19
ويتداخل معهما من اللا قيم أمورا ملازمة لكل تجمع بشري، ألا يكون السؤال الأسبق هو كيف تصبح ممكنة؟ وما الذي جعلها ويجعلها ممكنة؟ وفي داخل أي سياق أو أي نظام أو بالأحرى لا نظام؟ ومتى تجتمع الإرادة والوعي بالحاضر الذي هو جنين المستقبل على تحرير الشخص العربي في ظل نظام عربي حر، ومن خلال تربية ديموقراطية وعلمية حرة ربما يطول دربها ولكنه هو الدرب الوحيد والمأمون والأكيد؟ وأخيرا كيف نحقق ذلك كله بالأفعال لا بالأقوال والأصوات المرتفعة التي أصمت الآذان وأعمت العقول طوال نصف القرن الأخير على ألسنة عدد كبير من المعذبين في الأرض (بتشديد الذال وكسرها!) من أشباه المثقفين وأشباه الثوريين؟!
حسب «جلجاميش» إذن أن يثير مثل هذه الأسئلة وغيرها كثير، وإذا كان من الظلم - بطبيعة الحال - أن نحمل الملحمة وبطلها مسئولية تراث ثقيل ممتد من القهر والتسلط والطغيان والاستبداد، فقد أثرت قضية «النموذج الأولى» للمستبد الشرقي كما أثرت غيرها من القضايا والأسئلة؛ لكي أؤكد أن معايشة النص القديم (والوسيط والحديث) من داخله ومحاولة قراءته وتفسيره من وجهة نظر ذاتية-تاريخية تجعله يحتمل قراءات وتفسيرات ويثير أسئلة لا حصر لها، والمهم أن يكون التفسير مقنعا ومتسقا وإن عجز عن أن يكون ملزما من الناحية العلمية، والأهم من ذلك أن ينطلق من الحاضر - بعيدا عن أي إسقاط فج؛ لأن رؤية الماضي في الحاضر أو الحاضر في الماضي أمر مشروع من حيث المبدأ عند من يأخذون بذلك المنحى في القراءة والتفسير، أو إن شئت في «الترجمة» بالمعنى الذي أشرت إليه، وبخاصة في الأحوال التي نتصدى فيها لفهم وترجمة نص قديم ينتمي لحضارة قديمة كادت أن تنقطع بيننا وبينها أسباب التواصل والاتصال ...
وربما يكون من مآثر هذه «الترجمة» وأمثالها أن تجدد حضور هذه الحضارة في وعينا، وأن تخرجها من دائرة «الظلام» و«الموت» التي ألقاها فيها بعض كبار علمائها «الآخرين» من الباحثين الغربيين،
20
وأن تتيح لنا النظر في بعض مشكلاتنا وقضايانا التي تمتد جذورها المأساوية في تربة الماضي السحيق، وتفرش ظلالها وأشواكها دروب الحاضر المرتبك والمستقبل المجهول، وإذا كانت تحفر للعرب اليوم حفرة كبيرة، يشاركون هم أنفسهم بالدور الأكبر في تعميقها، فإن جلجاميش يشير لهم من بعيد إلى سبيل النجاة الوحيد: إلى العمل والبناء والإبداع الحضاري ... (18) هل بقيت ثم مبررات لهذه الترجمة الجديدة؟
أجل، فالأعمال الأدبية الكبرى تعرف ترجمات عديدة في كل اللغات الحية الحديثة والقديمة (التي نصفها ظلما بأنها لغات ميتة!) ومن هذه الأعمال ما يجب ترجمته من حين إلى حين، تبعا لتطور فهمه وتفسيره واكتشاف المزيد من أبعاده ودلالاته و«أسراره» على ضوء المعطيات المستجدة، وجلجاميش بالذات تستحق أن تترجم أكثر من مرة في أي لغة من اللغات الحية، لا لأنها درة أدبية لا يسطع بريق جوهرها الأصيل إلا بلمسات عدد كبير من الصائغين، مثلها في ذلك مثل ملحمتي: هوميروس وأوديب وهاملت وفاوست ... وغيرها من الروائع الغربية والشرقية، ولكن لسبب آخر أهم، وهو أن الحفريات الأثرية لا تفتأ تظهر من طوايا الأرض والبلى والنسيان كسرات جديدة من ألواح الملحمة أو من ترجماتها القديمة، مما يساعد على إكمال الفجوات الناقصة وإصلاح السياق المضطرب؛ ولذلك كانت من الأعمال التي تفرض ترجمتها أو على الأقل مراجعة الترجمات المتوفرة، كلما اكتشفت رقم أو لقي أثرية جديدة تحمل شواهد لغوية أو معلومات تاريخية لم تعرف من قبل ...
ويكفي أن نعلم أن لها في الإنجليزية مثلا أكثر من عشر ترجمات يلتزم بعضها بالأمانة العلمية الدقيقة، ويميل بعضها الآخر إلى التصرف الأدبي الحر، مع التفاوت بينها في مستوى الرصانة والتقيد بالأصل الأكدي، أو في درجة الحساسية والمرونة وشاعرية التعبير، ويصدق هذا أيضا على الترجمات العربية المتاحة التي سننظر فيها بعد قليل. (19) والواقع أن ترجمة جلجاميش تواجه المتصدي لها بكل ما تحمله النصوص الشعرية العظيمة من مسئوليات وإشكالات يصعب حلها حتى على العارفين بلغتها الأصلية القديمة (وربما على هؤلاء أكثر من غيرهم!) إنها «ليست ترجمة لكلمات، بل لحياة نص نابض، محبة له وتفاعل واتحاد معه»؛
21
ذلك لأن مترجم الشعر لا بد أن يكون مبدعا لنص سبق إبداعه، وأن تكون غايته هي تحقيق نص جديد مكافئ بقدر الطاقة لروح الأصل وأنفاسه وإيقاعه وبنيته الداخلية ومناخه الثقافي العام، على الرغم مما تحتمه الترجمة - عند العبور بنظام صوتي ونحوي ودلالي إلى شاطئ نظام آخر - من ضياع الجرس الموسيقي المرتبط باللفظ الأصلي وضياع غيره من الجماليات الشكلية المرتبطة بجماليات المعنى والصورة
Halaman tidak diketahui