حالة تلبس
الزوار
معاهدة سيناء
قصة ذي الصوت النحيل
الورقة بعشرة
فوق حدود العقل
هذه المرة
لغة الآي آي
اللعبة
لأن القيامة لا تقوم
Halaman tidak diketahui
الأورطي
صاحب مصر
حالة تلبس
الزوار
معاهدة سيناء
قصة ذي الصوت النحيل
الورقة بعشرة
فوق حدود العقل
هذه المرة
لغة الآي آي
Halaman tidak diketahui
اللعبة
لأن القيامة لا تقوم
الأورطي
صاحب مصر
لغة الآي آي
لغة الآي آي
تأليف
يوسف إدريس
حالة تلبس
حينما ضبط المنظر. لم يكن عميد الكلية هو الذي غضب والتهبت الدماء في عروقه، ولكنه الطفل الذي ولد وتربى في «سوهاج» ومنذ أن بدأ يعي فهم أنه قد يكون مباحا للرجل وعيبا للشباب ومحرما تحريما قاطعا على الأطفال ولكنه للنساء جريمة، أكثر من جريمة، قد يوازي هتك العرض، فما بالك وهي ليست رجلا ولا طفلا ولا حتى سيدة ولكنها فتاة، بنت لا تتعدى السابعة عشرة بأي حال.
Halaman tidak diketahui
وحين وصل الغضب قشرة العقل المكتسبة، وانفعل العميد الذي فيه، كان أكثر ما ضايقه أنها لا بد في السنة الأولى، طالبة جديدة، يعني بالأمس فقط كانت طفلة في ثانوي.
ورغم كل غضبه لم يتحرك إلا حينما تحرك الوالد الذي فيه وتململ، وأدرك كالمدهوش، أنها تكاد تكون في سن ابنته «لمياء»، حينما فقط استدار مغادرا النافذة في طريقه إلى حيث أزرار الجرس الموضوعة في مكانها الخالد الذي يتوارثه العمداء فوق المكتب.
وربما لو كان في الحجرة أحد .. أستاذ أو لجنة أو حتى لو كانت في انتظار مقابلة كائن ما لكانت الحركة قد اكتملت وكانت يده حتما قد وصلت إلى الزر. والساعي المرابط أمام الباب حضر والفصل لأسبوع أو لأكثر من الكلية أو حتى الزجر والضرب قد حدث.
ولكنه كان وحده في حجرة العميد الواسعة المهولة ذات النافذة الجانبية الضيقة. والحجرة تغري بالتريث، والنافذة الضيقة تغري بتدقيق النظر وفي حالته كان الإغراء كبيرا بإعادة النظر.
وعاد إلى استمرار النظر.
الحجرة في دور أول لا يرتفع عن الأرض قليلا. والفناء الخلفي الذي تطل عليه النافذة الجانبية خال تماما من الطلبة فهو في العادة مكان غير مرغوب من الطلبة، والساعة اقتربت من الثالثة. واليوم الدراسي انتهى، ولولا مراجعة جدول الامتحان لما كان هو نفسه قد بقي إلى هذا الوقت ولما قام من النافذة منهكا يتثاءب ويتمطى ويأخذ فكرة عن الجو بالخارج. ولما شاهدها، تلك الطالبة الصغيرة التي ما إن بدأ عقله يتساءل عما أتى بها إلى هذا المكان المهجور، وبعد انتهاء الدراسة، حتى كان الغضب قد اجتاحه. وجدها بكل بساطة وتحت أنف نافذته تخرج - بل أخرجت فعلا - علبة سجائر من حقيبة يد مستطيلة ضخمة، وعبثت بكراريس المحاضرات المختلطة بأدوات التجميل قليلا، وما لبثت أن أخرجت علبة كبريت أيضا.
طالبة. واضح تماما أنها لا بد في السنة الأولى. تدخن وتحمل معها في الحقيبة علبة سجائر وعلبة كبريت؟!
هكذا من النظرة الأولى تفجر الغضب.
ولكن النظرة التالية كانت نظرة مذهولة يستبعد تماما أن يصدق أن شيئا كهذا يمكن أن يحدث، مؤجلا التصديق إلى أن يراها فعلا وهي تدخن .. خاصة والفتاة كانت لا تزال ممسكة السيجارة في يد والكبريت في يد أخرى، وكأنما لم تقرر بعد ماذا تفعل بشأنهما.
وتأملها العميد، كانت طالبة عادية، لا يمكن إذا رآها في مجموعة أن تستوقف النظر، شعرها مهوش على طريقة الجيل الجديد في الأناقة، وعيناها ذابلتان، لا بد من المذاكرة والسهر، متكئة، تكاد تكون مستلقية - بعد يوم متعب حافل - على الأريكة التي لا يستعملها أحد، ولكن شبابها الفائر يكاد يقفز من وجنتيها المحمرتين رغم قمحية بشرتها، ومن جسمها البارز في أكثر من مكان من ملابس الطالبة الرخيصة التي ترتديها.
Halaman tidak diketahui
وبوغت العميد حقيقة وهو يلحظ فجأة أنها بأصابع اليد الواحدة .. أصابع تلون سبابتها آثار الحبر، قد فتحت علبة الكبريت، وباليد الأخرى، بيد ثابتة لا اضطراب فيها ولا خوف، وبحركات تلقائية ليس فيها من مجهود الإرادة شيء، ثبتت السيجارة في فمها وأدارتها دائرة كاملة بين شفتيها، وكأنما لتبلل - كالمدخنين العتاة - فمها (الفلتر)، وبنفس التؤدة والتلقائية، وبضربة لا أثر للتدبير فيها، أشعلت العود ولم تقربه من السيجارة في الحال، أهملته بين إصبعها قليلا، وكأنما تستمتع برؤيته يحترق. ثم ما لبثت ببطء، ودون أن تنظر، وبعينين هائمتين في جدار الفناء البعيد، أن قربت العود بحيث لامست شعلته طرف السيجارة دون أن تحيد يمينا أو يسارا، وكأنما يدها مدربة على الطريق. وجذبت نفسا واحدا اشتعلت بعده السيجارة. وبالدخان الخارج، بعد ابتلاعه، من فمها، أطفأت العود، ثم ما لبثت أن ألقته في إهمال غريب فوق عشب الممشى القريب.
وجن جنون العميد، إنها مدمنة داعرة الإدمان أيضا، إنه هو نفسه يدخن ولا يفعل شيئا كهذا، إنه يشعل سيجارة كلشنكان ويدخنها كيفما اتفق، ولكن هذه، متى وكيف وفي أي بؤرة فساد تعلمت كل هذا. إنها حتى لا تشعل الكبريت كالنساء التي قرأ مرة أنهن يشعلن العود من الناحية البعيدة خوفا غريزيا من ناره على ملامحهن وشعرهن، وفقط بعد الاطمئنان إلى شعلته بعد خفوتها يجرؤن على تقريبه منهن، أما هذه ال... الطالبة، طالبة أولى هذه .. لا تخاف العود ولا النار، ويبدو أنها لا تخشى شيئا في الوجود .. إنها لا يمكن أن تكون في السابعة عشرة .. سن ابنته .. لا بد أنها أكبر بكثير .. بسنتين لا بد، أو حتى بأيام .. إنها جرثومة، إن الفصل أسبوعا واحدا لا يكفي أبدا .. الرفد النهائي هو ما يجب عمله، لا أقل من الرفد النهائي.
ولكنه لم يعرف كيف حدث هذا، فقد وجد شيئا أكبر بكثير من كل غضبه وكل حماسه للضغط على الجرس واستدعاء الساعي واتخاذ بقية الإجراءات، شيئا أجبره على أن يقف في مكانه لا يتحرك وينتظر ويعاود الرؤية.
ورفعت الفتاة يدها إلى فمها مرة أخرى، ولكنها انتظرت قليلا بفم السيجارة قريبا من فمها، ثم بدا وكأن الوقت قد حان، وهكذا ببطء لا تلكؤ فيه أسبلت جفونها حتى كادتا تغلقان تماما، ثم ضمت شفتيها حتى ضاقت الفتحة بينهما وتكرمش غشاؤهما، ومن الفتحة الضيقة أدخلت فم السيجارة، وجذبت نفسا، لا لم يكن جذبا، كان امتصاصا، ليس امتصاص دخان، لكأنه رشف أعظم سعادات البشر، رشفة ببطء وباستعذاب وبملايين الأفواه، كل خلية من خلاياها بدت وكأنما أصبح لها فم تجذب به وترتشف ويتموج جسدها كلها تموجا غير منظور، وعلى دفعات وكأنه عطشان يجرع أعذب الماء ويريد أن يستمتع بكل قطرة من قطراته، حتى إذا ما بدا أن كل دقيقة فيها قد أخذت كفايتها وظفرت بسعادتها الخاصة، رفعت السيجارة عن فمها ببطء وكبرياء، وعينين قد فتحتا ببخل شديد، وكأنها تخاف أن تهرب من فتحتيهما النشوة.
واستحال غضب العميد إلى لحظة صدمة مفاجئة تكاد تتحول إلى ذعر .. خوف شديد أن يستمر في الرؤية، خوف الخائف على نفسه هو من استمرارها، والفناء بدا له كالبقعة المهجورة المقطوعة عن العالم، يحفل بسكون، وزمتة، ورائحة ربيع مقبل مخيف، وقرب أيام نهاية العام والامتحان، والفتاة كأنها جنية من جنيات الظهر، انشقت عنها خرابة الفناء فجأة، متكئة - تكاد تكون مستلقية - فوق الأريكة ذات الحديد المتراكم فوقه الزمن والصدأ، الناقص مقعده خشبة الوسط.
وبرهبة المذهول هذه المرة راح يترقب كيف تخرج النفس .. فمها المضموم أبقته مضموما هنيهة، ثم فتحته نصف فتحة، وبحركة فيها كسل أنثوي ضاقت له عيناه راحت توسع من فتحته قليلا قليلا، في نفس الوقت الذي كان صدرها قد بدأ يتسع وكأنها بسبيلها إلى التنهد حرقة ولوعة، ربما على فراق تلك السحابة الدخانية الصغيرة التي فجرت في جسدها المستلقي تعبا واسترخاء حيوية وأضافت إلى صباها صبا يتسع حتى ليجذب الدخان إلى أعمق أعماقها، ليلامس أقصى أرجائها وليلتقي بكل جزء من صميم صميمها لقاء الوداع. وفي نفس الوقت الذي يعود فيه الصدر إلى وضعه الطبيعي وحجمه، يكون الدخان هو الآخر قد بدأ يخرج، من الشفتين المنفرجتين أضيق أوسع انفراج .. تخرج دفعاته الأولى مرسلة على سجيتها دون ضغط أو إكراه، تصنع دوائر لولبية وضبابات ثم تتلوها الدفعات الخارجة بالإرادة متأنية موجهة قد شحب دخانها وتغير لونه وكأنما امتصت منه كل النضرة والحياة.
