو لينانت الذي وضع المشروع الخالد لتوسيع دائرة أعمال الري في الدلتا وضبطها، والمشروع المشار إليه طبعا مشروع قناطر الدلتا المشهورة التي اتفق الرأي على إنشائها عند تفرع رياحي النيل فيما بعد القاهرة.
وقد كان المأمول عند وضع تصميم هذا المشروع أن يكفل ري أراضي الدلتا جميعا حتى في أسوأ أوقات الفيضان، وأن يساعد على ري ما لا يقل عن 200 ألف فدان إلى 300 ألف فدان من الأراضي الواقعة وراء القناطر المذكورة،
54
على أن وجه الصعوبة في إنشاء القناطر الخيرية كان يرجع إلى المسألة الفنية؛ فإن لينانت لم تكن له خبرة سابقة بمثل هذا المشروع؛ ولذا ظل البحث حول مشروع بناء القناطر، وتقرر في النهاية تحضير تصميم لعرضه على لجنة المهندسين في فرنسا،
55
وأظهر كثيرون من الناس ارتياحهم وقتذاك في إمكان تنفيذ المشروع الهائل الذي هو من هذا القبيل يستغرق إتمامه نحو خمسة أعوام ويتطلب من النفقات ما لا يقل عن مليون ونصف جنيه إنجليزي، على أن الحجر الأساسي للقناطر لم يوضع إلا في سنة 1247ه، ثم تبين بعد إتمام هذا العمل الكبير أنه لم يحقق ما كان معقودا عليه من الآمال؛ ذلك لأن عدم أحكام الأساس ساعد على تسرب مياه النيل، وهنا رفع المتشائمون عقائرهم، وقاموا يدللون على صواب رأيهم، ولكن المهندسين العصريين يوزعون المسئولية بين عدم تأني محمد علي وعدم خبرة لينانت، وعلى كل فإن هذه المسألة توضح أحسن توضيح قوة عزيمة محمد علي وضعفها في وقت واحد فإنها تكشف من جهة بعد نظره وفرط حبه للإصلاح والتحسين كما تكشف من الناحية الأخرى عن تعجله ونقص ما كان لديه من الوسائل.
وبالرغم من عدم تحقيق مشروع القناطر للآمال التي كانت معقودة عليها؛ فإن الأراضي الزراعية التي كانت تحت حكم الباشا قد زادت مساحتها زيادة عظيمة، وشرع الباشا في توزيع الأراضي على الأهالي كهبة لتشجيعهم على الإكثار من الزراعة، ولقد كانت الأراضي تعطى للأفراد من سنة 1829م فصاعدا على شريطة زرعها، وأسفرت هذه المنح في بداية الأمر عن إمكان استغلال ربع الأراضي فقط بواسطة الزراع وورثتهم إلى أن حل عام 1842م فتحولت الهبة من الانتفاع بغلة الأراضي إلى امتلاكها نهائيا، وحوالي ذلك الوقت أخذ الباشا في توزيع الأراضي التي أصبحت بفضل مشروعات الري الجديدة الكبرى صالحة للزراعة بشكل «جفالك»، بشرط توسيع دائرة الأعمال الزراعية فيها، وهذه الجفالك قد وزعها الباشا على أفراد أسرته،
56
وهكذا عاد حق الملكية الفردية مرة أخرى، وأخذ هذا الحق ينتشر في طول البلاد وعرضها، وبذا أصبح الأفراد المسجلة أسماؤهم في سجلات الري ملاكا في الواقع، وأصبح للأراضي في مصر كما في الهند سعر تباع به، وها هو بورنج نفسه يشهد بأنه لم يسمع بأحد نزعت منه أراضيه في العهد الحديث إلا عقابا له على عدم أداء الضرائب،
57
وها هو ما كان ينتظر أن يحدث في الهند مثله في ظروف تشبه الظروف المشار إليها هنا.
وكانت ضرائب الأراضي تدفع عينا أو نقدا، فالجهات التي كانت صالحة لزراعة بعض محاصيل معينة كالقطن أو النيلة، وهي الجهات التي احتكر الباشا حاصلاتها، نقول: كان الباشا يفرض على تلك الجهات أن تقدم مقادير معينة من الحاصلات التي كانت تزرع فيها، وفيما عداها كان لصاحب الأرض أن يزرعها ما يشاء في مقابل ضريبة معينة تقدر بالنسبة لجودة الأرض وقيمة المحصول الذي يصلح زراعته فيها. وقد جرت العادة لغاية سنة 1834م أن تفرض الضرائب بنسبة المساحة بقطع النظر عما إذا كانت الأرض صالحة أو غير صالحة للزراعة متى كانت هناك مياه تكفي لري تلك الأرض ولو جزئيا، ولكن الباشا رأى في تلك الساعة أن يسلك الطريقة العادلة بألا يفرض الضرائب إلا على الأراضي التي يمكن ريها جميعا.
58
وأدخل الباشا حوالي ذلك الوقت إصلاحا آخر له قيمته العظمى، وذلك بإلغاء العادة التي كانت متبعة في مختلف العصور، وهي الاستعاضة عن النقص في الإيرادات الناشئة عن الضرائب على أطيان شخص معين بزيادتها على أطيان الأشخاص الآخرين، ويظهر أن هذه العادة كانت متبعة في كافة أنحاء الشرق وكانت معروفة في الهند بقدر ما كانت معروفة في مصر، وكان محبذو هذه العادة يدافعون عنها بقولهم إنها تحول دون تمكين مشايخ البلاد وغيرهم من أرباب النفوذ الواسع من فرض نسبة غير عادلة من الضرائب على صغار الملاك.
59
ويخيل إلينا أن مقدار الضرائب قد زاد زيادة كبيرة، لا بل لقد رددت الألسن أن الضريبة المالية قد زادت إلى نحو الضعفين،
60
ولكن هذه المسألة بمفردها تعتبر مبهمة أو مضللة على التحقيق؛ لأنها تتجاهل كثيرا من الضرائب الإضافية وبعضها معترف به، والآخر غير معلوم مما كان يحصله الموظفون وهو ما لم يكتف البابا بمنعه، بل حظره حظرا تاما، وكذلك لا ينبغي هنا أن يأخذ الإنسان جديا ملاحظة من نفور الفلاحين الشديد من دفع ما استحق عليهم من الضرائب؛ فلقد علمتهم التجارب القاسية في خلال قرون عديدة كما علمت الفلاحين الهنود من قبل أن المبادرة بدفع الضرائب أمر غير محمود العاقبة؛ إذ كثيرا ما كانت تلك المبادرة تئول إلى اعتقاد بوجود المال بكثرة؛ ومن ثم أدت إلى المطالبة بالمزيد. وليس من شك في أن عهد الحكم الضعيف الذي سبق عهد محمد علي قد ساعد على رسوخ هذه العقيدة في النفوس، كما حدث في عهد حكومة شركة الهند الشرقية سواء بسواء، وها هم الكتاب الفرنسيون الذين كانوا يراقبون حالة مصر في عهد نابليون يشهدون بما كان يتكبده المماليك من الصعوبات الشديدة في سبيل جمع الضرائب؛ فالفلاحون كما قال هؤلاء الكتاب: «لا يدفعون ما عليهم من المال إلا في آخر لحظة، وحتى بعد ذلك فإنهم يدفعون بالتي واللتيا ومليما مليما، بينما تراهم يخبئون أموالهم ويخفون أمتعتهم ومنقولاتهم ... فإذا ما أحسوا باقتراب الجنود منهم أطلقوا سيقانهم للريح تصحبهم نساؤهم وأولادهم ومواشيهم تاركين وراءهم عششهم خاوية على عروشها، وأما إذا أنسوا من أنفسهم قدرة على المقاومة، فإنهم لا يحجمون عن القتال بعد أن يستفزوا لمساعدتهم القرى المجاورة، بل ورجال البدو أنفسهم.» ولهذا كنت ترى المماليك ملزمين باستبقاء الجنود في كل مديرية من المديريات المصرية، ولا عمل لهؤلاء الجنود إلا محاولة إرغام القرى على دفع المال، وهي مهمة كثيرا ما كان الحظ يخونهم في أدائها، تلك كانت الحالة في عهد المماليك، ولكن محمد علي كان أعز سلطانا وأقوى نفوذا من هذا. ويلوح أن المقاومة العلنية لأداء المال كانت معدومة بتاتا، ولكن المقاومة السلبية كانت ما تزال متواصلة؛ فإن الفلاح كان على ما يظهر يحسب أن الشرف منتهى الشرف ألا يؤدي حصته من المال إلا بعد أن تنهال السياط على جوانبه، بل إن البطولة التي كانت تستحق التمجيد والاحترام في نظرهم هي التي كانت تدفع أحدهم إلى الاستماتة إلى النهاية في مقاومة دفع المال.
ولم تكن هذه الحالة الوحيدة التي يمكن المقارنة فيها بين الفلاح المصري والفلاح الهندي؛ فإن الحكومات التي أرادت العناية الإلهية أن تقوم للإشراف عليهما كانت بمقتضى العادات القديمة تعتبر أن الفلاحين لم يخلقوا إلا للقيام بمهمة واحدة في حياتهم، ألا وهي حرث الأرض فقط؛ فواجب الزارع هو الزراعة، فإذا ما قصر في أداء ذلك الواجب فعلى الحاكم أن يعاقبه عقابا صارما. وقد ذكر أحد الكتاب أخيرا مشيرا إلى النظام الزراعي في الهند الإسلامية والهندوسية، فقال: «إنه نظام عبارة عن مجموعة واجبات لا حقوق.»
61
ويلوح أن محمد علي وشركة الهند وترتا هذه العقيدة الأخيرة بدون أي محاولة لتغييرها، وكان الباشا بطبيعة الحال أشد من موظفي شركة الهند تشبثا بهذه العقيدة. ومن ثم كنت تراه لا يميل بحال ما إلى رؤية الأراضي مهملة بلا حرث، وكان إذا علم مثلا أن الأراضي الممنوحة إلى مشايخ القرى في مقابل خدماتهم للدولة ظلت بلا ري تعلوها الأعشاب الضارة أمر بأن يضرب هؤلاء المشايخ بالسياط في جانب حقولهم ليكونوا عظة لغيرهم،
62
وكان من رأيه أن الفلاح لا بد أن يبقى تحت المراقبة فذلك أكفل لمصلحته.
وكان الباشا معروفا بحرصه على التدقيق في أسباب الشكاوى وسعيه لإزالتها، وهذا ما دفع القنصل صولت لأن يقول: «إن الفلاحين كانوا على الجملة في عهده يعاملون معاملة أحسن وهم أسعد حالا مما كانوا منذ سنين طويلة ...»
63
وليس يخفى أن شهادة صولت لها قيمتها الخاصة؛ لأن سياحاته العديدة وكثرة تجوله في مختلف أنحاء القطر باحثا عن العادات جعلته يحتك مباشرة بمختلف طبقات الفلاحين في مصر.
وكان كثيرون ممن شهدوا حالة مصر على رأي الباشا في وجوب المراقبة، وإليك ما قرره بيربرن في هذا الصدد؛ إذ قال: «بناء على تجربتي للأخلاق العربية كما نشاهدها اليوم لا يسعني إلا أن أسلم بأن هناك شيئا من الحقيقة في الفكرة القائلة بأن الفلاح المصري لو ترك لنفسه ليفعل ما يشاء لقصر نفسه على الحاجيات المؤقتة التي يشتهيها، ولظل أمدا طويلا لا يلتفت إلا إلى زراعة المحاصيل التي لا تقتضي زراعتها الكثير من الجهود والمال.»
64
وعلى كل حال، فإن أحوال الفلاحين تدهورت كثيرا بعد ذلك بزمن غير بعيد، ولعل ذلك لا يرجع سببه إلى فداحة الضرائب التي كانت تنوء بها الأراضي بقدر ما كان يرجع إلى نظام القرعة العسكرية الذي سأتناوله بالبحث فيما بعد ذلك؛ النظام الذي أثر أيما تأثير في قوة إنتاج القرى، في حين أن المطالبة بمال الحكومة بقيت على نسبتها الأولى دون مراعاة الأحوال الجديدة.
ونسمع ابتداء من سنة 1829م بسلسلة شكاوى من الفلاحين الذين هجروا قراهم، وعن صدور الأوامر الضارة لا ضد هؤلاء الفلاحين الذين يغادرون قراهم فحسب، بل وكذلك ضد كل من يوجد في كنفه من أبناء القرى الأخرى،
65
وقد عزا محمد علي ترك الفلاحين لقراهم إلى سببين رئيسيين الأول سوء معاملة الموظفين المحليين للفلاحين، والثاني الجهل. وبهذه المناسبة قال محمد علي: «ليس هناك إلا سيدان ألا وهما: السلطان محمود، والفلاح ... إذن فلا ينبغي أن ينظر للفلاح بالعين السيئة.»
66
وقال في مناسبة أخرى: «لا ينبغي حبس الفلاحين لإهمالهم الزراعة؛ لأن أول واجب على الحكومة هو أن تكفل رخاء الشعب ورفاهيته.»
67
ولقد خول للفلاحين أن يرفعوا شكاياتهم إلى المديرين إن أساء إليهم صغار الموظفين المحليين، لا بل وأن يرفعوا تلك الشكاوى إلى الباشا رأسا إن لم ينصفهم المديرون.
68
وكان يصحب هذا القلق المتزايد بين كافة طبقات الشعب تكدس الإيرادات المتأخرة، وقد أصدر الباشا إلى المديرين في سنة 1833م إنذارا حذرهم فيه بأنهم يكونوا مسئولين أمامه شخصيا إن لم يعملوا على أن يسدد الأهالي مال الحكومة.
69
وفي سنة 1835م قام الباشا بزيارة الأقاليم بنفسه لبحث هذه المسألة بدقته المعروفة،
70
وهناك رأي أن الحالة تحتم عليه أن يجري تخفيضا كبيرا في هذه الأموال.
71
وأخيرا التجأ الباشا إلى الطريقة المريبة، وهي حمل كبار ضباطه على أن يأخذوا لحسابهم القرى الغارقة في الدين في مقابل دفع الأموال المتأخرة بالتقسيط مع دفع الضرائب الحاضرة في مواعيدها في الوقت نفسه، ولما أظهر الضباط تذمرهم من هذا التصرف لم يسع الباشا إلا أن يصارحهم بأنهم أثروا في مدة حكمه فلن يمكنهم الآن من التخلي عنه.
72
وعلى العموم كانت إدارة الإيرادات عرضة لما أصاب شركة الهند الشرقية في أوائل عهدها في الهند من ضروب النقص والخلل؛ فلقد كانت تفرض ضرائب فادحة لا يسع الزراع أن يؤدوها في عام واحد من الأعوام العادية يضاف إلى هذا أن المرءوسين المكلفين بجمع الضرائب كانوا على جانب عظيم من الإهمال وحب الرشوة، هذا فضلا عن أن الضرائب المذكورة لم تكن متساوية في كافة القرى؛ مما كانت نتيجته أن بعضها كان يقدر على الدفع، في حين أن بعض القرى الأخرى ناء كاهلها بها.
ومع أن نظام إيرادات الأراضي كانت له أهميته الأولى بالنسبة للبلاد عامة؛ فإن أحدا من الدول الأجنبية لم يكترث له بتاتا.
وبالعكس كان لسياسة محمد علي التجارية مساس بشئون البلاد في الداخل والخارج، وهذا ساعد على اهتمام الدول بأمرها أكبر اهتمام.
ولم يكن يخطر لأحد أن تكون للامتيازات التركية حرمة في مصر في عهد المماليك؛ لأن الحياة كانت رخيصة ومعرضة للخطر، والتجارة غير منظمة ومضطربة، وبيكوات المماليك في حياة تمرد وعصيان، والتجارة الأوروبية في مصر تافهة؛ بحيث لم تر إنجلترا وفرنسا سببا كافيا يدفعهما إلى محاولة التمسك بحقوقهما النظرية.
وقد ظلت هذه الحالة سائدة أمدا طويلا حتى بعد أن استلم الباشا أعنة الحكم في مصر، ولم يفكر أحد سنوات عديدة في أن يرفع عقيرته بالشكوى الرسمية من القواعد الموضوعة لتنظيم الشئون التجارية مهما بلغت الشكوى في الخفاء.
مع أن المتاعب الجديدة لم تبدأ إلا في خلال العقد الثالث من القرن الغابر، وقد وجه وقتذاك كامبل حملة من اللوم والنقد ضد من سبقه من القناصل لما أظهروه من عدم الاكتراث وروح الإهمال؛ فإن «الكثيرين منهم كان لهم ضلع في الأعمال التجارية أو مدينين لمحمد علي شخصيا، وهذا ما جعلهم يخشونه في التمسك بما لمواطنيهم من حقوق عادلة.» أما القنصل موليه فقد كتب إلى ديلسبس بعد ذلك بعامين خطابا يأسف فيه على ما أظهره الممثلون السابقون من شدة التسامح؛ مما أدى إلى تقييد الأمور وجعل الشكوى متعذرة.
