ولكن تلك تفاصيل لا معنى لها .. ومحاولة يائسة لشرح «كل» من الصعب شرحه. فعم حسن ليس مجموعة تصرفات كهذه، ولكنه أولا روح كاملة، ربما بعض مكوناتها تلك التفاصيل .. إنه روح غريبة تعيد إلى ذهنك آثار الظواهر الطبيعية وهي تعمل عملها عبر ملايين وملايين من السنين لتفتت الصخر الكبير إلى رمل دقيق أملس رائع التكوين. لتقدمن الصخر نهرا عذب الماء كنهر النيل، لتصنع من الزلال وزلال الزلال حياة، ومن الحياة كائنات ما أروعها حين تتأملها؛ كالسمك، دافقة بالحياة عامرة بالتفاصيل، كالأسود جليلة مروعة يداخلك مجرد تفكيرك أن الأسد العظيم منها كان ذات يوم قريبا كائنا لا يرى إلا بميكروسكوب. كائنا كان هو الآخر ومنذ أيام قريبة أسدا عظيما، كذلك الأسد .. ونتأمل كيف استطاع آلاف الناس بمراكزهم وتصرفاتهم الإنسانية أن يخلقوا أو يدربوا ذلك المركز في عقل عم حسن وشخصيته ليكبر وينمو ويزدحم، ويحيل هو هذه المرة مراكز الأنانية وما يخص الذات الصغيرة إلى مخازن يودعها مشاريعه القادمة للناس .. لحب الناس، لكي لا ينسى وهو في قمة انشغاله، وحوله السائقون مزدحمين كل يريد أن يحظى منه بأكبر جرعة من الحديث والشاي، أن عسكري المرور يتغذى، وأنه انتهى من طعامه وأنه في حاجة إلى كوب شاي!
لنتصوره بوجهه الأسمر، وصلعته النامية الخفيفة، بآذانه الكبيرة التي تؤكد ملامحه، بأنفه الكبير قليلا يؤكد رجولته ويؤكد في نفس الوقت طيبته؛ إذ لا شموخ فيه، ولا اتساع فتحتيه يريحك، وعيونه ليست أبدا كعيون الملائكة ناعسة سارحة، أهم شيء يجذبك إليها هو يقظتها، وليس يقظتها إلى ما يدور في عقل صاحبها، وإنما يقظتها إليك أنت، إلى ما تفكر فيه، إلى أحوالك وكيف تبدو، وهل معنى ابتسامتك الواسعة أن كل شيء بخير، أم يا ترى تنبئ عن ضيقك بما تحسه من ضيق؟
وإنها لسعادة أن تنظر إلى عم حسن وبالذات إلى جبهته العريضة البارزة التي إذ قستها بالمقاييس الواضح عليها للجمال لبدت قبيحة، إنها لسعادة أن تنظر إليها فتحس أن لم يدر خلفها شيء، فكرة أو خاطر يضر بإنسان .. أن تدرك بوعي وعمق أن هذا الرجل الذي ينظر إليك بجماع نفسه، لا يفكر أبدا في إيذاء أحد ولا يمكن أبدا أن يفكر في خداعك أو السخرية منك والضحك عليك، إن ما من فكرة شريرة عرفت أو يمكن أن تعرف طريقها إلى رأسه .. لا أحلام غنى باهظ راودته وأستعد معها لأن يدوس الغير في طريقه إليها، ولا أمنية ألحت عليه أن يكون لك مالك أو بعض مالك. وأنه لا يحسدك أبدا على منصبك أو وسامتك أو زوجتك المخلصة، ولم يفكر أبدا في الحط من شأنك، حتى بينه وبين نفسه، لكي يثبت لها، مثلما يحلو للبعض، أن يفعل أنه أحسن منك. إنه لشيء رائع ومحير ومثير للخوف أن تدرك أن كل هذه الصغائر التي يقضي بعضنا تسعة أعشار أعمارهم يلوكونها في عقولهم ويقيدون بها قدراتهم .. ويلوثون بها ضمائرهم، وطبيعتهم الإنسانية التي تخلق نظيفة حساسة، هذه الصغائر كلها لا محل لها في عقل عم حسن العجوز، ترى أي مكان