لقد مرت بي مواقف يأس كثيرة في هذه الغربة المريرة. أذكر يوم كنت أتمشى بابنتي الصغيرة في البولفار إذ مر بائع بالونات ملونة منفوخة، فنادته ابنتي وصرفته أنا؛ إذ لم يكن معي ثمن ذلك البالون. كذلك أذكر رعب السجن الياباني؛ حيث ضاجعت طيلة الليل رجلا صينيا ميتا لفظ أنفاسه في وجهي وصبغت دماه قميصي. وأذكر يوم اختبأنا رجالا ونساء وأطفالا في كهف اتقاء غارات الطيارات، ووقعت القذيفة قربنا بحيث لفحت وجوهنا ريحها، ولكني لا أذكر مرارة قطعت نياط قلبي مثل تلك التي شدت على أوتاره حين وقفت خارج ذلك الرستوران لا أدري إلى أين أسير، ومن أين أكسب الرزق في اليوم التالي. حقا، إن الحيرة آلم على النفس من الخيبة، والخوف، والفاقة.
لا أدري كم طال وقوفي هناك: ألحظة أم ساعة؟ ولكني استفقت من غيبوبة آلامي على قهقهة الماجور، تلك الضحكة التي كان يقهقهها في مكتبه وهو يقلب الكتب وينهال علي بالأسئلة.
وفيما هو يقهقه خاطبني بكلمات متقطعة: رح إلى الكابتن «كلي» غدا، وقل له أن يضع اسمك في قائمة المستخدمين بمعاش 900 دولار في الشهر. لقد ظفرت بالبرهان القاطع على أنك من «خريجي الجامعة الأميركية في بيروت».
وخلع مشمعه مقهقها من جديد، متابعا حديثه: الظاهر أننا تبادلنا المشمعين؛ فحين مددت يدي إلى جيب المشمع أتطلب محرمتي وجدت هذا ...
وانتشل من جيب المشمع تلك الملاعق الأربع التي استملكتها أنا من المطعم حيث شربنا البيرة ...
قهوة سوراط
لليوتولستوي
كان في سوراط - إحدى مدن الهند - قهوة يؤمها الكثيرون من المسافرين والأغراب من مختلف جهات العالم، فإذا هم اجتمعوا أنس كل إلى رفيقه وأقاموا يتفكهون ويتحادثون. وقد ساقت التقادير إلى تلك القهوة رجلا فارسيا من المولعين بعلم اللاهوت، وكان الرجل قد أنفق العمر يبحث عن طبيعة الله، فدرس كتبا كثيرة ونشر تآليف عديدة، وكأنه استرسل في درسه وتنقيبه استرسالا غير محمود، فلم يلبث أن أصابه الخبال، فكف عن اجتهاده، وتمادى في الكفر حتى لم يعد يؤمن بوجود الله. فلما اتصل أمره بالشاه، غضب عليه وطرده من بلاد العجم. وهكذا ساء أمر اللاهوتي؛ فبعد أن جادل العمر كله مدافعا عن «السبب الأول»، صارت حاله إلى البلبلة، فبدلا من أن يفطن إلى جنونه وفقده «عقله» أمسى يعتقد أنه ليس ثمة من «عقل» يدير هذا الكون.
وكان في خدمة هذا العجمي عبد أفريقي يسير في ركابه أنى توجه، فلما دخل القهوة قعد العبد على حجر في الخارج «يتشمس» ويلهو بطرد الذباب الذي كان يزعجه بأزيزه حول أذنيه. وما إن اطمأن باللاهوتي مجلسه في الديوان، حتى طلب كأسا من الأفيون لم يكد يتجرعها حتى أسرعت حركة دماغه وبدأ فعل الشراب يظهر فيه ، فخاطب عبده من خلال الباب قائلا: قل لي أيها العبد الشقي، أتعتقد بوجود الله أم لا؟
فأجاب العبد ثم أسرع فانتشل من منطقته تمثالا صغيرا من الخشب وصاح: «هو ذا الإله الذي حفظني من يوم ولادتي، وليس في بلادنا من لا يؤمن بالشجرة المقدسة التي صنع منها هذا الإله!»
Halaman tidak diketahui