73
ولقد كانت سياسة الباشا التجارية مدفوعة في منشأها وفي مراحلها الأولى بحاجته إلى العثور على المال، وبما في الاحتكار من مزايا ظاهرة كثيرا ما خلبت أنظار الحكام الشرقيين بعدما خلبت أنظار التجار في الغرب، وكثيرا ما رفع صولت عقيرته بالشكوى في سنة 1820م، ثم في سنة 1827م من المساوئ التجارية الناشئة عن مركز محمد علي بصفته التاجر الرئيسي في البلاد التي يحكمها؛
74
فإنه لم يكتف بإرغام الفلاح على الزراعة، بل كثيرا ما حدد نوع المحاصيل التي ينبغي زراعتها في بعض الجهات وأمر بتسليم المحاصيل إلى شون الحكومة في مقابل سعر معين، وبديهي أن مساوئ ذلك النظام أظهر من أن تحتاج إلى بيان، ولكن كان للمسألة وجه آخر؛ ذلك أن موارد البلاد كان يجري استغلالها بشكل لا عهد لها به من قبل. وبهذه المناسبة كتب صولت يقول: «ولا ينبغي أن يفوتنا أن الباشا إلى حد معين قد أنشأ كافة مواد الإنتاج الطيبة التي أصبحت الآن أهم مواد التصدير كالقطن والنيلة والسكر، وباستعمال الحكمة في تخصيص مبالغ كثيرة لإصلاح كثير من نواحي الصناعة، وهي تلك النواحي التي كان الفلاحون لا يجدون الوسائل الكافية ولا الرغبة اللازمة لإصلاحها.»
75
وأدخلت كذلك زراعة الخشخاش فيما بعد في كثير من نواحي الصعيد، كما غرست أشجار التوت وأنشئت المصانع لتكرير السكر وتقطير الروم.
وأنشئت في رشيد مدبغة لسد حاجة الجيش من الأحزمة والأحذية والسروج،
76
وقد أسست المصانع لحياكة الأقمشة القطنية، ولقد كان الباشا بأعماله هذه على كل حال يحقق المثل الاشتراكي الأعلى في ناحية من النواحي.
ولقد قامت معظم مظاهر النشاط هذه على أساس فكرة سقيمة مختلة؛ ولذلك سرعان ما دب دبيب الفشل في المصانع الدقيقة فأهملت آلاتها وتركت أجزاؤها المتحركة في حاجة إلى الزيت، هذا بينما كانت الإدارة جاهلة مهملة، وكانت النيران هي مصدر القوة المحركة، مع أنه كان من الطبيعي تسخير بحري ومساقطه لهذه الغاية، وأظهر الفلاحون كراهيتهم لما لم يألفوه من نظام ساعات العمل، ومن ثم لم يكن ندحة عن جمعهم بالقوة كما كان يجمع أنفار القرعة العسكرية، وقد لاحظ بورنج «أن الباشا كان يسحب من الحقول الأيدي العاملة، حيث كانت تعمل لإخراج الثروة لاستخدامها في المصانع ... حيث تبدو تلك الثروة بلا حساب.»
77
ويقال إن الباشا أنفق ما لا يقل عن اثني عشر مليونا من الجنيهات على هذه المصانع وعلى الآلات التي جهزت بها، وقد ذهبت كل هذه الأموال سدى. ومع أن هذه الجهود قد بذلت في غير طائل فإنها تستحق الذكر المقرون بالاحترام؛ لأنها دليل على تحول في فهم الباشا لواجباته، فلقد بدأ حكمه بالسعي لإيجاد المال ولم يلبث أن اختتمه بالسعي - مهما كان خاطئا - بتحسين البلاد وتمدينها.
ولعله كان مسوقا في هذا العمل بمغالاته في تقليد الغرب، ولكنه ما لبث أن أصبح أنبل وأشرف خلقا من هذا المخاطر الشره الذي لا غاية له إلا تعزيز مركزه وجمع المال والثروة، بل إن ما فرضه محمد علي على نفسه من ضروب الاحتكار لم يخل من جانبه الطيب، فإذا قيل إنه ضايق الفلاحين فلا جدال في أن مضايقته لهم كانت أهون بكثير مما كانت مضايقة التجار الأجانب التي تكون لهم فيما لو ترك لهم محمد علي الحبل على الغارب ولكان عبء القروض التجارية أفدح بكثير من المبالغ المتأخرة في جدول إيرادات الباشا، وهذه حقيقة كان محمد علي يؤمن بها.
78
وبديهي أن اتباع تلك السياسة كان يثير غضب الحكومة البريطانية ويستفزها؛ لأن مصر بصفتها جزءا من الإمبراطورية العثمانية كان يتعين أن تكون خاضعة لنظام الامتيازات التركية وهي - كما يفهمها التجار الإنجليز - تتضمن الحق في إطلاق حرية التجارة.
فلقد نصت المادة الثالثة والخمسون على أن للتجار مطلق الحرية في أن يبيعوا أو يبتاعوا أو يصدروا مختلف السلع التجارية دون أن يكون لأحد ما الحق في منعهم أو التعدي عليهم، ولكن يوجد أولا ما يقيد هذا الحق الظاهر في إطلاق حرية التجارة؛ فإن هناك عبارة غامضة غموضا يبعث على الريب، وهي تقضي باستثناء «السلع الممنوعة» من الأحكام السابقة. وقد لاحظ صولت بحق أن هذه العبارة تترك تقريبا كل شيء خاضعا لثروات حكام الأقاليم ومديري البوليس؛ فقد يستغلون تلك العبارة فيضيفون إلى قائمة السلع الممنوعة أي سلعة أخرى يختارونها. وهو رأي وضعه ستراتفورد كاننج في تزييل لاحق بأنه رأي حكيم وقائم على أساس ثابت.
79
ومن هنا بدأت المفاوضات التي قام بها بالمرستون بواسطة بونسيني لمراجعة قواعد التجارة الإنجليزية في داخل بلاد الإمبراطورية العثمانية، وهي المفاوضات التي أدت إلى الاتفاقية التجارية التي أمضيت في سنة 1838م، وقد نصت هذه الاتفاقية بصراحة على إلغاء نظام الاحتكار، وهو ما أصر بالمرستون على تطبيقه في مصر مدافعا عن رأيه بقوله: «ولعله يتبين لكل إنسان له إلمام بالمبادئ التي تقوم عليها أسس رخاء الأمم ويسرها ... أن النظام الذي يتبعه الباشا الخاص بالاحتكار ... سوف يؤدي حتما إلى جعل مصر وسوريا في حالة فقر مدقع.»
80
وما كاد يتم توقيع الاتفاقية حتى طلب بونسيني إلى القناصل في سوريا أن يوافوه بقائمة ما احتكرته حكومة الباشا من الامتيازات، فأبلغه قنصلا حلب ودمشق بأنه لا توجد لتلك الامتيازات قائمة، أما قنصل بيروت فقد بعث بقائمة طويلة دلت عند الفحص على أن الرجل يخلط بين الامتيازات وبين إيراد الضرائب.
81
أما في مصر، فقد كانت الحالة أوضح مما كانت في سوريا. نعم كان الباشا محتكرا لبعض الامتيازات، ولكن الأمر لم ينظر فيه جديا إلا بعد تسوية أزمة سنة 1940م؛ وذلك للسبب الرئيسي الخاص بتأخير إبلاغ الفرمانات اللازمة الواردة من الآستانة. وقد ظهر وقتئذ مبلغ الصعوبة في مصر مدى هذه الامتيازات؛ لأن المقادير الهائلة من محصول القطن أو السكر أو غير ذلك من النتاج الذي كان تحت إشراف الباشا كانت هذه المقادير تسلم إليه؛ إما لأنه صاحب جفلك أو كأنها جزء من إيراد أطيان الدولة.
وقد ظل بالمرستون يبعث برسائل
82
غاضبة تنطوي على التهديد والوعيد، ولكن آراء رجال التجارة في كل من الإسكندرية والقاهرة كانت قلقة ومتذمرة من جراء سياسته السالفة التي ربما لم تكن تعلم تماما ما هي «المبادئ التي تنظم ثروة الأمم»؛ ولذا فإن التجار المذكورين لا يسعهم مساعدة القنصل برفع الشكاوى إليه.
83
وكان يوجد إلى جانب ذلك سبب آخر جعلهم ينظرون إلى الاتفاق التجاري بعين السخط ويتقززون من تطبيقه على مصر؛ لأن الاتفاق من حيث علاقته بمصر قد أعد لا لنفع التجارة الإنجليزية، بل لنقص إيرادات الباشا بتجريده من امتيازاته العديدة. ومهما كان الاتفاق مفيدا ونافعا في الآستانة، أو في أزمير، أو في ما عدا ذلك من المواني الخاضعة لحكم السلطان؛ فإنه كان على العكس من ذلك في مصر لأن المصدر الإنجليزي كان مطالبا بمقتضى الاتفاق المذكور بأن يدفع 12٪ بدلا من 3٪، كما أن المحاصيل في سوريا إذا صدرها التجار الإنجليز جميعا فإنها تأتي بثمرة قدرها 2٪ بدلا من 12٪، أما التجار الأجانب فإنهم طبعا يظلون يدفعون على حساب الأسعار القديمة؛ ولهذا كان يوجد مبرر قوي لسخط التجار على سياسة بالمرستون.
84
وليت البلوى وقفت عند هذا الحد؛ فإن الاتفاق عين الأسعار وحددها ولم يتركها تتراوح على حسب تقلبات السوق؛ ولهذا تبين عندما بدأ العمل بهذه الأسعار في سنة 1841م أنها 22٪ على حسب قيمة القطن وبين 20-25٪ على حسب سعر الصوف وأكثر بكثير من 2٪ على حسب سعر الحبوب، أما الضريبة على الواردات التي أريد بها ألا تزيد عن 5 في المائة فقد بلغت فعلا 9 في المائة، وكانت نتيجة ذلك كله أن الباشا وافق في النهاية أن يفرض ضريبة قدرها 12 في المائة على حسب سعر الصادرات و5 في المائة على حسب سعر الواردات تدفع بالعملة المصرية،
85
أما فيما يختص بما احتكره من الامتيازات، فقد وجد الباشا بأن يبيع حاصلاته في المستقبل بالمزاد العام.
86
ويتعذر على المرء ألا يعرض لهذه الأخطاء وما صحبها من المفاوضات الدالة على الغباء دون أن يحس بحرج للعزة القومية.
ولقد كان في طليعة الأمور التي دعمت مركز الباشا أن تتجمع كافة القوى القادرة على مناهضة قوات مولاه السلطان ومقاومتها؛ فسعيه إذن لإنشاء جيش كبير كما تسمح بذلك موارده كان أمرا طبيعيا ومعقولا، أما كونه يسعى لإنشاء أسطول؛ فدليل على نشاط عقله وعلى الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه؛ فلقد كان إنشاء ذلك الأسطول عاملا رئيسيا في مشاريع محمد علي فيما لو اتجهت آماله يوما ما إلى السيطرة على شئون الإمبراطورية العثمانية، ولكن كان لا بد لإنشاء ذلك الأسطول من الابتداء بأول حجر في الأساس، وذلك في بلاد بلا تقاليد بحرية بتاتا وتحت إشراف حاكم لا يدري شيئا من المسائل الفنية الخاصة بالأساطيل. على أن الباشا قد بدأ إنشاء الأسطول بالتوصية في الخارج على بناء السفن، كما فعل في بمباي وليجهورن ومرسيليا، ثم ما لبث أن طلب إلى الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في سنة 1821م أن تبنيا له عددا من الفرقاطات.
ثم لم يمض على ذلك زمن طويل حتى أنشأ حوضا كبيرا في الإسكندرية، ومن ثم بدأ يبني السفن لحسابه مستعينا بخدمات بنائي السفن الفرنسيين للإشراف على سير العمل، وفي سنة 1828م بدأ الباشا بإنشاء ترسانة بحرية لتزويد القوات البحرية بما تحتاجه من المهمات والعتاد. ولم يلبث أن شرع في إنشاء أسطول يحل محل الأسطول الذي دمر في موقعة نافارين، وكان على يقين بأن سفنه سوف تكون أحدث عهدا وأحكم رعاية؛ مما عسى أن ينشئه السلطان من السفن، وبدلا من أن يكتفي بالفرقاطات وجه عنايته إلى إنشاء بوارج كبيرة تحمل كل منها مائة مدفع أو أكثر.
87
وفي سنة 1829م جاء الباشا بالقومندان البحري «سيريسي» من الأحواض الملكية في طولون وعهد إليه الإشراف على أحواض الإسكندرية.
وفي سنة 1831م أنزلت أول بارجة إلى البحر تحمل مائة مدفع وقد سميت باسمه،
88
وفي سنة 1833م كان لدى الباشا ست بوارج يتراوح ما تحمله من المدافع بين 84 و110 مدفع هذا إلى جانب سبع فرقاطات.
ولم يحل عام 1837م حتى بلغ ما لديه من النوع الأول ثمانية يضاف إليها بارجة تاسعة كان العمل ما يزال جاريا فيها،
89
أما الترسانة فقد بلغ عدد العمال فيها 3000 تحت إشراف 60 موظفا أجنبيا، ولحق بهذه الترسانة المدرسة البحرية الكائنة برأس التين، وقد بلغ مجموع تلاميذها 1200 طالب.
وواصل الباشا هذه التحسينات تحت إشرافه الشخصي يدفعه الحماس الشديد الذي حمله أن يسوق رعاياه إلى معاونته في العمل بالرغم منهم، وكان يلذ له أحيانا أن يتجول على ظهر إحدى سفنه في المياه المحيطة بالإسكندرية.
وقد مر بك ما قلناه عن محاولته مطاردة الأسطول اليوناني بإحدى البوارج المصرية، وقد وضع الباشا قانونا للأسطول مستمدا من القواعد المعمول بها في الأسطولين البريطاني والفرنسي، وراعى في هذا القانون التمشي مع القانون التركي،
90
ولكن الباشا بينما كان في وسعه بمحض همته ونشاطه أن يجد حاجته من السفن الجيدة الصنع؛ فإنه لم يستطع الحصول على الملاحين في بلاد لم يكن لها أسطول تجاري من قبل. وبهذه المناسبة كتب قنصلنا الجنرال في سنة 1832م، فقال: «إن هناك حركة متسعة النطاق ليس للحصول على رجال تعودوا عبور البحار، بل للحصول على الأفراد بدون تمييز أو تثبت من صلاحيتهم للعمل الذي يناط بهم. وقد جمعت الحكومة في الإسكندرية في خلال ثمان وأربعين ساعة ما لا يقل عن 1000 شخص لتكملة العدد المطلوب.»
91
وقد كان في الإمكان عمل شيء نافع حتى لطائفة من الملاحين من هذا القبيل لو أضيف إليه عدد معين من الملاحين الحقيقيين تحت إرشاد ضباط بحريين ماهرين ومدربين، ولكن هؤلاء الملاحين الخام الذين جمعهم الباشا، كما لاحظ قنصلنا الجنرال العام السالف الذكر «لم يكن يوجد بينهم لا ضباط مدربون وطنيون ولا حتى البحارة العاديون.»
92
وقد علل الباشا نفسه في سنة1831م بأن يسد هذا النقص باستخدام الضباط والملاحين الإنجليز، وعهد إلى الكولونيل لايث ابن حاكم بنيانج على ما أظن أن يختارهم له. وكان محمد علي في حاجة إلى اثنين من درجة قنطان واثنين من درجة كوموندور وإلى عدد من الضباط ونحو 40 أو 50 صف ضابط عدا من يلحق بهم من الملاحين القادرين،
93
ولكن المسألة ظلت معلقة ردحا من الزمن؛ لأن الحكومة البريطانية لم توافق إلا في سنة 1834م فقط على السماح للضباط البحريين المتقاعدين في الاستيداع بالخدمة في أسطول مصر،
94
وكان الباشا وقتذاك قد تمكن من استخدام بعض الضباط الفرنسيين، وكان الفيس أميرال هوبيسون بك يعاونه بوظيفة رير أميرال حسن بك، وهو ضابط تركي تلقى علومه في جامعات أوروبا.
ولكيما يظهر الباشا مبلغ اهتمامه بالأسطول الذي وضعه تحت رعايته الشخصية قرر أن ينشأ أحد أنجاله، وهو سعيد بك، نشأة بحرية. وتنفيذا لهذا القرار التحق الأمير الشاب، وهو في سن الثالثة عشرة بإحدى السفن بدرجة صف ضابط اسميا فقط ووقع الاختيار على ضابط فرنسي خبير لتدريبه على الشئون الفنية، وبعد مرور خمس سنوات تولى الأمير قيادة إحدى الحراقات، ولكن الأمير كان مصدر متاعب لأبيه؛ نظرا لما بدا عليه من علامات الكسل والإفراط في السمن قبل الأوان، وكان الأمير يوزن من حين إلى آخر، وكلما بدا عليه ميل إلى زيادة السمن أرسل إليه والده خطابا يشدد عليه فيه بالتمييز بين «الغث والسمين »، وبتنمية صفات الرجولة وبتخليص جسمه من آثار الترهل البغيض في عيون الناس جميعا.
95
أما أسطول الباشا، فكان شأنه كشأن مصانعه سواء بسواء، أي إنه كان ينقصه الأساس المتين، بمعنى أنه لم يكن في الاستطاعة الاحتفاظ به في حالة الاستعداد إلا إذا سهر منشئه على مراقبته ورعايته بنفسه؛ لأن الأسطول لم يرق في أعين طبقة من طبقات الشعب، ولم يكن له ماض طبيعي أو تقاليد مرعية قديمة، بل كان أبغض إلى الشعب من الجيش ، وقد وقف هذا الأسطول مكتوف اليدين في مياه الإسكندرية طيلة فترة الحرب السورية القصيرة الأجل، وقد حرمه القبطان باشا من فرصة أداء المهمة التي لم ينشأ الأسطول إلا لأدائها.