قطعا لا بد من فصلها. في منتصف السيجارة تماما والجريمة سيدق الجرس ويهمس إلى الساعي ويذهب الرجل ويطبق عليها وساعتها سيعرف اسمها ويفصلها.
ذلك كان قراره، ولكن ما ضايقه في الحقيقة أنه بدا وكأنه قرار شخص آخر، بعيدا جدا، ذلك البعد الذي أصبح بين عقله وإرادته، إرادة لا يدري لماذا هي رخوة لا تستطيع أن تنفذ أمرا وكأنما هي واقعة تحت تأثير مخدر سخيف ملعون لا يعرف كنهه، إدارة لم تعد تستطيع أن تفعل إلا أن تنظر وتستمر تنظر.
وأخذت الفتاة نفسا آخر، وهذه المرة أخرجت دخانه من فمها وأنفها معا، أنف فتحاته صغيرة دقيقة كأنها براعم، فتحات يخرج منها الدخان باهتا معتصرا ليصطدم بالدخان الخارج من الفم الضيق المضموم المكرمش.
وأحس العميد بأشياء داخله تتنبه. وتلفحه سخونة ليس مبعثها الجو .. وبسرعة في دقات القلب لا علاقة لها بمرض الضغط.
Halaman tidak diketahui
وتوالت الأنفاس، وفي كل مرة تجذب النفس على مهلها وبتلذذ سعيد تنغلق له عيناها، وكأن شفتيها المضمومتين على فم السيجارة تبتهلان لشيء أو ترشفان شيئا، رحيق السعادة ربما أو إكسير الحياة ويسترخي جسدها ويتدغدغ للنفس ثم تبدأ عملية الإخراج، وتفعل هكذا كله باندماج شامل تام وبلا إرادة .. وبطبيعية لا تكلف فيها ولا اصطناع، والأنفاس تتوالى ويستحيل ما يحسه العميد إلى تيار غريب يجوب جسده كله مع كل نفس، ولا يوقظه من تعب يوم أو إنهاكه ولكن يوقظ أجزاءه وأجهزته من رقدة عمر طويل، ويمحو هكذا في ومضة آثار سنين وأمراض ومشاغل وحياة تصلبت وجفت واستحالت إلى درب ضيق محدود، من ناحية منه زوجة جف منها ماء الحياة ولم تعد تفعل إلا أن تناكف وتضايق، وفي الناحية الأخرى عمل وروتين لا جدة فيه ولا أمل. وصراع، وما بينه وبين رئيسه مدير الجامعة من حزازات، وهو كالبندول رائح غاد بينهما، الكلية تدفعه إلى البيت والبيت يدفعه إلى الكلية، بندول عجوز مصاب بأكثر من مرض ووجع وفي صدره أحقاد.
ومنتصف السيجارة الذي كان قد حدده وصلته الطالبة، ولكنه كان في حال لم يعد يعرف إن كان ما يحسه سخطا أم إعجابا أو إن كان انفعاله انفعال نشوة أم اشمئزاز، كل ما أصبح يفعله، حتى ولو لم ترض إرادته، أن يظل يرى الفتاة ويراقبها .. جسده نفسه، عيناه، أنفاسه، لسانه الذي بدأ يجف في حلقه، ساقاه اللتان شدت عضلاتهما واشرأبت، كلها تراقب، كلها مع الفتاة وسيجارتها في التحام لا يمكن فصله أو إنهاؤه، التحام متواصل حي ينبض نفس نبضها حين تطبق بفمها الضيق على فم السيجارة وتجذب وتدوخ بالنشوة ثم حين تفتحه نصف فتحة أو بأنفها أو بهما معا تخرج اللوعة والحرقة والنفحات الهاربة وفي أعقابها تلك التي تدفعها لتخرج برفق وحنان وتؤدة .. نبض متوال متسارع، والتحام ذو حرارة مستمرة متزايدة تتصاعد إلى أعلى مراتب عقله وتذيب، تذيب أشياء كثيرة، تذيب أفكارا تحجرت كالمومياء المصبرة وأصبحت حكما وعقائد، وتفتح مناطق حاصرتها التقاليد وعزلتها، وتفد الأفكار بسهولة وتنطلق بسهولة ويبدو المستحيل ممكنا، ولماذا الحرس والساعي والتأنيب والفصل؟ ألأنها تدخن وسنها سبعة عشر عاما ولأنها طالبة، وما الفرق بين أن تدخن وهي طالبة وتدخن وهي خريجة وكله تدخين في تدخين، ولماذا نحرمه على جسد شاب فائر، ونحلله لسيدة أو لعجوز تسعل وتكح وتبصق كلما جذبت نفسا، أليس هو قائل نفس المبادئ وهو في العشرين والثلاثين حين كان في بعثته يرى أن مشكلة مجتمعه الأساسية أن أفراده يحيون في عصر بتقاليد قرون مظلمة مضت، وأن بلاده لا يمكن أن تصل إلى أي تقدم علمي أو صناعي أو حضاري إلا إذا تم التحرر وعاش الناس فيه بتقاليد عصرهم نفسه وقيمة وأنواع حرياته .. بإعطاء أفراده حتى حرية الخطأ وألا نمنعهم بالنصح والزجر عن خوض التجارب ونورثهم صوابنا نحن وخطأنا، بل نتركهم لكي يستخلصوا هم من تجاربهم ما يرون أنه الصواب وما يرون أنه الخطأ.
وبدأ جسد الطالبة الصغيرة يتململ ويتلوى، ونهمها إلى جذب الأنفاس يشتد ويتلاحق وكأن في داخلها تحفر فجوات هائلة تحدث فراغات سريعة مذهلة تطلب الامتلاء، لا بالدخان ولكن بالمتعة الحادثة من حريتها في أن تنفرد بنفسها وبالسيجارة، وتمتص منها ما تشاء، وتبتلع ما تشاء، والعميد يحس بجفاف ريقه يزداد وحنجرته تتسع وتزداد قدرتها على الرنين، وكأنها تستعد لإطلاق صرخة العمر، وعرق غريب ذو رائحة نفاذة لم يشمها من سنين ينبت تحت إبطيه، وعرق آخر أكثر غزارة يبلل وجهه ويضبب زجاج نظارته، حتى ليخرج منديله بسرعة المحموم ويمسح زجاجها لكي لا ينقطع أبدا إبصاره. والدنيا حافلة بمؤامرة صمت تام، سكون غريب لا يمكن أن يكون إلا بفعل قوة خارجية قاهرة، سكون مركز في تلك البقعة من الفناء الخلفي، سكون ليس خارجه سوى العدم، سكون عالم خال من الحياة تماما ليس فيه حياة سواه وسواها، هي في أقصى درجات الاستمتاع، وهو في أقصى درجات الانفعال .. وبينهما، تفصلهما تماما، وتربطهما تماما، تلك السيجارة. والحياة تبدو حلوة جدا، كل لحظة فيها عمر بأكمله، وإرادته قادرة على اكتساح الجبل، ولا شيء في الوجود مستحيل، ولن يرضى بأقل من أجمل وأغنى بنات العالم زوجة له، وخمس سنوات فقط يصبح فيها أعظم علماء مصر، بل الشرق والغرب معا، وماذا تكون جائزة نوبل مكافأة له. وحقيقة ما هذه الحزازات بينه وبين المدير أليس هو أكبر منها وأقدر بكثير، ولماذا الحزن والمرارة لكل ما فات والآتي أروع منه بكثير ولماذا التعنت مع أستاذ القسم المساعد، لماذا لا يعطيه الفرصة، إنه شاب ومن حقه أن يطمح إلى كرسي الأستاذ .. المشاكل نحن نخلقها حين نفتقر إلى التفاؤل، والتفاؤل هو الإرادة، وبالإرادة القوية تصبح الحياة كالبساط الممهد، بساط الريح .. عش واضحك وامرح واطلب القمر يأتك .. أرده إرادة قوية حقيقية يأتك .. وكله .. كل ما في الحياة آت لا ريب فيه.
واقتربت السيجارة من نهايتها، وتلاحقت أنفاس الفتاة في صعود القمة، ومضى جسدها يتهدج، وقد أصبح كله صدرا يلهث، وشفاها بدأت من الجرعات المتلاحقة ترتعش وتضطرب، اضطراب الحمى، حمى شملته هو كله .. والينبوع الخفي فيه يتفجر بأقصى قوته ويصل به إلى قمة الانفعال تلك التي ينتفي معها الزمن، ولو للحظات يتوقف الزمن، يغرب إلى ما وراء الإدراك، ويصبح الحاضر مجرد لون، لون أحمر مدمم في لون الشفق.
وأخذت الفتاة، من السيجارة التي كادت نارها تحرق الأصابع، نفسا، كآخر شهقة ثم سكنت تماما، وكأنما غابت عن الوجود. ومن بين إصبعيها اللذين انفرجا استرخاء انفلتت بقية السيجارة واستقرت ذابلة ممصوصة مغضنة على الأرض.
وأحس العميد بعد الرعود والانفجارات والحمى بسلام مفاجئ ممتد كأنه سيبقى إلى الأبد، يشمله ويجعله يتمنى أن يكف الكون عن حركته لتبقى اللحظة في ديمومة لا تنتهي.
ولكن الديمومة انتهت، فلأمر ما بدت الفتاة وكأن العيون المستترة التي تحس الخطر دون أن تراه قد أدركت شيئا فقد ضمت جفنيها بشدة ثم فتحتهما على آخرهما ليلتقيا، هكذا، كالطلقة المصوبة بدقة، بعيني العميد في تطلعهما من خلف زجاج النظارة.
وللأزمن التقت النظرات، ولكنه لم يكن لقاء ولا وقتا، ولا شيئا يقاس، كان ارتطاما، سقوطا من حالق ربما، ماء باردا كالثلج، برودة الواقع الذي ترتجف لهوله المدارك، الثلج الصاعق.
وتكهربت النظرتان بخجل، لا قبل لأيهما به، خجل سريع مغور جارح.
