مقدمة
القسم الأول
1 - ترجمة حياة الكونت نيكولا يفيتش تولستوي
2 - زمن صباه
3 - في سبب صداقته لصديقه ديمتري نيكيليدوف
4 - معيشة الكونت في قرية ياسنايا بوليانا
5 - فلسفته وآدابه وآراؤه الدينية
القسم الثاني
1 - قرار المجمع المقدس أو حرمان تولستوي
2 - رد على اعتراض تولستوي
Halaman tidak diketahui
3 - كتاب مكشوف للكونت تولستوي من رجل كان على مذهبه ثم ارتد إلى الكنيسة
4 - خاتمة الكتاب
مقدمة
القسم الأول
1 - ترجمة حياة الكونت نيكولا يفيتش تولستوي
2 - زمن صباه
3 - في سبب صداقته لصديقه ديمتري نيكيليدوف
4 - معيشة الكونت في قرية ياسنايا بوليانا
5 - فلسفته وآدابه وآراؤه الدينية
القسم الثاني
Halaman tidak diketahui
1 - قرار المجمع المقدس أو حرمان تولستوي
2 - رد على اعتراض تولستوي
3 - كتاب مكشوف للكونت تولستوي من رجل كان على مذهبه ثم ارتد إلى الكنيسة
4 - خاتمة الكتاب
مذهب تولستوي
مذهب تولستوي
تأليف
سليم قبعين
مقدمة
بسم الله الحي الأزلي
Halaman tidak diketahui
حمدا لمن رقى مدارك الإنسان، ترقية أفضت إلى تقدم العمران، فولد عقله الاكتشافات الجديدة، والاختراعات المفيدة، والعلوم الزاهرة النافعة، والفلسفة الحقيقية الساطعة، فسن النواميس والشرائع، ووضع كل مفيد نافع؛ لكي يرقي الناس قمة الكمال الأثيل، فيبلغوا ميناء سواء السبيل، ويخلعوا عن أعناقهم نير الجهالة الثقيل، فسيقا لمن يدرك الفلسفة الحقيقية ويسير تحت أعلامها، وتعسا لمن يغتر بالسفسطة ويرضخ لأحكامها.
أما بعد؛ فأقول: لقد حدثت في هذين العامين حركة فكرية سرت من أقصى الأرض إلى أقصاها؛ فأحدثت دويا هائلا في جميع أنحاء الغرب فاتصل صداها بالشرق، ولم تزل بين الناس موضوع جدال عنيف، ومنشئ هذه الحركة هو الفيلسوف الشهير والعالم الخطير الكونت تولستوي،
1
فإن هذا الرجل العظيم أدهش علماء أوروبا بفلسفته الصائبة وأفكاره الثاقبة فاعترفوا له بسمو المدارك، وأقروا بأنه من أشهر فلاسفة العالم، وأقبلوا على مطالعة كتبه وتعريبها إلى لغاتهم، وراجت مؤلفاته رواجا غريبا، وانتفع منها الناس نفعا أدبيا والكتاب نفعا ماديا، وقد كتب هذا الفيلسوف في مواضيع مختلفة، وتطرق إلى الكتابة في الدين فخالف بها عقائد الكنيسة الأرثوذكسية وخطأها، الأمر الذي حرك رجال الدين في روسيا عليه، والتأم أعضاء المجمع المقدس الروسي وأصدروا حكما عليه، وحرموه من الكنيسة كصاحب بدعة وضلالة، وكان لذلك الحكم رنة مؤثرة في جميع أنحاء روسيا كادت تفضي إلى شغب داخلي لولا أن تلافت ذلك الحكومة الروسية بالحكمة والتؤدة.
ومعلوم أن الجرائد والمجلات العربية كتبت المقالات الطويلة في هذا الشأن، وكلها عربت أقوال تولستوي عن الجرائد الإفرنسية والإنكليزية، وكان لتلك الأقوال وقع عظيم في نفوس قارئيها. فلما رأيت تلك الحركة العجيبة هزتني خدمة العلم لتأليف هذا الكتاب وتعريبه عن اللغة الروسية، وهو يحتوي على مختصر تاريخ حياة هذا الرجل العظيم، ووصف معيشته وآدابه وفلسفته وآرائه الدينية وردود رجال الدين عليها، وقد عزمت بعون الله على ترجمة كتبه ورواياته خدمة لأبناء اللغة العربية، وشرعت الآن بترجمة رواية «الحب والزواج»، فأرجو من جماعة المتأدبين، وأهل الفطنة والذكاء، أن يغضوا الطرف عما يرونه من الزلل؛ فإن العصمة لله وحده.
ولا بد لي في الختام من تقديم مزيد الشكر لحضرة خادم العلم والأدب إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية في القاهرة؛ لتفضله بطبع هذا الكتاب على نفقته، أدامه الله بدرا ساطعا في سماء المكارم والفضل.
سليم قبعين
الناصري
عن الناصرة في 25 ديسمبر سنة 1901 (الكونت ليون نيكولا يفتش تولستوي) «مستعارة من مجلة المقتطف البهية».
هوامش
Halaman tidak diketahui
القسم الأول
الفصل الأول
ترجمة حياة الكونت نيكولا يفيتش تولستوي
ولد هذا الرجل العظيم والفيلسوف الشهير في 28 أغسطس «آب» سنة 1828م، في قرية ياسنايا بوليانا، من أعمال ولاية تولافي، أملاك والدته التي هي إحدى عائلة فولكون الشهيرة العريقة في الحسب والنسب والإمارة، ولقد توفيت قبل أن يبلغ ولدها هذا العاشرة من عمره، فعهد أمر تربيته إذ ذاك إلى عناية السيدة تاتيانا إحدى قريبات عائلته وربيبتها.
وفي سنة 1837 انتقل والده مع أسرته إلى مدينة موسكو، حيث توفي فيها في نفس السنة، ولما شعر بدنو أجله أقام وصية لأسرته السيدة بوشكوفا التي نزحت بأسرة تولستوي من موسكو إلى كازان عام 1841، وفيها عهدت تثقيف وتعليم الفيلسوف إلى مهذبات وأساتذة أجانب، وفي سنة 1843 دخل كلية كازان، وانخرط في صف اللغات الشرقية، ولكن دخوله فيها لم يكن عن استعداد كاف لذلك ، ولكنه بذكائه المفرط وحذاقته فاق أترابه، وكان في المدرسة مثال النجاح والنشاط والنباهة والجد والاستقامة، ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره ترك تلك المدرسة التي لم تكن ذات أهمية تذكر في ذلك الحين، ولذلك لم يحصل على فائدة كبرى فيها؛ خصوصا وأن أكثر طلبتها من أبناء الأشراف الفاسدي السيرة المتعودين على البذخ والكسل والتواني في جميع الأعمال، ولذا لم تنغرس المبادي القديمة في نفسه في أيام صباه، وهاك ما قاله فيما بعد عن ذلك: «تفسد أخلاق الشاب في المدرسة؛ لأن جميع رفقائه فسدة الأخلاق، يصحبونه معهم إلى أندية الرجس فيفقد طهارته وعفته وهو لا يدري أن في فعله هذا ما يخالف الآداب والفضيلة. تفسد أخلاق الشاب من أول نشأته؛ لأنه لا يسمع من مرشديه أن الفسوق محرم؛ بل بالعكس يسمع أن صحة الجسم تستلزم بعض الشيء ... وجميع المحيطين به يقولون إن الوقاع شيء طبيعي مفيد للصحة وفكاهة الشباب الحلوة؛ لهذا كله لا يدرك الشاب أنه سائر في طريق الضلال؛ بل يقطع الطريق الطبيعية التي يسير فيها كل صحبه وأفراد الوسط الذي يعيش فيه، فيبدأ بالفحشاء كما يبتدي بشرب المسكر والتدخين ... إلخ.»
قلنا إنه أضاع أيام الصبوة سدى، ولم ينل في صغره تهذيبا جيدا، ولا تعلم العلوم اللازمة لترقية عقله ورفع شأنه، ولكن نفسه الكبيرة كانت تطمح إلى ارتقاء ذروة المجد، فانكب على مطالعة كتب أشهر الفلاسفة وأعظم العلماء، ودرس حالة الهيئة الاجتماعية درسا نظريا مدققا حتى انغرست فيه هذه المبادي، كما ظهر من مؤلفاته التي كتبها بهذا الشأن.
وبعد أن غادر تلك الكلية غير آسف على فراقها، برح كازان وعاد إلى قرية ياسنايا بوليانا مسقط رأسه، واتخذها وطنا له، واستولى إذ ذاك على ما خصه من ميراث أبيه، ومكث في تلك القرية ثماني سنوات متوالية، وكان يذهب بعض الأحيان إلى موسكو وبطرسبرج، فيمكث بضعة أيام، ويقفل راجعا إلى قريته.
وفي سنة 1851 زاره شقيقه الأكبر نقولا تولستوي الذي كان ضابطا في جيش القوقاس، ومكث عنده مدة إجازته العسكرية، ولما أحب الرجوع إلى فرقته صحبه معه إلى تلك البلاد الفيحاء، فأعجبه فيها جمال مناظرها الطبيعية، واعتلال هوائها، وعذوبة مائها، وخصوبة أرضها، والذي زاده سرورا رفاه عيشة الضباط وجنود القوزاق، فألح عليه شقيقه أن ينتظم في خدمة الجيش بعد أن رأى منه ميلا لذلك؛ فصادف منه قبولا وإقبالا، وانخرط في خدمة الجيش القوقاسي، ومن هذا الوقت ابتدأت تظهر للوجود أفكاره السامية يمليها على الطرس قلمه السيال، فوصف بلاد القوقاس ومعيشة أهلها أحسن وصف على صفحات رواية المهرب «نابيغ»، ولم يكتف بذلك، بل أردفها برواية أخرى لا تقل عنها انسجاما دعاها «القوزاق»، وصفهم فيها وصفا مدققا لم يسبقه إليه كاتب، ثم رواية «الفتوة» والصبوة والشبيبة يصف بها نفسه في جميع أدوارها، وبعد أن شرح وأطال وبين كيف يسير الشاب في طريق الضلال بدون أن يردعه رادع عن غوايته قال: «والغريب أن أمهات كثيرات يعتنين بأمر أولادهن في هذا الطريق رعاية لصحتهم فلا يبقى على الشاب إلا أمر واحد يخشى عاقبته من ارتكاب الموبقات، وهو العدوى من المرض المشهور، غير أن الحكومة التي تهتم بصحة رعاياها لم تدع مجالا للخوف، فإنها بهمة فائقة تعتني اعتناء تاما بالفواجر، والأطباء كهنة أصنام العلم، يراقبون المومسات لقاء أجور يتقاضونها، وهم من جهة أخرى يفتون للشبان بضرورة الجماع ولو في الشهر مرة مراعاة لقانون الصحة، فهم على ذلك يرتبون سير الفحش ترتيبا مدققا، ويضبطون دائرته ضبطا محكما ... إلخ.»
وفي سنة 1853؛ أي في ابتداء الحرب الشرقية نقل صاحب الترجمة إلى صفوف جنود الطونا، حيث انضم إلى فيلق القائد الشهير غورتشاكوف، ثم ضم إلى حامية «سيفاستوبل»، واشترك في معركة سنة 1855، وكذلك شهد ضرب سيفاستوبل من الجنود المتحدة فأظهر بسالة فائقة الحد؛ لأنه كان لا يعبأ بالأهوال المحدقة به، فيلقي نفسه في أشد المخاطر، ويشجع إخوانه الجنود للدفاع عن الوطن بكلام كان يؤثر في نفوسهم تأثيرا شديدا فيستقتلون في الهجوم. وفي أثناء تلك المعمعة المخيفة والأحوال المضطربة أرسل معتمدا إلى جلالة القيصر نقولا الأول حاملا إليه أوامر سرية مهمة، وفي ذلك الوقت المضطرب وقت الشدائد والأهوال وضع روايته الشهيرة «سيفاستوبل»، ثم أردفها برواية أخرى دعاها روبكاليسا «قطع الغابة».
