Mashariq Anwar al-Aqul
مشارق أنوار العقول
Genre-genre
وأي تقريع أبلغ من هذا التقريع على التمني ما لم يجعل الله سبيلا إليه ولكن رغبات النفوس وأمانيها الباطلة لا يكاد يقف في سبيلها شيء ما لم تسيطر على صاحبها عقيدة مكنية في قلبه مهيمنة على أحاسيسه فكم من عالم فتح لنفسه باب التأويل في الآية فادعى أن المراد بالسيئة الشرك أو إن المراد بالخلود طول المكث جاهلا أو متجاهلا إن الآية جاءت مجتثة لمطامع اليهود في تحديد مدة مسيس النار مقررة المصير الذي ينتظر كل من ارتكب سيئة ولم يتب منها قبل فوات الفرصة ولا عبرة بخصوص سببها مع عموم لفظها وستسمع إن شاء الله ما قاله فيها بعض من طلب الحقيقة فأدركها من محققي المتأخرين هذا وإذا نظرت إلى تقسيم القرآن مصائر البشر يوم الدين لم تعثر في هذا التقسيم إلا على مصيرين مصير إلى الجنة ومصير إلى النار وكلا المصيرين خالد وإن شئت معرفة أصحاب كل منهما فاسمع إلى قول العزيز الحكيم في سورة يونس (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم لفترة ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء السيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) فإن الآية الكريمة واضحة كل الوضوح في إن أهل الجنة وهم أصحاب المصير السعيد - لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة وهؤلاء هم الذين أحسنوا فاستحقوا الحسنى وزيادة ومما لا يمكن بحال أن يصلى أحد النار ولو فترة قصيرة وهو لا يرهق وجهه قتر ولا ذلة فأي ذلة أفظع من ذلة العذاب وكيف لا يرهق القتر وجه من يتقلب في الجحيم وبعد حصر أصحاب السعادة في هذا الصنف أتبع بيان أصحاب المصير الآخر مصير الشقاء والويل وأوضح إنهم كسبوا السيئات ولم يقيد هذه السيئات بل أطلقها وبين سبحانه جزائهم المحتوم وأنهم لا ينفكون عن هذا الجزاء بل هم فيه خالدون. ( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) أي أشكال بعد هذا الإيضاح وأي غموض بعد هذا البيان وهل بعد هذا كله مساق للدعوى بأن ثم طريقا ثالثا يشارك كلا الفريقين في مصيرهما ويأخذ حضه في جزاء كل منهما فيصلى أولا النار ثم يتقلب إلى النعيم المقيم وبالجملة فإن الآيات القرآنية ليس فيها ما يشير ولو من بعيد إلى الخروج من النار وإنما جاء كثير منها في الخلود لمطلق أهل الكبائر وقد أدرك هذه الحقيقة التي لا غبار عليها جماعة من أهل التحقيق من المتأخرين يحضرني منهم الإمامان الكبيران محمد عبده ومحمد رشيد رضا وذلك صريح في غير موضع من كلاهما في تفسيرهما القيم (المنار) ومن ذلك ما قالا في تفسير قول الله تعالى (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئة فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) فقد قال الإمام للسيئة هنا إطلاقها وخصها مفسرا - الجلال - وبعض المفسرين بالشرك ولو صح هذا لما كانلقوله تعالى (وأحاطت به خطيئة) معنى فإن الشرك أكبر السيئات وهو يستحق هذا الوعد لذاته كيفما كان والمعنى أحاطت الخطيئة هو حصرها لصاحبها وأخذها بجوانب إحساسه ووجدانه كأنه محبوس فيها لا يجد لنفسه مخرجا منها يرى نفسه حرا مطلقا وهو أسير الشهوات وسجين الموبقات ورهين الظلمات وأن تكون الإحاطة بالاسترسال في الذنوب والتمادي على الإصرار قال تعالى (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) أي من الخطايا والسيئات ففي كلمة (يكسبون) معنى الاسترسال والاستمرار وران عليه غطاه وستره أي أن قلوبهم أصبحت في غلف من الظلمات المعاصي حتى لا يبق منفذ للنور يدخل إليها منه ومن أحدث لكل سيئة يقع فيها توبة نصوحا وإقلاعا صحيحا لا تحيط به الخطايا ولا يعين على قلبه السيئات روى أحمد والترمذي والحكم وصححاه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن العبد إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلوا قلبه فذلك الران الذي ذكره الله في القرآن (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) لمثل هذا كان السلف يقولون المعاصي بريد الكفر. وجاء عقب هذا الكلام الأستاذ الإمام في المنار ما نصه قوله (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) خبر (من كسب سيئة وأحاطت به خطيئة) أي هم أصحاب دار العذاب في الآخرة الأحقاء بها دوم من لم يصل إلى درجتهم في الدنيا وهو من في قلبه شيء من نور الإيمان وتوحيد الله تعالى وما يتبعه من الخير قال الأستاذ الإمام: ومن المفسرين من ترك السيئة في الآية على إطلاقها ولم يؤولها بالشرك ولكنهم أولوا أجزائها فقالوا إن المراد بالخلود طول مدة المكث لأن المؤمن لا يخلد في النار وإن استغرقت المعاصي عمره وأحاطت الخطايا بنفسه فانهمك فيها طول حياته. أولوا هذا التأويل هروبا من قول المعتزلة: إن أصحاب الكبائر مخلدون في النار. وتأييدا لمذهبهم نفسهم المخالف للمعتزلة = والقرآن فوق المذهب يرشد إلى أن من تحيط به خطيئته لا يكون أو لا يبقى مؤمنا ا. ه وقد تعقبه السيد محمد رشيد بما أوضح به عواقب تأويل الخلود فقال إن فتح باب تأويل الخلود يجرئ أصحاب استقلال الفكر في هذا الزمان على الدخول فيه والقول بأن معنى خلود الكافرين في العذاب طول مكثهم فيه لأن الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ما كان ليعذب بعض خلقه عذابا لا نهاية له لأنهم لم يهتدوا بالدين الذي شرعه لمنفعتهم لا لمنفعته ولكنهم لم يفقهوا المنفعة وإذا كان التقليد مقبولا هند الله - كما يرى فاتحو الباب - فقد وضح عذر الأكثرين لأنهم مقلدون لعلمائهم - الخ ما يتكلم به الناس ولا سيما في هذا العصر فأن هذه المسألة قديمة وهي أكبر مشكلات الدين. نعم إن العلماء محتجون عليهم بالإجماع ولو سكوتيا ولكن التأويل باب لا يكاد يسده متى فتح شيء ا.
Halaman 148