وأوّل العلم بكلّ غائب الظّنون، والظّنون إنّما تقع في القلوب بالدّلائل، فكلّما زاد الدليل قوي الظنّ حتّى ينتهي إلى غاية تزول معها الشكوك عن القلوب؛ وذلك لكثرة الدلائل، [ولترادفها] .
فهذا غاية علم العبادة بالأمور الغائبة.
فمن عرف ما طبع عليه الخلق وجرت به عاداتهم، وعرف أسباب اتّصالهم واتّصاله بهم، وتقصّى علل ذلك، كان خليقا- إن لم يحط بعلم ما في قلوبهم- أن يقع من الإحاطة قريبا.
واعلم أن المقادير ربّما جرت بخلاف ما تقدّر الحكماء، فنال [بها] الجاهل في نفسه، المختلط في تدبيره، ما لا ينال الحازم الأريب الحذر. فلا يدعونّك ما ترى من ذلك إلى التّضييع والاتّكال على مثل تلك الحال؛ فإنّ الحكماء قد أجمعت أنّ من أخذ بالحزم وقدّم الحذر، فجاءت المقادير بخلاف ما قدّر، كان عندهم أحمد رأيا وأوجب عذرا، ممّن عمل بالتفريط وإن اتّفقت له الأمور على ما أراد.
[١٤- الصداقة]
ولعمري ما يكاد ذلك يجيء إلّا في أقلّ الأمور، [وما كثر مجيء السّلامات إلّا لمن أتى الأمور] من وجوهها وإنما الأشياء بعوامّها. فلا تكونن لشيء ممّا في يدك أشدّ ضنّا، ولا عليه أشدّ حدبا، منك بالأخ الذي قد بلوته في السّرّاء والضّرّاء، [فعرفت مذاهبه] وخبرت شيمه، وصحّ لك غيبه، وسلمت لك ناحيته؛ فإنما هو شقيق روحك وباب الرّوح إلى حياتك، ومستمدّ رأيك وتوأم عقلك. ولست منتفعا بعيش مع الوحدة. ولا بدّ من المؤانسة، وكثرة الاستبدال تهجم بصاحبه على المكروه. فإذا صفا لك أخ فكن به أشد ضنّا منك بنفائس أموالك، ثمّ لا يزهّدنّك فيه أن ترى منه خلقا أو خلقين تكرههما؛ فإنّ نفسك التي هي أخصّ النفوس بك لا تعطيك المقادة في كلّ ما تريد، فكيف
1 / 84