ولما انتهت تلك الحرب المشومة، ورأى الفيلسوف عاقبتها الوخيمة التي كانت سببا لهرق دماء ألوف من الرجال الأبرياء، وتيتيم الألوف من الأطفال، وجرت بلاء عظيما على البلاد، كل ذلك على رأيه نتيجة أوروبا وفساد المجتمع الإنساني استقال من الخدمة العسكرية، ومن ذلك الحين صار يكره الحرب كرها شديدا، ويعتبرها جريمة يقترفها بنو البشر، وصار يمقت بل يتحامل على كل دولة تفتح حربا على أخرى، ولذلك لما انتشبت الحرب في جنوبي أفريقيا بين الإنكليز والترانسفال استاء استياء شديدا، وتمنى انتصار البوير واندحار الإنكليز؛ لزعمه أنهم معتدون عليهم وراموا سلب أملاكهم وبلادهم، ولكنه لما سافر وفد من البوير إلى أميركا طلب إليه بعض الأميركيين الذين يميلون إلى البوير أن يكتب في إحدى الجرائد الأميركية بضعة أسطر يظهر فيها ميله إلى البوير، علما منهم بأن كلام الفيلسوف يؤثر تأثيرا شديدا في نفوس الأميركيين، فتتحرك حكومتهم وتهب لنصرة البوير؛ فأجاب على ذلك بقوله: لا أتمنى لوفد البوير الفوز في أميركا؛ لأن فوزهم يتوقف على مداخلة الأميركان، ومداخلتهم تفضي إلى انتشاب الحرب بينهم وبين الإنكليز وأنا لا أريد ذلك، فإني إن فعلت أكون داعيا إلى الحرب التي تمقتها نفسي وأدعو الناس إلى تركها والتزام جانب الوئام والسلام، وهذا الكلام يطابق قول الشاعر العربي:
Halaman tidak diketahui
إذا استشفيت من داء بداء
فأقتل ما أعلك ما شفاكا
وعلى أثر استقالته اعتزل أشغال الحكومة، وأقام عدة أعوام قضاها في موسكو وبطرسبرج، وبين عام 1855 و1861 كتب الروايات الآتية: «دفاغوسارا» (الضابطان) وألبرت وليوتسرن وسعادة العائلة وبوليكوشكا، وفي عام 1861 جال في بعض أنحاء أوروبا، وعند عودته عاد فاستوطن قرية ياسنايا بوليانا، وجرد نفسه لخدمة الشعب داعيا إلى حب السلام والخير والفضيلة، فكان إذا وقع خلاف بين الفلاحين يحسمه بآرائه الثاقبة ويعيد السلام إليهم، وبذلك يمنعهم عن رفع قضاياهم إلى الحكومة التي - هي بنظره - تظلم الأهالي بأعمالها الحالية المجحفة بحقوقهم إجحافا ظاهرا لا يخفى على أولئك المساكين الذين لا يمكنهم الضغط أو الخوف من التصريح بتلك المظالم الفادحة. ثم أنشأ الفيلسوف في هذه القرية مدرسة وطنية كان ينفق عليها من جيبه الخاص، ويعلم بنفسه أولاد الفلاحين، ويبث فيهم روحا جديدا؛ فاشتهرت تلك المدرسة شهرة زائدة دوى صداها في جميع أنحاء روسيا، فصار يتقاطر إليها كثيرون من شبان بطرسبرج المتخرجين في كلياتها؛ ليتلقوا العلوم فيها مجانا تحت مراقبة وإرشاد الفيلسوف، وإنما كانوا يفعلون ذلك ليقتبسوا من معارفه العالية، ويغترفوا من بحار فلسفته ينبوعا صافيا خاليا من شوائب الأكدار، وينضموا تحت لوائه الذي هو - ولا ريب - لواء العلم والفلسفة الحقيقية التي لا يستطيعون الحصول عليها في تلك الكليات بين ذلك الوسط المضطرب الفاسد، ثم أصدر مجلة تهذيبية دعاها باسم تلك القرية المحبوبة، وشرع ينشر فيها المقالات الأدبية والتهذيبية بقصد تقويم أخلاق الأهالي والأولاد، ثم أخذ يدرب تلامذته وينشطهم على كتابة القصص الصغيرة، وينشرها لهم في المجلة.
وفي عام 1862 اقترن الكونت بكريمة الدكتور بيرس صوفيا، وبعد زواجه صار يسكن تارة في موسكو وطورا في القرية منتقلا بينهما، وفي أواخر السنة الستين كتب روايته الشهيرة «الحرب والسلام» جاعلا مدار الكلام فيها على عيشة الطبقة العليا الفاسدة وحرب سنة 1812، وفي السنة السبعين كتب رواية «حنه كارينينا»، وقد ذاع ذكر هاتين الروايتين في عموم أوروبا، وأكسبتا الفيلسوف شهرة عظيمة، حتى إنهما عربتا إلى أكثر اللغات الأجنبية بسرعة أشبه بسرعة البرق، وصادفتا رواجا عظيما حتى أعيد طبعهما مرارا بالنظر لما حوتاه من الوصف المدقق والأفكار السامية التي يعجز عن وصفها أبرع كتاب العالم، وبناء على ذلك عظمت منزلة الفيلسوف العلمية عند جميع علماء أوروبا، واتفق العالم أجمع على أنه أحذق كاتب في الوصف الحقيقي، ولتأثر كتابته في نفس قارئيها في عصرنا الحالي.
وفي عام 1882 كتب في مجلة «ديتسكي أوتضيخ» (راحة الأولاد) روايته البديعة «بما يحيا الناس»، ثم وضع عدة كتب تهذيبية ليطالعها الشعب الروسي الذي هو بأشد احتياج إليها، وللآن لم يزل يؤلف الكتاب بعد الآخر، وهذه رواياته العديدة كالبعث أو القيامة، وأين المخرج ، والحب والزواج وغيرها، أكبر شاهد على سعة اطلاعه وسمو مداركه، وكفانا شاهدا عدلا أنها تترجم إلى أكثر اللغات الأجنبية في نفس اليوم الذي تظهر فيه باللغة الروسية. ومؤلفاته هذه مختلفة المواضيع والمباحث؛ فإنه يكتب في الدين، والتهذيب، والأدب، والنفس، وهو بنفسه يحرث الأرض، ويشتغل سحابة نهاره وبعض ليله بدون كلل ولا ملل، وقد وزع أخيرا أملاكه الواسعة على فلاحيه بالسواء، تاركا لنفسه وأولاده بعض الأراضي التي يكفي ريعها لسد نفقاتهم باقتصاد.
إن الفيلسوف تولستوي يمتاز عن جميع كتاب الأرض بأمر واحد، هو وصف الأشخاص والأشياء وصفا يطابق حالتها تمام المطابقة، فإذا وصف فلاحا، أو عجوزا، أو متسولا رث الثياب، أو ملكا، أو وزيرا، أو قائدا، أو أحدا من طبقة الأشراف أو الأغنياء أو إحدى العقائل، فإنه يأتي على وصف صفاتهم وحالتهم وأفكارهم الحقيقية وسكناتهم وحركاتهم بما يخلب الألباب ويأخذ بمجامع القلوب، فيتخيل للقارئ أنه يرى الشخص أو الشيء الموصوف أمامه كما هو تماما، والقارئ أيضا يرى أنه يعرف تلك الأوصاف ويشاهدها كل يوم، ولكنه لا يستطيع أن يجمعها كلها أو يوردها مترادفة كما يوردها الفيلسوف الذي هو بهذا المعنى كمصور بارع يصور الأشخاص تصويرا حقيقيا، لا يدع مجالا لمنتقد، وإنما تولستوي يزيد على ذلك بتصويره حالة نفس الإنسان الداخلية وشعوره، فكأن نظره أشعة رنتجن تخرق أعماق القلوب فتكشف مخبآتها، يورد ذلك بكلام بسيط لا يحتاج إلى تغيير زائد أو تأويل، وهو لا يخوض عباب موضوع إلا بعد أن يدرسه درسا نظريا مدققا، ولا يكتفي بالظن أو السمع أو الإشارة، وكل تآليفه يقصد بوضعها خير الناس وإرشادهم سواء السبيل، وهي من هذا القبيل تطابق تعليم السيد المسيح السامية، ولقد حصر صفات الإنسان القبيحة فإذا هي كما يأتي: العديم القلب، القساوة، الأنانية، الكذب، قلة الأدب، الاختلاق، البلادة، العظمة أو الكبرياء. والصفات الحسنة هي: البساطة، طهارة القلب، عدم الاعتماد على الغير، ذو شعور وإحساس، محبة الناس، التنازل، التواضع، رقة الجانب، البشاشة، الرحمة.
ولذلك نرى الفيلسوف في جميع تآليفه يورد أمثلة من وسط رجال ونساء الطبقة العالية الذين لم ينغمسوا في الشهوات ولا تهوروا في البذخ والعيشة المعيبة والقصف والتهتك، وكذلك يورد أمثلة من وسط الجنود والفلاحين والشعب البسيط الذي يفضله تولستوي على طبقة الروسيين العلياء الفاسدة، ويمثل بهذا الشعب قوة روسيا الغير الممسوسة، أو بعبارة أخرى: التي لم يطرأ عليها الفساد.
أما المواضيع التي بحث فيها هذا الفيلسوف العظيم في تآليفه فهي مختلفة المباني والمغازي، ويمكن حصرها في أربعة أقسام:
أولا:
بحث بحثا مفصلا مدققا في عيشة الطبقة العلياء الروسية، وهذا الموضوع لم يسبقه إليه كاتب لا روسي ولا خلافه، وفي هذا الباب يبحث عن آداب وتمدن الشبان الروسيين الأغنياء والأمكنة التي يستهلكون الوقت فيها وعن حالة نفسهم، ثم يبحث في تمدن النساء الفاسد وأوصافهن مع أبنائهن وبناتهن، ويورد عنهن روايات مختلفة حقيقية، ثم يبحث في حالة المعيشة العيلية.
Halaman tidak diketahui
ثانيا:
أن يصور بمهارة زائدة جميع أدوار الحياة وأفراحها وأتراحها، وهو يغار غيرة شديدة على حفظ الرباط العائلي ورباط الزوجين طاهرا من الدنس بعيدا عن الفساد، وكذلك يدعو الناس إلى تربية الأولاد التي ينبغي أن يشترك بها الوالدان، وينصح للأمهات أن يرتبطن بأولادهن ارتباطا متينا لا تحل عراه الليالي الراقصة والاجتماعات البيتية والألعاب الغير لائقة للنساء؛ لأن الرباط العائلي إذا كان خاليا من المحبة، ومؤسسا على المظاهرات الخارجية فقط يكون كالبيت المؤسس على الرمل الذي يهدم بسرعة، ويجر وراءه الويل والخراب.
ثالثا:
أن تولستوي هو الوحيد بين الكتاب الروسيين الذي وصف فساد المعيشة الجندية، من أعظم قائد إلى أحقر جندي، ووصف الحرب وعدد أضرارها الكثيرة وشرورها العظيمة التي تجلبها لجسم المجتمع الإنساني، وقد قال عن ذلك - إن الحرب تقطف زهرة حياة الشبان، وتخفي نور السرور، وطيب العيش من بينهم، وبطرقه هذا الباب فتح بابا جديدا كان مقفلا ليس لكتاب الروس فقط، بل لجميع كتاب أوروبا.
رابعا:
إن الفيلسوف أعدل كاتب روسي وصف حالة الفلاح الروسي المستقبل وحالة الفلاحين المستعبدين للأشراف استعباد الرقيق، وبوصفه هذا وقوة براهينه أفهم العالم طرا بأن هذا الشعب البسيط الذي يعتبره العالم إبان السلم شعبا خشنا متوحشا يظهر في وقت الحرب معدن خير وشجاعة وشهامة وصبر، ولذلك لا يسوغ للمتمدنين أن يحتقروا الشعب المتحلي بهذه الصفات في وقت السلام. آه ...
قال الكاتب الذي نقلنا عنه ترجمة حياة هذا الفيلسوف: إن كل روسي يجري في عروقه الدم السلافي يفتخر بالكونت تولستوي الذي أولى روسيا فخرا عظيما، وأظهر لأوروبا أن في روسيا قوة مدفونة حان زمان إخراجها، وأنها ستفوق قوات أوروبا العقلية جمعاء.
الفصل الثاني
زمن صباه
قال الفيلسوف: لله ما أحسن أيام الصبا التي لا تعود! وما أحلى ذكراها في فمي وأطربها على فؤادي! فإنها تنعش صدري، وترفع نفسي، وهي ألذ ذكرى عندي؛ لأنها تذكرني بما مر في زمن الصبا من أويقات الأنس والصفاء، فقد كنت أقضي سحابة نهاري باللعب حتى يجيش دمي فأدخل مساء غرفة الطعام، وأجلس على مقعدي الخاص أمام المائدة، وأتناول قدحا من اللبن اللذيذ المحلى بالسكر، وبعد ذلك يسطو علي النعاس فيثقل جفناي في وقت أفضل فيه البقاء في مكاني على براحه؛ لكي أتمتع بالإصغاء للحديث، وكيف لا أصغي لحديث والدتي مع الآخرين؛ فإن صوتها الرخيم وكلامها العذب كانا يخرقان أعماق قلبي ويرتسمان فيه كأنهما من نار، ولكن عيني كانتا تزيدان ثقلا، وسلطان النوم يسطو علي فأتفرس بوالدتي فأراها تصغر كثيرا حتى يصبح وجهها بنظري بقدر الذر، ولكنه مع ذلك واضح لي تمام الوضوح، ويظهر لي أنها تنظر إلي مبتسمة فأطرب جدا بمرآها على تلك الصورة، فأحدق بعيني وأشدهما لأتمكن من رؤيتها أكبر مما هي ظاهرة لي، ولكنها لا تبلغ في نظري حجم أولئك الصبيان الذين نراهم في إنسان العين.
