وفي بضع قفزات كان العسكري قد ترك المكتب والدفتر، والقيد والعربة النقل الدائرة موترها في إزعاج، وأصبح أمام عم حسن، يسأل: هو فين؟!
وبيأس تام أجابه عم حسن إنه ذهب.
كيف ومتى وهل من المعقول أن يكون قد اختفى تماما ولم يمر بين ندائه وبين مجيئه سوى زمن كلمح البصر؟ - مش قلتلك؟ أهي دي عوايده.
ولأول مرة، وبنظرة مختلفة تماما حدق العسكري في عم حسن، فلم يكن هناك إلا تفسير واحد، إن هذا الرجل العظيم، مجنون لا بد، يتصور أشياء لا يتحدث.
وبنفس النظرة مثبتة على وجهه بالذات على عينيه الواسعتين العسليتين. - أنت متأكد إن فيه راجل بالشكل ده؟
وعلى الفور فهم عم حسن أو ابتسم في رثاء!
وانقضت الليلة، وفي الصباح، وإلى الساعة الثامنة لم يكن قد جاء عم حسن له بشاي الصبح أو بدا له أثر. ودب القلق في قلب العسكري مخافة أن يكون قد ذهب، لولا أنه من مكانه كان يلمح العشة وجلبابه المنشور فوقها منذ الأمس، ولم يكن باستطاعته التحرك، فبجواره كان ضابط ينتظر، وعليه أولا أن يجد له عربة ذاهبة في اتجاه العاصمة، وهناك، قرب العاشرة جاءت العربة، وحتى قبل أن تتحرك بعيدا كان هو قد وصل إلى جوار العشة وقبل أن يستدير إلى الباب كان ينادي عم حسن، وخيل إليه أنه يسمع أنينا. وفي الداخل كان عم حسن راقدا وحول عينيه كدمة زرقاء كبيرة وصدغه وارم وواضح في هيئته أن اعتداء قاسيا قد وقع عليه. وردا على أسئلته الكثيرة، واستفساراته، حدق فيه عم حسن بعينه غير الوارمة وحدث فيه مليا قبل أن يقول: صدقت بقي إنه بييجي؟
وفتح العسكري فمه ولكنه عدل عن النطق، ودون أن يغير لهجته استطرد عم حسن: مش تعمل في معروف بقى وتكلم لي سواق ؟
قضى العسكري إلى الظهر ودمه يغلي تارة وجسده يرتعش تارة أخرى. إنه بطبيعته لا يتحمل أن يرى أحد ضحية ظلم مهما صغر، فما بالك والضحية عم حسن، أحب وأقرب من أنست إليه نفسه في الحياة، لقد قضاها كالقط الضال بريا يكاد يصل حد التوحش من الصعب عليه أن يألف ومن الصعب أن يأتلف، حتى مع أخيه الأكبر الوحيد، وحتى والمرأة بين ذراعيه وقد ذابت كل الفواصل، عمره ما أحس أن ألفة حقيقية قامت بينه وبينها، حتى لو كانت «نظلة» زوجته، والأخرى التي جرى عليها طويلا واشتاق لها كثيرا وأحبها وكانت وبالصدفة اسمها «نظلة» أيضا، الإنسان الوحيد الذي اخترق حجبه وهد جدرانه واقترب أكثر ما يمكن من قلبه وروحه، وقرب قلبه، وروحه إلى الدنيا والناس .. كان عم حسن!
عم حسن الذي في أيام ارتبطت فيه نفسه إلى الدرجة التي لو أصر فيها على الرحيل لوجد نفسه، دون أن يستطيع لها منعا أن يرحل معه .. الراقد الآن يتألم متورما ومضروبا من ذلك الرجل، مهما كان وليكن إنسيا أو جنيا، وليكن إبليس بنفسه وبكل جبروته!
Halaman tidak diketahui