وما كان الباشا ينتقل إلى عالم الخلود حتى بيعت السفن الصالحة الباقية إلى الباب العالي، وكان ذلك دليلا على فشل التجربة التي حاولها الباشا في إنشاء الأسطول.
أما نشاط الباشا وما بذله من الجهود في إنشاء الجيش وتوسيع نطاق أعماله؛ فقد كان أدنى إلى التوفيق من جهوده البحرية، ولقد سبق لي أن بينت أن محمد علي بعد أن كان جيشه في بداية الأمر عبارة عن خليط من فرق أجنبية من الجنود المأجورين قد تحول تدريجيا إلى جيش عظيم يتبع الجيوش الأوروبية من حيث النظام والاستعداد، وقد تم إنشاؤه على النمط الأوروبي، كما أنه تكون بإدخال نظام القرعة العسكرية في البلاد.
فلم يحل عام 1832م حتى كان الباشا قد تمكن من جمع قوة نظامية كبيرة وكان جيشه وقتذاك مركبا من 20 أورطة من المشاة و10 أورط من السواري، هذا عدا شرذمة صغيرة من الجنود الأتراك غير النظاميين تصحبها قوة أكبر من البدو غير النظاميين أيضا، وقد بلغ مجموع هذه القوة 38 ألف جندي.
وبعد مرور ثلاثة أعوام ازداد عدد هؤلاء الجنود فبلغ في سوريا وحدها 59 ألفا؛ أي إن معدل الزيادة بلغ 50٪
96
ويغلب على الظن أن مجموع ما كان لدى الباشا تحت السلاح بلغ 100 ألف جندي، وكانت هذه الجنود مجهزة في بداية الأمر ببنادق استوردها الباشا من فرنسا وإنجلترا، ولكن لما كانت البنادق المذكورة من نوع رديء فقد أنشأ مصنعا خاصا لصنع البنادق في مصر، وقد حصل الباشا من لندن على 2000 عينة من أمتن وأحدث البنادق، وجرى تدريب الجنود وتمرينهم أولا تحت إشراف ومراقبة ضباط فرنسيين وغيرهم من ضباط القارة الأوروبية مثل الكولونيل سيف، أما الضباط الذين فتحت لهم مدارس خاصة في الجيزة وغيرها من الجهات فكانوا من أسر تركية أو أسر أجنبية،
97
وكان أكثرهم من موالي الباشا، وقد وقع عليهم اختياره نظرا لما لاحظه فيهم من حسن الاستعداد للخدمة العسكرية، أما الجنود (الأنفار) فكانوا جميعا من الأسر المصرية وبينهم بعض السوريين طالما كانت سوريا تحت حكم محمد علي.
ويقول البعض إن ما التجأ إليه الباشا من الوسائل لجمع الأنفار للخدمة العسكرية يعتبر من أسوأ ما ارتكبته إدارته من الأغلاط؛ فلقد أراد الباشا إحصاء عدد السكان، ولكنه اضطر إلى العدول عن ذلك الرأي بسبب المعارضة العامة التي اشترك فيها بعض الموظفين التابعين للباشا،
98
فلم يكن له ندحة من الالتجاء إلى مديري الأقاليم ليقوم كل بتوريد عدد معين من الأنفار، وقد قسم هذا العدد طبعا بين القرى والدساكر المختلفة.
ومن ثم راح مشايخ القرى يضعون أيديهم على أكثر عدد من الرجال تاركين أولئك الذين يقدمون لهم أكبر رشوة لإطلاق سراحهم وإعفائهم، أما من قعد عن دفع الإتاوة فقد أرسلهم المشايخ كل اثنين مصفدين في الأغلال كأنهم مجرمون،
99
ولما كان الباشا في أوج عزه كان عدد من يطلبهم للخدمة العسكرية واحدا من كل ستة أشخاص؛ أي بمعدل 17٪ تقريبا.
ولم يكن بين مصالح الحكومة ما يخشاه الأهالي ويكرهونه كالخدمة العسكرية، وقد يدخل في باب المبالغات ما كان يرويه معشر السياح عن وجود كثيرين من الأهالي كانوا يفرون من الخدمة العسكرية بقطع سبابة اليد اليمنى،
100
وقد ذكر كامبل أن السائحين ربما يكونون قد علموا خطأ بأن بعض الأهالي كان يتعمد للفرار من العسكرية قطع أحد الأصابع وخلع الأسنان وعمى العينين.
101
نعم؛ قد يكون هذا من قبيل المبالغات، ولكن هذه الروايات قد قامت الأدلة على صحتها، ولم يعد ثمة مجال للشك فيها كما تشهد مكاتبات الباشا نفسه بذلك؛ فقد كتب يقول: «ليس من يضعون سم الفأر في أعينهم سوى حيوانات في صورة آدميين، وينبغي الحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة.»
102
وإذا ظهرت إدانة قرينة الحلاق التي ساعدتهم على وضع ذلك السم في أعينهم فلا بد من إعدامها وترك جثتها في العراء مدة ثلاثة أيام،
103
واتهمت امرأة بتهمة من هذا القبيل فألقيت في النيل حية.
104
وقد أصدر الباشا تحذيرا للائقين للاقتراع العسكري بأن من يتعمد تشويه عضو من أعضائه فلن يكون جزاؤه السجن والأشغال الشاقة المؤبدة فقط، بل لا بد أن يؤخذ مكانه عضو آخر من أعضاء أسرته.
105
وقد حذر الباشا الموظفين بأن استمرار هذا التشويه دليل على تراخيهم في مراقبة الأنفار، وأنه إذا استمر هذا العمل فلسوف يجازون بنفس العقوبة التي يعاقب بها الأنفار سواء بسواء،
106
ولما تبين أن الأشغال الشاقة لم تكن رادعة لجأ الباشا إلى عقوبة الإعدام.
107
فهذه الأعمال كانت كلها ملموسة، بحيث إنها تبرر امتعاض بالمرستون من حكم الباشا وتقوي الضرورات السياسية بالاعتبارات الإنسانية.
كما أنه لا يمكن عدلا أن يلقي اللوم كله على عاتق السلطان بسبب عناده وعدائه للباشا؛ فإن الاقتراع للعسكرية كان يمكن أن يراعى فيه جانب العدل فيما لو خفف الموظفون من وطأة جشعهم وميلهم إلى الاضطهاد والظلم، ولا ندحة عن القول هنا بأن الباشا فيما يتعلق بهذه المسألة قد ورطته أحلامه السياسية إلى اتباع سياسة تذكر الإنسان بأنه حاكم تركي أولا ثم هو بعد ذلك مستبد عادل، ولكنا إذا تركنا جانبا قوة ما لجأ إليه من الوسائل، فلا يمكن القول بأن المقصود والغاية من تجييش الجيوش كانت كلها سيئة؛ إذ لم يكن من سبيل آخر لإنهاض عزيمة رجال ظلوا يرسفون في قيود العبودية قبل إنشاء الهرم الأول، ولم يخطر لأحد منذ الفتح العربي أن يستخدمهم في أعمال القتال، بل لقد ظلوا قانعين طيلة تلك القرون بحرث الأراضي والحقول وحمل الأثقال وتحمل الضرب وإطاعة الأمر والتناسل تاركين لأعقابهم هذا الميراث المؤلم. وكذا بلغ هلعهم من أن يخطفهم مشايخ القرى ويسحبوهم للانخراط في سلك جيوش الباشا إلى حد أنهم كانوا يستهينون بقطع أحد الأصابع وخلع الأسنان ورمد الأعين، ولكن امتناعهم عن التشبه بالرجال لا يمكن أن يحمل الإنسان على توجيه اللوم للباشا؛ لأنه أكرههم على ذلك التشبه.
ولم يقف الإصلاح عند هذا الحد، فلقد أجمعت كلمة من شهدوا الحالة في مصر على أن النظام الجديد كان أقل عنتا للأهالي عن نظام الجنود الأجانب المأجورين، بمعنى أنهم لم يتركوا وراءهم أي أثر من آثار التخريب، ولم يكن زحفهم بالبلاد مصحوبا بآثار التدمير؛ لأنهم لم يجتازوا الأقاليم المصرية كما لو كانوا يخترقون بلاد العدو على نحو ما كان يفعله الجنود الأجانب المأجورون.
وبالجملة لم يكن ما أوجده الباشا من التأسيسات العسكرية مجرد مظهر من مظاهر السلطة مضى في تنفيذها بلا مبالاة لرغبات رعاياه. كلا؛ بل كانت - والحق يقال - وسيلة من وسائل التعليم وضربا من ضروب الإصلاح الإداري.
ومع أن القضاء كان في حاجة ماسة إلى الإصلاح إلا أنه كثيرا ما عرض إلى مسائل لم يكن من المستطاع مداراتها بالعنت العاجل.
بل كان أشد ما يكون ارتباطا بالشريعة الغراء، بحيث لم يستطع الباشا مساسه أو التعرض له إلا بمنتهى الحذر.
ولقد كان المفتي هو المرجع الأعلى في كل ما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق، وبالأخص مسألة الميراث.
وكان تعيين هذا المفتي سنويا بواسطة الباب العالي أحد بقايا مظاهر السيادة العثمانية على مصر. ولما كان هذا الموظف الكبير يبتاع منصبه هذا من الباب العالي نفسه فلم يكن ينتظر من المفتي أن يكون نزيها في تطبيق العدالة ولا حريصا في اختيار من يشغلون مناصب القضاء تحت إشرافه؛ ولذا كان محمد علي شديد الارتياب في ذمة هؤلاء القضاة ونزاهتهم، وقد نصح إحدى الأسر بعد أن دب دبيب الخلاف بين أعضائها بأن يعقدوا الصلح فيما بينهم وألا يلتجئوا إلى القاضي خيفة أن يقعوا في براثنه فلن يقتصر الضرر على أحدهم فقط، بل سيلحقهم جميعا وتدور عليهم الدائرة ويخرجون من التحكيم بصفة المغبون، بينما يفوز القاضي بنصيب الأسد.
على أن الباشا وإن لم يسعه التدخل مباشرة في دائرة أولئك القضاة إلا أنه بذل ما في وسعه لتحديد نتائج أعمالهم؛ فلقد أنشأ في كل من الإسكندرية والقاهرة محكمة جديدة لا تتقيد بقيود الشريعة الإسلامية، وقد جعل أعضاء هاتين المحكمتين من رجال التجارة بدلا من رجال الدين وعهد إليهما بفض المشاكل التجارية، وبخاصة ما يجد منها بين المسلمين والمسيحيين. على أن هذا الأمر الذي استلفت الأنظار في تكوين هاتين المحكمتين أن الأعضاء المسلمين فيهما لم تكن لهم الأغلبية؛ فمثلا كانت محكمة الإسكندرية مركبة من تسعة أعضاء بينهم أربعة مسلمون، والخامس فرنسي، والسادس يهودي، والسابع والثامن من المسيحيين السوريين، والتاسع من الرعايا اليونانيين.
108
أما فيما يتعلق بأحكام الجنايات فكانت من اختصاص الهيئة التنفيذية عادة، ولم يدخر الباشا وسعا منذ جلوسه على الأريكة المصرية لوقف أو تقليل كافة الجنايات المنطوية على استعمال العنف. وقد علق ميسيت في سنة 1813م على هذه الحقيقة الباهرة بأن سكان القاهرة صاروا لأول مرة منذ أجيال عديدة يتمتعون بنعم الطمأنينة على النفس والمال،
109
إن هذا الشعور بالطمأنينة لم يتوطد إلا بعد استعمال مختلف ضروب الشدة وإعدام كثير من الأشرار، وكثيرا ما كانت بوابة زويلة مثلا - وهي التي كانت ينفذ في ساحتها الشنق العلني تعلق على جدرانها جثث المشاغبين - وكانت أحكام الباشا عرفية لا نقض لها؛ فكانت الأحكام مما لا يمكن التوفيق بينه وبين ما يجري في القارة الأوروبية.
مثال ذلك أنه لو اتهم شخص بالسرقة من مصنع البنادق فإنه يحكم عليه إذا كان شابا بالأشغال الشاقة المؤبدة وهو مصفد بالأغلال، أما إذا كان شيخا فيصدر الحكم بإعدامه ليكون عبرة لغيره.
110
ولكن ليس ثمة ما يدل على أن تطبيق الباشا لقانون الجنايات كان أشد صرامة مما كان متبعا في إنجلترا لغاية ظهور الإصلاحات التي وضعها «بيل»، وهي التي خفت وطأتها على كل حال بمرور الزمن.
وكثيرا ما كانت تستبدل بعقوبة الإعدام الشغل في الجبال، وهذا ما حمل «عشماوي» الحكومة المصرية في القاهرة على أن يصرح لبورنج أن عمله غدا محدود أو ضئيل.
111
أما الرق والنخاسة فقد كانا من الأنظمة المتأصلة بحيث لم يكن في وسع محمد علي إلغاؤهما مهما كانت رغبته في ذلك شديدة.
وكان عهد محمد علي بهما يرجع إلى زمن الصبا، بل زمن الطفولة، فقد كانا القاعدة المعمول بها في الشرق من عهد بعيد، ولم يكن فيها ما تتقزز منه العواطف الأدبية في العقلية الشرقية. لا بل إن ضمير الغرب وهو أكثر تأنفا من ضمير الشرق لم يضق ذرعا من مسألة الرقيق ويطلب وقفها إلا منذ عهد قريب فقط وقبل ذلك لم يعمل شيئا، بل ولم يكن في الاستطاعة عمل شيء لتقييد سوق النخاسة في القاهرة أو التأثير في السلطة التي منحتها الشريعة الإسلامية للسيد على مولاه. وقد لفت المسيو دي هامل قنصل روسيا الجنرال نظر الباشا في سنة 1826م إلى الموضوع، وسأله إذا كان في استطاعته أن يشل قدرة السادة على إنزال عقوبة الموت بمواليهم أو إلحاق الأذى بهم ومعاملتهم أسوأ معاملة؛ فأنعم محمد علي النظر مليا وخيل إليه أنه قد يستطيع أن يصنع شيئا في صدد الذكور من الرقيق، ولكنه لم يعلل القنصل بشيء من الأمل فيما يتعلق بالنساء الرقيق، بل قال إنه لا يمكنه التدخل في شئونهن؛ لأن الحريم مكان مقدس ولا يسمح لقريب - كائنا من كان - بالدخول فيه،
112
ثم وقفت المسألة عند هذا الحد.
ولا بد أن ما قام بينه وبين الدول الأوروبية من النزاع حول الشئون الخارجية قد حول نظره عن الدخول في مسألة شائكة كمسألة الرقيق لم تكن له شخصيا أي رغبة في إجراء الإصلاح فيها أو تحسين شأنها.
وكانت النخاسة من أهم أركان التجارة في كافة البلاد والتي كانت تهم الباشا، وقد كانت الغارات تشن من آن لآخر على الرقيق في السودان وفي المناطق الأخرى الواقعة جنوبي السودان. ومن هناك كان الأسرى يرسلون إلى القاهرة في شكل قوافل كبيرة، وبالطبع كان من أصعب الأمور أن يحصل الإنسان على معلومات صحيحة في هذا الصدد، ولكن أحد الفرنسيين في عهد الاحتلال الفرنسي سأل قبطيا ظل مدة ثلاثين عاما يحصي عدد العبيد الذين يرسلون إلى القاهرة؛ فعلم أن عددهم لم يكن يتجاوز الأربعة آلاف سنويا،
113
ومن المحتمل أن يكون هذا العدد قد ازداد وتضاعف لأمر ما بعد أن توطد حكم محمد علي في السودان؛ فإن القارئ يذكر أن الباشا علل نفسه بإنشاء جيش كبير من هؤلاء السودانيين، وقد كان أعوان الحكومة يقومون في فصل الخريف من كل سنة للحصول على العبيد، وهكذا ظلت النخاسة في السودان امتيازا قاصرا على الحكومة وحدها.
114
ولم تكن فتوحات محمد علي في جنوب السودان هي وحدها التي كانت السبب في انتشار تجارة النخاسة، بل لقد ساعد احتلال روسيا لبلاد الكرج والحركش على تقليل عدد الرقيق الأبيض الذي كان يرسل منهما إلى الآستانة، وازداد الإقبال على الرقيق الأسود الموجود في سوق القاهرة. ومن هنا انكشف سر المسألة؛ فإن ما أوجدته الحكومة الجديدة من حسن النظام قد ساعد فريق الأجانب على التجول في أنحاء السودان بمأمن من الخطر.
ولقد تمكن أحدهم وهو الدكتور هولرويد من الحصول على تفاصيل ضافية للأماكن التي يقطنها الرقيق وللغارات التي كانت تشن عليهم وما كان ينتظر الأسرى من المعاملة، ولئن لم تكن هذه التفاصيل قد بلغت وصف فظائع هذه التجارة إلا أن بالمرستون قد استغلها لاستثارة الرأي العام في إنجلترا ضد حكومة محمد علي
115
على أن الباشا بعد زيارته الطويلة لربوع السودان في سنة 1838م قد اتخذ الإجراءات الفعالة لتضييق دائرة النخاسة. فبعد أن كانت الضرائب تدفع بتقديم عدد معين من الرقيق قرر الباشا أن تدفع في المستقبل بتقديم مقادير معينة من الحبوب وما إليها من المحاصيل، ومع أن قراره هذا كانت له نتائجه الفعالة طبعا؛ فإن هذه العادة الوحشية المتأصلة في البلاد - عادة شن الغارة على الرقيق - قد قدر لها أن تظل وقتا طويلا دون أن تستأصل شأفتها بتاتا.