Halaman tidak diketahui
ثم أنهض من مكاني وأضطجع على الكرسي الهزاز الكبير فتقول لي أمي: إنك تنام على الكرسي ويضرك البرد، وخير لك أن تذهب إلى غرفة منامك في الطابق الأعلى. فأجيبها أني لا أريد أن أنام، غير أن نوم الصبا الصحيح كان يثقل جفوني فأنام نوما هنيئا هادئا، ولا أستيقظ إلا عندما توقظني، فأشعر إبان نومي بأن يدا ناعمة لطيفة تطوق عنقي، وبمجرد لمسها لي كنت أعرفها حالا وأجذبها إلي وألصقها بفمي وأقبلها قبلات حارة متعددة؛ فتخاطبني بصوتها الحنون قائلة: انهض يا روحي، قد حان وقت النوم. أما أنا فكنت أتناوم غير خائف كدرها، وإنما أفعل ذلك قصدا؛ لتزيد في مداعبتي وملاطفتي فلا أفوه ببنت شفة، ولا أبدي حركة؛ بل أقبل يدها مرارا وتكرارا، فتقول: انهض يا ملاكي، قم يا عمادي، استيقظ يا مهجة فؤادي وقرة عيني. ثم تدغدغني بيدها الأخرى، فتتنبه أعصابي، وأنهض مدفوعا فأرى أمي جالسة أمامي، فأطوق عنقها بيدي، وأضع رأسها على صدري، وأتنفس الصعداء، وأقول: آه كم أني أحبك يا أماه! فتتبسم ابتسامة تشف عن حب عظيم، ثم تجذب رأسي إليها، وتقبل جبيني، وتنهضني على حجرها، وتقول لي: إذن أنت تحبني يا ليون، فداوم على حبك، ولا تنسني أبدا، وإذا جاءك يوم لم تجد فيه أمك فلا تنسها؛ بل ابق على حبها كما لو كانت أمامك. ثم تكرر تقبيلي فتتهيج حواسي وأذرف دمعا سخينا، وأقابلها بالقبلات الحارة، وبعد ذلك أصعد إلى الطابق الأعلى، وأدخل غرفة النوم، وأقف أمام الأيقونات، وأصلي صلاة وجيزة أختمها بالدعاء بطول بقاء والدي، ولا أجد أعذب من تلك الألفاظ لفؤادي، وهي عندما كنت أقول: ارحم يا الله أبي وأمي، وحين تلاوة تلك الصلاة كنت أشعر بسعادة عظمى؛ ذلك لأني أمزج محبة والدي بمحبة الله الحي.
وبعد الصلاة أتوسد الفراش فتهجم علي الأفكار والهواجس، فتطرد بعضها بعضا، وكلها ملآنة بحب طاهر وآمال عظيمة بالسعادة النيرة المستقبلة، فيمر في مخيلتي ذكر أستاذي كارلوس وما حل به من المصائب؛ فأتألم من ذلك كثيرا، فأسأل الله القادر على كل شيء أن يخفف مصابه، وأن يمكنني من مساعدته لأقدم له كل ما في استطاعتي تقديمه. ثم تنتقل أفكاري فجأة إلى ألعوباتي وكلبي الأمين الذي كنت أحبه، فترتاح نفسي لذلك، ولا يعود يهمني إلا أن يكون الجو في اليوم التالي جميلا لأتمكن من الخروج إلى النزهة، ثم أتحول إلى جانبي الآخر فتمتزج تلك الهواجس والأفكار فأنام نوما هنيئا لذيذا ، ووجهي رطب بدموع السرور والابتهاج، فهل يا ترى تعود إلي هذه الوجدانات الرقيقة وعواطف المحبة العامة الشديدة، وقوة الإيمان والرجاء الزائد التي كنت حائزا عليها في أيام صغري؟ وأي شيء يتمنى الإنسان خيرا من أن تجتمع فيه صفتان جيدتان؛ سرور دائم طاهر، وحب زائد للجميع، وتكون هاتان الصفتان ملازمتين له في جميع أدوار حياته، ومحركتين له على فعل الخير والصلاح والأعمال الحسنة المرضية. أين تلك الصلاة الحارة؟ وأين تلك المواهب الثمينة، وتلك الدموع الطاهرة؛ دموع الالتماس والآمال؟ لقد هبط ملاك التعزية ومسح تلك الدموع ببشاشة وهشاشة. فهل الحياة ألقت على عاتقي حملا ثقيلا من متاعبها، ونزعت عني تلك الدموع والأفراح، ولم تبق لي سوى ذكرها ...؟
ومما قاله ذاكرا زمن فتوته: أيصدقني الناس لو علموا الأفكار التي كانت موضوع تأملاتي الدائمة في أيام فتوتي، ذلك لأنها غير مطابقة لسني وحالتي، وعلى رأيي أن عدم المطابقة بين حالة الإنسان وأعماله الفكرية الأدبية هي برهان واضح للحقيقة، وإني قد انفردت سنة كاملة كنت أسعى في أثنائها لحل بعض مسائل عويصة ظهرت في فكري، ولم أتمكن من كشف النقاب عن محياها بالنظر لصغر سني، وهي: ماهية الإنسان، وحياته المستقبلة، وخلود النفس، ومع هذا فإن عقلي القاصر في ذلك الحين كان يلتهب لإيضاح هذه المسائل التي تعد بعرفي خطوة شاسعة؛ ليستطيع أن يدركها عقل الفتى الذي لم يتح له السن حل معماها أو إيضاحه.
ويظهر لي أن العقل البشري يترقى في كل شخص بمفرده بحسب الطريقة التي يسير عليها في التثقيف، وأن الأفكار التي تشتغل لتكون أساسا للأعمال الفلسفية ليست إلا قسما متحدا مع العقل، فهما من هذا القبيل رضيعا لبان، وأن كل إنسان يشعر بها، ويميل إليها قبل أن يدرس الفلسفة، ولقد تمثلت هذه الأفكار في عقلي تمثلا واضحا، حتى إنني عزمت على أن أتخذها طريقة أسير عليها في جميع أدوار حياتي، وكنت أتوهم في نفسي بأني أول مكتشف لهذه الحقائق العظيمة النافعة، ومرة خطر على بالي فكر، وهو أن السعادة لا تتوقف على الأسباب الطارئة الخارجية؛ بل على علاقاتنا بتلك الأسباب ونسبتنا إليها، وأن الإنسان الذي تعود خوض المنايا واحتمال المشقات والمصاعب، لا يمكن أن يكون تعيسا، أو يشعر بالتعاسة، وأنا لكي أعود ذاتي على التعب كنت أحمل بيدي الممدودتين مدة خمس دقائق قاموسا غير مبال بالألم الشديد.
وذات يوم ورد على فكري فجأة بأن الموت ينتظرني في كل ساعة وكل دقيقة، وقد حتمت دون أن أدرك تلك الحقيقة التي لم يدركها الناس السالفون بأن خير واسطة لسعادة الإنسان هي أن يتمتع، وينتفع بالحاضر، ولا يفتكر بالمستقبل، فأثر في نفسي هذا الفكر تأثيرا شديدا، حتى إنني خضعت له، وتركت الدرس ثلاثة أيام متوالية، واضطجعت على سريري، وتفكهت بمطالعة الروايات، وتنعمت بألذ المأكولات وأشهاها.
ومرة وقفت أمام اللوح الكبير الأسود في غرفة التدريس، وجعلت أرسم عليها بالتباشير صورا مختلفة غير مرتبة، فخطر لي فجأة معنى وهو لما يسر النظر بالترتيب والانتساق، وسألت نفسي ما هو الانتساق؟ وعلى أي شيء مؤسس؟ وهل كل شيء في هذه الحياة منتسق الوضع؟ فقلت: كلا هذا غير ممكن، ثم رسمت على اللوح صورة فرضت بأنها الحياة، وقلت: إن النفس تذهب بعد الحياة إلى الأبدية، فمددت خطا طويلا من الصورة حتى إلى آخر اللوح، ورسمت في آخر الخط صورة وفرضت بأنها الأبدية، ثم سألت نفسي: لماذا لا يوجد خط آخر من جهة صورة الحياة المقابلة؟ وكيف لا يمكن أن تكون الأبدية من جهة واحدة فقط ... فلا ريب بأننا وجدنا قبل هذه الحياة، ولكننا قد نسينا وجودنا ولم نعد نتذكره؟
إن هذا الفكر ظهر لي بأنه جديد، لكنه واضح لا يحتاج إلى برهان، ثم أخذت دفترا وعزمت أن أكتبه فيه كي لا أنساه غير أن الأفكار العديدة تجمعت في تلك الآونة في رأسي، وحالت دون ذلك، ولم أجد وسيلة لطردها سوى أني نهضت من مكاني، وشرعت أتخطر في الغرفة ذهابا وإيابا، ثم أبصرت فرسا فجعلت أفتكر أين تذهب روحها بعد موتها؛ أإلى إنسان أم حيوان؟ وبينما كنت أجهد أفكاري لحل هذا السؤال دخل علي أخي، فلاحظ أنني أفتكر بأمر ذي بال فابتسم، وابتسامته هذه وضعت حدا لأفكاري، وأفهمتني بأن كل ما أفتكر به ما هو إلا خرافات باطلة.
وإني لم أتمسك بمعتقدات الفلاسفة القائلين بوجود الصور والأجسام؛ لأنني أعتقد أنه لا يوجد أحد أو شيء غيري في هذا العالم، وأن الأشياء ليست بأشياء، وأن الأجسام والصور تظهر لي عندما أشاهدها أو أوجه إليها التفاتي، وأنه عندما لا أفتكر بها أو لا أشاهدها تختفي عني حالا، ومجمل القول: إني وافقت مذهب سيللنغ القائل بعدم وجود الأجسام والأشياء، بل توجد نسبتنا إليها وعلاقتنا بها.
إن الأفكار الجديدة تتولد بواسطة مقدرة الإنسان من المعرفة أو الإدراك على ضبط حالة النفس بوقت محدود، ثم استعمالها عند الاقتضاء، ولا يخفى أن ميلي إلى الأفكار الجديدة رقى إدراكي ترقية غير طبيعية، وآل بي إلى أنه عندما أشرع أفتكر بالشيء البسيط كنت أسقط في لجة أفكار مختلفة يصعب علي الخروج منها، ولا أعود أستطيع أن أحصر أفكاري بذلك الشيء الذي يشغل فكري؛ بل كنت أفتكر بماذا أفتكر، فأسأل نفسي: بم أفتكر؟ فأجيب: أفتكر بما أفتكر. وبماذا أفتكر يا ترى الآن؟ إني أفتكر بالشيء الذي أفتكر به؛ لأن الإدراك الآن قد وافى العقل ... وفوق ذلك فإن اكتشافاتي الجديدة قادتني إلى محبة ذاتي، فقد جعلت أتصور بنفسي رجلا عظيما قد اكتشفت لخير الإنسانية أجمعها حقائق جديدة، فأفضل ذاتي على جميع العلماء المتقدمين الذين لم يفيدوا العالم بشيء، ولكن يا للعجب والدهشة؛ فإني عندما كنت أقابل نفسي بواحد منهم كنت أجزع خوفا من ذلك، وبمقدار ما كنت أعلي منزلتي لذاتي لم أستطع في تلك المقابلة أن أرفعها ولو قليلا بالنسبة إلى الغير، حتى إني لم أتمكن من أن أضبط نفسي عن الخوف والخجل لدى كل حركة تبدو مني أو لفظة أتفوه بها.
الفصل الثالث
Halaman tidak diketahui
في سبب صداقته لصديقه ديمتري نيكيليدوف
قال الفيلسوف: دخلت ذات يوم غرفة أخي فوجدته مضطجعا على المقعد يطالع رواية إفرنسية، فرفع رأسه ليرى الداخل، ولما أبصرني رجع إلى حالته الأولى، واستمر على المطالعة دون أن يكلمني، فأخذت كرسيا وجلست حذاء المنضدة، وبعد برهة سألته هل يريد البقاء في البيت أم يروم الخروج للنزهة مع أصحابه؟ فأحدق بي مليا بدون أن يجاوبني، فاستدللت من ذلك أنه لا يرغب الكلام معي. فأخذت كتابا وشرعت أطالعه، ولبثنا برهة غير يسيرة لا يكلم أحدنا الآخر، فاستكبرت الأمر وقلت في نفسي: مر علينا يومان لم ير أحدنا الآخر فيهما، والآن لدى اجتماعنا لا يريد أن يكلمني! إن هذا مما يقضي بالأسف والعجب، وفي أثناء ذلك دخل علينا صديقا أخي دوبكدف وديمتري نيكليدوف، وسلما عليه بشوق، ولم يكترثا بي لأني أصغر منهما، ثم أخذوا يتحادثون عن أمور مختلفة.