وفي جزع هائل انتفضت الفتاة جالسة، وقد غاص قلبها، وبيد ترتجف بالرعب دلقت كل محتويات حقيبتها لتستخرج في لمح البصر كتابا، تعود معه تنكب، كالطالبة المجتهدة على صفحاته.
Halaman tidak diketahui
وكانت حركته ليعود عميدا أبطأ .. ممزوجة بخجل أعظم وبتأنيب أشد هولا، وتحرك خافض البصر طويلا نحيلا عجوزا محني الأكتاف حاملا متاعب الدنيا كلها من جديد، وليس في رأسه واضحا سوى الواجب، وما لا بد من عمله .. والدائرة البيضاء الملساء الصغيرة فوق مكتبه، والعقاب.
وبإصبع عادت إليها كل عصبيتها، وكأنما تمتد من صدر ضاق بالدنيا، ضغط على زر الجرس.
ولكن إصبعه كانت لا تزال بها بقية من ارتعاش، ارتعاش ليس الكبر أو الضغط سببه
ديسمبر 1962م
الزوار
ما كاد آخرهم يخرج، ويفرغ العنبر محتوياته المكتظة كالقطار المزدحم حين يصل إلى محطة النهاية، حتى التفتت «مصمص» (وهو ليس اسم دلع ولكنه اسمها الحقيقي) إلى سكينة التفاتة حادة، وقالت بصوت عال: بقى اسمعي يا ...
واحتارت قليلا هل تقول لها يا بت يا سكينة، أم سكينة فقط .. وسكينة كان اسمها سكينة وهي سكينة فعلا. وهو اسم قد يبدو ريفيا، ولكنها لم تكن ريفية النشأة أو الملامح. كانت من مدينة ما، واحدة من عشرات مدننا أنصاف الكبيرة، مؤدبة جدا، خجولة جدا ورقيقة أيضا. وكانت تحتل السرير المجاور لمصمص المرأة الضخمة الكبيرة الصدر والثديين التي يميل لونها إلى السمرة، ودائما ترتدي قميص نوم أبيض.
والسريران كانا في عنبر واحد من العنابر الكبيرة التي تحفل بها مستشفياتنا العامة والمركزية والجامعية والصدرية، العنبر المعهود ذو الاثنين والعشرين سريرا .. عنبر الحريم، يسمونه .. له تومرجية سليطة اللسان ومنفوخة الجسد مكورة كالبطة. وتومرجي أعمش مفروض أن لا يدخل العنبر وأن يقتصر عمله على المطبخ ودورة المياه، ولكن أحدا لم يعلن يوما هذا المفروض وأحدا لم ينفذه.
وكانت سكينة الضعيفة الرقيقة الحنونة تحس إذا أطلت النظر إليها أو عمقته أن هناك فعلا أناسا ضعفاء محتاجين إلى الشفقة، كانت مريضة بمرض مزمن، ولها في المستشفى ثلاثة أشهر، وأمنيتها الكبرى أن تغادره وتخرج، ولكنهم لا يخرجونها ولا يصرحون لها بالخروج، ولا يفعلون هذا بعنف أو بحزم كما قد يعتقد البعض، إنهم يفعلونه بأنصاف الابتسامات أحيانا وبهز الرءوس والطبطبة أحيانا أخرى .. وأحيانا بمجرد القول: حالا .. إن شاء الله تخرجي .. أما سبب بقائها أو إبقائها فهو أن مرضها من نوع غريب يحلو للأستاذ أن يحاضر طلبته وأطباءه الصغار عليه .. وأن يريه لزملائه الكبار، كما لو كان يريهم قطعة نادرة ضمن مجموعة أصداف أو طوابع بريد يقتنيها.
وسكينة لم تكن مقطوعة من شجرة .. كان لها إخوة. في الحقيقة أخ واحد غير شقيق وأختان. وكان لها خالات وعمات وقريبات كأي إنسان منا وكل إنسان. ولكن رغم هذا كله فلم يكن لها زوار بالمرة. طوال الأشهر الثلاثة التي مكثتهم بالمستشفى لم يزرها أحد .. من يوم أن أتى بها أخوها وأودعها العنبر لم تر وجهه. تلك حقيقة تعرفها هي .. ويعرفها حتى الجميع، التومرجية السليطة اللسان تعرفها .. وقد تكون مشكلة الخروج تلح على سكينة في أحيان كشيء لا بد منه ولا بد من حدوثه ولا بد أن تكلم الطبيب الكبير بشأنه، ولكن مشكلتها الأكثر حدة في الواقع أن يزورها أحد .. أن تغمض عينيها وتفتحهما فتجد يدا توقظها من النوم أو الغفوة وتقول لها: قومي يا سكينة .. جالك زوار .
Halaman tidak diketahui
طوال أيام الجمع والاثنين، والحقيقة طوال أيام الأسبوع، يفد العشرات والمئات والآلاف على المستشفى ويوزعون على عنابره ثم على أسرته، وقد يخص كل سرير زائر أو خمسة أو عشرة .. ما عدا سريرها هي، لم يكن يهوب ناحيته أحد، أو للدقة كان زوار جارتها مصمص يتخذون سريرها كأريكة يجلسون عليها، وهي من خجلها لا تعترض أو تأتي بحركة تسبب حرجا لأحد، كانت تغادر الفراش نهائيا وتذهب تتمشى في الطرقة أو تخرج إلى شرفة العنبر القذرة هناك، حيث تتخذ مستودعا لأكوام الزبالة وقشر البرتقال والموز واليوسفندي الآتي لا بد مع كل زيارة.
وهناك .. في تمشيها هذا، كانت سكينة تحزن وتنقبض وتحس أنها مظلومة، وأن لا بد ثمة خطأ في الكون جعلها تبقى بغير زوار .. إن أخاها باستطاعته أن يخطئ مرة ويزورها، وكم زارت هي أخوتها وبنات خالاتها وكان واجبهم في هذه الحالة أن يردوا الزيارة. ماذا حدث حتى جمد قلوبهم، وقساها؟ ماذا حدث حتى نسيها الجميع هكذا، ونسوا أنها في مستشفى! ماذا حدث حتى تنقطع صلتها هكذا بعائلتها وأقربائها وحتى بصديقاتها وبالدنيا كلها؟ لم تكن تدري، حتى مجرد إرسال خطاب، ما أرسل لها أحد خطابا أو بعث بسلام!
إحساس لم يكن يشاركها فيه أحد .. كانت أعمق أعماق قلبها هي التي تكتئب وتحزن فقط .. أما كل ما على السطح من وجه وملامح فقد كان يلتف دائما بابتسامة لا فرق بينها وبين مئزر الصوف الذي تتلفع به.
وطالت المدة ثلاثة أشهر .. وأربعة وخمسة، والمرضى يتغير معظمهم حتى لم يبق من القدامي سوي جارتها مصمص، والوضع على ما هو عليه، وضع عجيب غريب. فهي صحيح ضيقة بالمستشفى والبقاء فيه، تريد بشق النفس أن تخرج وتغادره. ولكنها في نفس الوقت، وإذا ما سألت نفسها لا تعرف أبدا لمن وإلى أين تذهب وماذا بالضبط ستفعل .. لقد كانت قبل دخولها تحيا مع أخيها تخدمه، في انتظار أن يتزوج هو، أو يأتيها هي عريس، ولكنها مرضت وكانت تقضي الليل كله تنهج وتكح حتى ضاق بها الأخ وانتهز أول فرصة أدخلها المستشفى، ربما كي لا تعالج بقدر ما يتخلص منها ومن حشرجات أنفاسها. بل إنها سمعت أنه بعد دخولها المستشفى تزوج وعزل من البيت .. وشقيقاتها كلهن متزوجات، وهي ليست جميلة حتى يرحب بها زوج أي أخت، بل لقد ذبلت وكبرت حتى على الزواج، فإلى من تذهب وإلى أين؟
وضع عجيب غريب، فهي ضيقة بالمستشفى ضيقا لا حد له، ومستسلمة لهذا الضيق والحياة في المستشفى استسلاما لا حد له أيضا، كالسجين الذي يتوق إلى الخروج من السجن إلى الحياة والحرية، ولكنه حين يجد أنه إذا خرج فلن يعرف ماذا ولا كيف يفعل بحريته تلك، يستسلم للسجن. يضيق به ويستسلم له ويكاد يجن بين الضغطين.
ولم تأت المسألة فجأة .. بل وإلى الآن لم تفكر فيها سكينة تفكيرا جديا أو تدبرت ما فعلت، ولكنها هكذا جاءت .. مصمص كانت زوجة أحد المعلمين الكبار الذين لا يقل عدد أقربائهم وأنسبائهم وأولادهم ونسائهم وبناتهم عن المئات بأي حال من الأحوال، ولهذا كان لا يمر يوم دون أن يزور مصمص لا أقل من خمسة أو ستة زوار.
يوم العطلات والأعياد يرتفع الرقم حتى يصل إلى الخمسين .. وكان يبدو على مصمص أنها في الوقت الذي تعتب فيه على فلانة الفلانية لأنها لم تزرها، ما يكاد الزوار يغادرونها حتى تلهث تعبا وحتى تغمغم ببرطمة لا يفهم منها سوى الضيق الشديد بالزيارة والزوار، والمسألة بدأت بأن راحت سكينة تسأل مصمص عن الزوار إذا قدموا، من هم، وما هي درجة قربهم لها، وماذا يشتغلون. ولم يكن الأمر مجرد سؤال. دأبت سكينة على ملاحظتهم بدقة ومعرفتهم بالاسم، حتى لتطفح السعادة من وجهها حين تقول لمصمص بعد خروج زائر: مش ده كان مصطفى ابن خالتك اللي بيشتغل في السكة الحديد؟
فتبهت مصمص وتقول: الله .. وانتي إيه اللي عرفك؟
حينئذ تحس سكينة الناحلة الهادئة الساكنة بسعادة داخلية لا حد لها .. غير معقول بالمرة أو مقبول فقد أصبحت لمجرد أنها عرفت من الزائر وخمنته وجاء تخمينها بالضبط مطابقا للحقيقة.
ولكن هذه السعادة، بالتكرار، لم تعد تحدث. ووجدت سكينة نفسها مدفوعة إلى خطوة أخرى كي تحس بنفس سعادتها السابقة. فبدأت تقدم مساعدات، وتسرع مثلا وتحضر كراسي لزوار مصمص، أو إذا أرادت الأخيرة أن تعزم عليهم بالقهوة أو الشاي أو الغازوزة أسرعت سكينة إلى البوفيه .. تحضر الطلبات بنفسها .. وكانت مصمص تأخذ الأمر في أوله باعتبار أنه نوع من الطيبة من سكينة لا أكثر، ولكنها بدأت تعجب فعلا وقد راحت سكينة تقوم بأعمال غير معقولة أبدا؛ تأخذ الأطفال من الأمهات الزائرات وتداديهم أو تذهب بهم إلى دورة المياه، وتلعب مع الأبناء الكبار وتقول لهذا الزائر .. والنبي وحياتك ابقى سلم على فلانة وفلان وكأنهم أقرباؤها هي!
