فأجبته: أجل، إنني أعترف دائما بكل أمر حتى ولو كان معيبا، وإنما أعترف فقط لمن أثق بصداقته وولائه.
فقال: إن كلامك عين الصواب، فإنه لكي تثق بشخص ما ينبغي أن تكون مخلصا له إخلاصا حقيقيا، أولسنا صديقين يا ليون؟ أفما تكلمنا عن شروط الصداقة وماهيتها، وقد اتفقنا على أن نكون صديقين حقيقين، وأننا نثق ببعضنا كل الوثوق؟ وها إننا نتعاهد من الآن فصاعدا على أن نعترف بكل شيء لبعضنا، وبهذه الوسيلة نتمكن من درس أخلاق بعضنا، ولا نعود نخجل من شيء، ولكي لا نخشى فساد الغير نتعاهد أيضا ألا يتكلم أحدنا عن الآخر في أي مكان وجد. قال كار: إنه يوجد لكل اتحاد طرفان؛ الواحد يحب والآخر يرشح ذاته للمحبة، الواحد يقبل والآخر يقدم وجنته للتقبيل، وهذا عدل لا ريب فيه، وفي صداقتنا كنت أنا أقبل وديمتري يقدم لي وجنته لأقبلها، وهو أيضا كان مستعدا لتقبيلي؛ لأن حبنا كان متساويا متبادلا. •••
إن صداقة نيكليدوف كشفت لي دورا جديدا للحياة وغايتها وعلاقتها، وفهمت منه أنه من واجبات الإنسان أن يترقى في كل شيء حتى يرقى قمة الكمال الأدبي الذي هو سهل المنال ومستطاع لكل من يسعى للوصول إليه والحصول عليه، أما أنا فإني كنت حتى هذا العهد أبتهج باكتشاف الأفكار الجديدة، وأعتقد أيضا أني أستطيع الوصول إلى قمة ذلك الكمال، فكنت أرسم في مخيلتي رسوما عديدة لأعمالي المقبلة؛ لأن عيشتي كانت حتى هذا الوقت عيشة اضطراب وبطالة وتشويش أفكار.
إن الأفكار الحسنة التي تبادلتها مع صديقي ديمتري نيكليدوف كانت تعجب عقلي فقط دون حواسي، غير أنه أتى وقت ظهرت لي تلك الأفكار بمظهر جديد وقوة جديدة شعرت على أثرها بخوف شديد، وآسفت على ذلك الوقت الطويل الذي صرفته عبثا، وعزمت عزما ثابتا أن أشرع من تلك الدقيقة باتخاذ هذه الأفكار الجديدة قانونا أسير عليه في حياتي، ووطدت النفس بأني سأحافظ عليها، ولا أحيد عنها حتى النفس الأخير من حياتي. إن هذا التغيير الفجائي الذي حصل لي أسميه ابتدأ زمن الشبيبة ومعترك الحياة.
هذا ما كتبه الفيلسوف عن نفسه في كتاب عنوانه فتوة وصبوة وشبيبة تولستوي نقلناه عنه باختصار.
الفصل الرابع
معيشة الكونت في قرية ياسنايا بوليانا
لا ريب بأن القاريء الكريم يشوقه الاطلاع على معيشة هذا الرجل الفاضل في داره، وقد يتبادر لذهنه نظرا لشهرة الكونت ورفعة شأنه، ووفرة ثروته، وعلو حسبه ونسبه، أنه يسكن قصرا فاخرا محكم البناء والاتقان مزدانا بأقصى درجات البهرجة والزينة، ولديه عدد وافر من الجواري والخدم، ولا بد تأخذه الدهشة عندما نصفه له بما يأتي:
إن بيت الكونت تولستوي واقع في ظاهر قرية ياسنايا بوليانا تحيط به غابة كثيفة في دورين، جدرانه مغشاة بالجير الأبيض في غاية البساطة، وليس له شرفات ولا أروقة، ولا شيء من الزخرفة تدل على أنه بيت الكونت، وهو يعيش فيه مع زوجته وأولاده عيشة بسيطة خالية من كل تكلف، لا تفرق شيئا عن معيشة الفلاحين، وليس ذلك فقط؛ بل إنه يرتدي ملابس نظيرهم؛ أعني سراويل واسعة وفوقها قميص واسع أيضا يتمنطق عليه بمنطقة من الجلد الروسي، فإذا أصبح يتناول الشاي، ثم يذهب إلى الغيط يحرث الأرض، ويغرس الأشجار، ويبذر الحبوب، وإذا عاد مساء من الحقل يجلس مع زوجته وأولاده حول الخوان لتناول طعام المساء.
أما أثاث بيته، فهو عبارة عن مقاعد خشبية وعدة كراسي، وقد علق على بعض جدران المنزل صورة شكسبير ودكنس وبعض صور أسلافه، وقد طال شعر الكونت ففرقه كالنساء فوق جبينه كما ترى من رسمه.
Halaman tidak diketahui