أما أنا فلبثت في مكاني ولم أبد أقل حركة كأني غير موجود بينهم، وفي أثناء الحديث قال صديقا أخي له: هلم بنا نذهب هذه الليلة إلى التياترو؛ لأننا قرأنا في الجرائد إعلانا عن رواية بديعة المثال لم يسبق تمثيلها قبل الآن. فأجابهما: لا أستطيع ذلك بالنظر لعدم استعدادي للخروج. فاشتد بينهما الحديث حتى اتصل إلى جدال عنيف وتعنيف مخيف، حتى قال ديمتري لأخي: إنك تحب ذاتك محبة شديدة، والأنانية صفة قبيحة لا يليق بالشاب الأديب أن يتصف بها! فأنكر أخي عليه ذلك، وقال: إنك تنسب إلي هذه التهمة ظلما وأنا بريء منها! فتداخلت أنا في الموضوع وسألتهم جميعا ما هو حب الذات؟ أو ما هي الأنانية؟ فأطرقوا كلهم مليا، ثم عرفها كل منهم تعريفا لا يطابق الحقيقة. فقلت لهم: إن تعريفكم غير صحيح، وما كنت أنتظر صدوره عنكم أنتم الذين تعلمتم العلم الصحيح، وتخرجتم في أشهر المدارس العالية «كليات». فتفرس في ديمتري وقال لي متهكما بي: عرف لنا حب الذات أيها الفيلسوف الشهير. فخفق فؤادي سرورا؛ لأني علمت أنها أحسن فرصة أتيحت لي لأبرهن لهم بأني لست أقل منهم إدراكا، فقلت: إن حب الذات هو أن يثق الإنسان بنفسه بأنه أحسن وأعقل جميع الناس. فقال نيكليدوف: إن تعريفك هذا لا يوافق عليه أحد أبدا. فأجبته : لا يهمني إن كان أحد يوافقني أم لا، وإنما أؤكد لك أني أعتقد بنفسي بأني أعقل كل الناس وأحسنهم، وأعتقد أيضا بأنك نفسك تعتقد مثل هذا الاعتقاد. فقال نيكليدوف: كلا، إني لا أعتقد بنفسي كذلك أبدا، وإني أعرف كثيرين هم أسمى مني، وأعترف لهم بسمو العقل والإدراك عني. فأجبته: ذلك مستحيل، ولا يمكن أن يكون أبدا أبدا؛ فازداد في تفرسا، وقال: هل عن جد تقول هذا الكلام؟ فأجبته: نعم، ثم نعم. وإذ ذاك حضرني خاطر فقلت له: وإني أبرهن لك على ذلك برهانا لا تقدر على دحضه وهو: لماذا يحب كل واحد منا نفسه أكثر من الآخرين؟ ... ذلك لأنه يحسب نفسه أحسن منهم، وأنه أهل للمحبة أكثر منهم، ولو أننا نجد غيرنا أحسن منا لكنا لا محالة أحببناهم أكثر من أنفسنا، وذلك مستحيل ورابع المستحيلات، فافتكر جيدا وتأمل كلامي تجد أني محق كل الحق في ما قلته. فصمت نيكليدوف هنيهة يفتكر، ولما لم يستطع أن يعترض على رأيي رفع رأسه وابتسم ابتسامة تشف عن طهارة وصداقة، وقال: ما كنت أظنك مدركا بهذا المقدار! فشعرت إذ ذاك بأن أجنحة السعادة ترفرف فوق فؤادي.
ولا يخفى أن للمدح والثناء قوة شديدة تؤثر تأثيرا عظيما في عقل الإنسان، والدليل على ذلك أنني شعرت من نفسي بأنني أصبحت أكبر وأعظم وأعقل مما كنت كثيرا، وهذا الشعور ولد برأسي أفكارا ومعاني جديدة.
ثم اتصلت ونيكليدوف من حب الذات إلى المحبة الحقيقية، وبقطع النظر من أن حديثنا يظهر للقارئ تافها أو بدون معنى، فقد كان له عندنا أهمية عظمى، فإن نفسينا اتفقتا اتفاقا واحدا كأنهما في جسد واحد، بحيث لو ضرب أحدنا على أوتار نفس الآخر لرأى أن الرنة تؤثر تأثيرا بينا في نفسه فتبدي نغمة واحدة، ولقد شعر كلانا بسرور عظم لاتفاق عواطفنا وشعورنا أيضا بأنه ينقصنا وقت ليظهر فيه الواحد للآخر ما يخالج كلا ضميره.
ومن ذلك العهد تمكنت عرى الصداقة بيننا، فكنا ننفرد أحيانا كثيرة في غرفتي نتطارح الحديث، ونتكلم عن معيشتنا المستقبلة ، وخدمة الحكومة، والزواج، وتربية الأولاد، وما شابه ذلك، ولكن لم يكن يخطر ببالنا ولا مرة واحدة بأن كلامنا ما كان إلا حديث خرافة؛ ذلك لأننا كنا نجد فيه طلاوة جديدة تطرب حواسنا بسماعها؛ لأن الصغير يقتنع في نفسه ويعتقد في عقله اعتقادا ساميا.
ومعلوم أن جميع قوى نفس الشاب تكون موجهة بجملتها إلى المستقبل الذي يولد في رأسه أفكارا مختلفة لذيذة، وهي لا تكون مبنية على اختبار المعيشة الماضية؛ بل على أمل عظيم بإمكان الحصول على سعادة عظمى في المستقبل، وهذا الأمل الوطيد في النفس يؤلف أو يكون سعادة الشاب الحقيقية.
وعندما ابتدأ الناس يحتفلون بموسم الرفاع «كرنفال» انهمك صديقي نيكليدوف في السرور والابتهاج، وزارنا عدة مرار، ولكنه لم يلتفت إلي، ولم يحادثني البتة؛ فاستكبرت الأمر، وحسبت ذلك إهانة لي، وحكمت بأنه متشامخ غير أهل للصداقة، فجعلت أترقب فرصة لأعلمه بها بأني ما عدت أهتم بصداقته فأقطع معه كل علاقة.
فلما زارنا أول مرة بعد انقضاء الرفاع تقدم إلي على قصد محادثتي، فقابلته بعبوسة وقلت له: ليس لي وقت للحديث لأني مضطر لاحضار دروسي. ثم تركته وصعدت إلى الدور العلوي، وانزويت في غرفتي، ولكن بعد ربع ساعة فتح باب غرفتي ودخل علي نيكليدوف، وقال: هل يكدرك حضوري؟ فأجبته بعامل خفي: كلا. مع أني قصدت عمدا ألا أقبله، ثم قال لي: لم تركتني وحدي يا عزيزي؟ أليس لأنه مضى علينا بضعة أيام لم نجتمع ولم نتحادث سوية؟ أفلا تدري أني قد اعتدت ذلك وأشعر عند عدم محادثتك كأنه ينقصني شيء؟
فسرى عني حالا ما كنت به، وذهبت من نفسي تلك الشكوك، وظهر لي ديمتري كما كان يظهر من ذي قبل بأنه شاب لطيف، فأجبته: أنت تعلم لماذا تركتك. فقال: يحتمل ذلك، ولكنني لو عرفت السبب فلا أصرح به؛ لأني أفضل أن أسمعه منك. فقلت: إني أصرح لك بالسبب وهو: تركتك لأني كنت غضبانا عليك، ولا أقول غضبانا بل منفعلا منك، ثم إني كنت أظن دائما أنك تزدري بي بالنظر لحداثتي بالنسبة إليك. فألقى علي نظرة تشف عن حب طاهر شديد، وقال: أتعلم لماذا تعلقت بك وأحببتك أكثر من كل معارفي؟ ذلك لأنك متصف بصفة تفردت بها عن سواك، وهي الإخلاص والاعتراف بكل شيء.
Halaman tidak diketahui
فأجبته: أجل، إنني أعترف دائما بكل أمر حتى ولو كان معيبا، وإنما أعترف فقط لمن أثق بصداقته وولائه.
فقال: إن كلامك عين الصواب، فإنه لكي تثق بشخص ما ينبغي أن تكون مخلصا له إخلاصا حقيقيا، أولسنا صديقين يا ليون؟ أفما تكلمنا عن شروط الصداقة وماهيتها، وقد اتفقنا على أن نكون صديقين حقيقين، وأننا نثق ببعضنا كل الوثوق؟ وها إننا نتعاهد من الآن فصاعدا على أن نعترف بكل شيء لبعضنا، وبهذه الوسيلة نتمكن من درس أخلاق بعضنا، ولا نعود نخجل من شيء، ولكي لا نخشى فساد الغير نتعاهد أيضا ألا يتكلم أحدنا عن الآخر في أي مكان وجد. قال كار: إنه يوجد لكل اتحاد طرفان؛ الواحد يحب والآخر يرشح ذاته للمحبة، الواحد يقبل والآخر يقدم وجنته للتقبيل، وهذا عدل لا ريب فيه، وفي صداقتنا كنت أنا أقبل وديمتري يقدم لي وجنته لأقبلها، وهو أيضا كان مستعدا لتقبيلي؛ لأن حبنا كان متساويا متبادلا. •••
إن صداقة نيكليدوف كشفت لي دورا جديدا للحياة وغايتها وعلاقتها، وفهمت منه أنه من واجبات الإنسان أن يترقى في كل شيء حتى يرقى قمة الكمال الأدبي الذي هو سهل المنال ومستطاع لكل من يسعى للوصول إليه والحصول عليه، أما أنا فإني كنت حتى هذا العهد أبتهج باكتشاف الأفكار الجديدة، وأعتقد أيضا أني أستطيع الوصول إلى قمة ذلك الكمال، فكنت أرسم في مخيلتي رسوما عديدة لأعمالي المقبلة؛ لأن عيشتي كانت حتى هذا الوقت عيشة اضطراب وبطالة وتشويش أفكار.
إن الأفكار الحسنة التي تبادلتها مع صديقي ديمتري نيكليدوف كانت تعجب عقلي فقط دون حواسي، غير أنه أتى وقت ظهرت لي تلك الأفكار بمظهر جديد وقوة جديدة شعرت على أثرها بخوف شديد، وآسفت على ذلك الوقت الطويل الذي صرفته عبثا، وعزمت عزما ثابتا أن أشرع من تلك الدقيقة باتخاذ هذه الأفكار الجديدة قانونا أسير عليه في حياتي، ووطدت النفس بأني سأحافظ عليها، ولا أحيد عنها حتى النفس الأخير من حياتي. إن هذا التغيير الفجائي الذي حصل لي أسميه ابتدأ زمن الشبيبة ومعترك الحياة.
هذا ما كتبه الفيلسوف عن نفسه في كتاب عنوانه فتوة وصبوة وشبيبة تولستوي نقلناه عنه باختصار.
الفصل الرابع
معيشة الكونت في قرية ياسنايا بوليانا
لا ريب بأن القاريء الكريم يشوقه الاطلاع على معيشة هذا الرجل الفاضل في داره، وقد يتبادر لذهنه نظرا لشهرة الكونت ورفعة شأنه، ووفرة ثروته، وعلو حسبه ونسبه، أنه يسكن قصرا فاخرا محكم البناء والاتقان مزدانا بأقصى درجات البهرجة والزينة، ولديه عدد وافر من الجواري والخدم، ولا بد تأخذه الدهشة عندما نصفه له بما يأتي:
إن بيت الكونت تولستوي واقع في ظاهر قرية ياسنايا بوليانا تحيط به غابة كثيفة في دورين، جدرانه مغشاة بالجير الأبيض في غاية البساطة، وليس له شرفات ولا أروقة، ولا شيء من الزخرفة تدل على أنه بيت الكونت، وهو يعيش فيه مع زوجته وأولاده عيشة بسيطة خالية من كل تكلف، لا تفرق شيئا عن معيشة الفلاحين، وليس ذلك فقط؛ بل إنه يرتدي ملابس نظيرهم؛ أعني سراويل واسعة وفوقها قميص واسع أيضا يتمنطق عليه بمنطقة من الجلد الروسي، فإذا أصبح يتناول الشاي، ثم يذهب إلى الغيط يحرث الأرض، ويغرس الأشجار، ويبذر الحبوب، وإذا عاد مساء من الحقل يجلس مع زوجته وأولاده حول الخوان لتناول طعام المساء.