Halaman tidak diketahui
بدأت مصمص تستعجب، ومصمص لم تكن سهلة ولا طيبة ولا مسكينة أبدا، إنها جهنم الحمراء إذا انفتحت، وإذا رأت في الأمر ما يريب .. وكانت سكينة قد زودتها في نظرها كثيرا وبشكل أصبح لا تفسير له ولا تبرير، تجلس مع الأقرباء والأصهار طوال الزيارة. ولا تغادرهم للحظة وكأنها منهم وعليهم. يتحدثون عن أدق أمورهم العائلية الخاصة فلا تخجل ولا تبتعد. بل أكثر من هذا بها وتناقشها مناقشة المتحمس الغيور، وتبدأ الآراء أيضا .. وتنتظر مصمص على أحر من الجمر أن «تحس» سكينة مرة فتقوم أو تغادر الفراش، أو على الأقل تولي انتباهها إلى الناحية الأخرى بلا فائدة، إذ كانت سكينة لا تفعل شيئا من هذا أبدا، بل تظل طوال الجلسة بأكملها، وبعد الجلسة أيضا، تتحدث وتعقب وتحاول أن تدخل مع مصمص في أخص الشئون وفي الغويط. ومصمص، تكظم وتكظم. فصحيح أن سكينة تتدخل، ولكنها تفعل هذا وهي راقدة في نفس فراشها لا تغادره. بالعكس إن زوارها هم الذين يجلسون على فراش سكينة، وبهذا يعطونها الفرصة للاندماج والتدخل.
بل تطور الأمر إلى ما هو أكثر، وبدأت سكينة تقتنص زائرا أو زائرة من الجالسين على فراشها وتنخرط في حديث لا ينقطع معه أو معها، بحيث تنتهي الزيارة وهم لم يتبادلوا كلمة واحدة مع قريبتهم مصمص، وكأنهم جاءوا لزيارة سكينة أصلا.
ولقد تكرر الأمر مرة ومرة، ومصمص صابرة تكظم، إلى أن كان هذا اليوم الذي قررت أن تنفجر فيه، وهكذا ما كاد آخر زائر في يوم الزيارة يخرج ويفرغ العنبر محتوياته المكتظة كقطار وصل إلى محطة النهاية حتى التفتت مصمص إلى سكينة التفاتة حادة، وقالت بصوت بالغ العلو. - بقى اسمعي يا ...
واحتارت قليلا .. أتقطع العشم والعلاقة والعيش والملح مرة واحدة وتقول يا بت يا سكينة، أم تكتفي بنهرها وتقول يا سكينة فقط، فإذا قالت لها يا سكينة فكيف تستطع أن تصب عليها بهذه البداية ما يتفجر به صدرها الضخم العالي الأسمر من غضب وضيق، احتارت مصمص .. وكالبندقية صوبت عينيها إلى سكينة وكأنما لتزيد برؤيتها لها جرأتها وعنف انفجارها .. كانت قد قررت أن توقفها عند حدها، وأن تنذرها بأنها إذا استمرت في اقتناص زائر أو أكثر من زوارها هكذا، فسوف تمرمط الأرض بزوارها. زوار سكينة إذا جاءوا، والعين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم.
صوبت مصمص عينيها إلى سكينة لتجدها راقدة في سريرها نصف مغطاة الجسد تحملق أمامها كمن يجتر ذكرى لحظة سعيدة مرت .. وفجأة اكتشفت مصمص الجهنمية أن تهديدها الذي يكاد يفلت من فمها لا معنى له بالمرة. أجل هكذا. في وضمة مفاجئة اكتشفت مصمص أن سكينة لا يأتيها زوار ولا ينتظر أن يأتيها أحد .. وهكذا بعد أن كانت قد استدارت واستدار السرير لاستدارتها وقالت: بقى اسمعي يا ...
وحين التفتت سكينة بدهشة ونوع من الذعر تسأل: نعم يا ست مصمص .. لم تغير مصمص رقدتها ولا رفعت عينيها عن وجه سكينة .. كل ما في الأمر أن صوتها انخفض فجأة حتى كاد لا يسمع.
وقالت: لا .. ولا حاجة .. ده كانت كلمة كدة وعدت!
قالت هذا وهي ترمق الفتاة بعينين مشتتتين فوق وجهها. يكاد يطفر منهما الدمع .. وظلت مثبتة عينيها فوق وجه سكينة، لا ترفعهما، وكأنها تراها لأول مرة .. رفيعة نحيلة مقطوعة من شجرة!
ديسمبر سنة 1962م
معاهدة سيناء
Halaman tidak diketahui
الأبطال هنا ثلاثة .. لا بل أربعة، إذا حسبنا «المكنة» التي كان لها دور لا يقل خطرا عن دور الإنسان .. وأول الثلاثة هو «ماشنسكي» الروسي الذي يسميه العمال في المعسكر «ماشا»، وهو أحمر الوجه فاقع الحمرة، تلك التي تميز وتقف حدا فاصلا بيننا نحن شعوب آسيا وأفريقيا وبين الأوروبيين .. والثاني كان «بيل» أو إذا أحببت الدقة «وليم» الأمريكي المعضم، ذو القتب والنظارات والجسد الرشيق النحيل الذي ربما طال في الهواء لو نفخته. أما الثالث فلم يئن بعد أوان الحديث عنه .. أما رابعة الأربعة، المكنة. فهي آلة ضخمة جدا في حجم البيت الصغير أو أكبر قليلا وثمنها كذا عشرة آلاف جنيه، وأصلها روسي. أنتجتها مصانع ليننجراد وجاءت إلينا كجزء من القرض. وجاء معها ماشنسكي ليديرها ويشرف عليها ومن أول يوم له في المعسكر ألغى العمال والموظفون كلمة ماشنسكي نهائيا واستبدلوها بوعي أو لا وعي بكلمة «ماشا» .. والمكنة وماشا والمعسكر كله هناك .. على مدد السفر .. بعيدا جدا، قرب حدودنا الشرقية المطلة على ساحل البحر الأحمر.
وذات يوم حدث للمكنة، مثلما يحدث لأي مكنة في الدنيا، أن تعطلت ووقف ماشا أمامها يدور حولها ويفتح مفاتيح ويغلق صمامات، ويختبر ويجس، وأخيرا نطق وقال للمهندس المصري المشرف على المعسكر (وهو رجل في حوالي الأربعين، وشعره أسود تماما وله كرش، وكان زمان يعتبر نفسه دون حوار) قال ماشا بوجه صارم مبتئس: إن الآلة قد كسرت فيها قطعة مهمة جدا، ولا يمكن أن تعمل إلا إذا جيء لها بقطعة الغيار تلك.
وهكذا أرسل إلى مركز المؤسسة رسالة مستعجلة بطلب النجدة .. وبقي هو والخمسمائة عامل والخمسون موظفا وتكنيكيا في انتظار رد القاهرة .. وهدأت الحركة في المعسكر، فلا حفر ولا ضوضاء آلات ولا أصوات مكن، ولا أغاني عمل، لا شيء سوى مواويل الحظ والكسل تنطلق خافتة من عقيرة حمدان أبو طالب صعيدي قنا القح والمغني شبه الرسمي للمعسكر.
هدءوا جميعا ينتظرون، ولكنه انتظار بلا أمل، فلم يكن أحد يتوقع أو يصدق أن الروتين في المركز سيحقق المعجزة، وأن قطعة الغيار ستصل بأسرع وقت، كما طلب السيد عبد الحميد في استغاثته.
ورغم أن رسالته أوقعت مركز المؤسسة بالقاهرة في دوامة حرج شديد، إذ إن قطع غيار هذه الماكينة بالذات لا توجد إلا في روسيا، ودون إحضارها من هناك مصاعب نقدية ومصرفية واقتصادية لا تعد ولا تحصى، بحيث لا أمل في حضورها قبل ستة أشهر أو سنة.
رغم هذا، إلا أن قطعة الغيار أحضرت على وجه السرعة، وجاءت في وقت كان المعسكر كله قد جاءه أمر بالاستعداد للرحيل وإنهاء العملية، وقد رأى المركز أن يستغني عن الحفر في تلك المنطقة كلها.
أما كيف أحضرت تلك القطعة، فلا أحد يدري للآن، ولا أحد يدري كيف تسرب الخبر إلى شركة «إنترناشيونال» الأمريكية، ولا كيف استطاعت بين يوم وليلة أن تتصل بالمركز وتخبره أنها على استعداد لتوريد قطعة الغيار اللازمة، وفي الحال.
وبين تهييص وطبل وأغان وفرحة، وصلت قطعة الغيار إلى المعسكر، ووصل معها المستر «وليم»، أو كما أصبح هو يطالب الذين يعملون معه بأن يطلقوا عليه الاسم الذي تعود الناس أن ينادوا به وليم وهو «بيل». ما كاد يظهر المستر بيل بالعربة وفوقها الصندوق الخشبي الضخم الذي يحوي قطعة الغيار حتى اعتقد الجميع أن خلاص، المشكلة انتهت، وليس هناك سوى بضع ساعات يتم فيها تركيب قطعة الغيار ويستأنف العمل سيره.
وبأنفسهم ذهب العمال وعلى رأسهم السيد عبد الحميد، يزفون الخبر لماشا، الذي لم يكن قد غادر من لحظتها حجرته. وكانوا يتوقعون أي شيء إلا ما حدث، إلا أن يزجرهم ماشا ويهب في وجوههم، ثم ينطلق خارجا ذاهبا إلى حيث قد تجمع حول المكنة عدد كبير من الناس يحيطونها ويحيطون بيل وصندوقه الخشبي معها. وما كاد يصل حتى صرخ ماشا في الجميع قائلا: لا .. لا يمكن. - لماذا يا ماشا؟ - مستحيل أن تصلح قطعة غيار أخرى غير القطع الروسية للمكنة. - ولماذا لا نجرب ونرى؟ - لا .. لا يمكن.
وقلت إننا لا نيئس، وعلى هذا بينما كان ماشا يرفض ويصر على الرفض، كان العمال يفكون الأسلاك من حول الخشبة ويخرجون قطعة الغيار من الصندوق ويضعونها أمام ماشا قائلين: فلنجرب.