وكان على النقيض من تراخي الباشا حيال النخاسة والرق موقفه فيما له مساس بالشئون الصحية أو شئون التعليم؛ ففي مسألة الرقيق لم يكن الباشا كثير الإيمان بنظريات رجال الغرب في صدد إطلاق الحرية للجميع، أما في المسائل الأخرى فقد كان على يقين بأن أطباء الغرب أعلى كعبا من «الحكماء» المصريين، وأن شعبه يفيد أكبر فائدة من التعاليم الغربية. وقد وضع محمد علي ثقته التامة في كل ما يتعلق بالشئون الصحية أو التنظيم الطبي في شخص كلوت بك، وهو أحد أطباء الفرنسيين، وقد بنيت تحت إشرافه مدرسة للطب في جهة أبي زعبل، على أن هذه المحاولة ما لبثت أن أعقبها الفشل، وتبين أنها محاولة جاءت قبل أوانها؛ وذلك بسبب ضعف مستوى التعليم العام.
وقد كان كبار المعلمين فرنسيين ممن لا يعرفون التكلم بالعربية، بينما كان الطلبة مصريين ممن لا يفقهون الفرنسية، فلم يكن يمكن في هذه الحالة أن تسفر النتيجة الختامية إلا عن إخراج بعض «جراحين» لا دراية لهم بالطب الغربي. وليس من شك في أنه كان يكون أصوب لو أن الباشا بدأ تنفيذ فكرته بإرسال عدد محدود من رجاله إلى الخارج للحصول على ما هم في حاجة إليه من أنواع الخبرة والدراية، ولكنه كان راغبا في أن تكون الوحدات المختلفة التابعة لجيشه مزودة بالجراحين ومساعديهم، وهذا ما جعله يصر على الحصول عليهم فورا، على أنه كان ميالا لتشجيع الماهرين بين الزوار الذين يهبطون القطر المصري؛ فمن ذلك أن الدكتور شارل تيلور حكيم العيون زار الإسكندرية في سنة 1836م، وقد أجرى عدة عمليات كان النجاح حليفه فيها كلها؛ مما دفع الناس من كافة الطبقات أن يقصدوه أفواجا، وقد كان يذهل لمحاصرة داره يوميا نحو 70 إلى 80 شخصا على أمل استلفات نظره والاستفادة مما خيل إليهم أنها مهارة فوق مهارة البشر، وقد طمع الباشا في أن يستبقيه في مصر لينتفع الناس بعلمه؛ فعرض عليه مرتبا قدره 1200 جنيه في العام.
116
وكان مستشفى البيمارستان من أفظع المناظر التي تصطدم بها أعين السائحين؛ فقد كانت دارا في دور الإحسان والبر ملحقة بأحد المساجد، وكان الإنسان إذا زارها وجد جيشا من المرضى تنبعث منهم روائح كريهة، ويرى القمل في أجسادهم، أو أن يجد بعض مسلوبي العقل وهم عرايا الأجسام مصفدين في الأغلال تنظرهم من خلال نوافذ ذات قضبان حديدية تحول دون فرارهم. وكان هؤلاء المساكين الذين هم أشد الآدميين بؤسا في حراسة أحد المصريين المسنين، فكان يستعرضهم أمام السائحين على أمل أن يتحفوه بالهدايا وينفحوه بالبقشيش، وسرعان ما وافق الباشا على مشورة كلوت بك بإلغاء هذا الأثر المتخلف عن العصور المظلمة، وأمر أن يقام بدلا عنها مستشفى في ميدان الأزبكية الشاسع.
117
ومثل آخر يدلك على مبلغ حرص محمد علي واستعداده للأخذ بأهداب التحسين والإصلاح، وهذا المثل يتجلى في مبادرته إلى إنشاء إدارة الشئون الصحية؛ فلقد أصيبت مصر في سنة 1830م بوباء الكوليرا وكان شديد الوطأة، وقد نقل الحجاج جراثيم هذا الوباء عند عودتهم من الحجاز إلى السويس، وسرعان ما سقط ضحية له نحو 150 شخصا في خلال يومين.
وفي خلال الأسبوعين التاليين إذا بالوباء يظهر فجأة في القاهرة. وطمعا في منع الوباء من الوصول إلى الإسكندرية استعان محمد علي بالقناصل العموميين واضعا تحت تصرفهم كل من كان من جنوده على مقربة من الثغر، وأطلق الحرية الكاملة في صدد النفقات.
وقد لبى القناصل نداء الباشا، وإن كان يلوح أنهم قد داخلهم اليأس عن وقف انتشار الوباء أو كبح وطأته؛ فأنشأ القناصل كردونين من الجنود في القاهرة والإسكندرية.
ولكن حدث ما كان ينتظر، وهو أن أعراض الوباء ظهرت بين الجنود، وما هو إلا أقل من أسبوع حتى كان 800 منهم في المستشفى، أما الأطباء والصيادلة فالبعض منهم قد فر من البلاد والبعض الآخر لحق بربه.
وهكذا دب الخلل في كافة المصالح العمومية وأغفلت جميع وسائل الوقاية، وقبل أن يتم التغلب على هذا الوباء الفتاك كان قد ذهب ضحية له 9000 شخص في القاهرة وما يزيد عن 1500 شخص في الإسكندرية، وكان تعداد المدينتين وقتئذ يقدر على التوالي بنحو 300 ألف و90 ألفا.
118
ولم تنتشر الكوليرا هذا الانتشار إلا في النادر القليل ولم تصبح وباء مرة أخرى إلا في سنة 1849م، ولكن التهاب الإبط وتورمها أصبح وباء يثير الذعر في قلوب الأهالي. ولعل من قرأ قصة «أبوتن» يذكر كيف كان من عادة الفرنسيس عند سماعهم بانتشار الأوبئة في الخارج يحبسون أنفسهم في أمكنة منعزلة عزلا تاما عن باقي الناس، هذا بينما كان المسلمون يحاولون بشيء من الغموض أن يتجاهلوا الخطر المحدق بهم، على أن الذين كانوا يخترقون الشوارع مستهترين بالخطر في مثل هذه الأوقات لم يكونوا المسلمين على اختلاف طبقاتهم، كلا فإن قليلا منهم ما عدا طبقة الفقراء الذين كانوا يؤمنون بأن قضاء الله لا مرد له، ولما كانت طبقة الفقراء في فقر مدقع فإن ذلك جعلها أقل حرصا على حياة البؤس واستمرارها.
أما من ساعدهم الرخاء والثروة على تذوق النعيم فقد كانوا أشبه في حرصهم على الحياة بالفرنسيين غير المؤمنين، ولم يكن يسمح لأحد مطلقا حتى ولا القناصل العموميين بزيارة الباشا أو الدخول إلى مخبأه، وأغلقت أبواب المصانع العامة ووقف دولاب العمل وقفا تاما.
119
ولعل أسوأ وباء وأشده فتكا بالأرواح هو الذي أصاب الوجه البحري سنة 1835م؛ فلقد كان في رأي البعض أسوأ بكثير من الطاعون الذي أصيبت به مصر قبل ذلك التاريخ بأربعين عاما. وقد بلغت ضحايا وباء سنة 1835م في القاهرة وحدها 31 ألفا، وذلك في خلال 3 أشهر فقط، ولكن كامبل كان يعتقد أن العدد الحقيقي أكثر من ذلك وفي رأيه أن أكثر الضحايا كان من المسلمين.
وحدث أن الوباء اختطف أرواح 135 فردا من أعضاء إحدى الأسر الكبيرة فأقفلت أبواب دورها كما أقفلت أبواب 200 دار من دور المسلمين، لا لسبب إلا لأن السكان قد حصدهم الطاعون على بكرة أبيهم فلم يبق منهم أحد، وقد هلك من الأقباط نحو ربع عددهم، وهكذا زاد عدد الضحايا بنحو 20 ألفا.
120
ولما كانت القورنتينة هي الوقاية الوحيدة التي كانت معروفة وقتئذ ضد الطاعون؛ فإن الباشا قد لجأ إلى القناصل مرة أخرى ينشد معونتهم؛ إذ لولاها ولولا موافقتهم لتعذر إن لم نقل يستحيل تنفيذ لوائح القورنتينات وتطبيقها على عدد كبير من السفن والملاحين الأوروبيين. ومن ثم اجتمع القناصل وشكلوا منهم لجنة كانت تعرف في أوقات مختلفة باسم مصلحة الصحة أو اللجنة الصحية، وأنشئ محجر صحي بالقرب من الموضع الذي كانت تقوم فيه وقتئذ سكة كليوباترة على شاطئ البحر عند الميناء الجديد أو الميناء الشرقي بالإسكندرية، وعند هذا المحجر كانت السفن الداخلة في القورنتينة تلقى مراسيها.
121
وقد نبه على حكمدار بوليس الإسكندرية بأن يسهر على تنفيذ كل ما عسى أن يشير به القناصل من الإجراءات الصحية، ولم يكن هذا لعمرك بالأمر الهين؛ ذلك لأن الأهالي لم يكونوا ميالين إلى إطاعة الأوامر في هذا الصدد؛ لأنهم لم يفهموا الغاية المقصودة بها من جهة ولأن معظمهم كان يعتقد أنها مما لا يتلاءم مع أصول دينهم. وقد أعلن الباشا في طول البلاد وعرضها أن اجتناب العدوى لا يتنافى مع الشريعة، ووعد باستصدار فتوى من العلماء لتدعيم دعواه، وقد ختم الباشا رسالته إلى رئيس الديوان بقوله: «إن الأهالي هم أشبه شيء بالعجماوات لا يميزون الطيب من الخبيث.»
122
ثم تشكلت بعد ذلك بقليل لجنة أخرى برئاسة الكولونيل كامبل نفسه للسهر على تحسين الحالة الصحية العامة في منطقة الإسكندرية، وكانت باكورة أعمال هذه اللجنة إزالة عدد من العشش القذرة التابعة لصغار المصريين هذا إلى سد الخندق القديم الذي كان مملوءا بالماء الآسن الذين يحمل جراثيم مختلف الأمراض. ثم تقرر نقل مدبغة الجلود الأميرية من وسط المدينة إلى طرفها وأنشئت طريق واسعة لتفصل ما بين الحي الأوروبي والجمرك.
123
وقد تمكن كامبل في سنة 1837م، وبالرغم من مجيء الحجاج بلا انقطاع من الجهات المصابة بالوباء أن يعلن أن الوباء قد انقطع، وعزا نجاحه في وقف الوباء إلى نظام القورنتينة الذي طبق تطبيقا تاما على الجميع. وقد كتب كامبل بهذه المناسبة، فقال: «إن الباشا قد ترك مسألة القورنتينة كلية إلى عناية لجنة القناصل الصحية، ثم إنه لا يكتفي بتنفيذ كل ما تصدره اللجنة من الأوامر، ولكنه فضلا عن ذلك يقدم بلا صعوبة كل ما تشير به من النفقات للعناية بشئون المحجر الصحي الذي أصبحت نفقاته باهظة بسبب توظيف عدد كبير من الموظفين الأوروبيين فيه.»
124
وقد تفرقت هذه اللجنة وانهد كيانها بعد استدعاء كامبل ووقوع حوادث سنتي 1839م و1840م، وكان أكبر ما شغل اهتمام هودجز خليفة الكولونيل الحصول على كافة المعلومات النافعة عن حصون الإسكندرية، ولعل اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بمساعدة الإدارة المصرية في مختلف الشئون الصحية.
فتشكلت لجنة صحية جديدة رشح محمد علي ثلاثة من القناصل العموميين للاشتراك في أعمالها، ولكن لم يكن له حق الإشراف عليها باعتبار وظيفتهم، ثم نشأ الخلاف حول تشكيل اللجنة تشكيلا صحيحا، وكذلك بدأ الأطباء أنفسهم يتشككون في كفاية الفورنتينة كوسيلة لمنع العدوى ويرجحون أن الطاعون قد يمكن انتقاله بوسائل أخرى عدا الاحتكاك الشخصي؛ ولهذا رئي تخفيف وطأة النظام الصارم القديم تدريجيا إلى أن عدل عنه نهائيا، ولكن هذا يعتبر بمثابة دليل لا سبيل إلى إنكاره على رغبة الباشا لاقتباس الأساليب الأوروبية واتباع الإرشادات الأجنبية متى اقتنع أنها نافعة حقا.
وعلى أن فيما اتخذه من الوسائل لتشجيع التعليم وتعميمه المثل الباهر والبرهان القاطع على سياسته الإصلاحية؛ فلقد كانت القاهرة تعتبر أحد المراكز الكبرى للثقافة الإسلامية، وكان يهرع الطلبة من كافة العالم الإسلامي إلى الاغتراف من علوم جامعتها القديمة العظمى الممثلة في الجامع الأزهر، ولكن هذه الجامعة كانت متأخرة لا في نظامها فقط بل وفي علومها أيضا؛ فلقد كان كل همها إخراج علماء دينيين ومحامين شرعيين؛ أي لم تعن بتخريج رجال الأعمال أو الإدارة.
وبينما ظن الباشا يولي الجامعة الأزهرية القديمة عطفه ويرعاها بعنايته إذا به قد أنشأ بجانبها سلسلة من المعاهد، وقد رمى من ورائها إلى تغيير طريقة تفكير الجماهير وجعلها تتمشى مع مقتضيات الحضارة العصرية. وقد لخص أحد المعاصرين الإنجليز نيات محمد علي وخططه، فقال إنه بينما تمهل السلطان محمود بما أدخله فجأة من الإصلاحات العنيفة قد أضعف ولاء الأتراك له؛ فإن محمد علي قد ظل على العكس من مولاه محتفظا بالخلق السامي بين مختلف الأمم الإسلامية باتباعه الطريق الرشيدة الوحيدة التي لم يكن محيص عن اتباعها مع شعب كالشعب المصري لم يغترف من أصول المدنية إلا القليل.
فإن الباشا بما سنه من ضروب الإصلاحات التدريجية التي لا تمس الإحساسات الدينية ولا تصطدم بها قد وضع أساس الإصلاح الدائم لمعاهد الأمة متيقنا بأن التعليم سيزداد انتشارا بواسطة ما أنشأه من المدارس العمومية في مختلف أنحاء مملكته لتحقيق ما يرمي إليه من ضروب الإصلاح.
125
ويلوح أن تاريخ هذه السياسة يرجع إلى سنة 1820م، وكانت في منشأها تعتبر بمثابة نتيجة طبيعية لما أدخله الباشا من ضروب الإصلاح في الجيش؛ لأن التجاءه إلى اقتباس الأساليب الأوروبية الخاصة بطرق التنظيم والتدريب اقتضى طبعا الحصول على ضباط قادرين على دراسة العلوم الأوروبية العسكرية والهندسية والحسابية. وكان أول دليل على أن الباشا مسلما بصحة هذا الرأي أنه استخدم في القلعة في القاهرة معلما إيطاليا يدعى كوشي وعهد إليه بتعليم الرسم والرياضيات، ثم صدرت الأوامر بعد ذلك بتعليم اللغة الإيطالية ولغات البلاد الواقعة شرقي حوض البحر المتوسط، ثم طلب الباشا بعد ذلك معلمين لتعليم اللغة الفرنسية واللغة التركية، هذا عدا استخدام أحد مهرة المهندسين.
126
فمن هذه البداية البسيطة نشأت المدارس لتدريب الضباط وإعدادهم للفروع الخمسة في خدمة الباشا؛ وهي: الطوبجية، والهندسة، والسواري، والمشاة، والبحرية. تحت إشراف المعلمين الأوروبيين.
ولتوسيع أساس التعليم أرسل الباشا طائفة كبيرة من الشبان المصريين إلى فرنسا ولفيفا منهم إلى إنجلترا لإتمام دروسهم على حساب الباشا، وقد أينعت ثمار هذه السياسة الرشيدة في سنة 1833م عندما أنشأ الباشا مدرسة الفنون والصنايع لتكون بمثابة مدرسة لتدريب كليات الضباط. وكان بين أساتذة هذه المدرسة معلمان أوروبيان فقط أحدهما لتدريس الكيميا والآخر لتدريس الرياضيات، وإلى جانب هذين المعلمين كان هناك أربعة من المعلمين الأرمن قضى أحدهما عشر سنوات في مدينة ستوني هيرت بإنجلترا، هذا عدا ستة معلمين مسلمين تلقى ثلاثة منهم علومهم في جامعة باريس والثلاثة الباقون في جامعات إنجلترا،
127
وتلا هذا التوسع إنشاء عدد من المدارس الابتدائية في كل مديرية، وأنشأ مدرستين «تحضيريتين» كبيرتين إحداهما في القاهرة والأخرى في الإسكندرية لتغذية مدرسة الفنون والصنائع، وكان دخول الطالب في هذه المدارس بمثابة قبوله في خدمة الباشا، وكنت ترى الطلبة وقتئذ يتناولون مجانا الطعام والملبس والمسكن هذا عدا مرتبات شهرية قليلة تزداد تدريجيا كلما انتقل الطالب من أحد الفصول إلى الفصل الذي يليه.
أما مستقبل أولئك الطلبة ونوع الخدمة التي يعملون لها وما يتلقاه كل منهم من التعليم الفني؛ فهذه كلها مسائل لا رأي للطلبة فيها، بل الأمر متروك فيها للباشا ولموظفيه، ولقد كانت مصر أول دولة شرقية أدخل فيها التعليم الغربي على ما يشبه القواعد المنظمة.