رحب يصحبه عقله، أية حرية تتمتع بها خواطره .. أي أمان شامل كان يظللها ويظلله .. أجل الأمان الذي يقلب الناس دنياهم ويحفرونها مخابئ ودهاليز ليحتموا بها من الأعداء المعروفة والمجهولة، ومن الزمن والمرض والخيانة، وكلما بحثوا عن الأمان خافوا؛ إذ يدركون أنهم مهما فعلوا فليس هناك دواء شاف أو ملجأ أكيد، وكلما خافوا على أنفسهم من الآخرين أخافوا الآخرين منهم، حتى تنقلب العقول إلى مواقد مجنونة للقلق والرعب. إنه يتصرف دون أن يحسبها ويفكر، ويفكر دون أن يحسبها ليعرف بماذا يتصرف، فالحاجز الذي يضعه الكثيرون بين التفكير والتصرف حاجز سببه أنهم حين يتصرفون يخجلون مما يفكرون، وحين يفكرون يخافون التصرف بمثل ما يفكرون، يا لروعة عم حسن وتصرفه، يمضي في تسلسل وصفاء مع أفكاره، وأفكاره من تلقائها وبلا جهد يضيعه أو يفقده تصنع تصرفاته، وليس في وسط الدائرة إلا غيره، إلا الإنسان الذي تسوقه إليه الصدف، إلا الكلمة الحلوة التي لا بد يحتاجها ليقهر هذا العبوس، إلا الشربة من ماء القلة الباردة ترد الروح التي تتسرب من جسده .. مع حبات العرق المنهمرة، إلا كلمة طيبة يقولها لصديق الطريق وهو قائم بنفض التراب عن جلسته ويستعد لسفرته القادمة المجهولة: خلي بالك .. الدنيا ليل ونورك واطي، لما تقابل عربية هدي، وحياة بنتك الغالية لأنت فاكر كلامي ومهدي!
وقد يعتقد البعض، ولهم الحق، أني أنبذ الواقع وأتحدث عن إنسان خرافي غير موجود. ولكن الكارثة الكبرى أن عم حسن موجود ولا يزال إلى الآن حيا يسير ويتنقل إن وجد في مصر طريقا، ولكن المشكلة، أجل المشكلة، أن الدنيا كلها ليست عم حسن، وأن المسائل لا بد أن تصل يوما إلى الدرجة التي يصبح معها من العبث البقاء. •••
ولنعد إلى الرجلين والمشهد، ولنؤمن الآن وقد عرفنا الكثير أن ليس في الأمر زوجة أو ابنه ولا سيدة بالمرة، ليس لأن عم حسن لم يتزوج، فالحقيقة أنه مرات تزوج، ولكن زوجاته كن، بعد فترة، وبعد انقشاع الرغبة في التغيير، يضقن بحياته ويردن البيت والعمل الثابت، الذي لا يبحث فيه عن الناس، وإنما على الناس فيه أن يبحثوا عنه، من هنا كان يدب الخلاف، وينطلق عم حسن إلى طرقاته ومحطاته ودنيا الله الواسعة، وينطلقن هن باحثات عن الأمن والثبات الذي يصنع الأولاد. لنعتقد إذن أن ما بين الرجلين إن هو إلا صلة أخرى من صلات عم حسن بالناس، تلك التي تنشأ في لحظات، وتظل تنمو ولا تكف عن النمو كلما مر عليها الوقت، عكس ما يحدث في العادة. فما أربح وأوسع ما تنشأ وما أسرع ما تبدأ تضيق، والمشغوليات بالنفس كثيرة، والعلاقة التي لا تنفع تضر، والأعم الغالب أن تنتهي العلاقات إلى ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين الجهل والمعرفة، فتعرف الشخص وكأنك لا تعرفه، وصلتك به لا تتعدى أكثر من يد عالية ترفعها بالسلام من بعيد، أو إيماءة من رأس أو أضعف الإيمان ابتسامة وكأنما لتثبت بها لنفسك أنك تنتمي، مجرد انتماء، إلى الجنس!