Halaman tidak diketahui
ولكن ماشا أصر على الرفض قائلا: إن المكنة السوفيتية لا تصلح لها إلا قطع غيار سوفيتية.
قال هذا وهو يشد على كلمة سوفيتية الأولى والثانية.
وانقضى يوم، وكاد يوم آخر ينقضي، والتوتر لا يزال قائما على أشده، والعمل معطل تماما، والعمال جالسون القرفصاء، ورءوسهم بين ركبهم يسلون بعضهم البعض ويضحكون، وكلما خرج ماشا من حجرته أو دخل لا بد يلمح هذا العدد الضخم من العمال، والظاهر أن شيئا قد تغير في تفكيره. إذ فوجئ الجميع به يخرج إليهم قائلا: لأجل خاطرهم فقط، ولأجل أن يثبت لهم أنه على حق، وأنهم على خطأ سيجرب أمام أعينهم قطعة الغيار الأمريكية.
وهاص المعسكر فجأة.
وكان لا بد لاختبار قطعة الغيار الجديدة من عقد «كونسنتو» هندسي من ماشا وبيل والمهندس المصري المختص. مؤتمر ظل ماشا في أوله ينظر شزرا وباحتقار شديد إلى بيل، وبيل يقابل نظراته بعينين كأنهما فوهتا مسدسين من مسدسات رعاة البقر في أفلام السينما. ولكن الحقيقة أن تلك النظرات لم تستمر كثيرا، فسرعان ما أدرك ماشا أن بيل يفهم حقيقة الميكانيكا، وأن الناس في الولايات المتحدة ليسوا جهلة كما كان يظن، واكتشف بيل هو الآخر أن ماشا الروسي ليس مجرد أسطوانة مسجل عليها أقوال ماركس ولينين، وإنما هو آدمي أيضا، يغضب أحيانا ويثور، وأحيانا يرضى ويبتسم، ابتسامة صافية جدا كابتسامات الأطفال.
وكان عمل المهندس المصري أول الأمر أن يمنع الاحتكاك المباشر، ويلطف الكلمات الحادة، ويقول لبيل: طب امسحها في دقني أنا، ويقول لماشا: معلشي عشان خاطري، إلى أن بلغ مراده وبدأ الجو يهدأ، وبدأ الاثنان يتناقشان المناقشة الهندسية الخالصة.
وثبت من المناقشة ومن الاحتكام للمقاسات، ومن التجربة العملية، أن قطعة الغيار الأمريكية تصلح لتحل محل القطعة الروسية.
وتهلل وجه المهندس المصري طربا للنتيجة، النتيجة التي كان مفروضا أن يسر لها ماشا وبيل، ولا أحد يدري إن كان أيهما قد تولاه السرور، إنما الذي لا شك فيه أن أحدا لم يكن ليستطيع أن يمنع الصدام الذي نشب حالا.
فما دامت قطعة الغيار قد أثبتت صلاحيتها؛ فلا بد إذن من تركيبها وتسيير المكنة بها ، من يركبها ؟ ذلك هو الصدام المروع الذي نشأ.
ماشا يقول: إن المكنة روسية وأي تغيير فيها أو تبديل يجب أن يتم بمعرفته هو. وبيل يقول: هذه المكنة كانت روسية وهي الآن وبغير قطعة الغيار الأمريكية مجرد كتلة من الحديد الخردة، ولا بد له هو أن يتولى عملية التركيب والتشغيل.
Halaman tidak diketahui
ويثور ماشا ويقول لا يمكن أن أسمح لمندوب شركة أمريكية احتكارية رأسمالية متعفنة أن يعيث فسادا في مكنة أنتجتها أيدي الطبقة العاملة السوفييتية.
ويستشيط بيل غضبا ويقول: أيها الشيوعي ال...
وترتفع أكثر من مائة يد صعيدية وبحراوية، أيد مشققة وأيد ناعمة مثقفة، تحول بين الاثنين وتلطف الموقف.
ويعود العبوس العظيم يحتل وجه السيد عبد الحميد؛ فخلاف ماشا وبيل ليس نقمة، ولكنه نعمة تهبط أول ما تهبط فوق رأسه.
وتطور الخلاف وتبودلت الكلمات الزاعقة الطائشة، حتى عاد المعسكر إلى انقسامه، فلازم ماشا غرفته، وجلس بيل جلسة المتحفز أمام بابه، ووقف السيد عبد الحميد ينقل بصره بين المكنة المفتوحة البطن وبين قطعة الغيار الراقدة بجوارها، وهو لا يحس مطلقا بالشمس المنصبة فوق رأسه. وبآخر ما يستطيع من جهد حاول مرة أخرى أن يجمع ماشا وبيل كي يتفقا ويركب أحدهما أو كلاهما القطعة ويستأنف العمل، ولكنه ما كان يجمعهما إلا ليتشادا ويتفرقا.
وكل منهما يقف موقفا صلبا عنيفا، وكأنما قد استحضر في جسده الواحد عناد أمته بأسرها كل طاقتها على القتال. أجل .. في تلك البقعة النائية من شبه جزيرة سيناء، وتحت لفح نيران حامية تتأجج من صفرة الأرض وزرقة السماء، هناك حيث لا حياة ولا جمال، ولا شيء سوى الرمل والصحراء والجبل والعمل، هناك حيث المعسكر مقاما، كان يقف ماشا وبيل وجها لوجه، شابان متقاربان في السن، لهما نفس المهنة وربما نفس الهوايات، ولكن كلا منهما مستعد أن يقتل الآخر مثلا لو ظل الآخر على صلفه وعناده .. كل منهما عنيد صلب، يريد أن يذبح الآخر ويصفي دمه، كل منهما يعتقد أنه على حق، وأنه لو تراجع قيد أنملة فكأنما كرامة بلده وشعبه هي التي تتراجع.
والحقيقة أن السيد عبد الحميد لم يكن يقف يرقب المكنة وقطعة الغيار وحده، كان يقف معه محيي الدين، أو كما يسميه العمال «النمس»، وهو رغم نهمه الشديد وحبه لالتهام الطعام، رغم تزويغه من الشغل كلما عنت له فرصة، إلا أنه دائما جلاب المشاكل، عمل مع ماشا فالتقط منه الصنعة وعمل مع الألمان فتعلم الميكانيكا. ورغم هذا فيدوبك كان يفك الخط. ولكنه كان يقرأ الصحف بمهارة، متحمسا، أسمر، مبتور البنصر الأيمن، غزير العرق، شعره أكرت، قد أصبح له لون الصحراء الأصفر من كثرة ما علق به من تراب وغبار. ولكن أحدا في ذلك الوقت لم يكن يلقي بالا كثيرا إلى النمس أو إلى السيد عبد الحميد، فالجميع، حلقات، حلقات، مشغولون بتتبع أخبار المعركة الدائرة بين ماشا وبيل، وآخر أنواع الشتائم التي كان يطلقها كل منهما خلف الآخر وأمامه .. وعدد صفائح البيرة التي يقذفها ماشا، وعدد جرعات بيل.
واستمر الأمر هكذا، طيلة اليوم، وحتى غربت الشمس، وجزءا لا بأس به من الليل.
وفي الصباح فوجئ الجميع بشيء لم يكن يتوقعه أحد .. فوجئوا بالمكنة، منذ الصباح الباكر. تدور وقد ارتفع صوتها وتوالت تكتكاتها تشق عنان السماء.
كان النمس، على ضوء كلوب، وبمساعدة زميل له، قد قام، من وراء بيل وماشا ومن وراء الباشمهندس، في الليل، بتركيب قطعة الغيار الأمريكية والتصرف في أجزائها وصواميلها حتى طابقت تماما المكنة الروسية.
Halaman tidak diketahui
وعلى صوتها هب الجميع من النوم غير مصدقين. وتجمعوا بعيون نصف مغمضة يرقبون المكنة الدائرة وبجوارها النمس، وعلى وجهه الطويل ترتسم ابتسامة ظفر عريضة والزيت يقطر من سواعده وجبهته ويديه.
ومن بين الوجوه، مئات الوجوه، تطلع ماشا إلى بيل، وبدا من نظرتهما المتبادلة كمن سيوشكان على الانفجار ضحكا أو غيظا. •••
وظلت المكنة بعد هذا تدور. وإلى الآن وهي لا تزال دائرة. نصفها أمريكي ونصفها روسي، والذي يديرها هو النمس بعينه وسمرته، وبنصر يمناه المبتور.
ديسمبر سنة 1962م
قصة ذي الصوت النحيل
في مثل هذا الأوان (بصوت واهن كأنه الحفيف غير مبال باهت، محدود) .. بدأ كل شيء وكانت المشكلة دائمة أن يبدأ كل شيء، مشكلتي ومشكلة زوجتي والآخرين، سأتحدث بالتفصيل عنهم. كنت هناك وكانت الدنيا ليلا أسود يخيف، مليئا بالأشياء التي تخيف .. هناك كلام لا بد أن أقوله لأي أحد، لا بد أن يعرف واحد على الأقل كل شيء المهم كل شيء.
نفس العمارة، عمارتنا التي نسكنها الآن، قلت لسايس الجاراج والبوابين كل شيء، ووعدوني هم أنهم ساعة ما يرونهم سيخبرونني بكل شيء، بالتفصيل كل شيء. السكان القاطنون فوقنا كويسين وعرفنا نتفاهم بسهولة، إنما السكان اللي تحت، تحتنا، ناس كتير ساكنين في الشقة الواحدة ييجي خمسين نفرا، كتير قوي زي النمل، لو شفت عنيهم، عيون غويطة، إذا بصيت فيها تغرقك وتبلعك، وبقهم واسع قوي، يبلع البطيخة يبلع كل شيء، إنما أصلهم عمرهم ما شافوا نفسهم أبدا، لو شافوها مرة واحدة كان خلاص انتهى كل شيء.