ولم يكن بورنج جانب الحقيقة عندما وجه انتقاده إلى المشروع قائلا إن التعليم الابتدائي فيه قد وضع على أساس ضيق، وإنه يرمي إلى تعليم الأقلية تعليما عاليا بدلا من إيجاد نظام عام للأكثرية.
على أن الباشا ما كان يمكن عدلا أن يلام؛ لأنه لم يتبع النظام الذي لم تكن قد اتبعته بعد أمم أوروبية أعلى كعبا من مصر في المدنية الحديثة.
ولقد كان إنشاء هذه الكليات والمدارس مصحوبا بإنشاء مطبعة وجريدة وغازيتة. ولم ينته عام 1837م حتى كانت مطبعة بولاق، وكانت وقتئذ من ضواحي القاهرة وممتدة إلى داخل نهر النيل، وقد أنجز طبع ما لا يقل عن 73 من أمهات الكتب العربية، وكان بين هذه عدد من تراجم الكتب الفنية لاستعمالها في المدارس الجديدة،
128
ووضع الباشا مشروع جريدة تنشر باللغتين العربية والفرنسية،
129
وكانت هناك صحف أوروبية في الإسكندرية في سنة 1824م، وفي هذه السنة نفسها نشر صولت القنصل البريطاني العام قصيدة وصفية من الشعر،
130
وفي ذلك الوقت تحسن أيضا مركز الأوروبيين والمسيحيين عامة؛ فإن الأقباط كانوا قبل ارتقاء محمد علي الأريكة المصرية عرضة لكثير من المتاعب والقيود، مثال ذلك أنهم كانوا ملزمين بتمييز أنفسهم عن بقية السكان المسلمين بلون ثيابهم، وكان محظورا عليهم ركوب الخيل، وكانوا ممنوعين بتاتا في أثناء شهر رمضان أن يأكلوا أو يشربوا أو يدخنوا في النهار علنا في الطرق العامة؛ وذلك لكي لا يذكروا المؤمنين بهذا الصوم الإجباري.
وكان الأجانب من سكان الإسكندرية والقاهرة يقطنون في أحياء متفرقة ويحمي الحراس مداخلها، وكانوا كلما أرادوا السفر إلى الخارج لبسوا الزي التركي ليتفادوا الإهانات. وقد وردت هذه العبارات في منشور إعلان تركيا الحرب على روسيا في سنة 1827م، وهو «أن كل عاقل يعلم حق العلم أن كل مسلم هو بطبيعته العدو الألد للكفار، وأن كل كافر عدو لدود للمسلمين.» ولكن روح الحكومة في عهد الباشا تغيرت تغيرا محسوسا كما تغير لذلك إحساس الأهالي حيال المسيحيين، وقد أسر الروس في الحرب التركية اثنين من أقارب محمد علي في سنة 1827م، فلما عادا من الأسر في سنة 1829م إذا بهما يلهجان بالثناء على ما لقياه وغيرهما من الأسرى من حسن المعاملة في السجون الروسية.
وعندما خيف في إحدى السنوات أن لا يبلغ فيضان النيل المنسوب المقرر إذ بالدعوات الحارة والصلاة لله لا يقوم بها مشايخ المذاهب الإسلامية وحدهم على ضفتي النيل، بل شاركهم فيها حاخام اليهود والقسس المسيحية،
131
بل إنه سمح للودلف المبشر المسلوب العقل بأن يخطب في الشوارع بلغة غريبة لم يستطع أحد فهمها، ولكنه لما ملأ جدران القاهرة فيما بعد بإعلاناته وملاحظاته بلغة يفهمها الجميع لم يسع الباشا إلا أن يسأله مغادرة القطر خيفة أن يعتدي عليه أحد الناس صدفة، فلا يجد من يقيه شر العدوان.
132
وقد ظل كثيرون من رعايا الإنجليز يقطنون القاهرة والإسكندرية دون أن يصيبهم مكروه في أثناء الحوادث المشهورة التي وقعت في سنتي 1839م و1840م.
وبديهي أن لا تصادف سياسة الباشا هذه قبولا لدى مشايخ الأزهر، وكان أحد خطبائهم وكان اسمه الشيخ إبراهيم أشدهم وطأة في نقد هذه السياسة، وكان مما انتقد عليه هذا الشيخ أن الباشا أعطى لليهود امتياز صناعة القصابين في الإسكندرية، وهكذا عرض للخطر إيمان المؤمنين؛ ذلك لأن اليهود لم يراعوا تلاوة الصيغة المقدسة الإسلامية المألوفة عند القيام بعملية الذبح، كما أنهم لم يحرصوا على توجيه رأس الحيوان المذبوح في اتجاه مكة، ثم إنهم بدلا من أن يقبضوا على المدية بالأصابع الخمسة كانوا يقبضون عليها بثلاثة أصابع،
133
على أن الباشا لم يصبر على لغو هذا الشيخ، بل أبعده إلى تونس.
وهكذا كان الباشا في كافة هذه المسائل وأضرابها؛ مثل: إرغام رعاياه على التسامح الديني، والسهر على ترقية الوسائل الصحية ونشر التعليم والثقافة وإقامة العدل بين الناس، وتنظيم جيشه وإنشاء أسطول قوي، وتحديد الضرائب وتشجيع زراعة الحاصلات الجديدة، ومراقبة سلوك موظفيه عن كثب.
نقول إن الباشا كان يعمل في هذه المسائل كلها ضد إرادة رعاياه كلهم تقريبا؛ ولهذا رأينا المشروعات التي كانت نفسه تطمح إلى تحقيقها يهملها أو يعدل عنها بتاتا. ومن بين هذه المشروعات مشروعات - كإنشاء الأسطول مثلا - كانت محاطة بمصاعب لا يسهل تذليلها، وقد أصيبت معظم مشروعاته بالضعف وتولاها الفشل لا لشيء إلا لعدم ثقته بالمستقبل وشعوره بأن ما يعمل ينبغي أن يعمله شخصيا أو ينجز في حالة حياته المحدودة الأجل؛ ولهذا يمكن الحكم على أعماله بأنها كانت أعمالا قائمة على العجلة ولم تنضج تماما وإما أنها جاءت غير كاملة، ولكن بالرغم من ذلك كله وبالرغم مما حدث من رد الفعل بعد اختفائه من على مسرح سياسة مصر فإن ما يتنافى مع العدالة وواجب الإنصاف أن يقال إن أعمال محمد علي ذهبت أو أنها بمثابة نفخة في رماد؛ فإن ما أوجده من الاندفاع إلى الأمام يضاف إليه ما أحكم من الصلات مع الغرب؛ كل هذا قد استمر بعد انتقاله إلى الدار الأخرى، حتى إن مصر عندما بدأت فيما بعد أن تنفض عنها غبار الكسل، وأن تسير مرة أخرى إلى الأمام وجدت أنها تبدأ من نقطة تتقدم كثيرا عن النقطة التي بدأ بها الباشا العظيم. ويرجع الفضل في ذلك كله وقبل كل شيء إلى آثار الثقافة التي تفتحت في عهده البلاد لها من أقصاها إلى أقصاها.
الفصل الثامن
آثار حكم محمد علي في جزيرة كريت وسوريا
في أثناء الحرب اليونانية وضع جلالة السلطان جزيرتي قبرص وكريت تحت رعاية محمد علي ظنا من جلالته بأن الباشا هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يصد عنهما حملات اليونانيين، وفي سنة 1830م عهد السلطان إلى الباشا بصفة رسمية بأن يباشر الحكم في جزيرة كريت، على أن محمد علي اشترط لقبول هذا العبء أن يسمح له بإبعاد الجنود العثمانيين المقيمين في الجزيرة، وأن يحل محلهم بعض الأورط المصرية.
1
وقد بدأ محمد علي بتنفيذ خطته فولى على الجزيرة قومندانا اسمه عثمان بك كان قد أرسله من قبل لتلقي العلوم في فرنسا وإيطاليا،
2
أما أهالي الجزيرة فكانوا خليطا ويغلب فيهم العنصر اليوناني الذي كان عدده نصف السكان، وقد قدر سافاري عدد سكان الجزيرة قبل ذلك بخمسين سنة بنحو 380 ألفا، ولكن هذا العدد قد نقص بسبب الحروب والطاعون والبؤس المخيم على الجزيرة إلى نحو 100 ألف نسمة، وهو عدد السكان عندما عهد إلى والي مصر بالإشراف على شئون الجزيرة، وكان بديهيا أن ينذر اختلاط الأجناس في الجزيرة ببذر بذور الشرور والمتاعب واستفحال الخلاف، كما أنه لم يكن ينتظر عاقل أن تصير مهمة الحكم سهلة مريحة، وحسبك أن مجموع الإيراد لم يتجاوز الأربعة ملايين قرش صاغ، بينما كانت النفقات تتجاوز إحدى عشر مليونا من القروش، وأغلب الظن أن الباشا لم يقبل الاضطلاع بشئون الجزيرة إلا لأنها تكون له بمثابة محطة بحرية تقع على مسافة بعيدة في شمال الإسكندرية، وقد حذرته الحكومة البريطانية دفعتين بأن أي محاولة لإرهاق السكان المسيحيين واضطهادهم أو استعمال العنف معهم قد يؤدي إلى تدخل الدول العظمى.
3
ونحسب أن مثل هذا التحذير لم يكن هناك ما يقتضي صدوره؛ لأنه إذا كان الوالي المصري قد عهد فيه عن الأقلية المسيحية في مصر؛ فمن باب أولى أنه لن يفكر في اضطهاد الأغلبية المسيحية في جزيرة كريت. وكانت باكورة أعماله بعد صدور الفرمان الشاهاني بتوليته حاكما على الجزيرة أنه أذاع منشورا موجها إلى الشعب الكريدي؛ فقد طمأنهم فيه على أنفسهم وبين لهم أنه ليس ثمة ما يخشونه، وأنه لن يتوانى في القصاص ممن يحاول إرهاقهم، وأنه سينشئ مجلسين أحدهما في «خانية» والآخر في «كنديا»، وأن الأعضاء المسلمين والمسيحيين سيشتركون في أعمال هذين المجلسين اللذين يخول لهما البت في كل الأمور ما عدا ما كان له مساس بالشئون القانونية البحتة كمسألة المواريث، وكان في نيته إدخال عدة إصلاحات إلى الجزيرة كإنشاء رصيف لميناء خانية وتغطية التلال بالغابات ونشر الزراعة وتعميمها،
4
وثمت مشروع آخر صحت عزيمته على تنفيذه وهو تحسين ميناء «سودا» لتكون صالحة من ناحية لتخزين التجارة الواردة من سوريا ولتكون قاعدة للأسطول المصري.
5
وفي سنة 1833م شخص الباشا بنفسه لزيارة كريت، وقد ذهب في صحبته الكولونيل كامبل إجابة لدعوة الباشا. ومن هناك أرسل الكولونيل إلى إنجلترا عدة ملاحظات مهمة عن شئون الجزيرة وطريقة إدارتها، فقد بين أن الجزيرة في إبان الفترة التي كانت خاضعة فيها لحكم السلطان تولى أمرها من قبله ثلاثة باشوات أساءوا الحكم فيها واستبدلوا جميعا على عجل، وكانوا جميعا سواء في ظلم الرعية واضطهادها، وليس من شك في أن الحامية التركية المعسكرة في الجزيرة كادت تطرد إبان الحرب اليونانية لولا مساعدة الجيوش المصرية لها، فلما انتقل أمر الجزيرة إلى الباشا ولي عليها مصطفى باشا، وهو رجل كان يخشى الترك بأسه بقدر ما كان السكان الأروام يعظمونه ويجلونه.
وقام الباشا المذكور بإنشاء المجلسين المختلطين الموعودين، كما أنشأ محكمتين ابتدائيتين إحداهما في «صفكيا»، وكان أعضاؤها جميعا يونانيين؛ إذ لم يكن هناك أثر للجنس التركي في تلك الجهة. وقدمت الحكومة إلى الفلاحين البؤساء ما أرادوه من القروض والمواشي ليستعينوا به على زراعة أراضيهم من جديد، وصدر منشور للأروام الذين نزحوا عن ديارهم بدعوتهم إلى العودة إلى بلادهم واستعادة أراضيهم، بشرط أن يدفعوا لأصحابها الحاليين نفس الثمن الذي ابتاع به هؤلاء الأراضي المذكورة، وقد لبى الكثيرون نداء الباشا وعادوا إلى ديارهم واستوطنوا فيها باعتبارهم كتابيين يعيشون في ظل الباشا وحكومته،
6
ويدفعون الجزية لها.
على أنه برغم هذه الإدارة المعتدلة قد نشأت المتاعب ووجد مجال للتذمر؛ فمن ذلك أن كثيرا من اللاجئين اليونانيين أبوا العودة إلى الجزيرة إلا بجوازات يونانية باعتبارهم رعايا يونانيين، كما أن بعضهم دخل الجزيرة بطريقة سرية مجهولة بقصد إثارة القلاقل من جديد، ثم إن اللاجئين من سكان كنديا شرعوا ينشرون صحيفة اسمها «مينرفا» تنطق بلسانهم، وقد وقفوها على إثارة السخط وإشعال نار الأحقاد والفتن في الجزيرة،
7
وقد أصر الباشا على ألا يسمح للاجئين بالعودة إلى الجزيرة إلا باعتبارهم كتابيين يدفعون الجزية قائلا إنه لو سلك غير ذلك المسلك لأثار سخط المسيحيين الباقين في الجزيرة وعددهم 60 ألفا، والذين لم يخطر لهم على بال أن يطالبوا بتغيير مركزهم أو أن يعاملوا إلا باعتبارهم رعايا عثمانيين.
8
على أنه إذا كانت أعمال ابتزاز الأموال بالطرق غير النظامية قد أوقفت؛ فإن الضرائب المنتظمة قد أخذت تزداد ويشتد عبؤها على الأهلين فإن «الخراج» أو الجزية المفروضة على كافة الرعايا المسيحيين التابعين للباب العالي كانت تحصل بمنتهى الشدة والقسوة،
9
ولم يفلت من شرورها إلا القليل النادر، وقد فرضت ضريبة على النبيذ بقطع النظر إذا كان مصنوعا بقصد البيع أو لشئون الصناعات المنزلية، ثم إن امتياز بيع التبغ والخمرة والجلود في المدن كان من الأمور التي احتكرتها الإدارة المحلية؛ فأدى هذا كله إلى زيادة الصخب، وجاءت الأنباء تترى من كل صوب وحدب بحصول بعض المعجزات في مختلف الأديرة، فشرع الناس يتجمهرون في أنحاء متفرقة. وليس من شك في أن هذه المتاعب كانت كلها نتيجة ما كان ينشره اللاجئون من الدعاية السيئة، ولما ظن أن الساعة الملائمة لإحداث الانفجار قد حانت هجم أحد الأشرار على أحد السائحين الأتراك وأوسعه ضربا إلى أن فاضت روحه، وقد قبض على الفاعل - وهو من اللاجئين العائدين - وأعدم فعلا، ولكن حكم الإعدام هذا كان أول وآخر حكم. ومن ثم شرعت الإدارة في إبعاد اللاجئين العائدين أو السماح لهم بالبقاء باعتبارهم كتابيين يدفعون الجزية، بشرط أن تدفع القرى التي ينتسبون إليها كفالة عن حسن سلوكهم،
10
ثم عاد الباشا إلى الإسكندرية بعد أن أصدر الأوامر التي من شأنها زيادة الأراضي المنزرعة.
ولكن هذه الأوامر هيأت لسوء الحظ الفرصة لحدوث القلاقل من جديد؛ فلقد كان من بين أوامره المذكورة أمر يقضي بأن يعين في كل منطقة شخصان لهما دراية بقوانين مصر، وأن يقوما بزيارة كل قرية واستشارة أغنيائها عن خير الوسائل للبر بالفقراء ومساعدتهم وتوحيد الإجراءات لنقل الأيدي العاملة من القرى الغاصة بالسكان إلى الجهات غير المنزرعة التي يقل فيها العمال، ومع أن هذا الأمر كان مقرونا بأوامر أخرى لا سبيل إلى إنكار فوائدها؛ لأنها كانت ترمي إلى خير الشعب عامة كإنشاء المدارس ودفع مرتبات طفيفة للطلبة نقول برغم هذا كله فإن أهالي كنديا قد دخل في روعهم أن الباشا كان يرمي إلى فرض نظام مراقبة الأراضي كالذي كان متبعا في مصر؛ ولهذا هاج هائجهم ورفع علم الثورة، على الرغم من أن النظام الذي أدخله محمد علي في كنديا مهما افترضنا نقصه في بعض نواحيه؛ فإنه كان بلا جدال يشتم منه روح الخير وعدم التنطع في الدين وحب العدالة ورغبة ظاهرة محسوسة في سعادة الشعب ورخائه؛ مما يشهد له أطيب شهادة.
11
وتهيج الباشا واشتد غضبه لكفران الأهالي بما ينتظر أن تدره عليهم وعلى جزيرتهم هذه المشروعات من الخير وعقد نيته على التمثيل بالمسئولين عن إثارة المشاغب، فأصدر أمره بإعدام عدد معين من الأفراد؛ إذ ضبطوا بجريمة الحض على الثورة. ولم يكتم الباشا رأيه عن كامبل بأنه يتوقع أن يضبط بعض الأتراك متلبسين بالجريمة المذكورة كبعض الأروام، وإن ضبطوا فلا مفر من إعدامهم أيضا أسوة بالآخرين.