أما أثاث بيته، فهو عبارة عن مقاعد خشبية وعدة كراسي، وقد علق على بعض جدران المنزل صورة شكسبير ودكنس وبعض صور أسلافه، وقد طال شعر الكونت ففرقه كالنساء فوق جبينه كما ترى من رسمه.
Halaman tidak diketahui
ولا يكتفي الكونت بزراعة أرضه، بل يساعد الفلاحين الفقراء بالحراثة وغرس الأشجار؛ لأنه يرى أن مساعدة الفقير بالعمل أفضل له كثيرا من المساعدة المالية، وقد قال عن ذلك: ساعد المحتاج بالعمل تعلمه الجد والكد، والابتعاد عن الكسل الذميم، وتكون له خير أنموذج حسن فيضطر أن يقتدي بك، ويرى أن العمل أمر شريف وواجب على كل إنسان مهما كان رفيع المقام وافر الثروة، وبهذه الواسطة يقنع كل فقير بما يحصله بتعبه ونشاطه، ولا تعود نفسه تطمح إلى التقاعد والكسل، بخلاف إذا تصدقت عليه بالمال، فإنه يدب فيه روح الكسل، ويميت منه عاطفة الشهامة، فيجنح إلى التواني وقلة الشغل فتسوء حالته تدريجا، ويصبح عضوا غير نافع في المجتمع الإنساني، ويجر على عائلته الويل والمصائب ... إلخ.
ثم إن للفيلسوف في بيته القروي مكتبة، وهي عبارة عن مقصورة ضيقة تحتوي على كرسي من الخشب، وطاولة مغطاة بغطاء من الجوخ الأخضر القديم، وحول جدران الغرفة رفوف خشبية مرصوصة عليها كتبه الكثيرة، وفي إحدى زوايا الغرفة معلقة صورة رجل روسي من القائمين على الحكومة، وكثيرون من شبان روسيا المتخرجين في كلياتها يقصدون الكونت في قريته، ويتتلمذون له، ويحذون حذوه في أمر مساعدة الفلاحين، والاشتراك بالعمل مع الجميع.
الكونت في داره بمدينة موسكو
لقد ذكرنا حالة معيشة الكونت في قرية ياسنايا بوليانا حيث يقضي فصل الصيف فيها، وأما في الشتاء فيقيم في مدينة موسكو فينقطع عن الأعمال الجسدية المتعبة، ويتفرغ للأعمال العقلية النافعة؛ فيؤلف الكتب المفيدة، ويطالع أشهر المؤلفات العلمية والفلسفية، ولا يقابل أحدا من رجال الروس إلا القليل الذين له علاقة معهم، أما الأجانب فيأذن لكل واحد منهم بمقابلته في أي وقت أرادوا. وبيته واقع في ظاهر المدينة في شارع «حقل البنات» تدل ظواهره على أنه من البيوت القديمة، وهو مؤلف من دورين، وخصص الكونت لنفسه غرفة في الدور الثاني مفروشة فرشا بسيطا، وفيها مكتبة ومقعد وعدة كراسي وطاولة، وأما الدور الأول حيث تقيم زوجته وأولاده فهو مفروش بالرياش الفاخرة فتزدحم فيه أقدام الزوار حيث يلعبون الألعاب المختلفة؛ لأن عيلته تسير في معيشتها في موسكو كأهل هذا العصر في اللعب، وكثرة الزيارات، والكونت لا يشاركها في ذلك أيضا؛ بل يكون دائما منزويا متفرغا للعلم والعمل، وهيئته تدل على الرزانة وكبر العقل، وهو ينهض من النوم الساعة الخامسة صباحا فيشتغل بالتأليف والتحرير، وعلى الغالب يقابل زواره عند المساء ، وهو لطيف المعشر أنيس المحضر، يلاطف زائريه ويهش في وجههم من أية طبقة كانوا، وإذا حدث أحدهم أطال الكلام معه، وهو قوي الحجة، شديد العارضة، قوي البرهان، يقنع خصمه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة السديدة فيجعله مقتنعا ممتنا منه، ويشاركه أولاده في تبييض الكتب وتصليح مسوداتها.
وإتماما للفائدة ننقل عن مجلة المقتطف
1
الغراء ما دار من الحديث بين الفيلسوف والكاتب الإنكليزي المستر لونج إبان زيارته له، حيث قال: لما زرت الفيلسوف المرة الثانية رأيته قد أتم كتابة كتاب إلى البعض من أعضاء مجلس النواب الأسوجي، وكانوا قد كتبوا يسألونه عن رأيه في دعوة القيصر إلى عقد مؤتمر السلم؛ فأجابهم أن ما عرضه القيصر باطل لا يمكن العمل به؛ لأن الحكومات الحاضرة لا تستطيع أن تبطل الحروب ولا أن تخفف ويلاتها، ثم قرأ لي جوابه، وكان كلما قرأ فصلا منه يقف ويقول لي: أفهمت مرادي؟ حتى أتى على آخره، فقال: هذا ما أرتئيه في مؤتمر القيصر، فإنه كله سخافة ورياء لا غير، ولا تستطيع الحكومات الحاضرة أن تبطل الحروب ولا تريد إبطالها؛ لأن الحروب ليست عرضا طارئا عليها؛ بل هي جزء جوهري من قوامها لازم لوجودها. فإذا قلت إن هذا المؤتمر رياء برياء لا أعني أن الحكومات التي أشارت به واشتركت فيه قصدت أن ترائي قصدا، ولو كان عملها رياء.
إذا قلت إنك عازم على تغيير شيء لا يغير ما لم تغير طبعك وأنت غير عازم أن تغير طبعك فأنت مراء. فاقتراح القيصر رياء، وقبول حكومات أوروبا به رياء، وما منهم من يعتقد نجاحه، وكأن الحكومات تريد أن تخفي أعراض دائها لكي تحول أذهان شعوبها عن العلاج الشافي، لكنها لا تفلح في ذلك، ولا يستطيع هذا المؤتمر أن يقلل الحروب، ولا أن يقلل مضارها. إذا تسلح رجلان وكان كل منهما يعتقد أن مصلحة الآخر ضد مصلحته، فلا يأتمن أحدهما الآخر، ولا يركن إليه، ولا يصدق كلامه إذا عاهده على السلم؛ لأنه لو صدق كل منهما الآخر لما بقي داع للسلاح ، وإذا استطاعت الممالك أن تعيش بالسلم من غير أن يكون عند كل منها مليون جندي تستطيع أن تعيش بالسلم من غير أن يكون عند كل منها ألف جندي؛ لأن القلة لا تمنع الحروب إذا كانت الكثرة لا تمنعها.
ولما حوصرت سفاستوبل رأى البرنس أورسوف أن أحد الحصون أخذ واسترد مرارا، فقال للقائد العام: دعنا نطلب من الأعداء أن يعينوا رجلا منهم يلاعب رجلا منا بالشطرنج فمن غلب كان الحصن له، ولا شبهة في أن القائد ضحك من هذا الاقتراح؛ لأنه يعلم أن الفريق الذي يخسر الحصن بالشطرنج لا يكف عن استرجاعه بالسلاح إذا استطاع، والناس يفصلون خصوماتهم بقتل بعضهم بعضا لا بلعب الشطرنج؛ لأن الغالب هو الذي يثخن في خصومه ويضطرهم إلى الكف عن مقاومته، والمغلوب يتربص بغالبه الفرص حتى إذا استقوى واستضعف خصمه عاد إلى الأخذ بالثأر، وقد يضع المؤتمر قواعد وقوانين لمنع الحروب، ولكن هذه القواعد والقوانين لا تمنع دولة من أن تدعي أن خصمها هو الذي نكث العهود أولا. وقلت له: إن الحكومات لا تمنع الحروب، ولكنها تقلل مضارها. فقال: هذا وهم ورياء من الذين يدعونه، ومصلحتهم قائمة بإبقاء الحروب، وقد قلت إنه رياء؛ لأن الغرض منه إقناع الناس بأن مضار الحرب يمكن أن تقل كثيرا، فإنك ترى الحكومات تمنع استعمال الرصاص المنفجر؛ لأنه يجرح ولا يقتل حالا، ولكنها لا تمنع استعمال الرصاص العادي مع أنه كثيرا ما يجرح ويؤلم، والسبب الحقيقي لمنع الرصاص المنفجر أنه لا يقتل حالا فلا يفي بغرضهم وهو التنكيل بعدوهم حتى يضطر إلى التسليم والخضوع، ولذلك لا أريد أن ينجح هذا المؤتمر، ولا أنا معتقد بنجاحه، وإن نجح فيكون منه ضرر؛ لأنه يحول أفكار الناس عن الحل الحقيقي الذي يمكن العمل به في كل مكان، وهو أن يخضع كل إنسان لضميره، والضمير يقول له: إن قتل الناس غير جائز، فإذا اقتنع كل إنسان بذلك بطلت الحروب من نفسها، وعجزت الحكومات عن إثارتها. فقلت له: هب أن أمة من الأمم اقتنعت بصحة رأيك وعملت به ، فلا ينتظر أن أمم العالم كلها ترى رأيها حينئذ وتفعل مثلها، وهب أن أمة من هذه الأمم اعتدت على الأمة الأولى وحملت عليها، أفلا تضطر الأمة الأولى إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسها.
فقال: لا؛ لأنه يجب عليها أن لا تقتل غيرها، والواجب واجب كيفما كانت الحال.
Halaman tidak diketahui
وهاك فقرات من كتاب كتبه لجلالة القيصر يعترض فيه على نظام الحكومة الحاضرة، ويطلب مطالب كثيرة للإصلاح:
إليكم نرفع خطابنا يا ولاة الأمور من القيصر، وأعضاء مجلس الحكومة الأعلى، والنظار إلى أقارب القيصر أعمامه وإخوته وكل الذين يستطيعون أن يكلموه. إليكم نرفع خطابنا لا كأعداء بل كإخوان مرتبطين معنا ارتباطا متينا «أردتم ذلك أو لم تريدوه»، حتى إذا حلت بنا البلايا أصابكم شيء منها، ليس اللوم على الذين يثورون؛ بل اللوم كله عليكم لأنكم لا تفتشون إلا عن راحتكم ورفاهيتكم، وقد كان الواجب عليكم أن تفتشوا عن سبب الثورة والشكوى وتزيلوه، والناس مسالمون بالطبع لا يطلبون الخصام والعداء، بل يفضلون الوفاق والمسالمة، فإن كانوا قد ثاروا عليكم الآن، وطلبوا الإيقاع بكم، فلا يكون ذلك إلا لأنهم وجدوكم مانعا يمنع عنهم وعن الملايين من إخوانهم أعظم نفع يطلبه الإنسان في هذه الدنيا وهو الحرية والعلم، وغاية ما يطلب منكم لكي لا يبقى سبيل لثورة العامة عليكم، وهو نافع لكم أيضا لأجل راحتكم وسلامتكم، هذه الأمور الطفيفة، وهي:
أولا:
المساواة بين الفلاحين والعمال وغيرهم من أهل الطبقات العليا «في أمور ذكرها بالتفصيل؛ مثل إلغاء القوانين التي تربط العمال بأصحاب الأعمال، وإعفاء الفلاحين من الأموال الأميرية التي تأخرت على غيرهم، ومن أخذ الجواز إذا أرادوا الانتقال من مكان إلى آخر، ومن تقديم الخيل والعلائف لرجال الحكومة، ولا سيما رجال البوليس، ومن العقاب بالضرب».
ثانيا:
إلغاء الحكومة العرفية التي تلجئون إليها آونة بعد أخرى، فتسلطون على الرعية أناسا ظالمين فاسقين سخاف العقول.
ثالثا:
إزالة كل الموانع التي تمنع تعليم أولاد العامة؛ لكي يتحرر جمهور الروسيين من ربقة الجهل، والجهل أكبر معين للحكومة على الاستبداد بهم .
رابعا:
وأخيرا إطلاق الحرية الدينية ... إلخ.
Halaman tidak diketahui
والكتاب طويل، وعلى كل لمحة من هذه اللمحات شرح مسهب فاجتزأنا بما تقدم.
هوامش
الفصل الخامس
فلسفته وآدابه وآراؤه الدينية
اشتهر الفيلسوف تولستوي ببسط فلسفته في روايات يؤلفها، وهي تقسم إلى ثلاثة أقسام: من حيث الدين، ومن حيث الاجتماع، ومن حيث الفنون؛ أي الفلسفة الدينية والاجتماعية والفنية، على أنها كلها فروع لشجرة واحدة مبنية على قاعدتين؛ الأولى: أحبوا بعضكم بعضا في كل شئونكم، والثانية: لا تقاوموا الشر بالشر فإن الشر لا يقتله إلا الخير.