شكسبير في روايته بيقول العين ترى كل شيء ولا ترى نفسها. إنما عيني أنا بتشوف كل حاجة. كانت هي اللي شافتهم. أول عينين شافوهم. ومن ساعتها وفيه قدام عيني ضباب كتير كتيب زي ضباب الصيف في يوم حر، ما اعرفش ليه ما اتخنقوش من الضباب، بالعكس كانوا بيستخبوا مني فيه. حاولت استرضاهم، بعت لهم زوجتي يعني .. شتموها. دول ولا كأن البلد بلدهم لوحدهم .. أصلنا اتاكلنا أونطة واحنا خلاص بننتهي، وكل يوم عامل زي ما يكون بيقطع فينا كل يوم حتة لما ح ييجي اليوم اللي ما يفضلي فينا حاجة. وبيسلطهم علينا وكل يوم تأميم، هم سمعوا حكاية التأميم دي وخرجوا لك من الضباب وحاصروني. عايزين مني إيه؟ ما تعرفش، ما عندهم البلد واسعة وغنية قوي لو حاولنا نبيعها تتباع بكام، بمليون مليون مليون مليون، إنما دلوقت مصر دي ما تساويش عندي حاجة أبدا .. سرقوها اللصوص. أمال نسميهم إيه .. لصوص، نهب، سلب .. قشوطة، ده فيه أسرار كتير قوي بس مش قادر أقول كل حاجة. أنا حاولت كتير معاهم بالذوق بالحيلة ما فيش فايدة، عايزين كل حاجة حتى ابني كانوا عايزين يأخذوه ؛ لولا وديته عند عمته في مصر الجديدة.
ضحكوا على الخدامة وبنجوها وجت لنا مبنجة إما سابتوش بالزعيق دور وبالمحايلة دور، كانت النتيجة إنهم قالوا على اللي قالوه. ولما حصلت الحكاية كنت أتوقع طبعا إن مراتي تقف جنبي، تلاقي عيلة مراتي حد منهم مسلطها علي .. طبعا كان لازم تأخذ موقفا، إما تبقي معاهم وإما تبقى معايا .. للأسف ده يحصل منها .. جايز يكون حد من عندنا اتهمهما بأنها السبب في الحالة اللي أنا فيها دي، وجه رده عليها خلاها تتنرفز وتأخذ الجانب التاني. وكل اللي بيحصل لنا ده من غلطنا إحنا .. لو كنا سبقنا وضربنا قبل ما نضرب ما كنش حصل حاجات من دي، ولا كانوا جابوا سيرة للملكة فريدة، أصلها ساكنة قدامنا وعمرها ما ظهرت لنا وشفناها، فإيه الداعي يشركوها في الموضوع .. وأنت عارف بقى .. أطلع ألاقيهم مراقبين .. أدخل، عينيهم ورايا .. أصل عينيهم صعبة قوي، وخصوصا عينين السكان التي تحت دول. كل عين كأنها ماسورة بندقية، والنظرة منها بتيجي منشنة تمام في الصميم .. مش ع الحسد يعني .. حسد إيه .. كانت تبقى أهون .. ده فيه حاجة تانية أكثر م الحسد كتير .. حاجة زي النار لما بتولع بتقضي على كل شيء .. لما ظهرت الحكاية واتأكدت إن الملكة فريدة مالهاش ذنب، بره الموضوع خالص، وإن اللي تحت هم اللي كانوا ملفقين التهمة، أخويا الكبير جه وقال لي لازم نعزل خلاص، ما عدناش قادرين نقف قصادهم وإننا لازم نسلم ونعزل.
قلت له مش ممكن يهزمونا .. أنا لا يمكن أعزل .. أنا شاب في الأربعين إنما خلوني شيخ في الثمانين .. نعزل ليه؟ ونهزم نفسنا بأيدينا ليه؟ مش كفاية هو علينا؟ هو فاكر نفسه كل حاجة؟ هو فاكر إن أي حاجة عايز يعملها يقدر يعملها، هو فاكر إن الناس رغيف عيش يفضل يقطعه بالسكينة حتة حتة لغاية ما يخلص عليه، هو عايز يعمل مننا بني آدمين زي الحيوانات من غير إرادة ممكن يسوقها زي ما هو عايز، بيسلطهم علينا .. السكان اللي تحت بيسلطهم علينا ويراقبونا ويأكلونا بعنيهم أكل ، عينيهم سوادها كله جوع وبياضها أسود من سوادها .. أنا بأرفض للنهاية، أنا إنسان لي كيان وعيلتي ولي أرضي، حتى لو خدوها برضك بتاعتي.
Halaman tidak diketahui
أنا حاولت كتير أتجنبهم، وقعدت على طول في البيت عشان ما اقابلشي حد فيهم طالع السلم واللا في الأسانسير. أصل لما حد منهم كان يبص لي كنت بحس إني بغرق وغرقان لشوشتي في نار سودة جوة عينين ثابتة زي عينين الميتين، اسأل بتوع الجاراج يقولوا لك. بقوا يجيبوا سلالم حبل علشان ينطوا علينا من الشبابيك فسمرنا الشبابيك، وبقوا ييجوا لنا من تحت عقب الباب، فبقيت أحط أكياس رمل ورا الباب، وأحط الكنبة كمان عشان ما يقدروش يزقوها، لما ليقوا مفيش فايدة بقوا يسلطوا علي التمرجي يديني الحقنة. وكانوا يدوبوا مية عينيهم فيها ويحقني بيها في العضل، أقوم أحس بعد كدة بيهم، هنا، جوايا، وآخرتها قالوا لكل الناس إني عيان، والناس صدقوهم. تصور المصيبة الناس تصدقهم وتكدبني أنا، كل الناس تصدقهم، حتى مراتي أنا تصدقهم، وتتفق مع الدكتور إنهم يدوني حقنة بنج عشان ما أقاومش، كانوا عايزين يدوني الحقنة عشان ما اقدرش أعمل حاجة قدام السكان اللي تحت .. خطة موضوعة .. وللأسف زوجتي اشتركت بعبط وهبالة فيها .. يخدروني أنا عشان دكهم يهجموا عليا ويأكلوني. أنا عندي كلام كتير عايز أقوله، كلام خطير، ده خسر كل حاجة حتى مراتي، عايز أقوله لأي حد، يعرف الحقيقة عشان ييجي اليوم اللي كل الدنيا تعرفها فيها، لازم حد يعرف إحنا قاومناهم إزاي، وإننا رغم كل شيء ما عزلناش، وإن الملكة فريدة ما لهاش ذنب في الموضوع اللي حاولوا يعملوه بينا وبينهم، واسأل البوابين وبتوع الجاراج.
أنا زهقت خلاص من محاربتهم، بيتهيألي إني أسلم زي أخويا وأعزل، واللا أسلم ليه، ده يبقى انتصار لهم ويفرحوا فينا، بس أنا خلاص بعدوني عنهم ومش قادر ولا عارف أقاوم، تفتكر كل شيء انتهى .. تفتكر انتهى كل شيء .. صحيح كل شيء أصبح لا شيء .. تصدقها انت دي .. هو احنا عقب سيجارة نتشرب ونتفعص ونصبح لا شيء، إزاي الناس حواليه ساكتة وكأن ما فيش حاجة حصلت .. إزاي بياكلوا ويشربوا وهم مبسوطين .. هم مش عارفين إن كل شيء أصبح لا شيء، أنا لسة عندي كلام كتير وخطير عايز أقوله بس (مستمرا بصوت واهن كأنه الحفيف، غير مبال، باهت، محدود) لازم حد يعرفه، لازم حد يعرف الحقيقة التي ما حدش راضي يعرفها.
ديسمبر سنة 1962م
الورقة بعشرة
كان صلاح زوجا، وكانت له ابتسامة، ليست كالابتسامات الحية تولد طفلة طازجة وتتفتح فجأة على الوجه ثم تزول، ابتسامة كانت لا تظهر ولا تختفي ولا تولد أو تموت، ولكنها محنطة على وجهه كالمومياء. وكانت بالضبط تعبر عن حياته فهو الآخر يحيا كالمومياء المحنطة، أو على الأقل كان هذا رأيه في نفسه؛ فهو زوج، وهو كمعظم الأزواج ساخط على الزواج، يحس أن حياته المملة الرتيبة تقتله، تميت فيه الحياة بالتدريج.
ولهذا كانت أمانيه.
وهز رأسه وحسرات كثيرة تتبعثر من فمه ومن قلبه. مستحيل. كيف يحتفل بعيد زواجه من روحية. وكيف يهديها شيئا هي التي لم تفكر في إهدائه إلا الكلمات السامة المنتقاة، والشخطات التي لا رحمة فيها ولا عاطفة.
وهكذا لم تطل حسراته؛ فقد أعاد العشرة جنيهات إلى الخزانة، وأغلق أدراجه، وكان موعد الانصراف قد حان، فأخذ طريقه إلى الباب، والشارع؛ ومن ثم إلى البيت وهو يحس بمغص حاد ينتاب قلبه، ومرارة تملأ نفسه، وكأنه ذاهب لقضاء بقية اليوم في السجن المؤبد الذي عليه أن يقضي بقية عمره فيه.
ولكنه طوال الطريق كان يفكر في الورقة ذات العشرة جنيهات، والإهداء الذي كتبه عليها ويقول لنفسه: نعم .. لا بد أن هناك حياة أخرى .. حياة مليئة بالهدايا، والحفلات، والبسمات.
ومع أنه كان فاقد الأمل في حياته تلك وزوجته، إلا أنه لم يمنع نفسه من تمني شيء: أن تكون روحية قد تذكرت المناسبة وأعدت له مفاجأة، أو على الأقل استعدت لتحتفل بالعيد.
Halaman tidak diketahui
غير أن المفاجأة التي كانت تنتظره، أنه لم يفاجأ بجديد. فما أن فتح الباب حتى طالعة صراخ الأولاد، وحتى طالعته روحية نفسها واقفة في وسط الصالة ، وشعرها واقف أيضا، وهي تحاول أن تضرب ابنه الأصغر، والولد يصرخ، وهي تصرخ والجدران تتهاوى وتستغيث، والأبواب تتخبط، ورائحة القلي والطبيخ يتعلقون برجليه ويتعثر في أرجلهم، وألف مشكلة وكارثة ومطالبة لا بد تنتظره.
إنها خانقة، تلك الحياة، وتلك الزوجة.