12
وأخيرا، ضبط ولاة الأمور 31 شخصا بينهم خمسة من الأتراك وقد أعدموا جميعا. ولقد زعم القنصل الفرنسي (وكان مشهورا بعطفه على اليونانيين وتحزبه لهم) أن المتهمين قد أعدموا بدون محاكمة،
13
وأغلب الظن أن الباشا كان مقتنعا بأن هذه المتاعب كانت جميعا من عمل عصبة من المهيجين؛ ولذا استقرت نيته على أن ينزل بهم عقابا لا تستطيع احتجاجات الدول العظمى الحيلولة دون تنفيذه، وهو عقاب إن كان محدودا بحيث لا يسوغ تدخل أي دولة من الدول الأوروبية إلا أنه كان من الفداحة والشدة بحيث يلقي على سكان كنديا درسا قاسيا، فإن كان هذا ما حسبه الباشا فإن التوفيق لم يخنه؛ لأنه لم يعد يسمع بعد ذلك بحدوث أي مشاغب أو قلاقل في جزيرة كريت.
وعهدت إدارة شئون الجزيرة إلى مصطفى باشا الذي ظل يشرف عليها طيلة سيطرة محمد علي على الجزيرة. وقد أجمعت كلمة قناصل إنجلترا وفرنسا وروسيا على أن إدارة محمد علي الجزيرة كانت إدارة سداها الاعتدال والعدل ولحمتها الإنصاف، وإنها كانت محبوبة من الشعب كما كان النجاح حليفها إلى أبعد مدى. نعم؛ إن الباشا لم يتمكن من القضاء على التذمر السياسي قضاء مبرما لأن جزيرة كريت كانت ما تزال تعتبر في نظر المهاجرين من الأروام جزءا من اليونان؛ ولذا كانت هناك جمعيات عديدة في الإمارة اليونانية تتعطش دائما إلى ضم الجزيرة إلى أرض الوطن القومي كما كان يوجد في نفس الجزيرة عدد كبير من الأشخاص يحلمون باقتراب اليوم الذي تنضم فيه الجزيرة إلى بلاد اليونان أو على الأقل أن تتمكن الجزيرة من الحصول على نوع من الاستقلال.
كل هذا كان مسلما به ولكن الجزيرة ظلت هادئة وراضية من وجود مصطفى باشا في منصة الحكم، ولقد كتب القنصل الروسي يقول: «إن الضرائب كانت تدفع بدون إبداء أي مقاومة أو معارضة، وإن الهدوء العام كان مخيما على الجزيرة، وأن المجالس البلدية كانت على استعداد في كل وقت أن تعمل طبقا لرغبات الحاكم مصطفى باشا.»
14
ولقد نقل الحاكم في سنة 1838م إلى بعض أنحاء سوريا لتولي قيادة الجيش الذي أرسل لقمع الفتنة التي نشبت في تلك الجهات، وقد شهد القنصل الإنجليزي بأن «سفر مصطفى باشا كان أشبه بيوم حداد عام لسكان الجزيرة؛ فلقد أظهر سوادهم من تلقاء أنفسهم علامات الود الخالص المنزه عن الغاية والهوى.» ولما غادر «خانيا» هرع إلى وداعه السكان جميعا شيوخهم وشبابهم والعبرات تخنقهم وكلهم أسف على فراقه ويتوسلون إليه أن يعود إليهم بعد إتمام مهمته في سوريا،
15
إلا أنه لا جدال في أن مصطفى باشا قد تمكن مدة حكمه في الجزيرة من حماية الأروام وتهدئة عواطف المسلمين وإرضائهم.
ولما كان بالمرستون قد اعتاد ألا ينظر إلى حكم محمد علي في الجزيرة أو إلى مشروعاته فيها إلا بعين الارتياب والشك فإنه لم يشأ أن يتركها وشأنها؛ فلقد انتقد حكم الإعدام الصادر على 26 من الأروام وخمسة من الأتراك قائلا: «إذا صحت الأنباء فإنه حكم يدل على القسوة والرغبة في إزهاق أرواح العباد.» ثم اقترح اللورد أن يتنازل الباشا عن الجزيرة لحكم السلطان الصالح وقال إنه يمكن حمل جلالته على أن يسن لها دستورا كالذي تتمتع به جزيرة ساموس.
16
ثم دارت محادثات عديدة بين كامبل من ناحية وكبير وزراء الباشا باغوص بك من ناحية أخرى ، ولكن محمد علي رفض بتاتا الاقتراحات المعروضة عليه وأعلن الباشا - بحق - أن كريت يختلف شأنها عن شأن جزيرة ساموس، فبينما أن سكان الجزيرة الثانية كلها أروام فإن جزيرة كريت يسكنها شعب من مختلف الأجناس، ثم إن فيها عددا كبيرا من الرعايا المسلمين الذين لا يمكن وضعهم عقلا تحت الإدارة اليونانية. يضاف إلى هذا كله أن حالة الأروام في الجزيرة تشهد بالبرهان القاطع أن حكم الباشا ليس قاسيا ولا يتنافى مع قواعد التسامح الديني أو العدالة، وعلى ذلك ظلت الأمور تجري مجراها الطبيعي لغاية سنة 1840م عندما أضاع الباشا جزيرة كريت كما أضاع سوريا، ولم يتوان بالمرستون لحظة في العودة إلى مشروعه السابق بسن دستور لجزيرة كريت شبيه بالدستور المعمول به في جزيرة ساموس، وهو المشروع الذي يلوح أن اللورد كان متعلقا به كل التعليق. ولعل الخطر في هذا أن كامبل لما بسط المشروع للباشا لم يبسطه له على وجهه الصحيح، ومهما سلمنا بأن كامبل لما عرض المشروع لم يستعمل اللباقة الكافية، بل وكان يعوزه الإقناع فلا جدال في أن الباشا لم يكن ميالا إلى إدخال الإصلاحات الحقيقية، على أن بونسيني لم يستطع أن يصنع مع الباب العالي أكثر مما صنعه كامبل مع محمد علي؛ فإن دوائر الآستانة كانت تعتقد كما اعتقدت دوائر القاهرة بأن دستور ساموس غير صالح بالمرة لجزيرة كريت. وقد أقر بونسيني هذا الرأي وأيده؛ ومن ثم بعث إلى رئيسه يقول: «إن السكان الأتراك في الجزيرة لا يمكن وضعهم تحت الإدارة اليونانية، كما لا يمكن التفكير في وضع حاميات يونانية في القلاع، وإلا كان معنى ذلك استمرار الفتن وتكون النتيجة أن تصبح الجزيرة تحت حكم اليونان أو فرنسا أو روسيا.» ومن ثم تقرر إرجاع الجزيرة إلى السلطان دون منحها ذلك الدستور الذي ظن أنه لا غنى عنه لخير الجزيرة ويسرها.
وكان التسامح الديني معمولا به في سوريا كما كان في مصر بطريقة لم تكن معروفة حق المعرفة إلى ذلك الحين. ولقد ذهب وفد من العلماء ورجال الدين في دمشق لمقابلة إبراهيم باشا لبث شكواهم من أن المسيحيين صار يسمح لهم بامتطاء الجياد وأن الفوارق والمميزات بين الكفار وبين المسلمين قد زالت؛ فأعرب لهم مع شيء من التهكم عن موافقته على وجوب الاحتفاظ ببعض المميزات، واقترح أن يركب المسلمون في المستقبل الهجين أو الإبل وهكذا يحلون مكانا أرفع من مكان المسيحيين،
17
ولقد سجل روبرت كيرزون مناسبة محزنة حضر فيها إبراهيم باشا بنفسه الاحتفال بمعجزة النار المقدسة في القدس،
18
ولقد كان من جراء هاتين المسألتين - الخدمة العسكرية والتسامح الديني - أن ثارت ثائرة الأهالي المسلمين كافة وازداد حنقهم على الحكومة الجديدة، وقد أشرنا إلى ذلك فيما مر من فصول هذا الكتاب، وقد أشار إلى هذه الحقيقة «مارمونت» عند زيارته لسوريا في سنة 1834م؛ إذ ألفى كافة الأتراك فيها ساخطين على إبراهيم باشا أشد سخط، وإن سخط الأتراك على السلطان في الولايات العثمانية التي مر بها كان لا يقل عن سخط مواطنيهم الآخرين على إبراهيم. ولقد وصف القنصل الإنجليزي في حلب شعور أهل سوريا بأنه شعور سخط وتذمر، لا بل شعور كراهية أيضا.
19
وليس من شك في أن هذا الشعور قد استفحل أمره من جراء تجديد آخر كان يدعو إلى القلق؛ ألا وهو السعي لقطع دابر الرشوة في الأعمال الخاصة بتسيير العدالة، وهذه المسألة قد أجمع عليها كافة القناصل الإنجليز في سنة 1836م، وهم الذين لا يمكن بحال ما أن يستشهد بهم الإنسان لتحبيذ إدارة إبراهيم باشا في سوريا والإشادة بها. ولعل أكبر خصوم إبراهيم بين أولئك القناصل يسلم على الأقل بأن دائرة الرشوة قد ضيقت كثيرا، بينما يسلم غيره بأنها ما تزال موجودة، وإن كان هذا داخل حدود ضيقة جدا، فضلا عن أنها لا تزاول إلا خفية عن علم ولاة الأمور. ويقرر قنصل ثالث بأن الرشوة قد زال استعمالها زوالا تاما؛
20
فأنت ترى أن كل القناصل قد أجمعوا - وإن كان إجماعهم ذلك لم يأت من تلقاء نفسه - بأن العدل لم يعد المثل الأعلى الذي لا يطبق على المسلمين وحدهم، ولقد أسف أحد أولئك القناصل لعدم وجود قانون مكتوب، ولكن هو نفسه يسلم بأنه كانت توجد في المدن الكبرى محاكم كالتي أنشئت حديثا في مصر يجلس فيها اليهود والمسيحيون القضاة للفصل في شئون العباد.
وليس من شك في أن المرونة كانت إحدى مزايا النظام الجديد، وقد كان من حق صاحب الشكوى أن يتقدم بشكواه على حد سواء إما إلى المفتي أو إلى الموظف الإداري الرئيسي، فإن اختار الطريق الأول فإن الحكم لا ينفذ إلا بعد عرضه على الهيئة التنفيذية ولها أن تقره أو ترفضه، وأما إن اختار الطريق الثاني فمن حق الموظف الإداري - إن كانت القضية من القضايا البسيطة العادية - أن ينظرها ويصدر حكمه فيها، أما إذا كانت القضية من قضايا الحسابات المعقدة أو خاصة بالشئون التجارية أحالتها إلى المحاكم الجديدة، فأنت ترى أن نظام العدالة كان يتضمن عنصرا جديدا له أهميته الكبرى، هذا العنصر هو أن الخصم غير المسلم اتسع أمامه باب الرجاء عن ذي قبل في أن تسمع شكايته بنزاهة ويفصل فيها بما يطابق العدالة. ولعله مما يستحق الذكر هنا أن شهادة غير المسلم كانت بمقتضى النظام القديم الذي حل محله النظام الجديد لا تسمع ولا تقبلها المحكمة ضد شهادة أحد من المؤمنين الصادقين.
21
ولقد أجمل أحد القناصل نتائج حكم محمد علي في تلك البلاد، فقال إنها تضمنت بين ما تضمنته تأمين الناس من الأعمال العرفية، ويستثنى من هذا القرعة العسكرية وحماية أملاكهم ووجود نوع جديد من الحرية الدينية وحرية الحياة والمسليات والملاهي وتوزيع الضرائب توزيعا عادلا، وبالجملة كانت الحالة في سوريا أقرب إلى الحرية بقدر ما كان يمكن التمتع به في مثل أي حكومة حرة، وفي رأي القنصل المشار إليه أن الإدارة قد تحسنت من عدة وجوه إلى أبعد من المدى الذي كان ينتظره الإنسان، على أن القنصل أضاف إلى ملاحظته السابقة قوله: «إن الناس لا يقدرون انتظام الإدارة وتحسنها، بل تراهم بسبب شعورهم وعواطفهم السابقة أو عاداتهم أو أفكارهم القديمة على استعداد دائما لأن يحولوا تلك الإدارة وتسخيرها في خدمة مصالحهم الخاصة.»
22 «ولاحظ قنصل آخر» أن الرأسماليين الوطنيين لا يحجمون الآن عن توظيف أموالهم في المغامرات التجارية، مع أنهم في الماضي ما كانوا يجرءون على الدخول في مضمارها.
ولقد نشطت حركة التجارة وانتشرت التجارة انتشارا هائلا. نعم؛ إن ضريبة الأراضي قد بلغت الثلاثة أضعاف في بعض الجهات ولكن هذا التغيير كان منشؤه زيادة المنافسة على ما قبل؛ ففي الجهات القريبة من حلب ارتفعت الضريبة؛ لأن الأراضي لم تعد تزرع على أساس المحسوبية وقوة النفوذ كما كانت الحال من قبل، وهذا على الرغم من أن الأراضي التي هجرها أصحابها بسبب غارات البدو قد تقرر زرعها من جديد،
23
وبذلت المساعي لحمل البدو الرحل على إنشاء صلات تجارة ثابتة مع بقية السكان المستوطنين وزحزحة خط الحدود الذي يفصل الصحراء ومنطقة العمران شرقا وإقناع البدو أنفسهم من الاهتمام بالزراعة، وقد كتب «وبري» بهذه المناسبة، فقال: «إذا استمر العمل بهذا النظام؛ فإنه كفيل بأن يؤدي إلى أجزل الفوائد، وبذا يتم ربط الشعبين السوري والعربي في غاية سلمية واحدة.»
ولقد أمكن حمل رعاة البدو أن يقضوا جانبا من العام في الزراعة في سهل أطنة الغني المترامي الأطراف، وهو السهل الذي يقطنه مثلا خليط من الأناضوليين والتركمان والأكراد، والذي كانت الفوضى منتشرة في أنحائه من قبل،
24
ويستحيل على المرء أن يذكر بالضبط إلى أي مدى تمكن المقارنة بين ما جمع في عهد إبراهيم من الضرائب وبين ما جمع منها في العصور التي سبقته.
وليس من شك في أن الخزانة العمومية قد تضخمت وأصبحت عامرة بما دخلها من صنوف الإيراد، وكان جمع الضرائب بانتظام وتحت المراقبة الدقيقة، وقد فرضت على الأقل ضريبة واحدة جديدة هي ضريبة الفردية، وكانت عبارة عن ضريبة شخصية (وتشبه ضريبة الإيراد في إنجلترا)، وقد أريد بها بادئ ذي بدء تحصيل إيراد وافر في خلال الحرب.
ولكن محمد علي جعلها بمثابة مورد دائم، وكانت في بدء الأمر بنسبة 50 قرشا عن كل شخص، ولكن ما لبثت أن خفضت هذه النسبة وجعلت تتراوح بين 30 و50 بحسب ثروة الفرد المعين. وعلى هذا الأساس كان يفرض مبلغ معين على كل أسرة مع ترك الحرية لأعضائها لتوزيع المبلغ المطلوب بين أفرادها، كل على حسب مقدرته، ويقال إنه كان من شأن هذا الترتيب أن الفقراء كانوا يعافون من الدفع في حين أن الأغنياء كانوا يؤدون ما يزيد عن الغاية القصوى لقيمة الضريبة.
25
أما الضريبة المفروضة على الكتابين، وكانت تسمى الخراج خطأ في سوريا وكريت، فقد كان تحصيلها يجري بمقتضى فرمانات خاصة يصدرها الباب العالي وترسل بعد جمعها إلى الآستانة يستعملها الخليفة في شئونه الخاصة، وكان معدل الضريبة المذكورة 15-30 قرشا حسب ثروة الشخص المفروض عليه الضريبة، بيد أن الموظفين المكلفين بجمع هذه الضريبة كانوا يتخذونها دائما لحمل هؤلاء الكتابيين على دفع حصة إضافية لهم لاستعمالها في شئونهم العائلية، ولكن وضعت إجراءات خاصة في سنة 1835م لوقف هذه الإعانات الشاذة المخالفة للقانون.
26
وكانت الأموال الأميرية أو ضريبة الأراضي هي المورد المالي الأساسي في سوريا، كما في البلاد الأخرى، ولكنها لم يراع في تطبيقها قاعدة معينة، كما أن تحديدها لم يكن بناء على مساحة الأراضي مساحة حقيقية، بل كانت الوحدة الاسمية المستخدمة في مسح الأراضي هي أقصى ما يستطيع «ثوران» حرثه من الأراضي في خلال يوم واحد، وهو نظام كان كفيلا بأن يفتح الباب على مصراعيه أمام التهرب والتحايل، ولم تبذل أي محاولة لوضع ضريبة على العقارات العينية، ولكن كان يطلب إلى مدير الإقليم أن يجد أموالا قيمتها المبلغ المطلوب، فيختصر الطريق بأن يفرض المبلغ المذكور على القرى الواقعة في مديريته؛ فيعمل الأشخاص على تقاسم المبلغ فيما بينهم.
وبالجملة، فإن أساس الإدارة الصحيحة - وهو مسح الأراضي بطريقة منظمة - كان معدوما بالمرة، على أنه كان ينتظر أن حكم محمد علي لو استمر لكان الأمل عظيما في أن ينتقل الإصلاح من مصر إلى سوريا.