وقد أوصلته فلسفته الدينية إلى النتيجة الآتية:
إن التعاليم المسيحية التي تستحق أن تكون قاعدة للضمير البشري إنما هي الأناجيل الأربعة فقط: متى، ومرقص، ولوقا، ويوحنا، وما سواها فخارج عن الديانة المسيحية الحقيقية، فعلى من أراد أن يكون مسيحيا حقيقيا أن لا يتمسك بشيء يناقضها، وأن يعيش كما عاش المسيحيون الأولون من حيث البساطة، والقناعة، والاشتراك، والحرية.
هذه هي فلسفته الدينية، أما فلسفته الاجتماعية فهي هذه: يقولون إن الهيئة الاجتماعية فاسدة رديئة. نعم، ولكن الذنب ذنبنا واللوم علينا؛ لأننا نتكاسل فتسوء حالتنا، ونقاوم الشر بالشر فيزيد الفساد فسادا، ذاهلين عن قول المسيح: «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» فإذا لم نعود أنفسنا مقاومة الشر بالخير؛ أي باللطف والمجاملة والإحسان والمحبة، فإننا لا نتغلب على الشر في العالم، وتزداد الإنسانية فسادا على فساد. فإذا كنا نطلب إصلاح الهيئة الاجتماعية فلنعمل أولا على إصلاح أنفسنا بغرس المحبة والمسالمة والاعتدال وحب العمل في قلوبنا، فإن في ذلك إصلاح الهيئة الاجتماعية.
وأما فلسفته الفنية: فمقتضاها أن كل فن وعلم وصناعة يجب أن تكون غايتها نبيلة، وهي ترقية شأن البشر وراحة النوع الإنساني والمساعدة على رفع راية السلام في العالم أجمع، وإذا خرجت العلوم عن دائرة هذا الغرض، وانصرفت إلى اختراع الآلات الحرب والدمار وأسباب القصف والخلاعة واللهو، فإنها تسبب الفساد وتجلب الشقاء والضرر والعناء، وتصبح عبثا في عبث.
أما مبادئه الدينية: فإنه يعتقد في الأربعة الأناجيل فقط كما سبق القول، ولكنه لا يعتقد بكل ما ورد فيها ، بل يعتقد بالقسم التعليمي اعتقادا شديدا، ويقول: إن تعاليم الإنجيل سامية جدا، إذا سار الناس بموجبها ينتشر ملكوت الله في الأرض ويصبح الناس في إخاء، وقد أورد في روايته «البعث» بعض المبادئ الدينية، نقتطف منها المبادئ الخمسة الآتية كما عربتها مجلة الجامعة البهية:
Halaman tidak diketahui
1
المبدأ الأول:
أن الإنسان لا يجب عليه فقط أن لا يقتل أخاه الإنسان، بل يجب أيضا أن لا يغضب منه، ولا يشكوه، ولا يحتقره، وإذا خاصم إنسانا فيجب عليه أن يصالحه قبل أن يقدم قربانا لله؛ أي قبل أن يتحد مع الله بالصلاة القلبية.
المبدأ الثاني:
أن الإنسان لا يجب عليه فقط أن لا يستسلم إلى شهواته، وأن لا يدنس جمال المرأة بجعلها آلة للذته الخشنة، بل يجب عليه أيضا إذا تزوج بامرأة أن لا ينفصل عنها مدة حياته.
المبدأ الثالث:
أنه يجب على الإنسان أن لا يحلف بأنه يصنع كذا، أو يهب كذا؛ فإنه لا يملك نفسه، ولا أي شيء في هذا الوجود.
المبدأ الرابع:
أن الإنسان لا يجب عليه فقط أن لا يطلب عقاب العين بالعين والسن بالسن، بل يجب عليه إذا ضربوه على خد أن يدير لهم الآخر، وأن يصفح عن مهينيه، ويحتمل الإهانة بصبر جميل، وأن لا يرفض شيئا مما يطلبه منه البشر إخوته.
المبدأ الخامس:
Halaman tidak diketahui
أن الإنسان لا يجب عليه أن يبغض أعداءه ولا يقاومهم، بل يجب عليه أن يحبهم ويساعدهم ويخدمهم. ا.ه.
وهو يستشهد بآيات الإنجيل كثيرا، سواء كان في كتاباته أو في حديثه، مع أن تعاليمه تدل على أنه بعيد عن ذلك بعدا شاسعا، فهو ينكر سر الفداء والثالوث الأقدس وألوهية المسيح، أما اعتقاده بخلود النفس والحياة الثانية فهاك ما قاله عن ذلك:
إني أعتقد بالحياة العتيدة، وأعتقد أيضا بأن الحياة لا تنتهي بالموت، ولكنني لا أدري كيف تكون تلك الحياة؛ لأنه لا لزوم لمعرفتها.
ومما قاله عن فساد المجتمع الإنساني: إن تاريخ الإنسان من حين وجوده لغاية الآن تاريخ ظلم وجور وحرب وخصام، والناس مختلفون في تحديد الظلم والجور، فإذا أتيح لكل واحد أن يقاوم ما يحسبه ظلما وجورا لامتلأت الدنيا بالحروب والخصومات، وأفضل شيء لملافاة هذه الشرور الكثيرة أن يفعل كل واحد الخير مع غيره بدلا عن الشر، فتنصلح أحوال الناس عما هي عليه من الظلم والجور.
أما سبب زيادة الشقاء ووقوع الجرائم، فهي لأن كل إنسان في هذا العالم يهتم بنفسه، ويسعى لصالحه الخاص بدون أن ينظر إلى أخيه في الإنسانية مهما كانت حالته، فلو اهتم الأغنياء وكبار الناس وألفوا جمعيات، وأنشئوا المعامل، وجمعوا للعمل فيها المتشردين وذوي الفاقة لانقطعت اللصوصية واللصوص عن وجه الأرض؛ لأنهم يخلدون إلى السكينة والانصباب على العمل، وإذا بحثنا عن أحوال اللصوص وقطاع الطرق نرى أن سبب اندفاعهم إلى إقلاق راحة الناس وسلبهم هو العوز والاحتياج، فعدم اهتمام الأغنياء والحكومة بالفقراء وذوي البأساء، وتركهم وشأنهم يدخلون الحانات وبيوت الفساد والرذيلة لقلة العمل بسبب وجود الفساد والشر، والحكومة إذا تسنى لها وقوع أحد المجرمين في قبضة يدها تقوده إلى المحاكمة، وتستدعي الأغنياء المنتخبين أعضاء لديها فتحكم عليه وتزجه في السجن مع أولئك المنكودي الحظ الذين حرمتهم الحرية، وعلمتهم البطالة والفساد، وقادتهم إلى الرذيلة والشر، وهي - أي الحكومة - تظن أنها بزجها المجرمين في السجن تقوم بواجباتها نحو الهيئة الاجتماعية، غير عالمة بأنها تقترف جريمة لا تغتفر مع أخيها في الإنسانية الذي قادته إلى السقوط، وكان في وسعها أن تخلصه من الحالة التي آل إليها أمره؛ لأن السجون لا تؤثر في حالة الناس بل تزيد في تعاستهم، والهيئة الاجتماعية ليست قائمة الآن بسطوة القضاء وقوة المحاكم؛ بل لأن الناس لا يزالون يحبون بعضهم بعضا، ويشفقون على بعضهم.
وقال يصف الشرور: «إن الفلاح الذي يفلح أرض غيره، ويبتاع ضروريات الحياة بالثمن الذي يطلب منه لا يستطيع أبدا أن يصير غنيا مهما كان مجتهدا مقتصدا، وأما الرجل الشريف المبذر الذي يتسرب في مناصب الحكومة، أو ينال الحظوة لدى أربابها، أو يصير مرابيا، أو صاحب معمل أو بنك، أو تاجر خمر، أو يقتني بيتا للمومسات ، فهذا ينال الغنى من أقرب طريق، وأمثلة ذلك كثيرة حولنا.»
ثم قال: «على م نرى الرجال الأقوياء الماهرين المعتادين التعب هم والفريق الأكبر من بني البشر يخضعون لأناس ضعفاء الأبدان لرجال أخنات أو شيوخ عجزة؟ لماذا نرى الأقوياء يتعبون لهؤلاء الضعفاء؟ لأن الضعفاء قد امتلكوا الأرض وخيراتها والمعامل وما فيها، والحق الذي يمتلك به الغني الأرض، ويجني ثمار ما يتعب به غيره لا ينطبق على مبدأ من مبادي العدل والإنصاف، وما هو إلا اغتصاب تؤيده القوة الحربية.
وقد صار العمال آلات لقهر إخوانهم بصيرورتهم جنودا للحكومة وآلات في يدها للقتل والفتك، وما دام الناس يحللون قتل غيرهم تبقى الجنود في يد رجال الحكومة؛ أي في يد فريق صغير من الناس، ويبقى هذا الفريق مستعينا بهم على ابتزاز الأموال من الذين يكسبونها بعرق جبينهم، وشر من ذلك أن رجال الحكومة يفسدون جمهور الناس، ولولا ذلك ما استطاعوا التسلط عليهم وابتزاز أموالهم، وأصل كل الشرور ما رسخ في الأذهان من أن تجنيد الجنود لقتل الناس ليس إثما، بل هو شرف كبير وعمل نبيل؛ لذلك لا تزول الشرور من الدنيا بتحرير الفلاحين، ورفع الضرائب، وتكثير الآلات والأدوات، ولا بإبطال الحكومات الحاضرة؛ بل بإبطال كل تعليم ديني يجيز للناس أن يحملوا السلاح لقتل غيرهم.»
وقال في هيئة المجتمع الإنساني: «عبثا يحاول بضع مئات من البشر المتراكمين بعضهم على بعض في مكان ضيق تشويه وجه الأرض التي يعيشون عليها، عبثا يسحقون تربتها بالحجارة حتى لا ينبت فيها نبات، عبثا يفسدون الهواء برائحة البترول والفحم الحجري، عبثا يقطعون الأشجار، عبثا يطاردون الحيوانات والطيور، عبثا يصنعون كل ذلك، فالربيع في المدن لا يزال ربيعا، الشمس فيه تزداد إشراقا، والنبات تدب فيه روح الحياة، لا في جوانب الشوارع الكبرى فقط، بل بين بلاط الطرق أيضا، وكذلك الأشجار والأزهار والطيور وسائر المخلوقات التي تسر وتبتهج بأشعة الشمس المحيية، كلها تكون مسرورة مبتهجة في الربيع إلا الإنسان الذي يستنكر جمال تلك الأمور الطبيعية المقدسة، ولا يرى جميلا غير ما يضعه ويتصوره من الأمور التي يغش بعضه بعضا، ويعذب بعضه بعضا.»
وقال عن أخلاق وأطوار الناس: إن أفكار الناس كلها متفقة على أن الجمال صفة حسنة تغطي كل قبائح ونقائص المرأة، فالغادة الفتانة إذا حدثت خرافة أو حماقة يقبلها السامعون بكل ارتياح، ويعدون تلك الحماقة نبالة زائدة والخشونة رقة وظرف، وإذا اقترفت عملا مستهجنا فإنه يظهر لمحبيها منتهى الآداب والكمال.
Halaman tidak diketahui
وعن الأمهات، قال: إن جميع الأمهات يعلمن تمام العلم فساد سيرة الرجال، ولكنهن يتظاهرن أمام بناتهن بأنهن يعتقدن تمام الاعتقاد بطهارة وعفة الرجال، ويتصرفن بعكس ذلك الاعتقاد الكاذب، ويعرفن بأية صنارة يصدن الرجال لهن ولبناتهن. وقال أيضا: إن إفادة المرأة محصورة في ولادة الأولاد وإرضاعهم وتربيتهم، وكلما أحسنت وظيفتها في ذلك كانت الفائدة أعظم، وهي لا تحسنها تمام الإحسان إلا إذا أحست عند تلك التربية أنها تعد لمستقبل الهيئة الاجتماعية خداما نافعين.
وفي اعتقادي أن المرأة الفاضلة هي التي تبعد عن مفاسد هذا الكون، وتزهد في العالم، وتحصر قوتها في إحكام ما فرض عليها لأولادها أجنة وأطفالا وصبية، تغرس في نفوسهم بذور الفضائل ليشبوا على ما تعلموه، ويفيدوا إخوانهم في المجتمع الإنساني إفادة لا تقوم بثمن.