ألا تعرف ما هو اليوم؟
أجل، اليوم، اليوم يوم عشرة واللبان لم يأخذ نقوده، وبائع الثلج والأولاد جننوني، ولا شيء آخر؟ لا شيء إلا الهم والغم والدروس التي يجب أن تأخذها بنتك قبل الامتحان لتنجح. إنه يكرهها. إنها لم تعد امرأة يشتهيها، ولا حتى صديقة يأنس إليها. ما الذي يربطه بها وكل ما بينهما حرب مستعرة مستمرة، وخلاف يتجدد في كل ثانية. كل يوم يفكر عشر مرات في طلاقها أو الانتحار، وكل يوم لا يطلقها ولا ينتحر، وكل يوم يفكر في حياة جديدة وزواج جديد، وكل يوم لا ينفذ حرفا واحدا من القرارات الحازمة الباترة التي اتخذها! كل يوم يفكر حتى في خيانتها، وكل يوم لا يخونها. ما الذي يربطه بها، حتى الأولاد، إنه يكرههم من أجلها ويكرهها أكثر من أجلهم، ومع هذا لا يتركهم جميعا و«يهج»، ولا يتركونه، ما الذي يبقي هذه العائلة السخيفة متماسكة، وكل ما فيها يتنافر مع كل ما فيها. الخلاف البسيط يؤدي إلى نقار، والنقار إلى شجار، ثم يتطور الأمر ويغادر المنزل غاضبا، وحين يصل السلالم تخرج منه الزوجة، وتقطع الشجار وتقول: إياك تنسى تشتري البزازة؟
ويخرج وهو مصمم على ألا يعود ولا أن يشتري البزازة. ولكنه ما إن يلمح أجزخانة حتى يتوقف، ثم يتصور خيبة أملها حين يعود بلا بزازة؛ فيدخل ويشتريها.
لماذا يشتريها؟ ولماذا - وكل ما بينهما حرب - يراعي شعورها، وتراعي - أحيانا - شعوره؟ ما كنه تلك العلاقة الغريبة التي تجمعهما.
لماذا يستسلم لتلك الحياة، لماذا لا يبدأ حياة جديدة، لماذا لا يبدؤها فورا والآن؟
ولكنه لم يبدأ شيئا أبدا، فقد دخل كالعادة، وحل بعض المشكلات، وعقد بعضها، وتبودلت بضع زغرات وتلميحات وشتائم، وتغدى، وكالعادة نام، وحين استيقظ بعد الظهر؛ كان قد نسي كل شيء عن 10 مايو وعيد زواجه، وعشرة الجنيهات وكلماته المكتوبة فوقها بخط أنيق. •••
ومرت الأيام، وهو لا يحس بمرورها. فمن يوم أن تزوج لم يعد يحس بالزمن، وكأنما فقد ذاكرته، حتى إنه لا يذكر ماهية نفسه قبل الزواج، وكأنما وعى فوجد نفسه زوجا.
مرت الأيام وهو دائب الإحساس، أنه يذوب ويذوب، ويفقد ذاته ونفسه، حتى فوجئ ذات يوم بشيء استغرب له جدا.
Halaman tidak diketahui
كان يفحص مبلغا واردا إلى البنك، وإذا به يعثر على ورقة من ذات العشرة مكتوب على دائرتها البيضاء: إلى زوجتي العزيزة .. بمناسبة عيد زواجنا الخامس.
ولم يكن الخط خطه.
واحتجز الورقة، وظل يقرؤها ويضحك من أعماقه.
كان أحدهم - لا ريب - قد ساقت إليه الصدف الورقة التي كتب عليها الإهداء، فظن أن أزواجا صالحين يهدون زوجاتهم أورقا كتلك في أعياد زواجهم، ففعل مثلهم، وكانت النتيجة هذه الورقة.
ظل يضحك ويلعن الزوج المغفل الذي صدق النكتة.
وبعد أن انقشعت موجات ضحكه أحس بشيء قليل من الندم. فقد أدرك أنه بطريقة أو بأخرى قد خدع ذلك الزوج، وأنه قطعا مسئول إلى حد ما عن تلك الخديعة. •••
غير أنه بمرور الأيام تضاعف ضحكه وتضاعف تأنيبه لنفسه، فقد تبين أنه لم يضحك على زوج واحد فقط، ولكنه خدع كثيرين، فقد وجد إهداءات كثيرة مكتوبة على أوراق بنكنوت من ذوات العشرة والخمسة والخمسين، وأحيانا المائة. ولم يعد يستطيع كتمان الأمر عن زملائه، فأطلعهم على الأوراق، وحكى لهم القصة، وهو لا يتمالك نفسه. وطبعا ضحك الزملاء كثيرا. وتبادلوا الضربات على الأكتاف، وقال أحدهم إن أعظم زوجة في العالم لا تساوي قرش صاغ واحد، فما بالك بعشرة أو بخمسة أو بخمسين جنيها.
وأصبحت المسألة مصدرا لا ينضب للضحك، فما يكاد يرد إلى صلاح ورقة عليها إهداء؛ حتى يشير بالورقة إلى زملائه من بعيد، وكأنما يقول: وآدي مغفل جديد.
ولكن عدد المغفلين كثر بشكل أفقد المسألة ما كانت تثيره من ضحكات، بل كثر بشكل أزعج صلاح نفسه، لقد قرأ يوما إهداء وكان موجها من زوجة إلى زوجها.
وأصبح تأنيب الضمير على الخدعة التي ابتكرها لا يكفي، أصبح لا بد من التفكير، ما هي حكاية هؤلاء الناس؟ وهل هي مجرد محاكاة لما فعله، أم لا بد أن في المسألة سرا خطيرا لا يدريه؟
Halaman tidak diketahui
وكان عليه لكي يكشف السر، إن كان هناك سر، أن يجرب .. وبهرته الفكرة، وأحس لها بحماس شديد. •••
كان يوم 10 مايو قد اقترب، وعام جديد قد أضيف إلى عمر زواجه، فلماذا لا يفعلها ويجرب؟
أجل، فليجربها في عشرة جنيهات. ولكن تفكيره ما إن حوم حول الرقم حتى هبط حماسه في التو. عشرة جنيهات؟! إنها تكاد تبلغ ثلث مرتبه أو نصفه. إذا كان لا بد من التجربة فليجربها في جنيه مثلا. ولكن، أيصح أن يهدي زوجته جنيها واحدا في عيد زواجها. المسألة حتى من الناحية الشكلية محرجة، ولكنه إذا نظر إليها من الناحية الأخرى، فإنه لا يمكنه أن يهديها عشرة جنيهات مرة واحدة. فهو لا يهدي زوجته، إنه يهدي غريمه، فلتكن خمسة إذن. تكفي خمسة .. إنها كافية جدا.
وهكذا جاء يوم 10 مايو، وجاءت الساعة الثامنة منه، وصلاح عائد إلى البيت وفي جيبه الورقة والإهداء على دائرتها البيضاء حبره لم يجف بعد، وكل ما يحسه هو الفرحة لأنه مقبل، في حياة قاتلة الملل، على تجربة جديدة، وحب استطلاعه يكاد يطل من عينيه إذ ترى ماذا ستفعل روحية؟ وهل يغمى عليها.
وكالعادة فتح الباب، وواجه سوق روض الفرج المعتاد، وبعد أن تم الغذاء والحساب والعتاب، ناداها على حدة في غرفة النوم، ومع هذا أصر ابنه المتوسط على عدم مغادرة الحجرة، وأمسك بروب أمه واستمات عليها. وظل صلاح يتعثر نصف ساعة في كلمات لا معنى لها، ثم أخرج الورقة ذات الخمسة جنيهات، ووضع الدائرة البيضاء أمام عينيها لترى الإهداء.
وبدت الصدمة واضحة على ملامحها، وظلت واقفة في مكانها لا تتحرك، كان لسانها أول ما تحرك فيها، وأول ما فعله اللسان أن فتح له محضرا طويلا عريضا. وراحت تسأله وتضيق عليه الخناق لتعرف من أين جاء بالخمسة جنيهات وميزانيته كلها تعرفها بالمليم والصلدي. وقال لها إنه استلفها لتخصم على شهرين من مرتبه. ومعنى هذا أن ينقص إيرادهم في الشهرين القادمين. وهكذا شبت النار، وبعد لحظات قصار أصبح الحديث اتهامات متبادلة، وشتائم وتهديدات، وأيمانات مغلظة، خرج على إثرها صلاح من الحجرة غاضبا لاعنا تاركا الجنيهات الخمسة تنعي من أهداها.
وجلس في الصالة يغلي وينفخ .. لا فائدة على الإطلاق. إنها حرب لا هوادة فيها. إنه عسكري في جيش وليس زوجا في بيت، إنه لا عمل له إلا الدفاع عن نفسه، والحرب أدابته وهدته، وأتت عليه. حتى العسكري يحظى بهدنة وراحة، أما هو فمعركته لا تتوقف.
وبينما هو يغلي وينفخ، كان عقله يعمل ويحلم، أجل، لا بد أن هناك حياة غير تلك، حياة رحبة، لا قتال فيها ولا خناق ولا ملل، حياة مليئة بالبريق وبالرائع الجديد، ولا ينقصها سوى الجريء الذي ينهي حياته وجبنه وينطلق إليها.
وبوغت حقا حين رأى روحية قد خرجت من حجرة النوم ووقفت قبالته على بابها لا تتحرك، والورقة في يدها. ورمقها وهو يلعنها. لا بد أنها الآن اطمأنت أن الجنيهات الخمسة لم تضع، وأنها على أية حال باقية في البيت. ولكيلا يلعنها، فقد أصبح يضايقه حتى أن يلعنها، حول وجهه عنها.
غير أنها سألته وهي واقفة من بعيد إن كان جادا حقا في كلامه وإهدائه. وطبعا زفر ولم يجب. ولكنها ظلت تلاحقه بالسؤال، ولأنه يعرف أنها إن صممت على شيء فلا بد أن تعرفه، ولو فرقعت مرارته وحطمت رأسه، فلكي يخلص منها قال لها: أيوه يا ستي هدية بحق وحقيق .. بمناسبة عيد الزفت الزواج.
Halaman tidak diketahui
وفوجئ حين وجدها تنخرط فجأة!! لا ليس فجأة .. فقد حدثت في وجهها تغييرات متوالية مضحكة وانقباضات وانبساطات وتجعيدات، ثم انخرطت في بكاء ضاحك. تضحك وتبكي، وتبكي وتضحك، وشعرها منكوش، وروبها مفتوح، والولد لا يغادر مكانه بين ساقيها.
وأخيرا قالت إنها قد أعدت له هدية هي الأخرى. إه يا ستي. وناولته الورقة. وتحت إهدائه وجدها قد كتبت: إلى زوجي العزيز الغالي المحب بمناسبة قراننا .. من المخلصة جدا زوجتك.
وفرت الدموع في الحال من عينيه. لا لأن ما كتبته كان غريبا ولكن لأنه صدر منها وبخطها. ما أروع كلماتها. إلى زوجي العزيز الغالي، حتى أخطاءها الإملائية، حتى إمضاءها، حتى طريقتها الساذجة في التعبير عن نفسها، ولو كانت أجمل امرأة في العالم هي التي كتبت له هذا لما بدا أروع من كلمات روحية، روحية ذات الخرابيش والصوت الحاد اللافح، إنه شيء لا يحتمل، أبدا لا يحتمل.
