22 ... إلخ، ناهيك عن ضرورة «التحام» أفق المترجم بأفق المؤلف الأصلي بكل ما يضمه من علاقات وإيحاءات ودلالات نفسية واجتماعية وثقافية وحضارية، مع الوعي المستمر بخصوصية النص الأصلي وعوامل اختلافه وجوانب أصالته التي لا يمكن نقلها وينبغي الاجتهاد في المحافظة عليها ...
وإذا التفتنا إلى الترجمات العربية المتاحة لجلجاميش وجب علينا أن نرجع الفضل في أول محاولة رائدة لترجمتها للمرحوم العلامة طه باقر، وقد قام بها لأول مرة مع زميله الأستاذ بشير فرنسيس ونشرت في مجلة «سومر» سنة 1950م قبل أن تنشر في طبعتها الرابعة سنة 1974م، والحق أنها هي أيسر الترجمات وأقربها للقارئ وأجدرها بأن توصف بأنها أدبية وعلمية في وقت واحد، فقد اعتمد فيها على الأصل الأكدي بجانب ترجمتي: شبايزر وألكزندر هايديل، ولم يدخر وسعا في الرجوع إلى ترجمة شوت الألمانية في كثير من المواضع، وذلك بالإضافة إلى المقدمة النافعة القيمة والتعليقات المفيدة الرصينة، غير أنها قد عدلت عن التقسيم الأصلي للملحمة إلى ألواح متتالية، واستعاضت عنه بتقسيمها إلى أربعة فصول فأضرت ببنيتها الأصلية، كما عمدت في كثير من المواضع المليئة بالفجوات والتشوهات إلى التلخيص وإدماج بعض السطور في بعضها وحذف بعضها الآخر وإلغاء التكرار الذي يميز هذه الملحمة والأدب الشعبي بعامة، ولا شك أن العالم المترجم قد أراد بذلك التيسير على القارئ بتقديم سياق متصل، ولكنه أفقده قدرا كبيرا من تكامله ووحدته الداخلية والشكلية، كما ضيع جانبا من أصالته وجلاله القديم المرتبط بنقاطه وفجواته وفراغاته الكثيرة
23 ...
وأما عن ترجمة الدكتور سامي سعيد الأحمد فهي جهد كبير لتحقيق ترجمة علمية شديدة الأمانة إلى حد الوقوع في الحرفية وإغفال المعنى والسياق الكلي، وتقديم أعمدة بل ألواح كاملة في حالة يرثى لها من التفكك والاضطراب بحيث لا يخرج منها القارئ بشيء، ويبدو أن العالم الكبير في اللغة الأكدية والتاريخ القديم قد تصور أن الترجمة «العلمية» هي الترجمة الحرفية الدقيقة، وأن هذه الدقة تتنافى مع الاجتهاد في حدس المعنى واقتراح البدائل الممكنة، والاهتداء بالمحاولات الأخرى في اللغات الحديثة؛ ولذلك تقتصر فائدة ترجمته على الدارسين للنص الأكدي، إذ تجشم المترجم الفاضل مشقة كتابته بالحروف العربية وشرحه شرحا مفصلا بالغ الدقة والاستقصاء، أما بالنسبة للقارئ العام فتعد هذه الترجمة - في تقديري - مأساة حقيقية ... وأخيرا فإن أحدث الترجمات للأستاذ فراس السواح قد تلافت معظم الأخطاء التي وقعت فيها الترجمتان السابقتان، كما بذلت جهدا فائقا في الرجوع إلى الترجمات الإنجليزية مع الاعتماد على ترجمة هايديل، وزودت القارئ بنص بالغ الحساسية والشاعرية - وذلك على حساب التركيب العربي الصحيح في بعض الأحيان! - مع مقدمة وتعليق رائعين يدلان على الاستبصار العميق والمكابدة الباطنة لروح النص وعلاقاته المتشابكة ... (20) ولقد شجعني على الإقدام على هذه الترجمة أمور ثلاثة: أولها أنني وجدت أن ترجمة شوت - بمراجعة العلامة فولفرام فون سودن - هي أكمل