Dari Belakang Teropong
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Genre-genre
وهو مرب على رغم ما سماه به بعض المغيظين منه؛ وإنه ليشعر أن من واجبات مهنته أن يوحي إلى تلاميذه دماثته وأدبه، وأن يلهمهم الصدق ويعودهم احترام النفس، وإنه ليعتقد أنه يفيد طلابه من هذه الناحية أكثر مما يفيدهم غيره من أقرانه، وإلا فمن بلغ منهم مبلغه من الدماثة وكرم الطبع؟
ولن تفوته فرصة لإظاهر دماثته تلك التي أصبحت مضرب المثل بين عارفيه، وهو لا يرمي من وراء ذلك إلى شيء سوى أن يكون فيه لأبنائه أسوة حسنة، ولن يبتغي عليه جزاء ولا شكورا، ومن أروع مواقفه التي لست أشك أنها من خير ما يقتدى به، أنه التقط ذات مرة على مرأى من الطلاب دخينة سقطت على الأرض من يد رئيسه فأعادها إليه، ولكن ما كان أعظم دهشة الطلاب أن يروا ذلك الرئيس يقذف بها بعيدا بعد أن يأخذها منه، وهو عابس الوجه وعلى شفتيه ما يشبه الازدراء، وما لا يكون إلا استنكارا، ولقد قارن الطلاب لا شك بين رقة الأستاذ وغلظة الرئيس، ولست أدري أيهما كانت أقرب إلى نفوسهم البريئة.
وشاعت الحادثة في الزملاء الحاقدين منهم والمسالمين، فقال أحدهم: «ما أراه إلا ساعيا في الدرجة الخامسة.» فقلت: وكيف يكون ساعيا من كان في الدرجة الخامسة؟ فنظر إلي نظرة غاضبة كأنما ضايقه جهلي وقال: وإنك لترى من هؤلاء من هم في الرابعة وإن شئت ففي الثالثة ... والطريق إليها جميعا سهل معبد، ولكن لمن يرضى أن يكون ساعيا.
في حجرة البك الناظر!
«البك الناظر» هي كلمة الإجلال التي يجري بها العرف على ألسنة الطلاب والموظفين والأساتذة في مدارسنا طول العام، وعلى ألسنة آباء التلاميذ وأولياء أمورهم في الأسبوع الأول من العام الدراسي فحسب ...
وافتتحت المدارس أول الأسبوع الماضي، وجلس البك الناظر في كل مدرسة على كرسيه المحترم، أمام مكتبه الموقر، وتأهب للقاء طالبي الإذن عليه، وقد استجمع أكثر ما يطيق من الجد حتى لينقلب هذا الجد في كثير من الحالات عنفا، وأقصى ما يستطيع من الحزم حتى ليستحيل هذا الحزم شططا، ولا يسعك إلا أن تلتمس العذر لأكثرهم من فرط ما يتوسل المتوسلون ويلحف الملحفون ...
ودخلت حجرة البك الناظر في مدرستنا وهو رجل طويل التجرية حازم عن أصالة، تهز كريما إذ تهزه، ولكنك على طيبة قلبه مهما بذلت من جهد ومهما اصطنعت من حيلة لا تستطيع أن تزحزحه قيد شعرة عن رأي اقتنع به، وبخاصة فيما يتصل بسلوك طلابه ...
واستأذن والد أحد التلاميذ وهو موظف في أحد الدواوين، وطرق الباب طرقة خفيفة، ودخل يظهر التخشع والاحتشام وسلم وتلعثم، ثم أخذ يتوسل إلى الناظر أن يقبل ابنه المفصول رحمة به؛ وقطع عليه الناظر حديث توسله بقوله: مثلت هذا الدور أول العام الماضي، وقلت هذا الكلام وقبلت ابنك يومها على مضض فما كاد يدخل المدرسة حتى عاد إلى رذالته واستهتاره وطيشه، وكان هذا سبب رسوبه فكيف تعود إلى الرجاء، وكيف يتسنى لي أن أقبله؟
وقال الرجل: وما ذنبي وكيف تأخذني بجريرة ابني؟ وتعجب البك الناظر وأوشك أن يغضب، ثم قال: لم أفصلك ولكني فصلت ابنك، وما ذنب المدرسة وذنب أبناء الناس حتى أضع بينهم تليمذا كهذا يفسد مدرسة وحده؟ وعاد الرجل إلى التوسل والتضرع والتخشع، واستنفد عبارات الاسترحام من مثل قوله: المسامح كريم ... المعروف لن يضيع عند الله ... اعمل معروف! وحياة أولادك ... وهكذا، حتى استحال الرجاء إلى نوع غريب من التنطع، وضاق صدر الناظر وضاق صدري، ولكني والله قد أخذتني الشفقة وأحسبني لو كنت البك الناظر ما كنت إلا مفسد المدرسة بنصف هذا التوسل بل بثلثه ... ولكن ناظرنا لم يشأ أن يستجيب له وخرج الرجل وهو يكاد يبكي ...
وما كدت أرثي لحال الناظر مما يلاقي من ضيق حتى طرق الباب قادم آخر، ودخل فإذا برجل يدلف للسبعين فيما يبدو لعيني، حسن الهندام بادي الوجاهة، يتوكأ على عصا ولكنه يخطو في نشاط وإن كان في مشيته عرج، وقال قبل أن يصل إلى المكتب: اعذرني يا سعادة البك إذ أدخل بعصاي فساقي مكسورة في حادث سيارة ... وجلس وهو يتنفس في عسر ويحاول أن يجد ريقا في فمه؛ ليبتلعه فلا يكاد يجد إلا في مشقة؛ ولمحت في عينيه الألم الممض، وتعرفت في وجهه حيرة ذي الكبرياء بين كبرياء نفسه وبين ما تفرضه ظروف الحياة؛ واختلجت شفتا الرجل كأنما يجد عسرا في إخراج الكلام، ثم تنهد تنهدة طويلة، وقال وإن كلامه ليتقطع بتقطع نفسه: أنا والد فلان وما جئت لأدافع عنه فابني بطال. بطال ... وإنما أردت أن أسألكم وأنتم أطباء الأرواح ماذا أصنع لعلاجه؟ لقد ضربته الآن حتى بكيت وبكى؛ وليست لي حيلة فيه، وهو ابن هذه المدرسة طيلة خمس سنوات ... وتوقف الرجل ومد يدا معروقة ناحلة شاحبة وهو يحك سبابتها بوسطاها إذ يشير بهما، وبلع شيئا من ريقه في عسر وتنهد يستجمع نفسه، وقال: أريد أن أقول شيئا آخر وإن لم يكن في الموضوع ... ليس لي ولد غير هذا ولكن لي بنات ستا ... وهذا موضع أملي وأنا رجل أودع الدنيا، وخدمت الأمة مهندسا عشرات السنين ...
Halaman tidak diketahui