27
ولا يلوح أنه كان في إدارة إيرادات الأطيان ما يثير الشكوى ويدعو إلى التذمر أو إيجاد الضغائن والأحقاد، ولكن المقتضيات العسكرية التي كثيرا ما أشار إليها القناصل في تقاريرهم كانت بطبيعة الحال موضع استياء الأهلين؛ فقد كانت السلطات العسكرية تستولي على الحبوب والأرزاق بأثمان هي دون أثمان السوق لتزويد الكتائب الزاحفة. هذا بينما الأشجار الباسقة كانت تقتلع لاستعمالها في الوقود وتؤخذ الدواب من أصحابها لاستخدامها في النقل إلى مسافات بعيدة. نعم؛ كانت السلطات العسكرية تدفع إلى أصحابها أجورا، ولكن هذه الأجور قلما كانت كافية للقيام بأود الفلاح لتعويضه عما تجشم من المتاعب في سبيل تتبع ماشيته والعودة بها إلى داره بعد أن تفرغ حاجة السلطة العسكرية، ويضاف إلى ما سبق تسخير العمال في بناء القلاع التي كان ينشئها إبراهيم باشا؛ فقد كانت أجور العمال دون نصف ما كان يحصل عليه في الأعمال العادية، هذا عدا أن السلطات كان في وسعها احتجازه للعمل إلى أجل غير مسمى.
28
وقد سارت إدارة إبراهيم في سوريا من وجوه عديدة ولأسباب كثيرة سيرا هو أبعد من الهدوء والنجاح من إدارة أبيه في مصر؛ فليس من ريب في أن انهماكه في حركة التجنيد قد نفر منه الطبقات الإسلامية؛ لأن المجندين لم يؤخذوا إلا منها وحدها، بينما أدى ما أظهره من التسامح الديني إلى قلق كل متعصب في أنحاء البلاد وشغل باله. أما الفلاحون والعمال فقد ضايقهم محاولات إبراهيم للاستيلاء على الأقوات والمحاصيل، هذا في حين أن صرامته وشدته قد أدخلتا الرهبة على قلوب الموظفين ورجال الإفتاء والقضاء وجعلهم يغرقون رعبا حرصا على مرتباتهم الفادحة التي كانوا يتناولونها منذ زمن بعيد. وفوق هذه الاعتبارات جميعها كان يوجد اعتبار آخر، ألا وهو أن الأهلين يعتبرونه حاكما غريبا هبط إلى ديارهم بأصول في الحكم ومبادئ في الإدارة اقتبسها من مصر، ولقد كان مسلمو سوريا منذ زمن طويل يعتبرون مسلمي مصر دونهم في الثقافة بكثير، فجاء فتح إبراهيم للبلاد السورية بمثابة فرصة أتاحت للمصريين أن يرفعوا عنهم ذلك الازدراء والاحتقار الذي كان ينظر السوريون به إليهم، ثم تبين أن الجندي الفلاح لم يكن يبدي من سعة الصدر نحو السوريين مثل ما كان يبديه نحو مواطنيه.
29
نعم؛ لقد ارتأى إبراهيم بأن ينشئ سلسلة مخافر بين المدن الرئيسية بعضها وبعض، لكن لم يكن للناس ثقة بهذه المخافر واستمروا يرسلون بريدهم بواسطة سعاة يستأجرونهم لهذه الغاية.
30
وثمة مسألة أخرى كانت مثارا للخلاف ومنشأ للصعوبات، وهي خاصة بآراء إبراهيم السياسية؛ فإنه كان أشد من أبيه تعلقا بفكرة إحياء الخلافة العربية، ولم يكن محمد علي ممن يفكرون جديا في هذه المسألة، وإن كان قد عرف عنه أنه كان يداعب هذه الفكرة من آن لآخر، وقد كانت ميول محمد علي بين روح الاستقلال السياسي وبين إصلاح الإمبراطورية العثمانية، وهذه الغاية الأخيرة كانت أهم ما تطمح إليه نفسه، وكان يلوح له أن العرب عنصر أحط من العنصر التركي، وأنه في حاجة إلى تعليم طويل وشاق؛ ولذا لم يكن يسمح في عهده بأن يشغل أحد من العنصر العربي مركزا خطيرا لا في الإدارة ولا في الجيش، أما ابنه إبراهيم فكان على النقيض من ذلك؛ ولذا رأيناه يسرف في تشجيع العنصر العربي. وقد ذكر كاتب فرنسي - هو «بوالي كومب» - أن خطة إبراهيم هذه قد أدت به إلى متاعب في الإدارة العسكرية، وأنه كان بطبعه شغوفا بالمعيشة في وسط جنوده مع رفع الكلفة بينهم وبينه، بل إنه كثيرا ما كان يقوم بالألعاب الرياضية معهم ويتغنى بالعنصر الذي نشأوا من سلالته ويقارنه بالعنصر التركي البليد الساقط. ولقد سأله أحد الجنود العرب يوما كيف يتفوه بأمثال هذه العبارات مع أنه تركي صميم؛ فأجابه إبراهيم من فوره بحرارة: «كلا؛ لست تركيا! فلقد هبطت أرض مصر وأنا طفل رضيع، ومنذ ذلك الحين قد غيرت شمس مصر الدم الذي يجري في عروقي، وصيرتني عربيا صميما.» وكانت حاشيته تردد هذه الآراء. مثال ذلك أن مختار بك كان يجاهر بأنه هو وأمثاله جيء بهم إلى مصر وهم في المهد، وعليه فلا تربطهم بالعنصر التركي أي رابطة وهم تابعون لا للجنس الذي لا يترك إلا الخراب وراءه أينما حل، بل لذلك الجنس النبيل الذي أضاء طريق العالم في العلوم والاختراعات وغطى أنحاء المسكونة بالمدن الناضرة والتماثيل البديعة التي أقامها على طول المسافة بين بلاد العجم إلى بلاد إسبانيا على أن التغني بتلك السلالة الوهمية لم يكن من شأنه إقناع الجنود من الجنس العربي الذين كانوا يحرمون من الترقيات لينعم بها رجال يزعمون أنهم (من الناحية الروحية فقط) من سلالة الجنس الذي انحدروا منه أنفسهم. ومما ضاعف شعور السخط هذا وزاد انتشاره التشريع الذي اقتبسه إبراهيم من القانون الفرنسي بمنع العقوبات العرفية؛ فإن أقل توبيخ كان يؤدي في الحال إلى المطالبة بعقد الديوان (أي إجراء التحقيق بواسطة المحكمة)، وكثيرا ما كان الجنود يتوعدون ضباطهم برفع شكايتهم إلى إبراهيم نفسه.
31
ولم يك تدهور النظام العسكري وتضعضعه بالبلاد الوحيد الذي ترتب على تحمس إبراهيم للجامعة العربية وأخذه بمناصرتها؛ فإنه لم يكن يقتصر نحو إبداء ميوله نحو تلك الجامعة سرا، كلا بل كان يتكلم علنا عن إنعاش القومية العربية والسعي إلى نظم كل من يتكلمون بلغة الضاد تحت حكم واحد وفتح أبواب وظائف الدولة على مصاريعها أمام أبناء العرب، وكذلك تقليدهم أسمى المناصب في الجيش واشتراكهم معه في التمتع بنعيم الإيرادات العامة وأبهة الحكم وعظمته، على أن هذه الآراء والنوايا مهما كانت محبوبة في مصر كانت تقابل في سوريا مقابلة أخرى؛ لأن التمييز لم يكن بين الأهالي باعتبارهم أتراكا أو عربا، كلا بل كانوا يميزون بعقيدتهم الدينية فقط أي إن أهالي سوريا كانوا منقسمين إلى مسلمين ومسيحيين فحسب، وعليه فإن نظريات إبراهيم لم يكن من شأنها أن تطمع السوريين في شيء كانوا محرومين منه، في حين أنهم كانوا يكادون يوضعون في مستوى المسلمين الذين كانوا موضع ازدراء السوريين واحتقارهم، أو بعبارة أخرى أن هذه الآراء بدلا من أن تغرس حب إبراهيم في قلوب الأهالي قد جعلته هو وسياسته موضع ارتياب الشعب السوري.
وفي الحق لم يرزق إبراهيم ما كان لأبيه من هيبة حكم الناس وإسلاس قيادهم؛ فإن الباشا الكبير كان يعرف بالضبط مواضع الندى ومواضع السيف، ومتى يترفق في القول ومتى يتوعد ومتى يضرب ضربته الحاسمة؛ فكانت ملاطفته أشبه شيء بالقطيفة المخيفة التي تكسو براثن النمر. ولم يكن تعوزه الحيلة أو يخونه ذكاؤه لابتكار مختلف المعاذير والتعللات المتعددة لتنفيذ إرادته.
أما إبراهيم فكانت له موهبة واحدة؛ فقد كان جنديا باسلا موفقا وكان مبدأه أن القوة وحدها هي الكفيلة بتذليل المصاعب، ولو كان إبراهيم ترك وشأنه لما تردد في تحدي كلمة أوروبا المتحدة ولهدم في ساعة واحدة ما تجشم أبوه نحوا من ثلاثين عاما في إنشائه وبنائه، وإذا كان إبراهيم قد فشل في اكتساب السوريين إلى جانبه فإنه قد نجح في نشر لواء الأمن والسلام والتسامح الديني، كما أنه وفق في تقليم أظافر المغيرين وتنشيط الزراعة وتطهير العدالة مما كان عالقا بها من الشوائب والأدران كما ساعد على توسيع دائرة التجارة، ولكن مسلمي سوريا لم يذعنوا لإبراهيم إلا رهبة من جبروته وخشية من سطوته؛ ولذا كانوا يتربصون به الفرص الملائمة لخلع يده والتخلص من حكمه والعودة من جديد إلى ولائهم السابق واستعادة ما كان لهم من السيطرة التقليدية على المسيحي المكروه وغسل عار ذكرى غلبة المصريين وفتحهم لسوريا.
الخاتمة
كانت أزمة سنتي 1839م-1840م خاتمة النشاط في حياة الباشا الكبير، وإن كان قد سلخ بعد ذلك حقبة زمنية بأكملها وهو يحكم مصر فإن العبء كان ثقيلا وخيبة الأمل من الفداحة بحيث لم يستطع أن يضمن ذلك الشيخ الهرم الذي جاوز السبعين، فعلى عاتقه وحده كان عبء المسؤلية وبذل الجهود واتخاذ القرارات الحاسمة وتدبير الرأي، ولم يكن يعرف طعم الكرى كما أن أعصابه قد أصبحت متعبة إلى حد أنه كان كثيرا ما كانت تنتابه سورة الغضب الشديد، على أنه حتى بعد أن مرت الأزمة وضعفت مرارة خيبة الأمل؛ فإن أعصابه قد ظلت متعبة برغم ما كان يبدو عليه من علامات الصحة الجسمانية،
1
وفي منتصف عام 1844م ثقل عبء السنين على عاتقه بكل مزعج، وكان من نتيجته هذا الحادث المرعب.
ففي إحدى الليالي وهو في الإسكندرية بعد أن فرغ محمد علي من المجلس الذي دارت فيه مناقشات حادة بينه وبين كبار رجال دولته آوى إلى مخدعه، ولكن الأرق قد تملكه ولم تذق عيناه النوم مطلقا.
وفي الصباح الباكر غادر فراشه وولى وجهه شطر قاعة الاستقبال وكانت خالية طبعا؛ لأن أحدا من الوزراء لم يكن موجودا في مثل تلك الساعة المبكرة، وإذ ذاك استلقى محمد علي على «الكنبة» وأجهش في البكاء والعويل بحالة عصبية مسموعة.
وبعد برهة قصيرة أرسل في إحضار طعام الإفطار، ولكنه لم يتناول منه شيئا عندما أحضر إليه.
وقد رفض تناول قدح القهوة كما رفض تدخين «الشبك»، وبعد ما يقرب من الساعة طلب الباشا المركبة وبدأ ينزل درج السلم، وكان الوزراء قد حضروا جميعا على عجل وقد ظلوا واقفين أمام مولاهم دون أن يجرأ أحد على الدنو منه.
فما كاد بصره يقع عليهم حتى صاح فيهم بأنهم قد خانوه جميعا، وأنه قد عقد النية على أن يغسل يديه من كل شيء وأن يغادر الديار لحج بيت الله الحرام.
ثم تولى عنهم قاصدا البيت الخلوي بقرب الترعة المحمودية الذي كان يقصده كلما أراد أن يستقل الباخرة ذاهبا إلى القاهرة. ولما لم تكن الباخرة قد أعدت له أغلق الدار وبقي فيها بنفسه، وكان كل جوابه على القنصل الفرنسي عندما حضر مستفسرا على الخبر الذي يمكن أن يبعث به إلى حكومته هو «ما فات فات، والمقدر لا بد من نفاذه.» وفي اليوم التالي استقل الباخرة وعند وصوله القاهرة حبس نفسه في قصره بشبرا بقرب النيل وهرع إليه كلوت بك ليسهر على راحته، ولكن الباشا كان ما يزال في حالة هيجان عصبي، حتى إنه ما كان يستطيع أن يدني قدح القهوة من فمه كما كان لم يكن يسعه التنقل من حجرة إلى أخرى بدون أن يتكئ على ذراع أحد من رجال الحاشية.
2
ومع ذلك ففي الوقت الذي توقع فيه الناس أن تنشب المنية أظفارها في الباشا، أو يصبح على الأقل عاجزا عن إدارة دفة الأمور؛ فإن ما ناله من الراحة وعناية كلوت بك وموالاته السهر على راحة مولاه، وفوق ذلك كله قوة بنية الباشا الخارقة للعادة، كل ذلك قد مكنه من استعادة صحته وقد فارقه الهم والوسواس وعاد ذهنه إلى سابق صفائه. ومن ثم عدل عن مشروع الحج إلى بيت الله الحرام وقضى بالغرامة على كل وزير يثير حفيظته وغضبه.
3
وفي الوقت نفسه أخذت صلات الباشا ببريطانيا العظمى في التحسن تحسنا محسوسا، ويرجع سر ذلك إلى سقوط وزارة الأحرار في سنة 1841م، وقد أبدى كل من «بيل» و«أبردين» رغبتهما في تسوية العلاقات وتحسين الصلات ولم يحجما عن الإعراب عن استهجانهما لسياسة الوزارة السابقة. وفي سنة 1843م عقدت الحكومة الإنجليزية العزم على أن تهدي محمد علي سفينة بخارية كدليل على شكر الشعب الإنجليزي وتقديره له،
4
وأهدته شركة الهند الشرقية بنافورة من الفضة الخالصة،
5
وبعثت له جلالة الملكة بصورتها في إطار رصع بالأحجار الكريمة،
6
وأنعم عليه حوالي الوقت نفسه ملك فرنسا بنيشان جوقة الشرف «اللجيون دونير»،
7
وذهب إبراهيم باشا في زيارة فرنسا وإنجلترا، حيث استقبل فيهما استقبالا حافلا، وقد أظهر أنه لا يتأخر عن نخب أي إنسان، وقد صرح محمد علي أنه سيحتذي حذو ولده إبراهيم، وقد أكد له عدوه الألد القديم لورد بالمرستون الذي عاد إلى منصب وزارة الخارجية بأنه إذا حضر لإنجلترا فلسوف تقابله جلالة الملكة المقابلة الحافلة التي يستحقها، وأنه يمكنه أن يعتمد على حسن الاستقبال من حكومة جلالة الملكة له.
8
وشاءت المقادير ألا تقع هذه الزيارة، ولكن الباشا شد رحال السفر فعلا إلى الآستانة سنة 1846م، حيث قوبل مقابلة حارة، ثم (بعد زيارة قصيرة إلى مسقط رأسه في مدينة قولة) وهو يتمتع بصحة جيدة ومنشرح الصدر انشراحا لم يتمتع به منذ سنة 1840م، وقد تواترت الإشاعات بأنه وزع على كبار الناس في الآستانة ما يقرب من ربع مليون جنيه،
9
على أن هذا كان خاتمة أعماله؛ لأن إدارة البلاد ابتداء من سنة 1847م فصاعدا أصبحت فعلا في يدي ولده إبراهيم؛ لأن الباشا نفسه كان قد تغلبت عليه الشيخوخة الحقيقية. ولقد انتقل إبراهيم باشا إلى العالم الآخر في نهاية سنة 1848م؛ أي بعد أسابيع قليلة من تلاوته «الحظ الشريف» بتعيينه واليا على مصر بعد أن أقعد المرض والشيخوخة والده عن إدارة البلاد،
10
ثم خلف إبراهيم عباس الأول، وهنا لا بد أن نقول إن إبراهيم احتفظ بجميع تقاليد أبيه، ولكن سرعان ما تغيرت الأمور بجلوس عباس على الأريكة وتحولت الدنيا إلى دنيا جديدة تختلف كل الاختلاف عما كانت عليه في عهد سلفه الكبير؛ فإن محمد علي كان حريصا كل الحرص على الاعتدال في نفقاته الخصوصية، ولكن عباس كان لا يرى أن هناك ما يستحق الإنفاق أو إضاعة الأموال عليه، وقد كتب القنصل البريطاني العام وقتئذ بمناسبة ذلك فقال: «إن عباسا أصبح يشيح بوجهه عن المشروعات التي بدأها الباشا الكبير واحدا تلو الأخرى، فقد أغلق المدارس واستغنى عن المصانع، وإني أتوقع الآن أن أسمع أنه سيعدل قريبا عن مشروع القناطر الخيرية الذي أثار لغطا كبيرا في أوروبا؛ فلقد كلف المشروع الخزانة إلى الآن ما يقرب من المليوني جنيه، ولا يحتاج إلى إتمامه أكثر من نصف مليون، وبينما يضن عباس بالأموال على أمثال هذه المشروعات الحيوية تراه يبذرها يمينا وشمالا في تأثيث القصور وتقديم الهدايا الثمينة إلى أقارب السلطان في الآستانة، هذا إلى أنه شرع يتكلم عن ابتياع عدد من البواخر كانت في زعمه عديدة وزهيدة الثمن كثمر التين.»
