أما رواد القهوة فقد استغربوا هذا الحديث بين اللاهوتي وعبده، وعجبوا لسؤال السيد، ولكن عجبهم كان أشد حين سمعوا جواب عبده، وكأن ما فاه به العبد قد استغضب أحد الجلاس - وكان برهميا - فصاح بالعبد: «ويحك أيها المعتوه! أفتحسب أن الإله يحمل تحت المناطق؟ لا إله إلا براهما، وإنه لأعظم من العالم بأسره؛ إذ إنه هو الذي خلقه؛ لهذا نحن شدنا من أجل تكريمه الهياكل على ضفاف الكنج حيث يسبحه البراهمة، فليس في الدنيا من يعرف الله سواهم. وها قد نشبت الثورة بعد الثورة، فلم تفت في عضدهم ولا أنقصت من سيادتهم؛ إذ إن براهما - ولا إله سواه - يحميهم ويصد عنهم غارات الأعداء.
وما إن فرغ البرهمي من قوله حتى سرت الخيلاء إلى نفسه؛ إذ توهم أنه أقنع الجمهور، ولكن سرعان ما تلقاه أحد الحضور - وهو سمسار من اليهود - بقوله: ضللت يا صاحبي؛ فالإله الحقيقي لم يختر هيكله في الهند ولا هو يحمي جماعة البراهمة. إن الإله الحقيقي، هو إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لا يعطف على غير شعبه المختار، وهم الإسرائيليون الذين أحبهم منذ بدء الخليقة ولم يحب سواهم، ولئن يكن قد فرقنا اليوم في أنحاء العالم، فهو لم يفعل ذلك تخليا عنا، بل إرادة أن يبلونا. ولقد وعد بأن يجمع شعبه يوما من الأيام في بيت المقدس، وإذ ذاك يعود إلى بيت المقدس رواؤه ويهز بنو إسرائيل عصا الحكم فوق رءوس أمم الأرض أجمعين.
وغلب التأثر على اليهودي فأجهش بالبكاء. وفيما هو يحاول الكلام ثانية، قاطعه مبشر إيطالي قائلا: إن ما نطقت به لضلال وأي ضلال! إنك لتنسب الظلم إلى جلالته تعالى، فهو لا يستطيع أن يحب أمتكم أكثر من حبه سائر البشر، ولئن خص اليهود بحب في سالف الأيام، فلقد مضى على ذلك الزمن أكثر من تسعة عشر قرنا؛ إذ أغضبوه وحملوه على محو أمتهم وتشتيتهم، حتى إنك لا تجدهم إلا بقية مبعثرة هنا وهناك، وليس لدينهم تأثير فلا يعتنقه أحد. إن الله لا يفضل أمة على أمة، بل ينادي الجميع أن ينضموا إلى صدر الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وهي وحدها كفيلة الخلاص.
واتفق أنه كان بين المستمعين قس بروتستنتي، فاصفر وجهه، وتطلع إلى المبشر الكاثوليكي وطفق يتكلم: عجبا لك! أفتزعم أنه لا خلاص بغير اعتناق دينك، وأن الخلاص نصيب الذين يخدمون الله متمشين على سنة الإنجيل في نصه وفي روحه؟
وكان إلى جانب المتحادثين رجل تركي يشغل وظيفة في جمرك سوراط لم ينقطع طيلة الحديث عن تدخين غليونه، ولكنه حين سمع تتمة الحوار التفت إلى المسيحيين معا وخاطبهما بلهجة الغطرسة: يا بطل ما تؤمنون بتلك الديانة الرومانية التي حل الدين الحقيقي - دين محمد - محلها منذ أكثر من ألف ومائتي سنة. وهل في وسعكم أن تنكروا انتشار الدين الحنيف في أوروبا وآسيا وتجاوزه الأقطار إلى بلاد الصين المتنورة؟ لقد قلتم لهنيهة خلت: إن الله قد نبذ اليهود واستشهدتم على ذلك بذلهم ومسكنتهم، وبأن الناس يعرضون عن مذهبهم فلا يعتنقه منهم أحد فأقروا إذن بحق الإسلام؛ إذ إنه خفاق اللواء في مشارق الأرض ومغاربها. حذار حذار، فلن ينجو من عذاب الله إلا المؤمنون برسالة خاتم الأنبياء وصفوة المرسلين، ولن يخلص من هؤلاء إلا أتباع سيدنا عمر لا أشياع علي، فإن هؤلاء قد نشزوا عن الدين القويم.»