وأخذها على كتفه وقبلها. واحمر وجهها جدا وهي تقبله، وربما كانت هذه أولى قبلاتها له. وربت على كتفها، وربتت على ظهره، وبكيا، وتعانقا وكما يضيء البرق فجأة، تزاحمت الخواطر في عقله. إن حياته معها كره في كره، وخلاف في خلاف، ومواقع إثر مواقع، هذا صحيح .. ليلة أن صفعها مثلا وخربشته بأظافرها وتدشدش طقم الشاي، ليلة أن اختلفا حول اسم تامر، ليلة أن اصطدمت بالمرحومة أمه، ألف ليلة وليلة من الألم القاسي الممض.
العجيب أنه لا يحس شيئا من هذا الألم الآن، وكأن الألم في حينه يصبح ذكرى بعد حينه فكل، ما يحسه الآن أنه كان شابا، وأنها كانت صغيرة، وأنهما كانا طائشين، وما أعذب الطيش حين تمضي أيامه ويصبح مجرد لحظات تستعاد. إن الخلاف ينفر؛ ولكن العجيب أن خلافاتهما كانت تقربهما أكثر. والخلاف يقولون إنه يخرب البيوت، والخلاف عمر بيته؛ فقد كان لهما حجرة واحدة والآن عندهما ثلاث، ولم يكن هناك أولاد والآن لهما أربعة، وحين تزوجها لم يكن معه إلا التوجيهية والآن معه بكالوريوس، وهي تزوجته وهي مدللة لا تعرف سوى قلي البيض وتخطيط الحواجب، والآن بشهادته أمهر خياطة وطباخة، وكانت بالكاد لا تقرأ إلا «حواء» لتعرف الموضة، وهي الآن تناقشه في السياسة وتبزه تلك التي يعتبر نفسه ضليعا فيها.
ألف خاطر عن له، لو كان قد تزوج مطيعة لا ترفض له رغبة أو طلبا لما تحرك من مكانه وموضعه، ولما تحركت هي الأخرى. إنه مغفل. أيكون ما يعيش فيها هو سعادة الواقع وهو لا يدري؟! إنه كان يفكر دائما كأحد طرفي الخلاف، ولكنه أبدا لم يفكر كزوج لا بد له زوجة ولا تتم سعادتهما إلا معا، ولا يسعد الشخصان معا إلا إذا اقتربا، احتكا واختلفا، ونتج عن احتكاكهما موجات من الرضا والغضب، والسخط والألفة، والحب والكره.
أتكون هذه الموجات هي نفسها السعادة التي طال سمعه عنها.
أتكون كالشرر لا يحدث إلا إذا طرق الحديد بالحديد والحجر بالحجر.
تلك المرأة التي يضمها بين يديه الآن، رفيقة العمر، التي صاحبته لحظة بلحظة وساعة بساعة، لا بد أنها كانت تقاسي مثله، وكانت تكرهه مثلما يكرهها، وتحملته مثلما تحملها. وكل ذلك قد مضى، ويمضي، ويصبح ذكريات أهم ما فيها أنها مرت وطعمها الآن، من طعم العمر المولي، ألذ وأطيب وأمتع طعم. إنها الآن بين يديه ضعيفة، مستسلمة، قد أسعدتها هديته البسيطة إلى درجة البكاء والنشوة.
ألف خاطر وخاطر، وعاطفة قوية مبهمة تتفجر في نفسه، وإعزاز غريب مفاجئ لروحية يكتشف أنه يملأ صدره. أيكون كل ما كان بينهما من خلاف وتعنت وكره هو الحب، الحب الأكبر. أكان من حمقه يحلم بالحياة السعيدة الأخرى والحياة الأخرى هو فيها، ويفكر في الهجرة إلى دنيا جديدة وهو يغمض عينيه عن دنيا الحقيقة الجديدة، ويقول إن إنهاء حياته الخاملة تلك في حاجة إلى شجاعة، والشجاعة هي أن يتقبل حياته هذه، ويؤمن أن روحية زوجته والأولاد والبيت بيته هو دعامته والمسئول عنه.
Halaman tidak diketahui
ألف خاطر وخاطر، وهما واقفان، بين دهشة الأولاد، متعانقان، وكأنهما كانا غائبين لعشر سنوات مضت، وكل هذا بغلطة، بلفتة، بنكتة، بكلمات قليلة على ورقة. •••
ولم تكف أوراق البنكنوت ذات الإهداءات عن الورود لصلاح، مكتوبة على أوراق من فئة العشرة والخمسة والجنيه والخمسين قرشا بعض الأحيان. وكلما قرأ صلاح الإهداء، وتأمل اللحظة التي لا بد سبقته واللحظة التي أعقبته، كانت سعادة غامرة تملأ جوانحه، وكأنه قد اخترع اختراعا للسعادة البشرية، أو اكتشف اكتشافا، ولفرط سعادته باكتشافه حاول ذات يوم أن يبدأ في عد الأوراق ذات الإهداءات؛ ليعرف كم من السعادات تسبب فيها وأحدثها.
ولا يزال صلاح إلى الآن يعد. ويبدو أنه لن يتوصل أبدا إلى معرفة الرقم الصحيح؛ فالأوراق لم تكف أبدا عن الورود.
يناير 1957م
فوق حدود العقل
دونت الاسم والسن والمسكن مرتين وفي صفحتين متقابلتين كما تقضي التعليمات، ولم يكن قد بقي سوى سؤال واحد أو سؤالين عن سلوك الشاب، وأوقع، وينتهي الأمر. ولكن الأمر في ذلك اليوم لم ينته أبدا .. إلى الآن، وأنا لا أعرف ماذا حدث بالضبط وجعلني أشك .. كانت وقفة الشاب عادية .. نفس الوقفة التي وقفها قبله كثيرون، والتي أعرف أن كثيرين غيره سيقفونها .. نفس النظرة الذاهلة الباحثة عن لا شيء!
سألت .. بصوت ضجر، وأذن متعبة، وعقل كان عليه أيضا أن يتلقى الكلمات الكثيرة وينقيها من الضجة، ويترجهما إلى اصطلاحات يمليها على قلمي المشروع ليسد بها الخانات وينتهي كل شيء!
سألت: ما الذي فعله؟ وجاءتني الإجابة .. قام في الليل وأمسك بالسكين وحاول ذبح زوجته التي لم يدخل بها إلا من أسابيع. وحين حاولوا منعه كاد يفتك بهم، تغلبوا عليه وأخذوا السكين منه .. اتجه إلى النافذة يريد أن يلقي بنفسه منها، فاضطروا حينئذ لتكتيفه وضربه والاستغاثة بشرطة النجدة.
وتوقف القلم وعدت أسأل: متى؟ منذ بضع ليال، وبدأ القلم يضيق بوقفته التي طالت دون أن يسد خانة .. وقلت أخيرا: ليس هذا بكاف .. هل تكررت أعماله هذه؟ هل فعل شيئا آخر؟ .. وجاءتني الإجابة: يوهوه! كتير .. يقوم في الليل ويظل يصرخ ويوقظ الجيران، ويتصور أشياء لا وجود لها؛ يعتقد أن إخوته يتآمرون عليه ويريدون انتزاع أرضه التي ورثها عن أبيه، وكثيرا ما يكلم الهواء على أنه الأب الذي مات من عام ويشكو له هذا الأخ أو ذاك!
بارانويد شيزوفرينا .. جنون الاضطهاد .. هكذا خمنت، وكتبت، وأحكمت الحيثيات .. وآخر ما كان قد تبقى ليصدر حكمي بتحويل الشاب إلى مستشفى الأمراض العقلية، ونقله من خانة العقلاء إلى خانة المجانين .. سؤال، مجرد سؤال واحد ألقيه على «المتهم» بمرضه، للتثبت من التشخيص لا أكثر، ولكي يطمئن ضمير القاضي الذي في. - صحيح كنت عايز تقتل مراتك؟
Halaman tidak diketahui
ولم تأتني إجابة ما. وسألت مرة أخرى. وجاءت نهنهة .. إجابة ليست غير متوقعة، فما أكثر ما تأتي إجابة المجانين على هيئة بكاء.
ورفعت عيني، وكأنما إيذانا بانتهاء الجلسة .. كان الوضع لم يتغير .. حجرة مفتش الصحة في المكتب البالي الحافل بالازدحام والضجيج، الباب نصف مفتوح يطل منه وجه التومرجي تزاحمه عشرات الوجوه، والكنبة البلدي بملاءتها الدمور، ولوحة كشف النظر، التي حال لونها واصفر وأصبح بنيا، بارزة من ركن الحجرة .. كعلم مرفوع بالتسليم والإذعان لوطأة الزمن.
وفي الوسط تماما .. كان الشاب نحيلا في «قميص الكتاف» القذر الواسع، مقيد اليدين بأكمام القميص الطويل من الخلف، وبجواره العسكري المعهود، فلا بد مع كل مجنون يرسله القسم من عسكري، ولكنه هذه المرة طويل، مهيب الطلعة، أنيق البزة، يصلح ليكون على رأس قرة قول شرف، أو ليتقدم موكب المحمل.
تأملت المشهد برهة، ثم قلت: خذوه!
قلتها وأنا حزين، نفس الحزن الذي يراودني لثانية في كل مرة تخرج من فمي الكلمة، حزني على دنيانا التي فقدت عقلا، وما أشد حاجتنا إلى كل عقل.
تكاسل الشاب قليلا، ودفعه العسكري بغلظة غير عادية. واستعد التومرجي وفتح الباب، وتراجعت الوجوه، وكادت الحجرة تخلو .. لولا أني تذكرت الخانة التي كنت أنسى ملئها دائما، الخانة التي يقيد فيها اسم قريب المريض الذي أدلى بالمعلومات عنه، وعنوانه.
وقلت: استنى .. فين قرايبه؟
وجأر صوت عيد التومرجي، كالمبلغ في صلاة الجمعة، الذي يعيد كل ما يقوله الإمام: استني .. فين قرايب المريض؟
وسأل العسكري: حضرتك عايز قريبه مين؟
قلت: قرايبه اللي كانوا بيقولولي على مرضه دلوقت. - أنا اللي بقول لحضرتك. - أنت قريبه؟ - أنا أخوه. - أخوه؟!
Halaman tidak diketahui