11
ولحسن الحظ لم يكن محمد علي يعرف ما هو جار خلف الستار، ولا يدري أن عباسا الأول قد طرح كل مشروعاته النفيسة لترقية البلاد ظهريا الواحد تلو الآخر. وأحسب أنه لو كان علم بذلك لصدم صدمة دونها صدمة الشيخوخة وما ينتابه من الألم الجثماني. وأخيرا، بعد حياة حافلة لحق بربه وهو في سن الثمانين، وكانت وفاته في اليوم الثاني من شهر أغسطس سنة 1849م، ثم نقلت جثته من القصر إلى الطريق الذي سلكه من قبل في سنة 1844م، وهو مشوش الفكر، ثم بترعة المحمودية فنهر النيل إلى بولاق بالقاهرة، وكان في استقبال الجثة كافة أفراد الأسرة الباقين على قيد الحياة ولم يتخلف سوى عباس.
وسار موكب الجنازة البسيط ميمما شطر المكان الذي اختاره محمد علي منذ سنوات ليكون مثواه الأخير في المسجد الجديد الذي بناه بالقلعة، حيث يطل الإنسان على العاصمة الكبيرة ومجرى النيل ومن خلفها الأهرامات. وبهذه المناسبة كتب القنصل الإنجليزي العام بعبارة بليغة وبتأثر غير مألوف، فقال: «إن ما تظهره كافة طبقات السكان في مصر من الحب والتمجيد لاسم محمد علي يسمو في روعته عن أي موكب جنازة اجتمع لخلفه؛ فلا يزال الشيوخ من السكان يذكرون فضل محمد علي في تخليص البلاد مما كان فيها من الفوضى والاضطرابات، أما الشبان منهم فإنهم ما فتئوا يقارنون بين عهده النشيط وعهد خلفه القائم على التردد والتذبذب. وأخيرا، فإن سائر الطبقات بما فيها الأتراك والعرب لا يحسون فقط، بل يخشون التصريح علانية بأن يسر مصر ورخاءها قد انقضى بوفاة محمد علي ... وفي الحقيقة ليس من سبيل إلى إنكار أن محمد علي كان برغم غلطاته رجلا عظيما.»
فلقد استطاع دون أن تكون له مزية رفعة الحسب أو الثروة المدخرة أن يشق طريقه إلى السلطان والشهرة العالمية لا معتمدا إلا على عزيمته التي لا تقل وقوة مثابرته وفرط ذكائه «ومع أن محمد علي كان يخفي أعمال القسوة بين آن وآخر فإنه لم يكن قاسيا بطبعه، وكان يحب الشهرة والسلطان حبا عظيما، وفيما عدا ذلك لم يحفل بالمال إلا باعتباره وسيلة لتحقيق الأماني العظيمة.» وكثيرا ما سمع القنصل العام أكثر من واحد يتمنى في خلال مرض محمد علي الأخير «أن لو اقتطع الله جل وعلا عشر سنوات من عمره عن طيب خاطر إلى عمر الباشا الكبير.» ولما هبط إلى حلب أو دمشق أو أي من المدن التي كانت تحت نير السلطان مباشرة، حيث لم يكن الفرد المسيحي مطمئنا على نفسه من الأذى أو الإهانة أصدر محمد علي أمره بأن يسمح لأي مسيحي أو أوروبي بأن يسير في شوارع القاهرة بلا سلاح وبدون أن يتعرض لأي خطر كما كان يفعل لو كان في لندن، وقد ختم القنصل العام ورسالته باعتذار لا لزوم له عن تحمسه لمحمد علي، فقال: «وأغلب الظن أنني لم أستطع أن أقاوم كلية ما كان للباشا من التأثير في نفوس الذين كانوا على اتصال به بفضل تربيته السامية وأخلاقه الجذابة.»
ثم ماذا يكون حقه في ذكرنا إياه؟! ... لقد كتبت على الصفحة الأولى من هذا الكتاب كلمة من كلمات محمد علي قارن فيها بين ما عمله في مصر وبين ما عمله مواطنو الهند. وعندي أن وجه المقارنة غير تام، ولكن هذه الكلمة تنطوي برغم ذلك على جزء من الحقيقة أكبر بكثير مما يود الإنسان التسليم به بادئ ذي بدء، ولكن ثمة وجوه كثيرة للشبه بينه وبين رجال الإدارة الإنجليز الذين أسسوا تلك الشركة في الهند، وقد رأى نفسه مثلا كما رأى أنفسهم يحكم ولايات تابعة لإمبراطورية بائدة تعيش في ظلال مجد قد انقضى العهد الذي يبرر وجوده، اللهم ما عدا ذكريات العظمة البالية، ثم إنه كمثلهم كان يضيق ذرعا بخرق الرأي المبني على الرشوة السائدة في البلاط الإمبراطوري الذي يصر على ألا يرى إلى أبعد من الظروف الحالية المحيطة به، وقد سعى كما سعينا في نيل الاستقلال إرضاء لمطامع شخصية بلا جدال، ورغبة منه في أن يبقى اسمه تردده الأجيال المقبلة جيلا بعد جيل، ولكن أهم باعث على السعي لنيل هذا الاستقلال هو كرهه للفوضى والرشوة وفساد الحكم.
وقد طمح الباشا كما طمح رجال الإدارة في الهند إلى أن يتمتع بالحرية ليتسنى له إيجاد نظام جديد للإدارة خير من النظام السابق، ولكن ما كان عليه وهو يسعى لتحقيق هذا أن يواجه كثيرا من المصاعب التي تعترض طريقه، وهي مصاعب تختلف كل الاختلاف عما كان يواجه حكام الأقاليم في الهند؛ لأن ما كان على الآخرين أن يواجهوه لم تزد عن المعارضة التي كانت تأتي من ناحية هيئات ضعيفة في داخل حدود الهند نفسها أو من ناحية منافسين أوروبيين لم يكن في استطاعتهم اختراق نطاق المراقبة البحرية القوية المبثوثة في المياه الشرقية.
ولكن سياسة محمد علي كانت تسير في اتجاه مضاد لرغبات الدول العظمى التي كانت نار الحسد مشتعلة بين بعضها وبعض، بحيث لا يمكنها الاتفاق أو جمع كلمتها على هدم الإمبراطورية العثمانية لا على أيدي إحدى هاته الدول ولا على يدي دولة أخرى عداها، ثم إن الفرصة الوحيدة التي كان يمكن حقا أن تحقق للباشا الحصول على حريته، وهي فرصة وجود حرب أوروبية عامة لم تسنح مطلقا؛ فإذا كان محمد علي قد أخفق في إنشاء إمبراطورية عظيمة كما فعلت شركة الهند الشرقية فليس ذلك مرجعه عدم مهارة الباشا ولا عدم مثابرته. كلا؛ لأن الحظ والقوة اللذين كانا من نصيب الشركة قد أخطآه، فلم يكن له سبيل إلى الفرار من الضغط الهائل الذي وضعته الدول الأوروبية العظمى.
على أن وجه المقارنة في هذه المسألة - أي مسألة السياسة الخارجية - ليس مما يلفت النظر كما هو الحال في شئون الإدارة الداخلية والخارجية؛ فإن المهمة التي اضطلع بها الباشا كانت تشبه من وجوه متعددة المهمة التي اضطلعت بها الشركة؛ فإن حكومة مصر كحكومة البنغال أو حكومة الكارناتك لم يعد في استطاعتها أن تزعم أنها تعمل للصالح العام؛ ذلك لأن الحكام والأعوان لم تعد لهم مهمة إلا اقتناص المصالح الشخصية، ونظرا لأن الرعية لم تكن منتظمة التنظيم الكافي فإنها كانت تقاوم مطالب الحكام مقاومة صامتة متفرقة وعلى غير طائل، وقد أصبحت العدالة مجرد صدفة من الصدف السعيدة، وتلاشت الحماية ولم يك ثمة ما يراقب حركة الشاهدين. وبديهي أن إنشاء إدارة على أساس عفن ومتداع كهذا الأساس كان من أشد المهام السياسية، على أن هذا الإنشاء لم يتم إلا بعد ارتكاب عدة غلطات.
يضاف إلى كل هذا أن أنواع ما قام من النظام الإداري في مصر أو في الهند كانت متشابهة وقريبة بعضها من بعض؛ فلقد كان النظام في كلا البلدين نظاما أوتوقراطيا مستندا إلى الحكم الفردي المطلق المحدود فقط بما يتحلى به الحاكم المفرد من المبادئ الأدبية، بمعنى أنه كان كما يشاء السيد المطاع والمالك لزمام كافة الأراضي والتاجر الأكبر، وعليه كانت المسائل الأساسية التي واجهت محمد علي وموظفي الشركة الأولين، وهي إلى أي حد يتفق مع العدل وخير البلاد يمكن تحديد هذه السلطة الواسعة وإلى أي مدى يمكن تطبيق دروس التجارب الغربية على الأحوال السائدة في الشرق، والتي تختلف كل الاختلاف عن أحوال الغرب. ولعمري لقد كان البت في بعض هذه المسائل - لا فيها كلها - أسهل على الباشا منه على الشركة الهندية، هذا بينما كان يعتبر سكانها من جنس واحد تقريبا إذا قيسوا بالأجناس المختلفة في الهند، ثم إن نظامها الاجتماعي كان بعيدا عن التعقيدات الناشئة عن الأنظمة الطائفية الهندية. وفوق هذا كله لم يكن سكان مصر منقسمين إلى مذهبين دينيين متنافسين كما هي الحال في الهند، ولكن يذكر في مقابل هذه المزايا الكبيرة التي تتمتع بها مصر نقص كبير؛ وهو عدم وجود معين لا ينضب من الرجال يعتمد عليهم في تنفيذ ما يصدر إليهم من الأوامر. وفي الواقع أن نظام الإدارة في عهد الباشا كان يختلف عن نظام الشركة في الهند بعدم وجود هيئة الخدمة المدنية كما هي الحال في الهند، وأحسب أنه لا يمكن عدلا تشبيه مصر في عهده بالهند في عهد بتنك، ولكن قد يمكن المقارنة بينهما في أوائل عهد الشركة بحكم الهند، أي الوقت الذي لم يكن تطورت فيه مزايا موظفي الشركة في البنغال مثلا أثناء حكم «كليف» أو «هاستنجز».
هذه الحقيقة وحدها كانت كافية في إيجاد الفوارق بين نظام إدارة إيراد الأراضي لدى حكومة الباشا ولدى الشركة الهندية؛ فإن محمد علي لم يخطر له طبعا أن يعمل على وضع تسوية دائمة للموضوع، ولكن سياسة كورنواليس الخاصة بالإيرادات لم تكن أكثر من مجرد سياسة محلية مشوشة لم تلبث أن طرحت ظهريا في جميع الجهات ما عدا الجهة التي نشأت فيها تلك السياسة، وإذا ما استثنينا تعيينه المحاصيل التي ينبغي زرعها في بعض الجهات ؛ فإن أساليبه كانت كثيرة الشبه بما كان متبعا في مقاطعة مدراس مثلا؛ فتحديد ضرائب فادحة موضوعة على نسبة ما يمكن دفعه في السنوات التي تكثر فيها غلة الأراضي لا في السنوات العادية، وعجز المزارعين عن دفع الضرائب المختلفة عليهم، واستعمال الكرباج لحمل المزارعين على الدفع؛ كل هذه الأساليب كانت مستعملة في بعض المقاطعات الهندية لا قبل بداية الحكم البريطاني فقط، بل وفي أوائله أيضا، لا بل إن المبدأ القاتل بملكية الأراضي للدولة نادت به الشركة وطبقته منذ زمن بعيد قبل ظهور الحكم البريطاني.
نعم؛ لم يكن في وسع الهند البريطانية أن تقدم ما يشبه نظام التجنيد الذي سنه محمد علي في مصر، ولكن هذا التجنيد لم يكن ما يقتضيه في الهند، وهذا فضلا عن أن أحدا لم يسعه أن يتصوره أو يدركه، أولا أنه لم يكن ضروريا؛ لأن عددا كبيرا لهذا كان يحمل السلاح مكرها، وثانيا كان غير مفهوم؛ لأن العادة والنظام الاجتماعي كانا يحتمان ألا يحمل السلاح إلا طبقات معينة فقط من الأهالي، ولعل الفائدة لم تكن كلها إلى جانب الهند في مسألة كهذه.
ومسألة أخرى هي أن موقف الباشا كان أشد أوتوقراطيا في الظاهر من الحكام الذين كانوا يعملون باسم الشركة الهندية، بمعنى أنه لم يكن يتردد في تنفيذ إرادته ولو بأقسى الوسائل إذا اقتضى الأمر ذلك، ومن جهة أخرى لم تكن تفرق بينه وبين شعبه تلك الفوارق الدينية أو الثقافية التي كانت تفرق حكام الشركة عن أمراء الهند، ولم يكن يقتصر على إرغام رجاله على الانخراط في سلك جيشه فحسب، بل كان يحملهم أيضا على زراعة القطن وقصب السكر وشجر التوت وأن يبعثوا بأولادهم إلى المدارس، وأن يقوموا بكل ما يظنه صالحا لخير الدولة وليس يسع أحد أن يوجه إليه شيئا من اللوم في ذلك؛ إذ لم يكن ثمة سبيل للقيام بالإصلاحات التي كان ينشدها.
ثم إنه كثير الحذر والتأني، ولعل ذلك كان من أهم مزاياه في طبع النظام الإداري بالطابع الغربي؛ لأن المزايا المادية متى أدركت مرة فليس يسع الإنسان إلا التسليم بها.
أما المزايا الأدبية، فقد كان يعرف أنها مما لا يدركه الإنسان إلا تدريجيا؛ لذلك لم يكن الباشا مستعجلا لحكم البلاد بالأساليب الغربية، فلم يحاول - كما فعل كورونواليس في الهند - أن يعطل بين الهيئة القضائية والهيئة التنفيذية، أو أن يسن قانونا جديدا قد لا يستطيع الشعب تفهمه، كما أنه لم يحاول البتة أن يغير أساس الإدارة من تنفيذي إلى قضائي، ولكنه لم يسكت عن عمل كل ما أمكن عمله لتطهير العدالة مما كان عالقا بها من الأدران والإشراف على المحاكم القديمة وإدخال محاكم جديدة أكثر انطباقا على روح العصر، ثم إنه لم يحاول شيئا في سبيل إنشاء معاهد تشريعية، ولكنه لم يتوان عن بذل كل ما في سعته لتحسين تصريف الأعمال العامة عن طريق النقاش، وأن يجمع في صعيد واحد ممثلي الطبقات المختلفة الذين يساعد تبادلهم الرأي على تسهيل الأعمال العامة، وأخيرا عني بإنشاء المدارس وإرسال البعثات المختلفة إلى أوروبا على أن يجعل شعبه على اتصال بالآراء والثقافة الغربية، وأن ينشئ جيلا جديدا قد أشربت نفسه حب الآراء الصحيحة والمدارك السامية من الواجبات السياسية أكثر من الجيل الذي كان يعمل معه.
ولعل الباشا في ذلك كله كان ملهما تمام الإلهام أكثر بكثير من الإنجليز الذين كانوا يعملون على تلقين الهنود عامة الآراء الإنجليزية والثقافة الغربية، ولعل سوء حظه الحقيقي انحصر في أنه كان فردا بعينه لا نظاما معينا، وإذا كان لجيل بعينه أن يضع الأسس فلا غنى عن أجيال أخرى لرفع واجهة البناء ورفعها عاليا، ولقد أمعن خلفاؤه الأولون في النكث بعهده وتجاهل أعماله واطراحها ظهريا، لا بل لقد كانوا في كثير من الأحوال يعملون على فشل الغاية من هذه الأعمال، وإذا كان الخلاف بين عهد «بنتنك» وعهد خلفائه في الهند كان تافها؛ فإنه على العكس من ذلك بين محمد علي وعباس الأول مثلا فقد كان الخلاف لا يتناول في الحالة الثانية الغاية وحدها، بل والخطة أيضا. وفي الحق أن أعمال محمد علي قد تعرضت لهزة عنيفة كما لم تتعرض لها أعمال أحد الحكام العموميين في الهند؛ لذلك لم يكن عجيبا أن نرى الكثير منها قد اندثر وراح هباء. وبالرغم من ذلك كله، فإن من الواضح أنه هو الذي أنشأ مصر الحديثة وجعلها على اتصال جديد نافع بالغرب، وليس من ريب في أن هذه الناحية من عمله لا يمكن لأحد أن يغيرها، وإذا كان قد كتب له النجاح والتوفيق؛ ذلك لأنه طبع الشعب الذي يحكمه بطابع الغاية النبيلة التي ينشدها ويعمل على تحقيقها، ولا تزال تقاليده حية إلى الآن برغم مرور نحو قرن كامل!
Halaman tidak diketahui