وحاول اللاهوتي الفارسي - وهو من شيعة علي - أن يحتج على هذا الكلام، ولكن ارتفعت إذ ذاك ضوضاء ملأت المكان؛ فقد كان أولئك الأغراب ينتمون إلى مختلف العقائد والمذاهب؛ فكان بينهم مسيحيون من بلاد الحبش، ولاميون من تيبيت، وإسماعيليون، وأناس من عبدة النار؛ فاشتركوا جميعا في اللغط والمماحكة في طبيعة الله وكيفية عبادته، وأصر كل على أن بلاده انفردت بعبادة الله الحقيقي عبادة صحيحة، ولم يعتزل وطيس هذا الجدال إلا صيني من تلامذة كونفوشيوس انكمش في أقصى زاوية من القهوة وأخذ يشرب الشاي على مهل ويصغي إلى حديث الباقين من غير أن يفوه بكلمة، فلحظ التركي هذا الصامت، فخاطبه بلهجة الشاكي يختصم إلى قاض وقال: إنك لتقوى على تثبيت الذي ذكرته يا أخي الصيني. لقد بقيت ساكتا حتى الساعة، على أنك لو نطقت لما أيدت غير أقوالي؛ فإن التجار الذين يؤمون سوراط من بلادكم، فيأتون إلي في طلب المساعدة؛ يؤكدون لي أن قد تسربت إلى بلاد الصين ديانات كثيرة، غير أن أحبها إلى الصينيين هي الديانة الإسلامية؛ لذلك هم يعتنقونها عن طيبة خاطر. فهلا تثبتن كلامي وتبسط لنا معتقدك في الله ورسوله؟
فالتفت إليه الحاضرون جميعا وصاحوا به: «بلى، بلى، أسمعنا رأيك في هذا الأمر!»
فأغمض الصيني عينيه وفكر هنيهة، ثم عاد ففتحهما ثانية وسل يديه من كميه الواسعين وطواهما على صدره، وأخذ يتكلم بصوت هادئ خافت يقول: يخيل إلي أيها السادة، أن لا شيء يمنع الناس من الاتفاق في الإيمان إلا عجبهم وكبرياؤهم. اسمحوا لي أن أضرب على هذا مثلا بالقصة التالية: «غادرت الصين وقدمت إلى هذه البلاد على باخرة إنكليزية كانت قد طافت حول الأرض. وقد تحتم علينا أن ننزل إلى الشاطئ الشرقي من جزيرة سومطرا في طلب الماء العذب، فلما بلغنا البر وكان الوقت ظهرا، نزل البعض منا يتفيئون أشجار جوز الهند، وكنا جماعة ننتمي إلى مختلف البلدان. ولم يطل مكوثنا حتى وافانا رجل أعمى عرفنا عند بعدئذ أنه فقد بصره لطول تحديقه في الشمس يبغي أن يستكشف طبيعتها ويحاول أن يقبض على ضيائها، وأجهد نفسه فأطال نظره إلى الشمس؛ فلم يعد عليه هذا الجهد إلا بأن أضرت أشعتها باصرتيه فأخمدت فيهما النور؛ يحدث نفسه حينئذ بقوله: ليس ضياء الشمس بسائل، فلو كان سائلا لسهل سكبه من إناء إلى إناء، ولاستطارته الريح كما تفعل بالماء، وما هو بنار، فلو كان نارا لأطفأها الماء، وليس ضياؤها بروح ؛ لأنه ينظر بالعين، وما هو بمادة؛ إذ يستحيل تحريكه، إذن فما دام ضياء الشمس ليس بسائل ولا نار ولا روح ولا مادة فهو إذن لاشيء!
تلك كانت حجته. أما استمراره على التحديق في الشمس والتفكر بأسرارها فقد سبب له فقد بصره وإدراكه. فلما أن عمي جاء عماه مثبتا لاعتقاده بأن الشمس لا وجود لها!
وكان يرافق هذا الأعمى عبد له، فلما أجلس سيده في ظل شجرة جوز الهند، راح فالتقط جوزة أخذ يعدها سراجا لليله، فجعل من خيوطها فتيلة، وعصر من جوفها زيتا غمس فيه الفتيلة. وإن العبد لجاد في عمله، إذ بسيده يتنهد ويسأله: أفما كنت مصيبا يا عبدي حين قلت لك: إن الشمس غير موجودة؟ أفلا ترى أي ظلام يحيق بنا؟ مع هذا يقول الناس: إن الشمس موجودة! لئن صح ما يزعمون، فما هي الشمس؟
Halaman tidak diketahui