الترجمات التي تيسر لي الاطلاع عليها وأكثرها اتساقا وترابطا في ترتيب الألواح، وقد بذل المترجم والمراجع غاية جهدهما في إكمال النسخة الآشورية ومحاولة سد ثغراتها والاجتهاد في تعويض نقصها بالاستعانة بالترجمتين: الحيثية والحورية وبالأصول السومرية، مع الحرص في كل الأحوال على تقديم نص دقيق ومقروء في آن واحد؛ ولذلك اعتمدت عليها وتقيدت بها مع تسجيل القراءات الأخرى الممكنة التي بدت لي أكثر معقولية وأقرب إلى المعنى الكلي، ولما كنت غير مختص في الآشوريات - كما اعترفت بذلك أكثر من مرة - فقد اكتفيت بهذه الترجمة التي ثبت لي أنها قد أضافت عشرات من السطور التي لم أجد لها أثرا في أي ترجمة أخرى، واجتهدت في تكملة عدد كبير من الكلمات والجمل والسطور التي أغفلتها تلك الترجمات أو تركتها ناقصة، وتجد كل هذه الاجتهادات المؤقتة في الكلمات والجمل والسطور التي كتبت بالخط الأسود المكثف، أما النقط الموضوعة بين قوسين منكسرين [...] فتشير إلى كلمات أو جمل تشوهت تماما بحيث استحال إصلاحها، وأما الكلمات القليلة التي وضعت بين حاصرتين أو قوسين منحنيين (...) فهي زيادات أضفتها من عندي؛ بغية التوضيح والتيسير على القارئ، علاوة على الهوامش التي شرحت فيها ما وجب شرحه من الأساطير والقصص والأحداث وأسماء الآلهة والأشخاص والأماكن، ولست أدري إن كان البحث الحديث في علوم الآشوريات قد اهتدى إلى ألواح أو كسر من ألواح جديدة تعوض بعض النقص الملحوظ في مواضع عديدة من الملحمة، ولكن الذي أدريه أن الترجمات السابقة الذكر كانت نعم الرفيق والدليل الهادي طوال رحلتي المتواضعة مع هذه الترجمة؛ ولذلك يطيب لي أن أوجه لأصحابها - باسم القراء وباسمي - أصدق آيات الشكر والعرفان والتقدير ... (21) والأمر الثاني الذي شجعني على الإقدام على المحاولة الخطرة أن صديق العمر الأستاذ الدكتور عوني عبد الرءوف العالم في فقه اللغات السامية القديمة قد أبدى استعداده لمراجعة الترجمة على الأصل الأكدي (ومبلغ علمي أنه هو العالم المصري الوحيد الذي يتقن هذه اللغة، ويقوم بتعليمها في كلية الألسن التابعة لجامعة عين شمس)، وإني لأتقدم إليه بصادق الامتنان والعرفان، كما أعبر عن سعادتي بالاشتراك معه في هذا العمل ...
والأمر الثالث والأخير: إن تجربة الترجمة كانت ضرورة اقتضتها تجربة أسبق منها، وهي كتابة الملحمة في عشر لوحات درامية تضمها مسرحية ملحمية بعنوان: «هو الذي طغى: محاكمة جلجاميش»، وقد خطر لي أن القارئ الذي اطلع على هذه المسرحية ربما يشعر بالحاجة إلى الرجوع للملحمة الأصلية على سبيل الائتناس بها أو المقارنة معها ...
والله أسأل أن لا أكون في الحالين قد حملت «جلجاميش» أكثر مما يحتمل من شجون زماننا وهمومه ، كما أتمنى أن ينبهني الإخوة والزملاء المختصون إلى الأخطاء التي وقعت فيها، وأرجو ألا تكون أخطاء جسيمة! ...
أشكره سبحانه إن كنت قد وفقت، وأستغفره إن كنت قد قصرت، فمنه وحده الهدى والسداد، وإليه ألجأ وإليه المصير.
القاهرة في 12 أكتوبر 1991م
عبد الغفار مكاوي
هوامش
Halaman tidak diketahui