والعسكري يروي كيف بدأت الحادثة؛ فمنذ بضعة أيام، ذهب إلى عشه عم حسن، لأول مرة، عابسا شديد العبوس. ولا بد لنا لكي نكمل القصة أن تعرف أشياء كثيرة عن العسكري بشكل عاجل، فهو قروي حياته الحقة بدأت بالعسكرية ودخول الجيش، وكان الجيش مدرسته، هناك صاحب شبان المدينة وعرف المدينة من خلالهم، وخرج وقد آلى أن يعرفها بنفسه، والمدينة صعبة على من يريد معرفتها بقيم فلاح ودردحة ذكي. ولكنه رغم هذا استطاع أن يجد لنفسه مكانا غير رسمي فيها، وهو وإن كان يقضي معظم أيامه مقطوعا في كشك، إلا أنه في إجازته يعوض كل ما فاته، وحتى بنات الليل يستطيع مصاحبتهن .. وله في كل مدينة يحل قريبا منها جلسات، وقعدات وأركان ودائما يعثر على عشيقات!
غير أنه من يوم أن حل عم حسن فقد الحماس تماما للمدينة ولكل ما ينتظره فيها، فساعة واحدة كان يقضيها مع الرجل حسن عاش وشاف، وعاش وشاف بطريقة لم يعش أو ير بها أحد، فغيره يجلس مع الرجل، بل أحيانا يجاوره لشهور وسنين دون أن يعرف عنه إلا أقل القليل، عم حسن كان يغوص من فورة في النفس محبة أو بناء على طلب صاحبها، وفي دقائق يعرف ما لا يعرفه غيره في ساعات، فوجهه كان يملك اللمسة السحرية المتناهية البساطة، التي تفتح النفس، والنفوس دائما تواقة لأن تفتح. وأغنى ما في الأرض ليس كنوزها وما تحتويه قشرتها، أغلاها ما في نفوس الرجال من ثروات. إن في داخل كل منا كنزا، تجمع وتراكم فيه عشرات السنين وآلاف الخبرات، كل نفس كالمحارة، مهما انغلقت فهي لا تكف عن إحالة التجربة بالإضافة والإعادة والتعديل إلى لؤلؤة، إلى ماسة ثمينة من ماسات الخبرة الإنسانية المركزة والمكثفة والمصنوعة بصبر داخل تلافيف الحياة، وقد استطاعت نفس عم حسن الخالية من المهبطات والمعطلات ومخصصات الأنا اللزجة أن تمتلئ وتستوعب عددا لا يعد ولا يحصى من كنوز النفوس الأخرى. فوق ما يمكنها تقديمه وعرضه من نماذج، استطاعت نفس عم حسن أن تقوم بدورها كصانعة لآلئ، وماسات، وأن تحيل ما احتوته نفسه من تجاربه ومن الآلاف المؤلفة من تجارب الآخرين إلى ما يشبه برج مجوهرات الإمبراطورية البشرية .. لي متحف يدير مجرد التجوال فيه الرءوس، ولا شك أن المتع كثيرة وكلها حلوة، والمرأة جميلة ممتعة، وقعدة العسكري في البندر مع إخوانه يدور عليهم الشيء أو يدور بهم متعة .. لكن العسكري إلى عم حسن، ويسمعه بمفرده أو مع الآخرون وهو يحدثهم ومن ذات نفسه يفرجهم على عوالم غريبة رائعة، ليالي وكأنها مسحورة ترى من فنجان، وأيام وأحداث وكأنها اغترفت من أكداس الروايات، مع أنه في كل ما كان يتحدث به لم يكن هناك أثر للخيال؛ إذ لم يكن هناك داع للخيال، فما رآه رأي العين أغرب مما يراه الآخرون رأي الخيال .. لا شك أن المتع كثيرة ولكن يبدو أن أمتعها جميعا وأحلاها هي متعة أن تعرف .. متعة أن تعلم ما تجهله أو تزداد علما بما تعرفه، وكل ما يحدث عنه عم حسن دائما جديد غير مطروق، أناس وكأنهم ليسوا من جنس الناس، وإنما من نوع آخر لا يتبدى إلا لعم حسن .. أو كأنهم الناس ولكن أشياء منهم مغلقة تفتح بكلمة سر لا يعرفها إلا الرجل العجوز!
وجده العسكري في ذلك اليوم عابسا، شديد العبوس .. حتى لقد استغرب أن يمتلك من كان مثله القدرة أن يعبس بهذه الشدة .. وحين سأله عما به لم يشأ أن يتحدث وكأنه لا يرى فائدة في الحديث!
ولكنه تحت الإلحاح قال إنه حدث ما كان وسيظل دائما أبدا يخشاه، فقد جاء الرجل وطلب منه مغادرة المكان!
أي رجل وبأي حق يطلب ما يطلبه؟
Halaman tidak diketahui