ولكي تحسن القيام بهذا الواجب لا يلزم لها على رأيي الاندراج في سلك تلامذة المدارس العالية، بل حسبها أن تحسن القراءة والكتابة لتتمكن من مطالعة كتب الدين والآداب التي تنير النفس وتزجرها عن ارتكاب الآثام.
وإني أنظر إلى النساء اللواتي يشاركن الرجال في الأعمال فآسف على عذراء خلقت للحمل والولادة والإرضاع كيف تخرج من دائرتها وتتعدى الحدود التي رسمتها لها الطبيعة إلى ما ينقصها الاستعداد الفطري للقيام به، وما مثلها في ذلك إلا كأرض جيدة التربة زرعت زوانا، وليس تشبيهها بالأرض الجيدة مطابقا من كل وجه؛ لأن الأرض لا تلد غير الخبز، أما المرأة فإنها تلد أسمى المخلوقات وأعلاها مقاما، وهو الإنسان الذي لا تعادله أموال العالم ولا يستطيع أحد أن يلده غير المرأة، ذلك الإنسان الذي يلد فكره بدائع هذا الكون وجميل منشآت الحضارة والعمران!
وقال : على الرجل أن يكد ويشتغل، وما على المرأة إلا أن تقيم في البيت؛ لأنها زوجة، أو بعبارة أخرى: لأنها إناء لطيف سريع الانثلام.
وقال عن الحب: إن دوام الحب بين الزوجين من رابع المستحيلات، إنه قد يكون حب ولكن إلى وقت قصير جدا، ثم لا يدوم إلا في الروايات فقط، وأما بين الناس فعديم الاستقرار في قلبين معا، وكل رجل - متزوجا كان أو غير متزوج - إذا اجتازت به غادة فتانة فأكثر ما يكون منه أن يوجه إليها التفاته، وقد يبذل بعضهم كل مرتخص وغال بعد ذلك في سبيل الوصول إليها.
والمرأة من هذا القبيل كالرجل، فإنها تجتهد للاتصال بأكثر من واحد دائما، وما دام يمكنها هذا الاتصال فهي نائلة إربها لا محالة. ا.ه.
هذه بعض فقرات من فلسفة هذا الفيلسوف العظيم، وأقواله المأثورة التي أحدثت دويا في أقطار الأرض، وصادفت قبولا وإقبالا من الطبقة العلياء من شبان الروس، واستحسانا من فلاسفة وعلماء أوروبا وأميركا، وكان لها وقع كبير في النفوس، ولكنها لم ترق لرجال الدين في روسيا كونها مخالفة للتعليم المسيحي، خصوصا بعد أن أنكر جوهر الإيمان الذي هو سر الفداء والثالوث الأقدس وألوهية المسيح؛ فأنذره المجمع المقدس أن يرجع عن اعتقاده هذا، ويبطل تعاليمه المخالفة للدين المسيحي عموما والمذهب الأرثوذكسي خصوصا، فلم يذعن لهم، ولذلك اجتمع رؤساء المجمع المقدس تحت رئاسة السيد الجليل أنطوني مطران بطرسبرج وحرمه وقطعه من الكنيسة كصاحب ضلالة.
ونحن ننشر الحرم، واعتراض زوجته، ورده عليه، وردود رجال الدين عليهما مترجما عن اللغة الروسية حرفيا.
هوامش
Halaman tidak diketahui
القسم الثاني
الفصل الأول
قرار المجمع المقدس أو حرمان تولستوي
في 20 فبراير/شباط سنة 1901 نومر و557 رسالة المجمع المقدس إلى أبناء الكنيسة الأرثوذكسية المؤمنين بخصوص الكونت ليون تولستوي.
إن المجمع المقدس لاهتمامه بأبناء الكنيسة الأرثوذكسية، وحفظهم من العثرات المؤدية إلى الهلاك وخلاص الضالين قد أصدر حكما ضد الكونت ليون تولستوي، وتعاليمه الكاذبة المضادة للمسيح والكنيسة، ووجد مناسبا لحفظ سلام الكنيسة أن ينشر ذلك الحكم في جريدة «أخبار الكنيسة». «برحمة الله »
من المجمع المقدس إلى أبناء الكنيسة الأرثوذكسية المؤمنين. «لنفرح بالرب»
وأطلب إليكم أيها الأخوة أن تلاحظوا الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافا للتعليم الذي تعلمتموه، وأعرضوا عنهم «رومية ص16 عدد 17».
إن كنيسة المسيح منذ إنشائها احتملت اضطهادات شديدة، وتجديفا عليها من كثيرين من الهراطقة وعبدة الأوثان الذين كانوا يسعون لهدمها وتقويض أركان جوهر تعليمها المؤسس على الإيمان بالمسيح ابن الله الحي، غير أن جميع قوات الجحيم حسب وعد الرب لن تقوى على الكنيسة المقدسة التي تبقى غير مغلوبة إلى الأبد، وفي أيامنا الحاضرة ظهر معلم كاذب هو الكونت تولستوي.
إن الكاتب الروسي الشهير الكونت تولستوي الذي ذاع ذكره في العالم حتى طبق الخافقين أرثوذكسي المولد، واعتمد وتهذب في الأرثوذكسية، قد غره عقله المتعظم على أن يقاوم بوقاحة الرب ومسيحه وميراثه المقدس، وقد أنكر علانية أمام الجميع أمه الكنيسة الأرثوذكسية التي هذبته وثقفته، وكرس جميع مواهبه العقلية وقواه العلمية لنشر التعاليم المضادة للمسيح والكنيسة ليزيل من عقول وقلوب الناس إيمان آبائهم، الإيمان المستقيم الذي ثبت المسكونة، والذي عاش به وخلص أسلافنا وأجدادنا، والذي تمسكت به للآن روسيا وتعززت فيه، وإنه في تآليفه يكتب كرجل غيور متعصب لهدم جميع طقوس الكنيسة وجوهر الإيمان المسيحي، وهو ينكر الله الحي في الثالوث الأقدس الممجد خالق وضابط المسكونة، وينكر الرب يسوع المسيح الإله والإنسان فادي ومخلص العالم الذي تألم من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، وقام من بين الأموات، وينكر الحبل بالرب يسوع المسيح بالجسد بدون زرع، وينكر بقاء والدة الإله الطاهرة عذراء قبل الولادة وبعدها، ولا يعتقد بالحياة بعد الموت ولا بالعقاب والثواب، وينكر جميع أسرار الكنيسة وقوة نعمة الروح القدس فيها، ويهزأ بجميع أواني الكنيسة المقدسة، ولم يخجل من أعظم أسرارها الذي هو سر الأفخارستيا المقدس، والكونت تولستوي كرز بهذه الأمور بدون انقطاع بالكلام والكتابة لعثرة جميع الشعب الأرثوذكسي، ويا ليته جمح في غوايته سرا؛ بل هو جاهر بالضلال عن عمد وقصد، وسلخ نفسه عن الكنيسة. وبما أن جميع المساعي التي بذلت لإرشاده لم تتكلل بالنجاح، فقد اعتبرته الكنيسة ساقطا من أعضائها وغير تابع لها ما لم يتب ويرجع عن ضلاله، والآن نحن نشهد بذلك أمام الكنيسة؛ لتثبيت المؤمنين، وإرشاد الضالين، وعلى الأخص إرشاد الكونت تولستوي.
إن كثيرين من أقاربه الذين لم يزالوا محافظين على الإيمان أظهروا شدة حزنهم على بقائه في أيامه الأخيرة بدون إيمان بالله والرب مخلصنا بإنكاره إياه، وابتعاده عن نيل بركة وصلاة الكنيسة.
Halaman tidak diketahui
ومع شهادتنا واعترافنا بأنه أنكر الكنيسة وشجب تعاليمها نطلب له لكي يعطيه الله توبة لمعرفة الحق «2 تي ص2 عدد 25»، ثم نطلب إليك أيها الإله الرحوم الذي لا تريد أن يموت الخطاة بخطيتهم أن تستجيب صلاتنا وترحمه وترشده إلى طريق كنيستك المقدسة آمين.
التواقيع بيد كل موقع: الوضيع «أنطوني مطران بطرسبرج»، الوضيع: «لاثيوغونست مطران كييف»، الوضيع «فيلاديمير مطران موسكو»، الوضيع «إيوروتيم رئيس أساقفة فارشافا»، الوضيع «يعقوب أسقف كيثسينيسي»، الوضيع «ماركيل أسقف»، الوضيع «بوريس أسقف».
فلما انتشر هذا الحكم تناقلته الجرائد، وتهافت الناس على مطالعته تهافت الجياع على القصاع، وانقسم قراؤه إلى قسمين مختلفين؛ فالقسم الأول: وهم تلميذات وتلاميذ المدارس العالية الذين هاجوا هياجا عظيما؛ لشغفهم الشديد بتولستوي، وافتخارهم به على كل فلاسفة وعلماء أوروبا، فأرسل مئات منهم العرائض إلى المجمع المقدس يطلبون منه أن يحرمهم مع فيلسوفهم الذي يفدونه بأرواحهم، وعدا ذلك فقد قاموا بمظاهرات خشنة في الكنائس والمدارس، فالتزمت الحكومة أن تجنح إلى القوة؛ لتسكين الاضطراب، وألقت القبض على كثيرين وزجتهم في السجن، وقد حدث الهياج في 36 مدينة روسية، واتهم بعض الناس الفيلسوف تولستوي بأنه هو الذي كان يحرض على الفتنة، وتكذيبا لذلك نورد ما قالته جريدة الرقيب الغراء
1
بهذا الصدد: لقد قالت شركة روتر إن الفيلسوف تولستوي كان أكبر المحرضين على الثورة، وهذا القول خطأ محض؛ لأن الذين طالعوا مؤلفات هذا الرجل الكبير لا يرتابون في أنه من أعداء كل فتنة واضطراب؛ لاعتقاده بأنهما لا يجديان نفعا، وأن من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ، وما عدا ذلك فقد قال في بعض كتبه: إن الذين يحاولون قلب هيئة الحكومة في هذه الأيام بواسطة الثورات يخيبون سعيا؛ ذلك أن لكل حكومة جيشا عظيما تكبح به جماح الثائرين، ولديها السكك الحديدية، والتلغراف، والتلفون، وكلها أعمال شديدة التأثير في كبح الثورات، فلا يحاول الناس أمرا مستحيلا في هذه الأيام، فإن الثورة تنقلب على مثيريها؛ لقوة الهيئة الحاكمة. ا.ه.
وأما القسم الثاني، فهو الشعب الروسي البسيط، بلغ منه الحقد على تولستوي مبلغا عظيما، ورشقه بألسنة حداد، وأرسل إليه كثيرون كتبا مشحونة بأنواع السفه والشتايم واللعنات، ولو تسنى لهم لفتكوا به.
وعلى أثر ذلك أرسلت زوجة الكونت تولستوي كتابا إلى سيادة مطران بطرسبرج بصفته رئيس المجمع المقدس تحتج به على قطع زوجها من الكنيسة، وهاك نصه، موسكو في 11 مارس سنة 1901:
سيادة المطران أنطوني
طالعت أمس في الجرائد حكم المجمع الصارم الصادر بحرمان زوجي الكونت ليون نيكولا يفتش تولستوي من الكنيسة، ورأيت بين تواقيع رعاتها الذين وقعوا الحكم توقيع سيادتكم، فتأثرت تأثرا شديدا، حتى إني لم أستطع أن أضع حدا لحزني الشديد، وليس ذلك ناجما عن اعتقادي بأن نفس زوجي تهلك من تلك الورقة التي كتبتم عليها حكمكم الجائر؛ لأن خلاص الأنفس لا يتوقف على الناس، بل ذلك مختص بالله وحده، وإذا نظرنا إلى حياة النفس نظرة دينية فنراها أنها لم تزل مجهولة تمام الجهل، ولا يعرفها أحد غير الله وحده، ومن حسن الحظ أنه لا سلطة للبشر عليها، ولكني لما أرى الكنيسة التي أنا تابعة لها، والتي لا أزال أتبعها ولن أحيد عنها، تلك الكنيسة التي أنشأها المسيح نفسه باسم الله لتبارك حياة الإنسان الكبرى من الولادة، والزواج، والموت، والأفراح، والأتراح، والتي وظيفتها النداء بناموس الرحمة، والصفح، ومحبة أعدائنا، والذين يبغضوننا، والصلاة من أجل الجميع، فمن هذا القبيل لا أعود أفهم أو أدرك تصرف المجمع. أما إذا كان القصد من حرمان ليون نيكولا يفتش تنفير الناس منه واستمالتهم عنه، فهو خطأ واضح؛ لأن جميع الناس زادوا تعلقا به وميلا إليه، وسخطوا من هذا الحرمان، ولا تزال تردنا الشواهد على ذلك من جميع أقطار العالم، ثم إني لا أقدر أن أخفي عنكم الغم الذي أحاق بي عندما بلغني قرار المجمع السري سابقا بشأن منع الكهنة عن الصلاة على جثة زوجي في الكنيسة بعد مماته، والامتناع من دفنه بموجب طقوس الكنيسة، فمن قصدتم أن تقاصوا بهذا القرار؟ هل تقصدون به الميت، أو جثته الجامدة، أو أقرباءه المؤمنين؟ وإذا كان هذا القرار تهديدا فإلى من توجهون هذا التهديد؟ وماذا تقصدون؟
وهل تظنون حقيقة أنني لا أجد للصلاة على جثة زوجي في الكنيسة كاهنا صالحا مستقلا عن الناس لاهتمامه برضى الله الحقيقي، إله المحبة والغفران أكثر من رضى الناس، أو كاهنا فاسدا أنال منه مرادي بواسطة المال؟
Halaman tidak diketahui
ولكنني لا أحتاج إلى هذا الأمر مطلقا؛ لأنني أعتبر الكنيسة بناء روحيا لا ماديا، ولا أعرف لها رؤساء إلا الذين يفهمون حقيقتها، ويعملون طبق وصاياها، ولو كنت أعتبر أن الكنيسة هي عبارة عن مجمع بشري لا يتردد أحيانا لرداءة البشر عن مخالفة أعظم وصايا المسيح التي هي وصية المحبة، لكنا خرجنا منها منذ زمن طويل، نحن الذين نحفظ وصاياها، فليس الهراطقة والجاحدون إذن هم أولئك الذين يضلون وهم يفتشون عن الحقيقة، ولكنهم هم أولئك الذين لما جعلتهم كبرياؤهم رؤساء الكنيسة نزلوا أنفسهم منزلة القتلة الروحين، وخالفوا شريعة الكنيسة، التي هي شريعة المحبة، والتواضع، وإنكار الذات، وترك ملاذ العالم، ولو ماتوا خارج الكنيسة. أما الذي يعيشون في داخلها معيشة الفخفخة ويملأون صدورهم بالنياشين، ويزينون رءوسهم بالتيجان، ويطردون «كالرعاة الأردياء» الناس من الحظيرة التي هم رعاتها، فلا ريب أنه يجب أن يكونوا أقل أملا منهم في الغفران، وإذا حاول الرياء تأويل كلامي هذا فعبثا يحاول؛ لأن العقل السليم لا ينخدع، بل يفهم مقصودي منه.
الكونتس صوفيا تولستوي
فأجابها المطران بالكتاب الآتي:
حضرة الفاضلة الكونتس صوفيا تولستوي
إن المجمع المقدس بإعلانه سقوط زوجك من الكنيسة لم يتصرف بصرامة مطلقا، وإنما الصرامة بدت من زوجك بإنكاره الإيمان بيسوع المسيح ابن الله الحي فادينا ومخلصنا، فكان يجب عليك أن تحزني لهذا الأمر فقط، ولا مراء بأن زوجك لا يهلك من قطعة تلك الورقة المطبوعة، ولكنه يهلك لابتعاده عن ينبوع الحياة الأبدية؛ لأن لا حياة للمسيحي بدون الاتحاد مع المسيح الذي يقول: إنه لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية؛ لأنه هكذا أحب الله معالم حتى بذل ابنه الوحيد كي لا يهلك كل من يؤمن به؛ بل تكون له الحياة الأبدية، والذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله. الحق الحق أقول لكم، إن الذي يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. «يوحنا ص3 عدد 15 و16 وص5 عدد 24». ولذلك نقدر أن نقول كلمة واحدة عمن ينكر المسيح، وهو أنه ينتقل من الحياة إلى الموت، وعلى ذلك يتوقف هلاك زوجك، وإنه هو وحده جنى على نفسه هذا الهلاك وليس أحد سواه.
إن الكنيسة تتألف من جماعة المؤمنين بالمسيح، والتي لم تزالي أنت تابعة لها مع المؤمنين بها وأعضائها. نعم، إن تلك الكنيسة تبارك باسم الله جميع حوادث حياة الإنسان الكبرى من الولادة، والزواج، والموت، والأفراح، والأتراح، ولكنها لا تستطيع ولن تستطيع أن تفعل ذلك مع الغير المؤمنين، مع الوثنين، مع المجدفين على اسم الله الذين ينكرونها، والذين لا يقبلون منها الصلاة والبركة، وبالإجمال مع جميع الذين لا يعدون ذواتهم أعضاء لها، ومن هذا القبيل كان تصرف المجمع غير قابل الانتقاد، بل مفهوما واضحا كيوم الله، وهي لم تحد يمينا أو شمالا عن شريعة المحبة والصفح والرحمة. نعم، إن رحمة الله لا تحيد، ولكنها لا تصفح عن الجميع، ولا عن كل شيء، «ومن جدف على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي.» «متى ص12 عدد 32».
إن الرب بحسب محبته لنا يريد خلاص الإنسان، ولكن الإنسان يبتعد أحيانا عن هذه المحبة، ويهرب من وجه الله فيهلك نفسه، وإن المسيح صلى من أجل أعدائه عندما كان مرفوعا على الصليب، ولكنه في تلك الصلاة لفظ كلمة مرة لمحبته وهي «أنه لم يهلك أحد منهم إلا ابن الهلاك»، وأما زوجك فما دام حيا لا نقدر أن نحكم عليه بالهلاك، ولكننا صرحنا بحقيقة حاله بأنه سقط من الكنيسة، ولم يعد عضوا لها ما لم يتب ويرجع إليها، وإن المجمع في منشوره لم يكن إلا شاهدا على نفس عمل الكونت فقط، ولذلك فلا يسخط عليه إلا الذين لا يدركون ما يفعلون. تقولين في كتابك إن الناس زادوا تعلقا بزوجك وإن الشواهد على ذلك تردكم من جميع أقطار الأرض، ولا عجب في ذلك، ولكني أقول لك: إنه ليس في ذلك شيء من التعزية لقلبك؛ لأنه لا يوجد مجد عالمي ومجد إلهي، قال الرسول: «كل مجد إنسان كزهر عشب الحقل، العشب يبس وزهره سقط، وأما كلمة الرب فتثبت إلى الأبد.» «مط 1 ص1 عدد 24 ود 35».
ولما نشرت الجرائد في العالم الماضي خبر مرض زوجك الكونت تولد لدى رجال الدين سؤال عام، هو هل يجوز لهم أن يصلوا على جثته ويدفنوه بموجب طقوس الكنيسة مع إنكاره الإيمان بالمسيح والكنيسة؟ وعلى أثر ذلك وردت للمجمع أسئلة عديدة بهذا الشأن، فأصدر إذ ذاك أمرا سريا للكهنة، لا يستطيع إصدار غيره، وهو أنه إذا مات الكونت دون أن يتوب ويرجع إلى الكنيسة، فلا يجوز لهم الصلاة عليه ودفنه حسب طقوس الكنيسة، وليس في ذلك تهديد لأحد، وأنا لا أظن أنه يوجد كاهن حتى ولو فاسدا يقدم للصلاة على الكونت، ولو أنه صلى عليه كغير مؤمن فيكون عمله مخالفا لأساس الطقس المقدس، ولماذا تستعملين القوة على زوجك؟ فإنه بدون شك لا يريد أن يدفن بحسب الديانة المسيحية.
أنت لم تزالي حية، وما دمت تعدين نفسك عضوا للكنيسة التي هي بالحقيقة رباط أشخاص أحياء عقلاء يعيشون مع بعضهم باسم الله الحي، وأن إقرارك بأنك تعتبرين الكنيسة بناء روحيا يسقط ادعاؤك سقوطا تاما، وعبثا توبخين خدمة الكنيسة، وتنسبين إليهم الرداءة، ومخالفة أعظم وصايا المسيح التي هي وصية المحبة ، فالمجمع بإصداره ذلك الحكم لم يخالف تلك الوصية؛ بل بالعكس فإن عمله عمل محبة، ودعوة زوجك للرجوع إلى الكنيسة، ودعوة المؤمنين للصلاة من أجله. أما رعاة الكنيسة فإن الرب جعلهم في رأسها، وليس الكبرياء كما تدعين، وإنهم يرتدون التيجان والنجوم في وقت خدمتهم فقط، وأما في الخارج فإنهم يرتدون المسوح، ولم يزالوا يعاملون بالطرد والاضطهاد والاحتقار.
وفي الختام أرجوك المعذرة؛ لأني أخرت جوابي إليك لحد الآن، فإنني انتظرت ريثما يخمد وطيس غضبك وتأثرك الشديد، ثم إني أسأله تعالى أن يباركك، ويحفظك، ويرحم الكونت زوجك.
Halaman tidak diketahui
أنطوني مطران، سان بطرسبرج
رد تولستوي على قرار المجمع
أما الكونت فإنه لم يجب بادئ بدء على قرار المجمع بشأنه، غير أن بعض الظروف التي ذكرها في كتابه حملته أن يرد عليه بما يأتي: قال: إنني لم أقصد بادئ بدء أن أرد على ما قرره المجمع بشأني، لولا أن ذلك القرار دعا كتابا كثيرين لا أعرفهم يرسلون إلي الرسائل تترى مشحونة بملامتي وعذلي، بل وشتمي؛ فالبعض منهم يوبخني على إنكاري ما لست أنكره، والبعض الآخر ينصحني بأن أومن بمن لم أترك الإيمان به، وبعضهم يوافقني على أفكاري، ولكني لا أعتقد أنه يوجد من يعتقد اعتقادي، وإن وجد فلا يجسر أن يصرح به على رءوس الأشهاد.
وقد عزمت أن أرد على قرار المجمع، وأظهر للملأ فساده، وأرد أيضا على جميع مراسلي الذين لا أعرفهم.
أما قرار المجمع فإنه يحتوي على نقائص عديدة؛ أولا: لأنه غير قانوني وذو وجهين متناقضين. ثانيا: هوائي عديم الحق والأساس، وعدا ذلك فإنه يتضمن نميمة ظاهرة؛ لأنه كان محركا لصفات ومقاصد سيئة.
غير قانوني وذو وجهين متناقضين لأنه إذا كان مقصودا به إبعادي عن الكنيسة فإنه لا يوافق عقائدها التي تمنع إصدار مثل هذا القرار، وإذا كان مقصودا به الإعلان بأن من لا يؤمن بالكنيسة وعقائدها ينفصل عنها، ومن هذا القبيل لم تكن له غاية سوى تهييج الأفكار ضدي، وإيجاد الشغب بين الشعب.
وهوائي لأنه يخطئني وحدي فقط بعدم الإيمان بجميع عقائد تعاليم الكنيسة الموضوعة، مع أنه جميع الناس المتنورين يشاركونني برفض تلك الاعتقادات، وصرحوا به في الكلام والقراءة والنشرات والكتب.
وهو عديم الأساس لأن معظم فحواه مبني على أنني نشرت بين الناس تعاليم كاذبة كانت سببا لتشويش أفكارهم، وضعضعت إيمانهم، مع أنني أؤكد أن الذين وافقوني على أفكاري لا يبلغون المائة عدا؛ لأن المراقبة كانت حاجزا حصينا دون انتشار تعاليمي بخصوص الدين، وقد لاحظت من الكتب الواردة لي بأن جميع الذين طالعوا قرار المجمع بشأني لم يفهموا ما كتبته بخصوص الدين.
والقرار عديم الصحة لأنه جاء في بنوده بأن الكنيسة استعملت أنجع الوسائل لرجوعي إليها، ولكن مساعيها لم تتكلل بالنجاح، وليس لذلك ظل من الحقيقة أبدا، ولم أعلم بشيء من ذلك.
والقرار يتضمن نميمة ظاهرة لأنه حرك الناس لجلب الضرر لي. وأخيرا أقول: إنه كان محركا عظيما لاقتراف أعمال قبيحة كما كان منتظرا منه؛ لأنه حرك الناس الجهلاء والبسطاء على بغضي والهياج ضدي وتهديدي بالقتل، وذلك ظاهر من الكتب التي وردت لي؛ فقد كتب لي واحد: «إنك الآن وقعت تحت اللعنة والحرمان أيها الشرير، وستذهب روحك بعد موتك إلى العذاب الأبدي ... حيث تموت كالكلب ... أنت محروم أيها الشيطان القديم ... فلتكن ملعونا!» وآخر يوبخ الحكومة التي لم تزجني بالسجن، أو تقصيني لأحد الأديرة، وقد ملأ كتابه بالشتائم القبيحة. وثالث كتب لي: «إذا كانت الحكومة لا توقفك عند حدك فنحن نجبرك على السكوت!» وأنهى كتابه باللعنات.
Halaman tidak diketahui